كان يزيد يحقد على الحسين (عليه السّلام) أُموراً كثيرة غير ما كان فيه من تضاغن وحقد لآبائه على الإسلام والمسلمين ونحن نذكر أهمّها موقعية في التاريخ وأحزمها حقداً على يزيد :
فمنها : صدّه عن نيل أوطاره وإظهار فحشائه والإنكار عليه في كلّ المجالات وكان هذا ممّا يغيضه كثيراً ; لأنّه كان يرى الحسين ـ وهو (لع) ابن الخليفة ـ رجلاً من الأُمّة وهو سلطانها ولكن كلّما أراد أن يحمل على الإمام حملة الذئب , منعه أبوه الداهية عن ذلك .
ومن الموارد التاريخيّة التي تُنبئ عن عظمة الحسين (عليه السّلام) وحقيقته وفضيلته وعن رذالة معاوية وابنه , قصّة أُرينب بنت إسحاق القرشي ؛ وذلك إنّ يزيد كان يتحرّى أخبار الفتيات الحسان فسمع يوماً بحسن أُرينب وكمال جمالها , فرغب فيها وكان يتحيّن الفرصة لإخبار أبيه برغبته .
وبينا ذلك تزوّجها ابن عمّها (عبد الله بن سلام) فاشتدّ ذلك على يزيد , وأخبر أباه بأمره وما اعتراه من الغمّ , فأمره بكتمان أمره , وأرسل إلى عبد الله بن سلام أن يأتي إلى الشام فلمّا استقرّ به المقام أرسل إليه أبا هريرة يخبره بأنّ معاوية يرغب في مصاهرته فرحّب عبد الله بذلك كثيراً وأخبر أبو هريرة معاوية بذلك فقال له معاوية : سرّ يا أبا هريرة إلى ابنتي وأخبرها برغبتي ؛ فإنّ الإقدام على ما فيه رضاها أحوط ( وكان قد تكلّم معها بم تجيب ) .
فلمّا أتاها أبو هريرة وأخبرها برغبة أبيها أجابت إلى ما رأوا لها ولكنّها قالت : إنّي أخشى وجود زوجته أُرينب فيدركني ما يدرك المرأة من الضرّة .
فخرج أبو هريرة إلى عبد الله بالخبر واستقرّ الرأي على طلاق أُرينب فطلّقها عبد الله وبعد ما توثّق معاوية من الطلاق أرسل أبا هريرة إلى أُرينب ليخبرها بأمر زوجها , ويزوّجها من يزيد.
فذهب أبو هريرة إلى الكوفة ومرّ فيها على الحسين بن علي (سبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ) , فاحتفل به الإمام واستخبره مجيئه , فأعلمه الخبر فناشده ـ الحسين (عليه السّلام) ـ الله أن يذكره عندها , فأجاب أبو هريرة , وصار إليها وأخبرها بخبر زوجها فبكت وجزعت وبعد أن هدأت أعلمها بأنّ معاوية يستنكحها من ابنه يزيد والحسين بن علي (عليه السّلام) يريدها لنفسه , فرغبت في الحسين (عليه السّلام) سبط الرسول وتزوّجها .
وإلى هنا انقطع أمل معاوية وانظر إلى عظمة حسين المجد والخلود فيما فعل : ولمّا عاد عبد الله بن سلام المخدوع إلى الكوفة طلب من الحسين أن تردّ عليه أُرينب وديعته التي أودعها عندها وصدّقته أُرينب على ذلك ; فأمره الحسين أن يستلم وديعته بنفسه كما أودعها بنفسه ولمّا تراءى عبد الله وأُرينب جعلا يبكيان بكاء تحسّر وحزن .
وهناك نطق الحسين المجد والعزّ بقوله : ارجعا إلى ما كنتما عليه ؛ فإنّي أشهد أنّها طالقة وأنّي لم ألمسها وما أدخلتها في بيتي وتحت نكاحي إلاّ محافظة لها من يزيد ومن كيد أبيه .
هذا الحسين (عليه السّلام) .
