وقعة الزهاوي للعجم
وبعد وقوع الصلح بين الأهالي والحكومة العثمانيّة قرّرت الحكومة فرض غرامة على البلدة ، وهي أن تدفع الكسبة عن كلّ دكان في كلّ شهر ما يساوي (12) آنه إلى مدّة محدودة من السنين ، وبعد انتهاء المدّة استمرت الحكومة على استيفاء تلك الضريبة , فامتنع الكسبة ـ وأكثرهم إيرانيون ـ عن الدفع ، وقد رفعوا شكوى , فلم تُسمع لهم شكاية ، فالتجؤوا إلى التحصن بالسفارة الإنكليزية التي في كربلاء ، ونصبوا الخيام حولها واستظلوا بها ، وكلّما نصحتهم الحكومة والعلماء والأشراف لم يقبلوا ؛ فصمّمت الحكومة على تفريقهم بالقوّة ، وكان المتصرّف يومئذ رشيد الزهاوي .
وفي ليلة من اُخريات شهر رمضان سنة 1324 أخطرهم أوّل الليل فلم يتفرّقوا ، وبينما هم نائمون في خيامهم أمر الزهاوي الشرطة أن يضربوهم بالرصاص قبل الفجر ، فضربوهم وأصيب من الإيرانيين حوالي الخمسين شخصاً بين قتيل وجريح , وانهزم الباقون ، فهجم العسكر على خيامهم وانتهب ما فيها .
حادثة حمزة بك
وفي سنة 1333 ليلة النصف من شعبان كانت كربلاء غاصّة بالزوار الواردين من الأطراف للزيارة ثار أهالي كربلاء في وجه الحكومة أيام اشتغالها بالحرب على العامّة بعد شدّة ضغط الحكومة على أهالي كربلاء والنجف ، فهجموا على السجن وأخرجوا المسجونين , وانتهبوا دوائر الحكومة وبيوتهم , ففرّ المأمورون والموظفون أجمع ، فجاء المتصرّف حمزة بك مع قوّة , ودخل البلد من جانبها الشرقي , وتحصّنوا في بعض الخانات والبيوت الحصينة .
وصار الطرف الغربي بيد الأهالي , ولم تزل الحرب قائمة بين الطرفين عدّة أيام ، وقُتل من الجانبين خلق كثير , وانتهت المعركة بعد قتل ذريع وخراب أكثر البيوت والمنازل بهزيمة العسكر ، وانتهاب الأهالي أسلحتهم وذخائرهم ، وبقيت البلدة بيد الأهالي إلى أن احتلها الإنكليز.
ثورة العشرين
وفي سنة 1920 م ثارت البلاد بثورتها الدامية المعروفة بخاصة جهة الفرات فيها ، كان أوّل ما اندلع لسان الثورة من كربلاء ؛ وذلك لأمرين(1) :
ـ وجود آية الله الشيرازي قطب الوطنية الصادقة في كربلاء(2) .
ـ زيارة نصف شهر شعبان ، وهي الزيارة الوحيدة التي يجتمع فيها سائر المسلمين والقبائل .
وكان قد عيّن في أيام الثورة السيد محسن أبو طبيخ متصرّفاً في شؤون اللواء وما يتبعه ، وقد انعقدت في كربلاء عدّة مؤتمرات هامّة في هذا الشأن لأجل السعي وراء مصالح البلاد العراقية ، نخص بالذكر منها المؤتمر الكبير الذي انعقد في 9 شعبان سنة 1340 , وذلك بمناسبة تجاوز ( الإخوان ) على حدود العراق , فدعا الإمام الخالصي رؤساء القبائل القاطنة على ضفاف دجلة والفرات وديالى إلى حضور المؤتمر في كربلاء ، وكان انعقاد المؤتمر المذكور في دار آية الله الشيرازي المتقدّم الذكر ، فكان الحديث المهم بينهم في صالح البلاد .
وعلى كلّ حال ، فكربلاء هي المدينة المهمّة التي لها أصل وأساس متين في شؤون البلاد العراقية ونهضتها أوّلاً وآخراً ، والحمد لله على ذلك ، ووفّق الله رجال الأمّة إلى خدمة بلادهم .
