كأنّي بالقصور وقد شُيّدت حول قبر الحسين وكأنّي بالأسواق قد حفّت حول قبره فلا تذهب الليالي والأيام حتّى يُسار إليه من الآفاق , وذلك عند انقطاع ملك بني مروان السجاد علي بن الحسين (عليه السّلام) .
كان أوّل بناء أُقيمت معالمه في الحائر على الرمس الأقدس الحسيني والعمران الذي أحاطه ولم تتطاول إليه يد العدوان بالهدم ليومنا هو الذي أمر به الخليفة محمّد المنتصر سنة سبع وأربعين ومئتين هجرية (1).
وأوّل مَنْ اتّخذ الحائر وطناً ودار إقامة من العلويِّين , ولم يتحوّلوا منها ـ كما مرّ آنفاً ـ هو تاج الدين إبراهيم المجاب بأعقابه من ولده محمّد الثاني الحائري في شوال سنة (247)هـ (2) حتّى يومنا هذا
وأمّا معرفة أوّل بناء أُقيم على الرمس الأقدس بعد شهادته (سلام الله عليه) ومَنْ قام به وفي أيّ تاريخ وصورة البناء لم يتحقّق خبره ؛ لِما لم يصرّح به في مصدر ثقة يعوّل عليه
وقد حدّثني المتغمد بالرحمة السيد حسن الصدر الكاظمي نقلاً عن تسلية المجالس لمحمد بن أبي طالب أنّه اتخذ على الرمس الأقدس لعهد الدولة المروانية مسجداً إلاّ أنّني لم أقف ليومي هذا على أي أثر لهذا الكتاب(3)
والمستفاد من خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار عند ما قصد زيارة الحسين (عليه السّلام) قادماً من الكوفة لأواخر عهد الدولة الاُمويّة ذكر باب الحائر وكرّر لفظه بينما ابن اُخته الحسين اقتصر على ذكر القبر دون إيراد لفظ الباب(4)
ومن الممكن إن لم يكن يقصد بالباب حدود حومة الحائر وجود بناء على سبيل الإجمال على التربة الطاهرة وكلاهما يصرّخان إنّهما كانا على خوف ووجل من القتل وصرح ابن الثمالي بوجود المسلحة المطوّقة للحفرة الطاهرة من الجند الاُموي للحيلولة دون مَنْ يؤم قصده
كان لحركة الشيعة في استعراضهم لجند الشام بعين الوردة بزعامة سليمان بن صرد الخزاعي واستماتتهم بطلب ثأر الحسين (عليه السّلام) وإعادتهم الكرّة تحت لواء إبراهيم الأشتر واستقصائهم للجندي الاُموي مع زعيمهم ابن زياد , مستهونين غير محتفين بكلّ ما سامهم معاوية من خطوب وخسف وما أذاقهم من مرّ العذاب وصنوف التنكيل بغارات بسر بن أرطأة وصلب وقتل وسمل في ولاية زياد بن أبيه وسمرة بن جندب وابن زياد , ممّا خلف أثراً عميقاً سيئاً في نفوس آل مروان ودويّاً هائلاً
فبعد أن تسنّى لعبد الملك بن مروان وصل حلقات فترة الحكم الذي دهم دور حكم آل أمية بموت يزيد بإقصائه آل الزبير عن منصّة الحكم والإمرة أراد أن يستأصل الثورة من جذورها ؛ لذلك اتّبع سياسة القسوة والشدّة تجاه أهل العراق وضغط ما لا مزيد عليه لمستزيد خصوصاً في ولاية الحجاج بن يوسف
ونهج خلفاؤه عين خططه دون أيّ شذوذ مع تصلّب بالغ ؛ كابن هبيرة وخالد بن عبد الله القسري ويوسف بن عمر
فترى ممّا تقدّم أنّ من المستحيل إفساحهم المجال بأن يُشيّد بناء على قبر الحسين (عليه السّلام) , ويكون موضعاً للتعظيم والتقدير ؛ ممّا يتنافى وسياستهم المبنية على الكراهية لآل البيت (عليهم السّلام) والتنكيل بشيعتهم
وإن سلّمنا بتحقق خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي على سبيل استدراك الورود لفظ الباب من الممكن أن نقول : أي وجود بناء في الفترة بين سنة أربع وستين لإحدى وسبعين ونلتزم بتغاضي المروانيين من التعرّض لهم وبقائه ليوم ورود الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي لزيارة الضريح الأقدس
وورد خبر لا يوثق به ولا يعوّل عليه من أنّ المختار بن أبي عبيدة الثقفي بنى على القبر الشريف وأقام حوله قرية(5)
وقيل : إنّ سكينة بنت الحسين (عليه السّلام) أقامت بناء على الرمس الأقدس أمد اقترانها بمصعب في ولايته للكوفة ففي أمد الفترة لسنة ست وستين عندما أمَّ التوّابون عند مسيرهم للتلاقي مع جند عين الوردة التربة الزاكية , وازدحموا على القبر كازدحام الناس على الحجر الأسود(6) .
لم يكن حينذاك ما يظلل قبره الشريف أيّ ساتر , واستقصوا أمد البقية من الفترة المختار بن أبي عبيدة الثقفي ومصعب وابن أخيه حمزة ؛ فالأخبار الواردة في زيارة الحسين (عليه السّلام) عن السجّاد علي والباقر(7) محمّد بن علي (عليه السّلام) لكونهما قضيا حياتهما في الدولة المروانية يشفان عن خوف ووجل
وممّا يؤيد وجود بناء بسيط بل له بعض الشأن على القبر الشريف في زمن ورود الحسين ابن بنت أبي حمزة للزيارة , ما جاء من الألفاظ في الزيارات الواردة عن الصادق (سلام الله عليه) لجدّه الحسين (عليه السّلام)(8) , حيث يقول في خبر : ... بعد الغسل بحيال قبره الشريف في الفرات , فتتوجه إلى القبر حتّى تدخل الحير من جانبه الشرقي وتقول : ... , ثمّ إذا استقبلت القبر ... ثمّ اجلس عند رأسه الشريف ... ثمّ تحوّل عند رجليه ... ثمّ تحوّل عند رأس علي بن الحسين ... ثمّ تأتي قبور الشهداء (9) .
وفي خبر المفضل بن عمر عن الصادق (سلام الله عليه) : إذا أتيت باب الحير فكبر الله أربعاً وقل : ... (10) .
