النجف ومميزات جامعتها العلمية
العلامة الدكتور السيد محمد بحر العلوم (ره)2016-10-09
النجف ومميزات جامعتها العلمية
وللنجف تاريخ عريق في العلم,والأدب,والسياسية,يمتد على امتداد تاريخها الطويل,فهي في المجال العلمي بدا دورها منذعام448هـ - 1056م يوم انتقل إليها الشيخ الطوسي محمد بن الحسن من بغداد على اثر الفتنة الهوجاء التي عصفت ببغداد,وأسس الجامعة العلمية فيها,واستمرت في مركزها العلمي تضم المرجعية الدينية للمسلمين الشيعة إلى يومنا هذا,بين مد وجزر في مركزيتها العلمية,تبعا ً لانتقال الحوزة العلمية عنها إلى كربلاء,أو الحلة,أو سامراء,أو خارج العراق إلى خراسان,أو قم,كما هو الحال اليوم,أما لسبب سياسي,أو لوجود المرجع الأعلى في بلدان من البلدان,ولكن في كل الأحوال بقيت الجامعة العلمية النجفية شاخصا ً لن ينعدم .
ولست مبالغا ً إذا قلت أن جامعة النجف العلمية كانت تضم أيام ازدهارها من خمس إلى ثلاثين رجل علم على اختلاف مراتبهم وطبقاتهم,من طالب السطوح إلى المجتهدين,وان أكثر علماء المسلمين الشيعة في البلاد الإسلامية هم من خريجي جامعة النجف العلمية .
إن من أهم مميزات جامعة النجف العلمية باختصار هي:
أولا ً- استقلالية الجامعة العلمية عن السلطة :
وقد حرص قادة الحوزة عبر أيامها الطويلة أن تبقى بعيدة عن التأثير الحكومي,والتحكم فيها,وقد أثبتت طيلة هذه العهود أن هذه الجامعة بمراجعها الفقهاء,وأساتذتها العلماء وطلابها على جميع المستويات,وحتى المناهج الدراسية,والموارد المالية بقيت مستقلة حتى هذا اليوم ليس للسلطة فيها أيُ تدخل,وذلك بفعل الظوابط المتينة التي تؤطر عمل وسير الحركة,وهذا ما يجعلها حرة في حركتها,متحررة من آية وصاية,أو أي ارتباط مشبوه,قد يؤدي إلى مسلكية معينة تحرف الحكم الشرعي عن طريقه,وتحوله إلى سلك ليس فيه روح .*[راجع شمس الدين والبهادلي- المصدر السابق 120].
ثانيا ً- حرية المرجع الديني :
المرجع الديني هو صاحب الفتوى المحركة للجماهير,وبمعنى آخر هو القائد الأعلى للمسلمين الشيعة,وهذا المنصب يقتضى عدم تأثر صاحبه بآي جهة من الجهات الخاصة والعامة,ولذا لابد للمرجعية الدينية أن تكون بعيدة عن كل ما يصدر منها عن كل ما يمس بعدالتها,أو ما يخدش شرعية قراراتها,للآثار المترتبة عليها شرعية أو عرفية .
ثالثا ً-لا هوية قومية للمرجع الديني,ولا تحديد لعددها :
فان من طبيعة المرجعية الدينية في عرف الجامعة العلمية النجفية أن لا يشترط فيها قومية ُ محددة,أو عددُ محدد,فكثير ما حصل أن يكون المرجع المبرز في النجف الاشرف فارسيا ً,أو تركيا ً,أو عربيا ً.وقد يوجد في وقت واحد أكثر من مرجع,فشروط المرجعية,ومن أهمها الاعلمية,والعدالة هي التي تحدد الأعلم من المراجع .