وأمّا معاوية فانتشر نبأه في الشام بأنّه دعا (عبد الله) إلى الشام ومكره على ابنته ليطلّق أُرينب فيزوّجها من ابنه وذلك هدّ لركن معاوية عند شيعته .
فما ترى مبلغ الحقد الذي يحمله معاوية وابنه يزيد في الحسين(1) ؟
ومنها : إباؤه (عليه السّلام) عن بيعة يزيد وإنكاره تحكيمه على معاوية وقد صرّح بذلك في كلّ مجال ومكان في خطبه ورسائله ومجالسه . وحسبك الكتاب الذي أرسله الإمام إلى معاوية في استخلافه يزيد ؛ فانّه (عليه السّلام) صرّح فيه ممّا احتواه لحمه وشحمه وما عملته يداه واستوت عليه فطرته(2) .
ومعاوية لدهائه لم يرَ من صلاحه معارضة الحسين وتحريك عواطفه . وأمّا يزيد الكفر فلم يرَ للحسين إلاّ القتل والحرق والإفناء ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة والحسين (عليه السّلام) يعلم ذلك كما صرّح به في أقواله مثل قوله : لو كنت في حجر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني ويقتلوني .
وقوله لابن عبّاس حين أشار إليه (عليه السّلام) بالصلح : هيهات هيهات يابن عبّاس ! إنّ القوم لن يدعوني وإنّهم يطلبونني أينما كنت حتّى أُبايعهم كرهاً أو يقتلونني .
وقوله للفرزدق لمّا قال له : ما أعجلك عن الحجّ ؟
ـ لو لم أعجل لأُخذت .
وقوله لشيخ بني عكرمة : والله لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي .
فهل بعد هذا كلّه كان له أن يصالح يزيد المتجاهر بالكفر ؟!فتلخّص أهمّ أسباب عدم مبايعته يزيد في أُمور :
الأوّل : علمه بأنّ يزيد يريد التشفّي منه بقتله لأحقاده عليه ; سواء بايعه أم لم يبايعه صالحه أم لا ; سواء من إخبار جدّه وأبيه وأخيه أو من الظواهر التي كانت تدلّ عليه ؛ من تعقيبه بالجيوش أينما ذهب وأمر الولاة بقتله ومحاربته , إلى غير ذلك .
الثاني : عدم اطمئنانه (عليه السّلام) بيزيد وأتباعه وكيف يوثق مَنْ شيمتهم الغدر وسجيّتهم الخيانة ؟!
أما صالح معاوية الإمام الحسن (عليه السّلام) بشروط لم يفِ بواحدة منها ؟ ألم يعطوا مسلم بن عقيل الأمان فغدروا به ؟
الثالث : علمه (عليه السّلام) بأنّه إن بايع ذهب مجد الدين وعزّه ; فإنّ بيعته بمعنى إمضائه أعمال يزيد وبني أُميّة المخالفة لصميم الدين والشريعة ولذهبت معارف المبدأ والعقيدة هباءً من دون أثر .
وأمّا صلح الإمام الحسين (عليه السّلام) مع معاوية فقد كان مقتضى بيئته ؛ لأنّه كان في بيئة غير ما كان الحسين (عليه السّلام) فيها وقد أحسّ من أصحابه الغدر والخيانة ووقع بالعيان منهم ذلك ; فإنّهم راسلوا معاوية بكونهم معه وأنّهم يرسلون الحسن إليه مكبّلاً إن أراد بخلاف الإمام الثالث ؛ فإنّه (عليه السّلام) غلبه ظنّ الفوز بالكوفة وبعد علمه بالغدر حُصر عليه الطريق وصُدّ عن الرجوع فلم يرَ إلاّ النضال .
وأمّا الإمام الحسن (عليه السّلام) فلم يرَ حينئذ إلاّ الصلح والنجاة بأهله وأولاده من القتل بعد أن شرط تلك الشروط ومع هذا فلا يُقاس معاوية ـ الداهية الذي كان بمكره يحافظ على ظواهر الشريعة ـ بيزيد المتجاهر بفسقه المعلن كفره .
وأخيراً : هل كان يصالح يزيد الحسين إلاّ بالبيعة أو القتل ؟