وفي خبر ابن مروان عن الثمالي عند آخر فصول الزيارة يقول : ثمّ تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء وتومئ إليهم وتقول : ...(11)
وفي خبر صفوان الجمّال عن الصادق (عليه السّلام) يقول : فإذا أتيت باب الحائر فقف ... وقل : ... ثمّ تأتي باب القبة وقف من حيث يلي الرأس وقل : ... ثمّ اخرج من الباب الذي عند رجلي علي بن الحسين (عليه السّلام) وقل : ... ثمّ توجه إلى الشهداء وقل : ... (12)
وفي خبر آخر عن صفوان يقول : فإذا أتيت الباب فقف خارج القبة وارم بطرفك نحو القبر وقل : ... ثمّ ادخل رجلك اليمنى القبر وأخّر اليسرى ثم ادخل الحائر وقم بحذائه وقل : ... (13) وهذا ما يدلّك على أنّ له باباً شرقيّاً وغربيّاً
فخلاصة القول : إنّ المستفاد من هذه الزيارات هو وجود بناء ذو شأن على قبره في عصر الصادق (سلام الله عليه)
ومع هذا فقد كان الاُمويّون يقيمون على قبره المسالح لمنع الوافدين إليه من زيارته ولم يزل القبر بعد سقوط بني اُميّة وهو بعيد عن كلّ انتهاك ؛ وذلك لانشغال الخلفاء العباسيِّين بإدارة شؤون الملك ولظهورهم بادئ الأمر مظهر القائم بإرجاع سلطة الهاشميِّين وهو غير خفي أنّ القائمين بالدعوة كانوا من أهل خراسان وأكثر هؤلاء إن لم نقل كلّهم كانوا من أنصار آل البيت (عليهم السّلام)
ولمّا رسخت قدم العباسيِّين في البلاد وقمعوا الثورات جاهروا بمعاداة شيعة علي (عليه السّلام) ولكنّها كانت خفيفة الوطأة أيام السفّاح فتوارد الزائرون لقبر الحسين (عليه السّلام) من شيعته عند سنوح هذه الفرصة جهاراً واشتدّت الوطأة أيام المنصور بوقيعته بوجوه آل الحسن(14) وخفّت ثانية في أيام المهدي والهادي .
فلمّا كانت أيام الرشيد(15) وكانت قد استقرّت الأوضاع وثبتت دعائم الحكم وقضت على ثورات العلويِّين بما دبّرته من طرق الغدر والخيانة فأرغمت أنوفهم الحمية وأخمدت نفوسهم الطاهرة فأرادت القضاء عليهم في محو قبور أسلافهم فسلكوا سلوك بني اُميّة ؛ إذ أمر الرشيد بهدم قبره الشريف ومحو أثره فأخذت الشيعة الوسائط بالاهتداء إلى تعيين موضع القبر وتعيين محلّ الحفرة منها السدرة فبلغ الرشيد ذلك فأمر بقطعها(16) ثمّ وضع المسالح على حدوده إلى أن انتقل إلى طوس ومات فيها
فلم يتتبع الأمين ذلك لِما كان منشغلاً باللهو والطرب وصنوف المجون والبذل فاغتنموا الحال وبادروا إلى تشييد قبره الشريف وقد اتخذوا عليه بناءً عالياً
ولمّا جاء دور المأمون وتمكّن من سرير الخلافة تنفس الشيعة الصعداء واستنشقوا ريح الحرية ولم يتعرّض لذلك وكان المأمون يتظاهر بحبّه لآل البيت (عليهم السّلام) حبّاً جمّاً حتّى إنّه استعاض بلبس السواد ـ وهو شعار العباسيِّين ـ بلبس الخضرة ـ وهو شعار العلويِّين ـ , وأوصى بالخلافة من بعده لعلي الرضا ابن موسى الكاظم (عليه السّلام) ولعل ذلك كيد منه وكان هذا الوقوع بعد قتل أخيه الأمين , واسترضاء لمناصريه الخراسانيين
وقد زعم البعض أنّه هو الذي شيّد قبره الشريف وبنى عليه لهذه الفترة(17) وفي ورود أبي السرايا بن السري بن المنصور إلى قبر الحسين (عليه السّلام) أيام المأمون عام تسعة وتسعين بعد المئة حين قام ببيعة محمّد بن إبراهيم بن إسماعيل طباطبا بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن السبط , دليل على تشييد قبر الحسين(18) بعد مضي الرشيد إلى طوس
وبقي الحال على هذا المنوال والشيعة في حالة حسنة حتّى قام حول قبره الشريف سوقاً واتخذت دوراً حوله وأخذ الشيعة بالتوافد إلى قبره للسكنى بجواره , إلى أن كان من المغنّية الشهيرة التي قصدت من سامراء في شعبان زيارة قبره الشريف وكانت تبعث بجواريها إلى المتوكّل قبل أن يلي الخلافة يغنين له إذا شرب , وقد بعث إليها بعد استخلافه فأخبر بغيبتها فأسرعت بالرجوع عندما أبلغها الخبر بطلب المتوكّل لها فبعثت إليه بجارية وكان يألفها , فقال لها : أين كنتم ؟
قالت : خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها
فقال : إلى أين حججتم في شعبان ؟
قالت : إلى قبر الحسين (عليه السّلام) .
فاستطير غضباً(19) وفيه من بغض آل أبي طالب ما هو غني عن البيان فبعث بالديزج بعد أن استصفى أملاك المغنّية ـ وكان الديزج يهودياً قد أسلم ـ إلى قبر الحسين (عليه السّلام) , وأمره بحرث قبره الشريف ومحوه وهدم كلّ ما حوله من الدور والأسواق فمضى لذلك وعمل بما أمر به وقد حرث نحو مئتي جريب من جهات القبر فلمّا بلغ الحفرة لم يتقدّم إليه أحد فأحضر قوماً من اليهود فكربوه وأجرى الماء عليه(20) , فحار الماء عند حدود قبره الشريف(21) ثمّ وكّل به المسالح بين كلّ مسلحتين ميل ولا يزوره أحد إلاّ وأخذوه ووجهوا به إلى المتوكّل(22) فحصل للشيعة من ذلك كرب عظيم لِما طرأ على قبره من الجور ولم يعهد مثله إلى هذا الحد
فضاق بمحمد بن الحسين الأشناني بعد طول عهده بالزيارة , فوطّن نفسه على المخاطر وساعده رجل من العطّارين , فخرجا يمكثان النهار ويسيران الليل حتّى بلغا الغاضرية وخرجا منها نصف الليل , فسارا بين مسلحتين وقد ناموا حتّى دنا من القبر الشريف , فخفى عليهما موضعه فجعلا يتحرّيان موضع القبر حتّى أتياه وقد قُلع الصندوق الذي كان عليه واُحرق وفي الموضع اللبن قد خُسف وصار الخندق , فزاراه وانكبّا عليه وقد شمّا من القبر رائحة ما شمّا مثلها قطّ من الطيب
فقال الأشناني للعطّار : أي رائحة هذه ؟
فقال : والله ما شممت مثلها بشيء من العطر
فودّعاه وجعلا حوله علامات في عدّة مواضع وبعد قتل المتوكّل حضر مع بعض الطالبيِّين والشيعة فأخرجوا العلامات وأعادوا القبر إلى ما كان عليه أوّلاً
وقد نالت الشيعة شيء من الحرية على عهد المنتصر وكان هذا محبّاً لآل البيت (عليهم السّلام) مقرّباً لهم رافعاً مكانتهم معظّماً قدرهم ومن حسناته إليهم أنّه شيّد قبر الحسين (عليه السّلام) ووضع ميلاً عالياً يرشد الناس إليه(23) وذلك في عام السابع والأربعين بعد المئتين
ولم يُهدم بناء المنتصر ظلماً ؛ لعدم تعرّض أخلافه له ؛ لِما ظهر من الوهن في دولتهم وانحلال أمرهم وتسلّط الأتراك عليهم وانشغالهم بأنفسهم .