رابعا ً- إن مراجع وأعلام وأساتذة,وطلاب الجامعة العلمية لعبوا دورا ً قياديا ً كبيرا ًفي القضايا الوطنية التي تخص العراق كما حدث في ثورة العشرين,فقد أفتى بالجهاد عدد من العلماء الأعلام,والمراجع العظام,كشيخ الشريعة الاصفهاني فتح الله بن محمد جواد المتوفى سنة1339هـ - 1921, شيرازي الأصل,اصفهاني المنشأ,نجفي الدراسة,وانتهت إليه رياسة علمائها,برز في ثورة العشرين قائدا ً لمحاربة الاحتلال الأجنبي,طلب منه الحاكم الملكي العام في العراق الكولونيل أرنو لد ولسن الدخول معه في مفاوضات لوقف الثورة,فكتب إليه الاصفهاني مشترطا ً[منح العراق استقلاله التام قبل الدخول في المداولات السياسية,]واستمر في جهاده حتى توفي عام 1921في النجف ودفن فيها * [الأعلام 135:5 وماضي النجف 362:1] كما راس هيئة عليا من العلماء لإدارة البلاد,هم : الشيخ جواد صاحب الجواهر,والشيخ عبد الكريم الجزائري,والسيد محمد علي بحر العلوم,والميرزا مهدي الخراساني,والشيخ إسحاق الرشتي,والشيخ موسى زاير دهام,والشيخ علي الحلي,والشيخ عبد الرضا آل الشيخ راضي * [ماضي النجف 366:1]ونلحظ أن من بين هذه الهيئة شخصيتين ايرانيتينن هما الخراساني والرشتي .
و لا نسى مكانة المرحوم السيد أبو الحسن الموسوي الاصبهاني المتوفى عام 1365هـ - 1946م,وهو إيراني الأصل وكان من المراجع المشهورين في النجف,وشارك بكل ثقله في القضايا الوطنية العراقية بداية من ثورة العشرين إلى غيرها من الأحداث السياسية ومنها حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941,وجرى على أثرها الاقتتال بين الجيش العراقي والبريطاني في نفس العام فكانت فتواه مؤيدة للحركة الانقلابية .
وأخيرا ً في هذا الصدد موقف الإمام الراحل السيد أبو القاسم الخوئي من الانتفاضة الشعبانية [ آذار عام 1991] وهو [اذربايجاني- تركي] الذي عبر عن مسؤوليته القيادية الدينية,في تأليف لجنة من أهل العلم لإدارة شؤون النجف حين سقطت الحكومة الصدامية فيها .
الغرض من هذا العرض لموقف المراجع العظام في الجامعة العلمية النجفية الإشارة إلى أن المرجع الأعلى في النجف يعيش القضايا العراقية الوطنية مهما كانت قوميته,في حين لم يحدث مثل هذا في مكان آخر .
خامسا ً- ويجب أن نشير إلى أن الجامعة النجفية العلمية,أنتجت خلال أيامها الطويلة مئات ِ المؤلفات في شتى أنواع المعرفة فقهية,وتفسيرية,وعقائدية,وأصول الفقه,وأدب,وشعر,ونحو,ولغة,وغيرها من أنواع المعرفة,طبع بعضها,والبعض الآخر لم يطبع,ونظرة لكتاب((الذريعة إلى تصانيف الشيعة,والذي يقع : في 25مجلداً)) يؤيد هذا الكلام .
سادسا ً- إن هذه المدينة الجامعية كانت موضع توافد مستمر لطلاب العلوم الدينية من كل الأقطار الإسلامية,وتجمع هذا الزخم الوافد من الناس من مختلف الجنسيات والثقافات شكل مجتمعا ًيضم أفكارا ً وآراء امتزجت بواقع البلد العلمي,فكانت نقطة حضارية مركزية .
سابعا ً- إن هذه الجامعة بشموخها العلمي,وعمرها المديد الذي يصل آلف عام أبرزها احد أربع أقدم جامعات إسلامية في العالم : القرويين في المغرب,والزيتونة في تونس,والأزهر في القاهرة,والنجف في العراق .