يوم ورود الشعرات النبوية الشريفة إلى كربلاء وكان يوم ورود الشعرات الشريفة إلى كربلاء من الأيام المشهورة ؛ إذ هرع الأهلون رجالاً ونساء حتّى الأطفال للاستقبال , واحتفلوا به أشدّ وأعظم احتفال لم يُشاهد مثله ، حتّى أوصلوه إلى الحفرة الشريفة ووضعوه في محلّه .
وقد قال الشعراء في ذلك ، منهم المرحوم الميرزا محمّد حسين الشهرستاني في ورود الشعرات الشريفة النبوية لتوديعها في الروضة المطهّرة الحسينيّة ، وكان حاملها مالي بغداد الحاج حسن رفيق باشا سنة (1310) , ألف وثلاثمئة وعشرة هجرية :
كـربلاء طـلتِ الثريا شرفاً وبـعلياكِ الـسماك اعـترفا
مـنذ غابت فيك أقمارُ الهدى أورثـت فـي كلّ قلبٍ أسفا
أظـلم الـدنيا عـلى أرجائها حـيث فـيها بـرّ ثمّ خسفا
بـقي الـظلمة حتّى انكشفت بـقدوم الـحبر كهف الضعفا
حـضرت الوالي بأمر من به قام حصنُ الدينِ والأمر صفا
فخر هذا العصرِ سلطان السما وهـو ذا عبد الحميد ذو الوفا
رفــع اللهُ لـواءَ نـصره إذ بـهِ أيّـد شرعَ المصطفى
اشـرق الـدنيا بـهِ مذ قدما مـع شـمسٍ أورثته الشرفا
كـشفت كـلّ دجى كان بها وبـمرآها الـظلامُ انـكشفا
قيل ماذا النور قلت أرّخوا هاكموا شعرة وجه المصطفى
وصف الحائر الحسيني
إنّ الذي يجلب المسلمين إلى كربلاء هو وجود قبر الحسين ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وأخيه العباس بن علي (عليه السّلام) , وقبور أصحابه وأعوانه الذين استشهدوا معه في واقعة الطفّ ، أو يوم عاشوراء سنة 61 هجرية ( أو 650 ميلادية ) .
وبذلك أصبحت كربلاء مقدّسة الشيعة ومزارهم ؛ فيأتي إليها كلّ سنة لزيارة التربتين : تربة الحسين وتربة العباس (عليهما السّلام) من كلّ حدب وصوب زرافات زرافات , وجماعات جماعات قادمين إليها من ديار قاصية وربوع نائية ، كديار العجم , وربوع الهند , وآسيا الوسطى حيث يكثر [الشيعة] ؛ ولهذا ترى كربلاء لا تخلو من غرباء يعدّون بالآلاف للغرض نفسه .
وها نحن نصف للقرّاء ما في جامع الحسين (عليه السّلام) من المساجد العجيبة الرائقة البديعة الصنع , الفائقة الحسن ، ومن الأبنية الضخمة والتزيينات الفاخرة التي هي من أفخر ما يجود به تقى الشيعة وتدينهم وحبهم لآل البيت (عليهم السّلام) ، مستغنين به عن وصف جامع العباس (عليه السّلام؛ لقرب المشابهة بين الجامعين إن وضعا وإن زخرفا ، وهو من أعظم مساجد العراق وأتقنها هندسة وصناعة وأبدعها حسناً وبهجة .
وهو على شكلّ مستطيل طوله قرابة سبعين متراً في عرض يُقارب (55) متراً ، وللمسجد (7) أبواب ضخمة جميلة الوضع ، وعلى كلّ باب طاق مرتفع بالحجر المعقود بالحجر القاشاني ، وكلّ باب ينتهي بك إلى حي من أحياء المدينة .
وفناء المسجد كلّه فضاء واسع فسيح الأرجاء ، مفروشة أرضه بالرخام الأبيض الناصع وكذلك جدرانه ، فإنّ وجه أسفله مُنشأ بالرخام إلى طول مترين ، وما فوق مبني بالقاشاني الجميل القطع والنحت ، ويحيط بفناء الصحن جدار يُحصنه قد أقيم عليه كلفتان .