وفي خلافة المسترشد ضاقت الأرض على رحبها على الشيعة ؛ وذلك عندما أمر بأخذ جميع ما اجتمع من هدايا الملوك والأمراء والوزراء والأشراف من وجوه الشيعة من الأموال والمجوهرات في خزانة الروضة المطهّرة , وأنفقه على العسكر واعتذر بأنّ القبر لا يحتاج إلى الخزانة(24) إلاّ أنّه لم يتعرّض للبناء ولم يمسّه ؛ لقصور يده وضعف شأنه لا لشيء آخر
وكان البناء الذي شيّد في عهد المنتصر قد سقط في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين ومئتين(25) فقام إلى تجديده محمّد بن زيد القائم بطبرستان في خلافة المعتضد بالله العباسي(26) لسنة ثلاث وثمانين ومئتين(27) وقد أخذ حال القبر الشريف منذ تشييد المنتصر إيّاه بالعروج إلى مدارج العمران يوماً بعد يوم حيث أمن الناس من إتيانه واتخاذ الدور عند رمسه
وقد زار القبر عضد الدولة بن بويه سنة 370 هـ بعد أن بالغ في تشييد الأبنية حول الضريح وزخرفتها(28) , وكان آل بويه يناصرون الشيعة
وقد استحفل التشيّع على عهدهم حتّى إنّ معزّ الدولة أمر سنة 352 بإقامة المآتم في عاشوراء وكان ذلك أوّل مأتم أُقيم في بغداد
( وعندما عفا عضد الدولة عن عمران بن شاهين البطائحي بنى الرواق المشهور برواق عمران بن شاهين في المشهدين الشريفين الغروي والحائري (على مشرفهما السّلام) )(29)
وفي سنة سبع وأربعمئة هجـ احترق الحرم الشريف إثر اندلاع حريق عظيم كان سببه إشعال شمعتين كبيرتين سقطتا في الليل على التأزير واحترق وتعدّت النار بعد الحرق القبة إلى الأروقة(30) , فكان البناء على القبر الشريف بعد وقوع هذا الحريق ما وصفه الطنجي في رحلته إلاّ أنّي لم أقف على خبر مَنْ شيّد هذا البناء وفي أيّ تاريخ كان ذلك(13) ولعله كان قد تبقى شيء من البناء الذي شيّده عضد الدولة , إلى أن شيّد عليه البناء الموجود اليوم على القبر الشريف أو إنّه قد جدّده بعد الحريق أخلاف عضد الدولة ؛ إذ كانت دولتهم قائمة عند وقوع الحريق
هذا وكان إكمال بناء الحرم في سنة سبع وستين وسبعمئة وقد أمر بتشييده السلطان أويس الإيلكاني وأتمّه وأكمله ولده السلطان حسين(32)
وكان تاريخ هذا البناء موجوداً فوق المحراب الذي موضعه اليوم الرخام المنعوت بنخل مريم(33) فيما يلي الرأس الشريف وقد شاهد ذلك التأريخ بنفسه محمّد بن سليمان بن زوير السليماني وذكره في كتابه المسمّى بـ الكشكول
وقد كان إنزال هذا التاريخ سنة السادس عشر بعد المئتين والألف 1216 , ومن موضعه عند عمل المرايا والتزيينات للحرم الشريف بأمر محمّد علي خان القواينلو كما تشير إلى ذلك الكتابة الموجودة في أعلى الباب الثالث من أبواب الحرّم المقابل للشبكة المباركة : واقفه محمّد علي خان القواينلو سنة 1216 هـ
وكذلك هذا التأريخ موجود بعينه في الكُتيبة القرآنية داخل القبّة على الضريح المقدّس وفي سنة 920 هـ أهدى الشاه إسماعيل الصفوي صندوقاً(34) إلى القبر الشريف , ولم يرد ما يهمّ خبره من أخلافه الصفوية إلاّ الإقدام بأمور طفيفة لا مجال لذكرها إلاّ أنّه بلغني ـ ولم أتثبّت من ذلك أنّ الشاه سليمان الصفوي قام ببناء القسم الشمالي من الصحن المطهّر والإيوان الكبير الذي فيه المسمّى بصافي صفا نسبة إلى الصفويِّين وليس اليوم في هذا الإيوان دليل على ذلك سوى إنّ الكاشي المعرّق الموجود في سقف هذا الإيوان والزخارف المعمولة من البورق فيه يستدل منها أنّ بناء هذه الجهة أقدم بناء من الجهات الثلاث للصحن الشريف فضلاً عن أنّ نقوش الكاشي المعرّق وصنعتها تشبه إلى حدّ كبير نقوش الكاشي المعرّق الموجود في روضة الجوادين (سلام الله عليهما) وحرم حضرة الرضا (عليه السّلام) ومقبرة خواجه ربيع والقدم كاه
وقد كان في حواشي الكاشي المعرّق الموجود في جنبتي هذا الإيوان ـ الشرقي والغربي ـ كُتيبة تنص على اسم الباني وتأريخ بنائه ولكن مع مرور الزمن تلف واندرس أثره ومع شديد الأسف لم يسعَ أحد بعد ذلك لإرجاع هذا النص التأريخي المهم إلى موضعه
وعندما أرادوا دفن ميرزا موسى الوزير فيه(35) عملوا موضعية الكُتيبة الموجودة اليوم من المرايا رُقمت بهذه الآية : {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191].
هذا وقام السلطان مراد الرابع العثماني سنة ثمان وأربعين وألف بتعمير وتجديد القبّة السامية وجصّصها من الخارج(36)
وفي سنة 1135 هـ نهضت زوجة نادر شاه وكريمة حسين الصفوي إلى تعمير المسجد المطهّر وأنفقت على ذلك عشرين ألف نادري
وقام أغا محمّد خان الخصي مؤسس الدولة القاجارية في إيران بتذهيب القبّة السامية للسنة السابعة بعد المئتين والألف الهجرية(37) .
وقد نظم بهذه المناسبة الميرزا سليمان خان المشهور بصباحي الشاعر مؤرّخاً هذا التذهيب بقوله :
كلك صباحي از اين تاريخ أونوشت در كبند حسين علي زيب بافت
وفي أوائل القرن التاسع عشر (1214هـ) أهدى فتح علي شاه القاجاري ـ أحد ملوك إيران ـ شبكة فضية(38) وهي إلى اليوم موجودة على القبر الشريف وحوالي هذا التاريخ أمرت زوجته بتذهيب المأذنتين حتّى حدّ الحوض
وفي سنة 1259 هـ قام محمّد علي شاه ـ ملك أود ـ سلطان الهند بتذهيب الإيوان الشريف وصياغة بابه بالفضة
ويوجد اليوم على الفردة اليمنى من باب الفضة في إيوان الذهب : هو الله الموفّق المستعان قد أمر بصنع هذا الباب المفتوح لرحمة الملك المنان وبإتمام تذهب هذا الإيوان الذي هو مختلف ملائكة الرحمن وبحفر الحسينيّة وبناء قناطرها التي هي معبر أهل الجنان .
