الجامعة العلمية في النجف عبر أيامها الطويلة.........(4)
العلامة الدكتور السيد محمد بحر العلوم (رحمه الله)2016-04-05
الدور الثالث- للجامعة النجفية:
عاشت المدرسة العلمية في كربلاء قرابة سبعين عاما،وهي تكاد تفتح آفاقا ً جديدة في الكيان العلمي فيها،كان لمؤسسها الأستاذ الوحيد البهبهاني صدى حافل بالإكبار والتقدير.
((وقد قدر للاتجاه الأخباري في القرن الثاني عشر أن يتخذ من كربلاء نقطة ارتكاز له،وبهذا عاصر ولادة مدرسة جديدة في الفقه والأصول نشأت في كربلاء أيضا على يد رائدها المجدد الكبير محمد باقر البهبهاني المتوفى سنة 1205هـ،وقد نصبت هذه المدرسة الجديدة نفسها لمقاومة الحركة الأخبارية،وتأييد علم الأصول،حتى تضاءل الاتجاه الأخباري.وقد قامت هذه المدرسة إلى صف ذلك بتنمية الفكر العلمي،والارتفاع بعلم الأصول إلى مستوى أعلى،حتى أن بالا مكان القول بان ظهور هذه المدرسة وجهودها المتظافرة التي بذلها البهبهاني وتلامذة مدرسته المحققون الكبار قد كان حدا ًفاصلا بين عصرين من تاريخ الفكر العلمي في الفقه والأصول...وحتى استطاعت أن تقفز بالعلم قفزة كبيرة،وتعطيه ملامح عصر جديد.
وبهذا كانت مدرسة البهبهاني تمتاز عن المدارس العديدة التي كانت تقوم هنا وهناك بعيدا ًعن [ المركز الرئيسي للحوزة،وهو النجف] وتتلاشى بموت رائدها)) .
عادت النجف إلى ميدانها العلمي كمركز أول- بعد انتقال المرجعية إلى كربلاء- على يد تلميذه السيد محمد مهدي بحر العلوم الطباطبائي المتوفى 1212هـ .ولنا أن نسمي هذا العصر بعصر[ النهضة العلمية] لكثرة من نبغ فيه من الفحول،وكبار العلماء،ولكثرة تهافت الناس على العلم فيه، وازدياد الطلاب .
ولعل من أهم الخطوات التي امتاز بها هذا العصر،وعلى يد زعيم الجامعة النجفية السيد بحر العلوم تنظيمه للقضايا والمشاكل التي تقتضيها طبيعة المجتمع،كما يقتضيها سير الزعامة الدينية.
فمثلا ركز الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى عام1228هـ للتقليد والفتوى، والشيخ حسين نجف المتوفى 1251هـ للإمامة والمحراب،وللقضاء والخصومات الشيخ شريف محي الدين للقضاء والخصومات ،واضطلع هو بأعباء التدريس،والزعامة، وإدارة شؤون الأمة،ولوضع موسوعة فقهية السيد محمد جواد السيد محمد الحسيني النجفي المتوفى 1226هـ،وقد وضع كتابه الفقهي الثمين ((مفتاح الكرامة)) ويقع في ثماني مجلدات.
وكان هذا التقسيم من زعيم الجامعة العلمية النجفية السيد بحر العلوم لإدارة شؤون الحوزة العلمية من جهة،وشؤون الأمة من جهة أخرى يدل على وعي كبير في الذهنية القيادية الدينية،والتي تبرز عصره بطابع يختلف عن العصور السابقة من حيث النضج والوعي .
وازدهرت الجامعة النجفية بعد السيد بحر العلوم بعهد الكمال والازدهار الفكري، ولقد أثبتت مظاهر هذا الدور بروزا ً واضحا في مجالي الفقه والأصول إلى جانب بقية العلوم الإسلامية التي دللت النجف على الاختصاص بها،بالإضافة إلى الطابع الأدبي.
فالتجربة العلمية التي عاشتها جامعة النجف في دورها الثالث في حقل الفقه كان لها الأثر الكبير في أبراز عطاء ناضج يدل على سعة في الأفق،ووفرة في الإطلاع ولذا وصف بدور [التكامل والنضج] .
ومن أبرز هذا العطاء الفقهي الرائع،كتاب[مفتاح الكرامة] للسيد محمد جواد العاملي المتوفى 1226هـ،وطبع في ثمان مجلدات ،وكتاب[جواهر الكلام] للشيخ محمد حسن بن الشيخ محمد باقر النجفي،المعروف بصاحب الجواهر المتوفى 1270هـ ويقع في ست مجلدات،مطبوع،وكتاب[المكاسب] للشيخ مرتضى الأنصاري المتوفى 1281هـ في مجلد واحد،مطبوع،وكتاب[البرهان القاطع]للسيد علي بن السيد رضا بحر العلوم المتوفى سنة 1298هـ في ثلاث مجلدات،وكتاب[بلغة الفقيه]للسيد محمد السيد محمد تقي بحر العلوم المتوفى 1326هـ في أربع مجلدات مطبوع،وكتاب[العروة الوثقى] وملحقاتها للسيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي المتوفى 1337هـ.وقد أصبح هذا الكتاب مصدرا ً للبحوث والتعليقات فيما بعد،وحتى عصرنا الحاضر،وقد تربو هذه الشروح على 25شرحا.وفي مقدمتها كتاب[مستمسك العروة الوثقى] للسيد محسن الحكيم المرجع الديني الراحل،ويقع في 14مجلد،وكذلك تقريرات بحوث المرجع الديني السيد الخوئي في شرح كتاب العروة الوثقى،والتي صدر منها حتى الآن ما يقارب عشرين مجلدا ً ولعدة أعلام ممن حضروا بحوث السيد الفقهية.