وفي الطبقة السفلى قرابة (65) غرفة جملية ، أمام كلّ غرفة إيوان ذو سقف معقود بالقاشاني , وفي وسط فناء الصحن الروضة المقدّسة , وهو من أعجب المباني وأتقنها وأبدعها شكلاً , وأوفرها حظّاً بالمحاسن ، أخذت من كلّ بديعة بطرف يدخل إليها من عدّة أبواب لا مجال لذكرها .
وأشهر أبوابها باب القبلة ، ويُطلق لفظ باب القبلة على باب الصحن الشريف ، أمّا باب الروضة يُطلق عليها باب إيوان الذهب ، وهو من الفضة الفنية الصياغة ، وفي جوانبه سهوات محكمة البناء , بديعة الشكل على هيئة التجاريب ، مرصّعة بقطع من المرايا تأخذ بمجامع القلوب .
أمامه صفّة مفروشة أرضها بالرخام ، وكذلك جدارها الأدنى , فإنّه مؤزّر بالرخام إلى مترين ، رصع كلّه بالزجاج ترصيعاً هندسياً يقلّ نظيره ، وسقف هذه الصفّة قائم على دعائم محكمة من الساج .
وهذا الباب ينتهي من الداخل إلى رواق يحيط بالحرم ( الروضة ) من جميع جهاتها ، وعن يسارك تجد قبر حبيب بن مظاهر الأسدي , وعليه مشبّك من الشبه ، فتدخل باستقامة إلى باب آخر من الفضة الناصعة العجيبة الصياغة إلى مقام محكم الصنع عظيم يأخذ بتلابيب الأفهام ، وتدهشك الزخارف البديعة والمرايا المتلألئة , وهو الروضة أو الحرم الذي يضمّ قبر الحسين (عليه السّلام) , وطوله (10) أمتار و40 سنتيمتراً , وعرضه (9) م و 15 سنتيمتراً , وفي داخله أنواع التزاويق .
لم أعرف في أيّ تاريخ كان قدوم هذا الكاتب الذي وصف ما شاهده ؛ إذ ليس الأمر اليوم كما ذكر ؛ وذلك منشأ(*) بالذهب الوهّاج ، فهي تتلألأ نوراً ، وتلمع لمعان البرق ، يُحار بصر متأمّلها في محاسنها ، ويقصر لسان رائيها عن تمثيلها .
وما زادها بهجةً وزخرفة وجود الجواهر النفيسة ، وقناديل الذهب والفضة , وغير ذلك من المعلّقات الغالية الثمن على القبر الشريف التي أهداها إليه ملوك الفرس وسلاطين الهند في عصور مختلفة , ما يعجز قلم البليغ من وصفها , والإحاطة بكلّ ما هنالك من نفائس المجوهرات ونوادر الآثار .
وفي وسط الحرم الشبكة المباركة ، وداخلها رمم الإمام .
والتدوين يشاهد من وراء مشبك من الفضة الناصعة ، وهو ذو أربعة أركان ، وفي جانب الطول 5 شبابيك ، وفي العرض 4 شبابيك ، وعرض كلّ شباك 80 سنتيمتراً ، ويتفرّع من وسط الجانب الشرقي منه مشبّك صغير من الفضة أيضاً على ضريح ابنه علي الأكبر الذي قُتل معه ، وهو غير علي زين العابدين (عليه السّلام) الذي قيد مع الأسرى إلى الشام .
وطول مشبّك الحسين (عليه السّلام) 5 أمتار ونصف متر ، وعرضه 4 أمتار ونصف متر ، وارتفاعه 3 أمتار ونصف متر , وفي أعلى مشبّك الحسين 16 آنية مستطيلة الشكل مطلاة بالذهب الأبريز ، وفي كلّ ركن من المشبّكين رمانة من الذهب يبلغ طولها قرابة نصف متر ، وسماء ذلك الحرم مغشاة بقطع من المرايا تأخذ بمجامع القلوب على شكل لا يتمكّن من أن يصفه واصف .