وعلى الفردة الثانية الجانب الأيسر تتمته : وتعمير بقعة قدوة الناس مولانا وسيدنا أبو الفضل العباس السلطان ابن السلطان والخاقان ابن الخاقان السلطان الأعظم والخاقان الأكرم سلطان الهند محمّد على شاه (تغمّده الله بغفرانه وأسكنه فسيح جناته وكان ذلك في سنة 1259 هـ ألف ومئتين وتسعة وخمسين
وقام بعد ذلك أمراء الأكراد البختيارية إلى تزيين المسجد والأروقة وقد وسع الضلع الغربي من الصحن الشريف وجدّد بناءه المتغمّد برحمته المرحوم الشيخ عبد الحسين الطهراني(39) شيخ العراقين من قبل شاه إيران ناصر الدين شاه القاجاري سنة 1275 هـ وشيّد إيوانه الكبير وحجر جهتيه
وقد أنشد الشيخ جابر الكاظمي الشاعر الكبير مؤرّخاً لهذا البناء بالفارسية يقول :
بـنائي ناصر الدين شاه بنا كرد زخـاك أوست بائين كاخ خضرا
نه صحن وكنبدي جرخي مكوكب زنـور أو مـنور روي غـبرا
بـراي كـشوار عـرش يـعني حـسين بـن عـلي دلبند زهرا
بـناي سـال أو جابر همي كوي أز ايــوان شـكست كـسرى
بكو تأريخ ايوانش مؤرخ 1275 هـ
وله تأريخ بالعربية :
لـله إيوانٌ سما رفعةً فطاول العرشَ به الفرشُ
قال لسانُ الغيب تأريخه أنت لأملاك السما عرشُ
ولم يحدث بعد ذلك ما يهمّ ذكره سوى ما جدّدت إنشاءه إدارة الأوقاف في العهد الأخير في القسم الغربي من الصحن ؛ لظهور الصدع فيه
وفي المشهد الحسيني عدّة نقوش وكتابات تدلّ على تواريخ إصلاحه والزيارات فيه ؛ ففي أعلى عمود وسط الضلع الجنوبي من شبكة الفولاد المنصوبة على قبر الحسين (عليه السّلام) ما يقابل الوجه الشريف هذه العبارة : مَنْ بكى وتباكى على الحسين فله الجنّة صدق الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سنة 1185 هـ
وما يقابل الزوايا الأربعة من القبر الشريف عبارة : واقفه الموفّق بتوفيقات الدارين ابن محمّد تقي خان اليزدي محمّد حسين سنة 1222 هـ
ويوجد في الإيوان الخارج من جدار الرواق الغربي المقابل للشبكة المباركة في الكاشي فوق الشباك : عمل أوسته أحمد المعمار سنة 1296 هـ
ويستفاد من أبيات منظومة بالفارسية فوق شباك المقبرة الشمالية المقابلة للضريح أنّه بمباشرة الحاج عبد الله ابن القوام على نفقة الحاج محمّد صادق التاجر الشيرازي الأصفهاني الأصل , قد قام بتكميل تعمير سرداب الصحن الحسيني وتطبيق الأروقة الثلاثة الشرقي والشمالي والغربي بالكاشي في سنة ألف وثلاثمئة الهجرية
إيضاح ما يوجد في خارطة كربلاء من المواقع
أنهار كربلاء
(النهرين) : فرعان يشتقان من عمود الفرات , ويتصلان ببعضهما في قرية نينوى في جوار الحاير الحسيني ويتجهان إلى الشمال الشرقي إلى الكوفة معاً على سبيل توحيد وتفرد ؛ وللفارق يعرفان بنهري كربلاء يتوضّح على ضوء ما سرده أبو الفرج في المقاتل(40) ونورد بين قوسين ما تفرّد بإيراده صاحب الدرّ النظيم(41) :
قال أبو الفرج : لمّا قُتل زيد بن علي دفنه ابنه يحيى , تفرّق عنه الناس ولم يبقَ معه إلاّ عشرة نفر قال سلمة بن ثابت : قلت له : أين تريد ؟
قال : أريد النهرين ومعه الصياد العبدي
قلت : إن كنت تريد النهرين فقاتل ها هنا حتّى تُقتل
قال : اُريد نهري كربلاء وظننت أنّه يريد أن يتشطط الفرات , فقلت له : النجاء قبل الصبح فخرجنا فلمّا )
جاوزنا الأبيات سمعنا الأذان , فخرجنا مسرعين فكلّما استقبلني قوم استطعمتهم فيطعموني الأرغفة , فأطعمه إيّاها وأصحابي حتّى أتينا نينوى , فدعوت سابقاً فخرج من منزله ودخله يحيى , ومضى سابق إلى الفيوم فأقام به
( فلمّا خرجنا من الكوفة سمعنا أذان المؤذنين فصلّينا الغداة بالنخيلة ثمّ توجهنا سراعاً قبل نينوى فقال : اُريد سابقاً مولى بشر بن عبد الملك فأسرع السير إلى أن انتهينا إلى نينوى وقد أظلمتنا فأتينا منزل سابق فاستخففت الباب فخرج إلينا
وذكر ابن كثير في البداية(42) عن محمّد بن عمرو بن الحسن قال : كنّا مع الحسين بنهري كربلاء وأورد ابن شهر آشوب في المناقب : مضى الحسين قتيلاً يوم عاشوراء بطفّ كربلاء بين نينوى والغاضرية من قرى النهرين(43) .
قال الطبري(44) بعد مهادنة أهل الحيرة لخالد بن الوليد في مفتتح الفتح وخضوع الدهاقين لأداء جزية وضريبة , وزع بينهم العمال ؛ ولتمهيد الأمن أقام مخافر عهد بعمالة النهرين إلى بشر بن الخصاصية , فاتخذ بشر الكويفة ببابنورا قاعدة لعمالته
وذكر عند حوادث سنة 278 هـ(45) ابتداء أمر القرامطة : وردت الأخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفة فكان ابتداء أمرهم قدوم رجل من خوزستان ومقامه بموضع يُقال له : النهرين , يظهر الزهد والتقشّف ويسفّ الخوص ويأكل من كسبه ويكثر الصلاة
إذا قعد إليه إنسان ذكّره أمر الدين , وزهده في الدنيا وأعلمه أنّ الصلاة المفروضة على الناس خمسون صلاة في كلّ يوم وليلة حتّى أفشى ذلك عنه بموضعه
نهر العلقمي
ذكر المسعودي في التنبيه والإشراف(46) : وكاتب البريد ابن خرداذبة في المسالك(47) : إذا جاز عمود الفرات هيت والأنبار يقابل الثاني الأوّل في الضفة الغربية , فيتجاوزهما فينقسم قسمين منها قسم يأخذ نحو المغرب قليلاً المسمّى بالعلقمي إلى أن يصير إلى الكوفة
وآثار العلقمي الباقي منه اليوم ـ على ما وقفت عليه ـ إذا انتهى إلى شمال ضريح عون اتجه إلى الجنوب حتّى يروي الغاضرية لبني أسد ـ والغاضرية على ضفته الشرقية ـ وبمحاذاة الغاضرية شريعة الإمام جعفر بن محمّد (عليه السّلام) على الشاطئ الغربي من العلقمي وقنطرة الغاضرية تصل بينه وبين الشريعة
ثمّ ينحرف إلى الشمال الغربي فيقسم الشرقي من مدينة كربلاء بسفح ضريح العباس (عليه السّلام) ؛ إذ استشهد ما يلي مسناته , فإذا جاوزه انعطف إلى الجنوب الشرقي من كربلاء ماراً بقرية نينوى وهناك يتصل النهران نينوى والعلقمي فيرويان ما يليهما من ضياع وقرية شفيه فيتمايلان بين الجنوب تارة والشرق اُخرى .
حتّى إذا بلغا خان الحماد ـ منتصف الطريق بين كربلاء والغري ـ اتجها إلى الشرق تماماً وقطعا شط الهندية بجنوب برس أو حرقه ـ وأثرهما هناك مرئي ومشهود ـ حتّى يسقيان شرقي الكوفة
ذكر أنّ مجراه في العصور القديمة كان يتصل ببطائح البصرة وأنّ سابور ذي الأكتاف اتخذ حافّتيه قاعدة للذب عن غزو العرب لتخوم المملكة وشمل بعناية أخلافه من ملوك الساسانية لموقعه الدفاعي
بلغ من ازدهار العمران الذي حفّ بجانبيه شأواً حتّى [أنهم] ذكروا : اُفلتت سفينة وانحدرت مع جري الماء يومين , فامتلأت بأنواع صنوف أثمار حافيته
ذكر هارفي بوتر في التاريخ القديم أنّ بخت نصر الملك البابلي حفر نهراً من أعالي الفرات حتّى أوصله إلى البحر ؛ لتقارب الوصف .