أما بالنسبة للأصول:فقد يكون من الواقع أن يطلق على هذا الدور[ دور الكمال العلمي]فان المرحلة الجديدة التي دخلها علم الأصول كان نتيجة أفكار وبحوث رائد المدرسة الأستاذ الوحيد البهبهاني،وأقطاب مدرسته الذين واصلوا عمل الرائد حوالي نصف قرن حتى استكمل العصر الثالث خصائصه العامة،ووصل إلى القمة .
وما أن بلغ العهد بالمحقق الشيخ مرتضى الأنصاري ،حتى اعتبر رائدا ً لأرقى مرحلة من مراحل الدور الثالث التي يتمثل فيها الفكر العلمي منذ أكثر من مئة سنة حتى اليوم ، وكتابه المعروف بـ [ الرسائل]مجلد واحد يؤكد هذه الحقيقة.
وعندما أطل القرن الرابع عشر الهجري لمع اسم المجدد الشيخ محمد كاظم الخراساني الذي فتح آفاقا ًجديدة للعلم،قدر له أن يكشف في كتابه[ الكفاية في الأصول] تطورا ً رائعا ً لهذا العلم.
وقد أصبح هذا الكتاب مصدراً واسعا لعدد من المؤلفات القيمة التي تدور في أطار الشرح والتعليق من بعده.
إن التطور الذي حصل لعلم الأصول على يد الأعلام من بعد الحكم المجلي [الاخوند]- وهو اللقب الذي اشتهر به الشيخ ملا محمد كاظم الخراساني في حينه- كالميرزا حسين النائيني والشيخ محمد حسين الأصفهاني،والشيخ اقاضياء العراقي وغيرهم من أقطاب هذه المدرسة قدر لهم أن يرتفعوا إلى القمة العلمية،والتي خلفت تراثا ً ضخما ً تستنير به الأجيال.
والى جانب هذين العلمين الرئيسين( الفقه والأصول)،فقد قدمت الجامعة النجفية عطاء ً ثرا ً في مختلف العلوم سواء أكان لها مساس في علومنا الفقهية والأصولية أو العلوم الإسلامية أو لها صلة بطبيعة النجف الأدبية،للإشارة إلى هذا الجانب فقد ألف المرحوم الأستاذ علي الخاقاني كتابا عن شعراء الغري في عشر مجلدات.
الدور السياسي: ورغم تعرض النجف لهزات قوية وعنيفة في دورها الأخير سواء ً الخارجية منها أو الداخلية،أضف إليها الظروف الخاصة فقد أظهرت قادة النجف من العلماء الأعلام بالموقف القيادي للزعامة السياسية والدينية،ومن أجل مظاهر تلكم المواقف المشهورة [ثورة العشرين] بقيادة علماء النجف ومجتهديها.
ورغم أن السلطة الحاكمة من بعد ثورة العشرين [1920م]حاولت أن تبعد العلماء عن قيادة الجماهير بحجة قصر مسؤولية العالم الديني على الأمور الشرعية،وإبعاده عن الجوانب السياسية،ولكن العلماء الأعلام في النجف الأشرف كانت لهم أدوار واضحة في الحركات السياسية العراقية كانقلاب بكر صدقي عام 1936،وحركة رشيد عالي الكيلاني عام1941،والقضية الفلسطينية عام 1947،وهكذا حتى دور المرجع الديني الراحل السيد محسن الحكيم الذي واكب العهد الملكي،ثم العهد الجمهوري حيث كانت الظروف السياسية تغلي في أوجها بالمنطقة عامة،والعراق خاصة واضطلع بالمسؤولية،وقابل الخضم السياسي بالعمل الجاد لصالح الأمة والوطن.
وحين ازدادت الظروف العصيبة التي اجتاحت النجف،وأثرت على الجامعة العلمية فيها كان لتحمل المرجع الديني الأعلى الإمام السيد أبو القاسم الخوئي مسؤوليته الدينية في إبقاء المظهر العام للحوزة العلمية ماثلا ً وباقياً من الاندثار والضمور ونتيجة لهذه الهزة العنيفة التي اجتاحت الجامعة العلمية في آخر هذا الدور انتقل الثقل الحوزوي إلى قم المقدسة، لكن المرجعية العليا بقيت في النجف.
الخاتمة:
هذا الصرح الشامخ لجامعة النجف العلمية،والذي امتد عبر العصور والأجيال،يحمل لواء العلم والمعرفة كان له أن يدوم،ولا ينهار.