ثامنا ً- رغم كثافة الوافدين من طلاب العلوم الدينية على النجف,واختلاط اللغات والأفكار فيما بينهم ألا أن الطابع العربي لجامعة العلمية بقي محافظا ً على طابعها العربي الإسلامي,وحتى المراجع والمجتهدين غير العرب كانوا يتأثرون بالتوجه العربي,وكانت تحدث بعض الصراعات بين حواشي المراجع والمجتهدين,فتمتد المساجلات إلى العمق التنافسي في الأصول كما حدث في عهد المرحوم السيد أبو الحسن الاصبهاني,وهو مرجع كبير في النجف,وهو إيراني,يقابله مرجع آخر وهو الشيخ احمد كاشف الغطاء - وهو عربي الأصل- واشتدت المنافسة مابين المرجعيتين,وامتد انعكاسها على الحواشي والأتباع وتشاء الصدف أن يتزوج احد أقرباء الشيخ كاشف الغطاء,وكانت العادة أن تقام للمتزوج حفلات تتلى فيها القصائد بالترنيم الشعري,ففي أحدى هذه الحفلات تلقى قصيدة لشاعر,عرف بالفضل والتقى والعلم,وهو الشيخ مهدي الحجار,والقصيدة طويلة يقول في مطلعها مخاطبا ًالعريس :
هوت الجباه إلى جمالك سجدا ودعــت لتتخذن وجـهك معــبدا
يسمو به النسب الشريف لمعشر كشفواغطاء جميع أحكام الهدى
ما ضر مجدك حاسدا ًبزغت له شمـس النهار فــعاد منها أرمـدا
ثم ينتقل الى مخاطبة الشيخ احمد كاشف الغطاء زعيم الأسرة ومرجع العرب العراقيين حينها,فيقول :
أنت العميد لها برغم أنوفهم بل أنــت سـيدها وكلهم ســدا
رأت الشريعة منك اكبر قائد فـرمت إليـك زمامها والمقودا
والعرب تعلم أنت تاجُ فخارها بسوى شريعة (احمد) لن يعقدا
سلها غداة تصفحت قرآنها أفهل رأت (بيغمرا ً أو يا خذا)*
(شعراء الغري :12- 217)
جاءت إلى تركيا وإيران- كما يرى الدكتور علي الوردي - وكانت بداية هذه الحركة في إيران 1905وتفاقمت عام1906حيث قام الشاه محمد علي بن مظفر الدين بمحاولة للقضاء على الحركة على أساس أن الدستور الإيراني الذي كان يحكم به البلاد مخالف للشريعة الإسلامية,وقد أيد موقف الشاه بعض علماء إيران,كما أيد موقف المؤكدين على المشروطة- الدستور– كثيرا من علماء الدين في إيران,وامتد هذا الصراع إلى العلماء في العراق عامة,والنجف خاصة,حيث استفتي بعض مراجع الدين في النجف,فأفتى عدد منهم بالالتزام الدستور,وفي مقدمتهم الشيخ محمد كاظم الخراساني معتبرين أن قوانين المجلس المنتخب بصورة سليمة مقدسة محترمة وهي فرض على المسلمين,ولم يقتصر الهرج في هذا الموضوع على النجف بل شمل كربلاء والكاظمية,وكتب المرحوم المرجع الديني الميرزا حسين النائني كتابا اسماه " تنبيه الأمة وتنزيه الملة" منتصرا للمشروطة,وهو بحث قيم يدل على وعي الشيخ النائني السياسي,ونصرته للديمقراطية والدستورية.
ومن النوادر التي تروى في هذه المعركة وانتقلت إلى الجانب الأدبي فقد كتب احد الأعلام بيتين من الشعر في ذم الاستبداديين وهما:
المستبدون قـــــد تاهــــو ا بغيـــهم لم يجعل الله في أبصارهم نورا
لو كان يمكنهم أن ينسخوا نسخوا من الكتاب عناداً آية الشـــورى
فرد عليه من أنصار المستبدة بتشطير البيتين :
(المستبدون قـد تاهـــوا بغيــهم ) بـذلك قـد قـال قــوم وافتروا زورا
صم وبكم فهـم لا يـعقلون كــــــما (لم يجعـل الله في أبصارهـم نـورا)
(لوكأن يمكنهم أن ينسخوا نسخوا ) ما كان في لوحة المحفوظ مسطورا مالوا لشورى الأولى قـد حرفوا علنا (من الكتاب عنادا آيـــة الشـورى)