من الممكن أن يكون هذا النهر هو (العلقمي)(48) ولنفس الغاية لبعد أمد جريه اختار فوهته من أعالي الفرات لارتفاع مستوى الماء هناك ـ المتدفق وسرعة الجري ـ ولبعد عمود الفرات عن إرواء آخر حدود الريف في العصور القديمة من التاريخ في الدور البابلي أو الكلداني ؛ إذ كان مجراه يشقّ عاصمتهم بابل وكان بطبيعة الحال حفر مثل هذا النهر من الضروري , وممّا لا مناص منه ؛ لنطاق مدى العمران
والعلقم ـ بالفتح والسكون ـ يطلق على كلّ شجر مرّ الحنظل وما عداه من غير فارق والعلقمة المرارة
يخال لي لشدّة ما كان العرب يكابدون من مرارة ماء آبار الجزيرة حتّى تخوم الجزيرة ومياه عيون الطفّ ثمّ ينهلون عذب نمير هذا النهر ؛ فلبعد شقة البين بالضد أطلقوا عليه اسم العلقمي -)(49)
أُطلقت على جملة الضياع التي اتخذت على النهرين العلقمي ونهر نينوى في الدور الإسلامي من مبتدأ فوهة أو صدر العلقمي ما يلي هيت بـ الفلوجة العليا فإذا انحدر مجراه لحدود كربلاء الفلوجة الوسطى ولحدود اتصاله بالكوفة بـ الفلوجة السفلى وهذه الفلاليج الثلاثة كلّ واحد منها في الدور الكسروي متمماً لأستان بهقباذات الثلاثة ففيما بين نهري دجلة والفرات أستان بهقباذ الأعلى ثمّ الأوسط ثمّ الأسفل .
كان قسط هذا النهر من التفقّد والعناية قد بلغ نصاب الكفاية يتمايل بنشوة نظارة العمران وساكني حافتيه في هناء ورغد عيش حتّى أن انتكست الخلافة العباسيّة وحلّ بكيانها الضعف والوهن ؛ لشغب الأتراك وتلاعبهم بنصب وخلع وقتل ثلاثة من الخلفاء وهم المستعين والمعتز والمهتدي
وانحل نظام الأمن وسادت الفوضى أنحاء البلاد ؛ لقيام الفتن والثورات وتعاقبها واحدة تلو الاُخرى دون أيّما انفكاك وقد بلغ الضعف بالدولة إلى درجة أن أصبح من المستحيل إمكان قضائها على ثورة الزنج ولم تتمكّن من إخماد ثورتهم إلاّ بعد خطوب وتكبد خسائر فادحة ما يقارب الثلاث عشرة سنة(50) استنزفت من الضحايا والأموال ما يفوت الحصر إحصاؤه , إلاّ أنّ سياسة الخليفة المعتضد الحازمة وولده المكتفي قد أعادا للخلافة بعض ما فقدته من هيبة ورفعة شأن إلاّ أنّه كان آخر وميض نور من حياة عزّ الدولة العباسيّة ؛ إذ تلتها النكسة التي لا قيام بعدها من جرّاء سيرة المقتدر ؛ لضعف نفسه وركونه إلى حياة اللهو والمجون استهلك في سبيل رغائبه ـ على ما يحدث به الأستاذ ابن مسكوية في تجاربه(51) ـ بسرد مفردات نيف وسبعين مليون ديناراً من العين فضلاً عمّا تلاعبته الأيدي بما تحويه الخزائن من النفائس النادرة والأحجار القيّمة
وقد قلّده الجند في أساليب الدعة حتّى أضاع قيمته وأصبح ضعيف النفس منخوب القلب بلغ الضعف به درجة أنّه عجز مع كامل عدّته وعديده عن صدّ حملة عدّة ضئيلة من قرامطة هدّدوا بغداد من ناحية الأنبار ولو لم يبادروا لهدم قنطرة زبارا على نهر عيسى للحيلولة دون عبورهم لأصبحت العاصمة عرضة لخطر ويلات وثبور
والقرامطة يحصدون بالسيف رقاب الوافدين أثناء سيرهم إلى الحج وفي نفس الحرم والكعبة ارتكبوا من فضائع القتل والنهب والاستهانة بقدسية البيت ما بلغ صداه عالم الأكوان(52) ؛ فأبانت هذه الحوادث عن مدى ضعف الدولة وعن أقصى مراتب عجزها ؛ وذلك لدوران محور سياستها على رأي النساء والحاشية خدم دار الخلافة فكان أن تمزّقت وحدة الإمبراطورية الشاسعة المترامية الأطراف(53) ولم يقتصر الحال على ذلك بل حتّى أصبح شخص الخليفة وعاصمته محكومين لأمير الأمراء الذي اتخذ قاعدة حكمه في مقابل دار الخلافة في دار المملكة
كان الإسلام منذ رفع مناره وأخذ بالتوسّع والفتوح على عهد الراشدين والأمويِّين والعباسيِّين شامخ الذرى منيع الجانب عزيزاً ... يجيب الرشيد قيصر على ظهر كتابه : الجواب ما تراه(54)
وعندما طرق سمع المعتصم تهكّم العلج على المتأوّهة بنا معتصماه في حصن عمورية , فيخرج لفوره دون أيّ توان على رأس حملة بينها سبعون ألف فارس على خيل بلق ويدك دكاً بسنابكها برّ الأناضول ويهدّد منيع أركان حصن عمورية لإغاثتها(55)
والواثق يعمل السيف في سكّان الجزيرة وأحيائها وينقل أسراهم إلى عاصمته سامراء بينما استحال على أيّ فاتح وطئ أدنى حدود الجزيرة فضلاً عن التوغّل في متاهاتها منذ أقدم عصور التاريخ ؛ فبسقوط عظمة الدولة العباسيّة وتمزّق أمبراطوريتها قُضي على حياة عزّ الإسلام أبدياً.
وفي الحديث الذي أخرجه الإمام أبي داود في كتاب السنن(56) : لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش , ختم بقطع النيابة الخاصة بالسفير الرابع علي بن محمّد السمري عن الإمام الثاني عشر المهدي محمّد بن الحسن العسكري (عليه السّلام)(57)
كان هذا النهر لِما يحاذي صحراء الجزيرة عرضة لمشاغبة خوارج العرب والقرامطة ومسرحاً لحركاتهم العسكرية مع الدولة فضلاً عمّا أصابه من الإهمال ؛ فعلى أثر نضوب المال وعدم كفايته لسدّ عوز أرزاق الجند أخذ الأمراء يحيلونهم على استغلال الضياع .