هذا الزخم الحاشد من طلاب العلم والمعرفة،والذي يموج به المعهد العلمي،وهو يملأ الدنيا ضجيجا علميا كل يوم من الأسبوع عدا الخميس والجمعة يجب أن يبقى صداه نغماً في أسماع الدنيا،ولن يهدا أو يجف.
هذا العطاء الثر من العلم والمعرفة،والذي زخرت به مدينة الإمام علي عليه السلام منذ تأسيس مدرسته قدر له أن يكور فكرا ً وهاجا ً على مرّ الزمان،لن يعلوه غبار النسيان.
ودارت الأيام،وجاء النظام الصدامي للحكم في العراق،والحنق الطائفي ينخر في قلبه[ لا شيعة بعد اليوم]هكذا قالها جلاوزته وبكل صلافة ووقاحة وتعرض المعهد العلمي ذو العمر الطويل للمخاطر،والعراق في ظل هذا النظام.
من اليوم الذي وصل إلى الحكم بدأ في تنفيذ المخطط الرهيب: تهجير قسري لرواد هذه الجامعة أساتذة ً وطلابا ً بحجة أنهم من أصول غير عربية.
ثم عمد لزملائهم من أصول عربية،والعراقية منهم خصوصا فحاصرهم وضيق عليهم وتابعهم بالاعتقالات والسجن، وسامهم أنواع التعذيب والإيذاء،ومارس معهم دون رحمة ورأفة القتل المريع،والقمع الفظيع.
وكان من جراء هذا وذاك أن المدارس الخاصة التي أعدت لسكن طلاب العلوم في هذه المدينة والتي تجاوزت الخمسين قديما وحديثا،وكانت تزدحم بجموعهم بالأمس أصبحت خالية اليوم من كل احد.
ليس هذا فحسب،فهناك أهم: ما هو؟؟؟
إن هذا النظام الطائفي المقيت من يوم وصوله للحكم بدأ بتنفيذ ما خطط له من ضرب المرجعية الدينية،وشل حركتها،فبالأمس،ومنذ يوم وصوله نفذ مخططه الانتقامي مع المرجع الديني الراحل الإمام السيد محسن الحكيم،ولعلكم جميعا ً تتذكرون أسلوبه القذر،وسوء معاملته معه،حتى أراحه الموت.
وحين تطلعت الدنيا الفكرية مزهوة بالمفكر الإسلامي الكبير آية الله السيد محمد باقر الصدر،وأحسّ بخطره،عمد إلى تصفيته،وإنهائه بأقسى ما يتصور.
ولما شعر النظام بأن وجود سماحة المرجع الديني الأعلى الإمام السيد أبو القاسم الخوئي حجر عثرة له في طريقه لإلغاء وجود الجامعة النجفية عمد إلى الاعتداء الوحشي عليه،وهو الرجل المسنّ ليشعره بالمهانة،ويفرض عليه الإقامة الجبرية في بيته،ويمنع عنه كل ما يستطيع منعه،ليحجبه عن مجتمعه الذي خلق من اجله.
ليس هذا فحسب فهناك أعظم:ما هو؟؟؟
إن النظام يؤكد بأقواله وأفعاله بأنه[ لا شيعة بعد اليوم] فإذا كانت مراقد الأئمة الأطهار في النجف وكربلاء:علي،وولديه:الحسين والعباس عليهم السلام عنوانا يجمع الشيعة حولها،فليحاول بالاعتداء الوحشي،بقصفها وتهديمها ليتفرق الناس عنها،وليكن ما يكون،انه ينفذ مخططا رهيبا من القوى التي تأخذ على هذه الأمة من الناس بأنها لن تخضع لحكم الاستعمار،ولم تتفاعل مع قبول الأمر الاستعماري الواقع،وفي هذه الحالة ليس لهم إلا صدام،يسجن رجالهم،ويقتل شبابهم،ويستحي نسائهم،ويمُيت أطفالهم،حتى يتسنى لهم تنفيذ مخططهم المقيت.
إن جامعة النجف العلمية ثالث جامعة علمية في العالم،جامعة القرويين في المغرب،والأزهر في القاهرة،ومعهد الشيخ الطوسي في النجف،وصدام خير من ينفذ هذا المخطط،فيلغيها من الوجود.
ولم يُبق شيئا إلا ونفذه[ لا شيعة بعد اليوم] أخيرا ًكتب وفي سطوره ختام الأيام البائسة لطائفيته الحمقاء،في جريدته[ الثورة] لم يترك شتيمة على هذه الأمة إلا وقالها،ولم يتوقف عن رميهم بكل العبارات الجارحة والحاقدة إلا وسطرها،يقول المثل:[ إذا كنت لا تستحي فاعمل ما تشاء].
لقد شنها صدام حرب ابادة وتدمير على الشيعة،فهل نقابل ذلك بالسكوت انه الذل والهوان،ولابد أن نكافح الخطر مهما طال وتجاوز،فلا بد لليل من أخر،ومن الله سبحانه التوفيق.