يقول ابن الأثير في الكامل : إنّ الذي أخذوه ازداد خراباً فردّوه وطلبوا العوض فعوّضوا وترك الأجناد الاهتمام بمشارب القرى وتسوية طرقها فهلكت وبطل الكثير منها فقط على ما يرويه أحمد بن سهل في صور الأقاليم(58) كما هو مبيّن ممّا اُصبن من عبث الكوارث المبيرة ولم يصبه العطب
المنطقة(*) فيما بين بغداد والكوفة الجزيرة بين الرافدين
وبقيت محافظة على عمرانها إلى القرن السادس على غرار وصف أبي زيد البلخي بأنّه سواد مشبك وشهود ابن جبير له كما أورده في رحلته إلى المشرق , حتّى دمرّتها عواصف حملة التتر سنة ستة وخمسين وستمئة
فبطبيعة الحال لتوالي الفتن والمحن وتخلّي القرى الآهلة من قاطنيها على حافتي هذا النهر والفروع المتشعبة منه , أنّ العناية بهذا النهر , وتفقده(**) ما كان ينتابه من عوارض متتالية حتّى أصبح العامر من ضياعه في حكم الموات كما أعرب عن وصفه الوصّاف بعد قرنين في تاريخ الحضرة
ولمّا كان العلقمي يروي كربلاء , وساكنيه وجوه الأشراف من العلويِّين والمنقطعين في جوار الحسين (عليه السّلام) , ولم تبقَ وسيلة للاهتمام بشأنه غير تبرّع أهل الفضل بالبذل ولا بدّ من أنّ بني بويه في القرن الرابع لتشيّعهم وعنايتهم بشؤون المشاهد المشرفة كانوا السبب الوحيد لبقاء حياة هذا النهر حتّى منتصف القرن الخامس ؛ إذ إنّ الإمام ابن الجوزي يحدّثنا في (المنتظم)(59) , في حوادث سنة 451 فيقول : خرج البساسيري إلى زيارة المشهد بالكوفة على أن ينحدر من هناك إلى واسط واستصحب معه غلّ في زورق العمال في حفر النهر المعروف بالعلقمي , ويجريه إلى المشهد بالحائر وفاء بنذر كان عليه
ويقول مؤلف تاريخ آل سلجوق في حوادث سنة 479 هـ : وصل عماد الدولة سرهنك ساوتكين إلى واسط ومنها إلى النيل في شهر رمضان وزار المشهدين الشريفين وأطلق بهما للأشراف مالاً جزيلاً وأسقط خفارة الحاج وحفر العلقمي وكان خراباً من دهر وقدم بغداد(60)
ويحدّثنا السيد الطقطقي في الآداب السلطانية ص 301 عند ذكر مؤيد الدين ابن العلقمي وزير الخليفة المصتعصم بالله : وقيل لجدّه : العلقمي ؛ لأنّه حفر النهر المسمّى بالعلقمي وهو النهر الذي برز الأمر الشريف السلطاني لحفره , وسمّي الغازاني ؛ فعليه قاوم العلقمي كوارث الأعفاء والدروس حتّى آخر القرن السابع ثمّ أصبح أثراً بعد عين
وفي خبر كان يحدّثنا العلاّمة الحسن بن يوسف في الخلاصة ص 58 عند ذكر عبد الغفار يقول : هو من أهل الجازية(61) , قرية من قرى النهرين وقفت بنفسي على دارس رسوم هذه القرية قبيل الحرب العالمية لسنة 1914 م وموقعه يقع في الشمال الشرقي من مدينة كربلاء على آخر حدود ضيعة الوند
يشاهد بظهر طلولها خزف , وبعض زجاج مبعثر وفيما يليه آثار حصن على التقريب ينوف أبعاد أعلامه المئة متر في مثله منسوب لبني أسد وبلغني أنّ آجر هذا الحصن ذراع بغدادي مربع وبين طلول الجازية والحصن أثر مجرى نهر دارس , لم أبحث هل هو نفس العلقمي أو أحد شعبه
ويخال لي أنّ [الكارثة] التي وقعت لقاضي القضاة على ما بسطه التنوخي في الفرج بعد الشدّة كانت بجوار هذا الحصن .
يقول أبو السائب : فلمّا انصرفت من الزيارة اُريد قصر ابن هبيرة قيل : إنّ الأرض مسبعة واُشير عليّ أن ألحق قرية فيها حصن سمّيت لي كي آوي إليها قبل المساء وكنت ماشياً فأسرعت , وأتعبت نفسي إلى أن لحقت القرية , فوجدت باب الحصن مغلقاً , فدفعته فلم يفتح لي وتوسلت للقائمين بحراسته بمَنْ قصدت زيارته فقالوا : قد أتانا منذ أيام مَنْ ذكر مثل ما تذكر , فأدخلناه وآويناه فكان عيناً علينا لللصوص وفتح الباب ليلاً وأدخلهم فسلبونا ولكن الحق بذلك المسجد وكن فيه ؛ لئلاّ تُمسي فيأتيك السبع
فصرت إلى المسجد , فدخلت بيتاً كان فيه فلم يكن بأسرع من أن جاء رجل على حمار منصرفاً من الحائر فدخل المسجد , وشدّ حماره في حلق الباب ودخل إليّ ومعه كرز فيه خرج , فأخرج سراجاً فأصلحه وقدحاً فأوقدها وأخرج خبزه وأخرجت خبزي واجتمعنا على الأكل فلم نشعر إلاّ والسبع قد دخل في المسجد فلمّا رآه الحمار دخل إلى البيت الذي كان فيه فدخل السبع وراءه , فخرج الحمار وجذب باب البيت بالرسن فأغلقه علينا وعلى السبع , وصرنا محبوسين فيه
وقدّرنا أنّ السبع لا يفترسنا بسبب السراج وأنّه إذا انطفأ أخذنا وأكلنا وما طال الأمر أن فني ما كان في السراج من الدهن وطفئ وصرنا في الظلمة والسبع معنا فما كان عندنا من حاله شيء إلاّ إذا تنفس فكنا نسمع نفسه وراث الحمار من فزعه فملأ المسجد روثاً .
مضى الليل ونحن على حالنا , وقد كدنا أن نتلف فزعاً ثمّ سمعنا صوت الآذان من داخل الحصن وجاء المؤذن ودخل المسجد , فلمّا رأى ما فعله الحمار لعن وشتم وحلّ رسن الحمار , فمرّ يطير في الصحراء , وفتح المؤذن باب البيت لينظر مَنْ فيه فوثب السبع إليه فدقّه وحمله إلى الأجمة وقمنا نحن وانصرفنا سالمين .
وقاضي القضاة أبو السائب هذا هو عتبة بن عبيد الله بن موسى بن عبيد الله الهمداني , كان أبوه تاجراً يؤم بمسجد همدان فاشتغل هو بالعلم , وغلب عليه في الابتداء التصوّف والزهد وسافر فلقي الجُنيد والعلماء وعني بفهم القرآن , وكتب الحديث وتفقّه للشافعي ثمّ دخل مراغة واتصل بأبي القاسم بن أبي الساج وتولّى قضاء مراغة ثمّ تقلد قضاء آذربايجان كلّها ثمّ تقلد قضاء همدان ثمّ سكن بغداد واتصل بالدولة وعظم شأنه إلى أن ولي قضاء القضاة بالعراق سنة 338 هـ على عهد معزّ الدولة أحد ملوك الديلم وتوفي سنة 355 هـ في بغداد وله ستة وثمانون سنة وهو أوّل مَنْ ولي قضاء القضاة في العراق من الشافعيّة(62)
نهر نينوى
نهر نينوى كان يتفرّع من عمود الفرات ما يقارب الحصاصة وعقر بابل وموقعه اليوم ـ على التقريب ـ بين شمال سدّة الهندية وجنوب قضاء المسيّب من نهر سورى ثمّ يشقّ ضيعة اُمّ العروق , ويجري جنوب كرود أبو حنطة أبو صمانة وتقاطع مجراه باقياً ليومنا هذا ويُعرف بـ عرقوب نينوى
ومن المحتمل أنّ البابليِّين هم الذين حفروا نهر نينوى مع تشكيل قرية نينوى باسم عاصمة الآشوريين في أدوار حضارتهم ولعدم ورود ذكر هذا النهر حتّى عرضاً يخال لي توغّل دثوره في مستهل أيام الشغب
النهر الغازاني
غازان خان هو من آل جنكيز والخامس من ملوك التتر الذين حكموا العراق بعد أن أسقطوا الخلافة العباسيّة
قطع عليه الأمير نوروز عهداً ـ أحد الأمراء الكبار ووالي إقليم خراسان ـ قبيل تسنّمه العرش بأن يشدّ أزره ويعضده لارتقاء سدّة الخلافة ولكن بشرط أن يعتنق الدين الإسلامي , فأعلن غازان اعتناقه للدين الإسلامي بعد أن تمهّد له الأمر مع مَنْ اتبعوه من المغول لسنة أربع وتسعين وستمئة للهجرة وعلى أثر رؤياه بعد إسلامه الذي آخا النبي (صلّى الله عليه وآله) بينه وبين ابن عمّه علي (عليه السّلام) أخذ يعطف على العلويِّين ويتفقّدهم ويبالغ في إكرامهم وأمر لهم في كافة أنحاء المملكة ببناء دور لإيوائهم على غرار أربطة المجاهدين وخانقاه الصوفية أطلق عليها اسم (دار السيادة) فضلاً عمّا أبداه من الاهتمام بشؤون المشاهد المشرّفة وتعاهد زيارتها
يقول مؤلّف الحوادث الجامعة )(63) : في سنة ثمان وتسعون وستمئة توجه السلطان غازان إلى الحلّة وقصد زيارة المشاهد الشريفة وأمر للعلويين والمقيمين بمال كثير ثمّ أمر بحفر نهر من أعلى الحلّة فحفر وسمّي الغازاني وتولّى ذلك شمس الدين صواب الخادم السكورجي وغرس الدولة
ويقول مؤلّف تاريخ المغول )(64) في الوصاف : اهتزّ اللواء الملكي المؤيد بالنصر يوم الخميس , وانتهز اجتياز طفّ الفرات على الطريق الذي هو من مستحدثات أيام الدولة الغازانية.
وضياعه الموات فيما مضى كان يطلق عليه بالعلقمي ؛ ولاستحداثه وجريان الفرات فيه لنضارة خضرته (طغى نطاق الفكر في التقدير , جرى الوادي فطم على القرى)(*) وحاز اللواء الملكي زيارة حائر الحسين المقدّس ثمّ اتجه على طريق الفرات إلى الأنبار وهيت
اجتاح ملوك المغول الوثنيون أسلاف غازان العراق فحلّوا بها الخراب والدمار وأحالوا نضارة مروجها الخضراء إلى فيافي قاحلة جرداء وأخليت معالمها من المتعاهدين الذين أبادتهم بربرية المغول وأصبح العمران أثراً بعد عين وتُركت منظومة الري واُهملت المجاري لعدم وجود مَنْ يبذل الجهود ويهمّه استمرار بقائها لإرواء المدن العطشى وعلى الأخص لمثل نهر العلقمي لطول مجراه ؛ لذلك أمر غازان بتجديد نهر العلقمي , وتقريب مأخذه من الفرات فتبروا أعالي مجرى النهر وأوصلوا القسم الآخر بالنهر الذي حفره غازان من فرات الحلّة ولم يستسيغوا بقاء اسم العلقمي على هذا النهر لا سيما وقد طرأ عليه الكثير من التغيير والتبديل ؛ فأطلقوا عليه اسم الغازاني ؛ تخليداً لذكرى حافره غازان(65)
وكان العمود المنحصر بالفرع للفرات على أثر اضمحلال الفروع التي كانت تأخذ منه وتصب في دجلة كنهر عيسى , وفوهته من الصقلا وبه تقريباً مع نهر السراط الذي كان يتفرّع منه فبعد أن كانا يرويان دار السلام أو مدينة المنصور والأراضي المحيطة بهما يصبان في دجلة داخل بغداد .
ثمّ نهر صرر ينصب إزاء المدائن ونهر الملك ويصب فيما بين النعمانية والمدائن ثمّ نهر سورى الذي انحصر به المجرى وأصبح المندفع الأعظم لمائه وكان موقع جسره نفس قضاء المسيّب الحالي .
وفي الشرقي منه على بعد ميلين كان موقع قصر ابن هبيرة ـ على ما رواه ابن واضح في البلدان(66) ـ على فرع يأخذ مائه من الفرات سمّي بنهر النيل أو صراط وآثار هذا القصر باقية إلى يومنا هذا في الجزيرة في نفس القضاء بمقربة من ضريح ابن القاسم يطلق عليه بتل هبيرة
ويتفرّع من نهر سورى أو شط الحلّة نهر النيل الذي حفره الحجاج بن يوسف الثقفي أبان عهد الدولة الاُمويّة وفوهته اليوم تقريباً تحاذي موقع الحجمة من شط الحلّة وكان نهري سورى والنيل يحدثان عند افتراق مجراهما واتصالهما شبه جزيرة بيضوية الشكل ثمّ يصبّان في بطائح أو أهوار الكوفة
ولم يزل عمود الفرات على جريانه صوب شط الحلّة حتّى بعد الألف ومئتين وثمانية الهجرية ؛ إذ حفر نهر الهندية بتبرّع المتغمد بالرحمة آصف الدولة ملك أود الهندي , بقصد إرواء ساحة الغري الأقدس وقد صادف الماء مستوى أخفض من مجراه الطبيعي(67) فعندها غيّر مجراه إلى هذا المستوى المنخفض حتّى كاد أن يقضي أبدياً على فرات الحلّة لولا تدارك وعناية المغفور له السلطان عبد الحميد الثاني العثماني ؛ إذ كلّف شركة جاكسن الإنكليزية بتدارك ذلك فشيّدت الشركة المذكورة السدّة القائمة اليوم وكان قد عجز قبل ذلك ولاة بغداد ـ وكبّدهم الكثير من الخسائر ـ من تشييد السدود لنفس الغاية ؛ فعلى أثر تشييد السدّة الموجودة اليوم ارتوت أراضي الحلّة وكربلاء , واستمر بها جري الماء طول أيام السنة
النهر السليماني الحسينيّة
حتّى ورد العراق سليمان القانوني العثماني فاتحاً إبّان حكم الشاه طهماسب الصفوي الأوّل سنة إحدى وأربعين وتسعمئة
قال نظمي زادة في كلشن خلفاء )(68) : في 28 جمادي الأوّل سنة 941 هـ قصد الملك المحمود الصفات لزيارة العتبات العاليات واتجه نحو كربلاء والنجف وزار مرقد سيد الشهداء المنوّر ونال قصب سبق مرامه وأمر بحفر نهر كبير من عمود الفرات لإرواء ساحة كربلاء فأصبحت نمونة من سلسبيل الفردوس الأعلى ووهب مجموع حاصلات ضياعه للمجاورين والخَدَمة الساكنين .
كان على مرّ العواصف تملأ النهر من ما تراكم في قعره من الصخور يزاحم تطهيره السادات الكرام(*) ويكبّدهم زحمات كثيرة وعلى أثر جريه أحاطت بالحرم ـ الذي الملائكة أمناؤه ـ حدائق وبساتين حتّى حاكى الجنان وأجلى عن قلوب ساكنيه التكليف ؛ لِما اجتمع لهم من أسباب الراحة ورغد العيش
على أثر تحقيق أرباب التاريخ في الماضي [فإنّ] بعض المهندسين البارزين , [وبحسب] أقيستهم(69) الهندسية , [قد أظهر] انخفاض مستوى الفرات وارتفاع قصبة كربلاء , وكان من المستحيل جريان الماء فيه ؛ فمن كرامة الإمام ويمن إقبال الملك العالي المقام جرى الماء بسهولة ممّا سبب إقحام المهندسين واستوجب تحسين الملأ الأعلى
أُطلق على هذا النهر حسب منطوق الوثائق القديمة لبعض الحدائق بالنهر الشريف السليماني
وفي سنة 1217 هـ عندما أراد أن يقيس أبو طالب في رحلته مسير طالبي )(1) عرض شط الهندية قال : هو على غرار نهر الحسينيّة الاسم الذي يُعرف به اليوم مع ما طرأ على عدوتيه من تغيير وتبديل هو اليوم عين النهر الموجود يروي ضياع كربلاء وبساتين ضواحيها باسم نهر الحسينيّة
كان منفذه الرئيس ينتهي إلى هور السليمانية الواقع في القسم الشرقي من البلاد على مسافة بضع أميال والفرع الذي اختص لإرواء السكنة والمجاورين كان يطوّق المدينة من ثلاث جهات ؛ حيث الشمال والغرب ثمّ ينعطف نحو الجنوب ويتجه شرقاً حتّى يصل إلى منفذه الرئيس في هور السليمانية
أنفق السيد كاظم الرشتي من فضله مصرف تجديد إنشاء المسجد الواقع في القسم الشرقي من الصحن الحسيني وبتبرّع زوجة محمّد شاه القاجاري ملك إيران أنفذ نهر الرشتية إلى الرزازة وبطيحة أو هور أبو دبس .
ولتبرّع أحد المحسنين من رجال حاشية الشاه عباس الأوّل الصفوي إبّان احتلال الدولة الصفوية للعراق 1033 ـ 1042 هـ جدّد صدراً لهذا النهر
وقد قام حسن باشا والي بغداد(70) لسنة 1329 هـ على الخلل الذي طرأ على مجرى هذا النهر فحفر له صدراً آخر
ويوجد اليوم في شمال قضاء المسيّب جانب البو حمدان في ضيعة هور حسين ترعة يُطلق عليها بصدر الحسينيّة العتيق وكان لها قنطرة قائمة متينة على محاذاة خان الوقف الذي هُدم حديثاً ؛ لغرض فتح الشارع المقابل للجسر الثابت الذي أنشأ لربط جانبي القضاء
قد يكون هذا الصدر أحد تينك الصدرين اللذين مرّ ذكرهما وعلى ما أتخطر هُدمت القنطرة السالفة الذكر ؛ لاستعمال أنقاضها في بناء الناظم الذي أُقيم على صدر الحسينيّة القائم ليومنا هذا أي في سنة 1324 هـ
وعلى أثر التغيير الذي طرأ على مجرى عمود الفرات بأحداث الهندية بأمر آصف الدولة الهندي(71) أُشكل علينا معرفة الفوهة الأصلية لنهر الحسينيّة وكذلك موقعه الذي اختير له من الفرات عند حفره بأمر سليمان القانوني سنة 941 هـ ومن المحتمل أن تكون فوهته بمقربة من مأخذ وفوهة نهر نينوى القديم على التقريب
الطفّ
الطف (بالفتح والفاء المشدّدة) : ما أشرف من الجزيرة على ريف العراق
يحدّث الأصمعي : يطف لك أي ما دنا وأمكن وطفّ الفرات : الشاطئ منه(72) مع شمول لفظة لكلّ ساحل ماء وجمعه طفوف(73) اُطلق على سبيل العلمية على الساحل الغربي من عمود الفرات حتّى آخر حدود الريف ما يُتاخم الجزيرة عرضاً من الأنبار حتّى بطائح البصرة طولاً ويضاف إليه في بعض مواقعه طفّ كربلاء ونينوى وشقران(74) , وسفوان(75)
وعلى أثر تعاقب مَنْ حكموا العراق من ملوك مختلفين في اللغة كالكلدانية الأولى والثانية وملوك الفرس الأعاجم والعرب في الدور الجاهلي ثمّ الإسلامي حسب لغتهم أطلقوا على المدن والقرى والضياع والأنهار في كلّ دور وطبقة أسماء أو تحوير لأسمائها الأصلية بحسب
اللهجة واللغة
وإبّان حكم المسلمين للعراق كانت الأسماء الدراجة على موقعها خليط من قبطية وكلدانية وآرمية فارسية وعربية كباروسيما بانقيا بورسيبا بابل نينوى : كلداني .
استان بهقباذ الأعلى الأوسط الأسفل صراط جاماسب ضيزن آباد نيرس آري فارسي طف حيرة غري قادسية عذيب خفان سنداد قطقطانة قصر بني مقاتل أنبار عين التمر عربي لدور التنوخيين آل نصر المناذرة ملوك الحيرة
والمسلمون بدورهم أطلقوا أقساس مالك كوفة بصرة سوق حكمة سواد جرف حاير غاضرية حزن غاضرة حصاصة طسوج النهرين على المواقع التي اشتهرت به وعلى بعض الأسماء الدراجة بتعريب أو تخفيف كبرس لبورسيبا قصر اللغات ومن الممكن لكربلاء من كور بابل
وقد اقتصر ابن النديم في فهرسته على اللغة البابلية أو الكلدانية(76) : النبطي أفصح من السرياني والذي يتكلّم به أهل القرى سرياني مكسور وغير مستقيم اللفظ وقيل : الذي يستعمل في الكتب أو القراءة هو الفصيح من غير أن يلمّ بصور مفردات حروفه
ومن الممكن أنّ رسم خط الأسفيني البابلي والهيرغلوفي المصري اُهملا وانقرضا على أثر سقوط بابل ومصر على أيد داريوس من ملوك الطبقة الثانية الكلدانية
وعند تحرّي الجغرافيين لتدوين أسماء المواقع اقتصروا على وجوه الاشتقاقات على اللغة العربية دون العطف على المعاني للغات الأدوار الغابرة كما ذهبوا إلى تحليل لفظ العراق من اشتقاقه من عراق القربة ولفظ بغداد من تعريب باغ داد أي حديقة العدل أو العطية مع اختلاف في ضبط لفظته بسبعة وجوه
ومع قناعة لسترانج في اشتقاقه من بغ الله و (داد تأسيس(77) يشير إلى وجود مدينة في العهود الغابرة في موقع بغداد يُقارب هذا الاسم ومن الممكن لوجود حرف الباء في أوّل لفظ بغداد أن يكون بابليا أو آشوريا لديهم في الاستهلال به في الأسماء المطلقة لأدوارهم بالنبطية كبانقيا وباروسيما وبابنورا وبريسما ونور سيبا .
ذكر اللغويون أنّ عدد المئة في اللغة النبطية يعبّر عنه بحرف الباء
الحائر
الحاير ـ بعد الألف ياء مكسورة وراء ـ هو ف