وفي الزواية الجنوبية من الحرم قبر الشهداء (عليهم السّلام) ، وهم ملحدون في ضريح واحد ، وهذا الضريح وضع علامة لمكان قبورهم , وهم في التربة التي فيها قبر الحسين (عليه السّلام) .
وجه تلك الزواية مشبّك من الفضة الناصعة ، طوله أربعة أمتار و80 سنتيمتراً ، وهو عبارة عن شبابيك عرض كلّ واحد منهم 75 سنتيمتراً ، وارتفاعه متراً و70 سنتيمتراً .
ويغطي الحرم كلّه قبة شاهقة مغشاة من أسفلها إلى أعلاها بالذهب الأبريز ، وفي محيطها من الأسفل 12 شباكاً ، عرض كلّ شباك متراً واحد من الداخل ونصف متر من الخارج ، ويبلغ ارتفاع القبّة من أسفلها ـ أيّ من سطح الحرم ـ إلى أعلاها قرابة 15 متراً .
وفي هذا الجامع ثلاث مآذن كبيرة يناطحن السحاب بارتفاعهن صعدن في الهواء ؛ اثنان منها مطليان بالذهب الوهاج ، وهما حول الحرم ، والثالثة مبنية بالقاشاني ، وهي ملتصقة بالسور الخارجي من الجانب الشرقي(3) ، وهناك أيضاً ساعة كبيرة مبنية على برج شاهق يراها الرائي من كلّ مكان قصي .
وصفوة القول : إنّ الكاتب مهما أوتي من البلاغة والفصاحة والإجادة في الوصف لا يمكنه أن يصف كلّ ما في هذا المسجد الضخم من الأبنية والتزيينات ، وإنّ ما كتبناه ليس إلاّ ذرّة من جبل ، أو نقطة من بحر زاخر .
دفن بني أسد للجثث الطاهرة
(( قد أخذ الله ميثاق اُناس من هذه الأمّة لا تعرفهم فراعنة الأرض ، هم معروفون من أهل السماوات ، إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة وهذه الجسوم المضرّجة فيوارونها ، وينصبون لهذا الطفّ علماً لقبر سيد الشهداء لا يُدرس أثره ، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام )) . علي بن الحسين (عليه السّلام)(4) .
مع ما كان يتخلّل وطأة ضغط المراقبة على الحسين (عليه السّلام) في آماد قصيرة منذ أن اتّصل به الحرّ في ( ذي حسم ) بعض فتور , كان بطبيعة الحال الاتصال غير مسموح به , خاصة عندما أصبحت كربلاء منطقة حرب , إلى أن ارتحل ابن سعد منها مع الجند قافلاً إلى الكوفة وأخلى ساحة الموقف .
قصدن نساء من بني أسد أهل الغاضرية للوقوف على جلية الأمر ؛ لقرب جوارهم , فأشرفوا ( على ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ؛ أجساد مجرّدة ، وثياب مرملة ، وخدود معفّرة ، تصهرهم الشمس ، وتسفي عليهم الرياح ، زوّارهم العقبان والرخم )(5) .
فلم يتمالكن النسوة أنفسهن لروعته , بل ولين الأدبار متقهقرات , وقد أخذ التأثّر منهنّ كلّ مأخذ ، فأخذن في تقريع الرجال من غير وعي ولا رشد بأشدّ لهجة وأقسى عتاب ؛ لتوانيهم وقعودهم عن موارات تلك الجثث والأشلاء الطاهرة ، ففعل حديثهن فعل السحر في نفوس الرجال ، وأثار الحفائظ وألهب الشيم ، فنهضوا نهضة الرجل الواحد ؛ إجابة للدعوة الصاخبة على سبيل التضحية والانتحار ، مستبسلين غير هيابين ولا وجلين من سلطان بني اُميّة وشديد بطشها ؛ فتسربلوا بسواد الليل لئلاّ يُفتضح أمرهم ، باذلين قصارى جهدهم في إنجاز مهمّتهم باختصار وسرعة متناهية من غير غسل ولا كفن .
ويحقّ لنا أن نتساءل هنا : أفهل كان البعث عن عدم وإملاق ، أم لغاية الإسراع وجلاً ، أم نزولاً عند حكم الشريعة مع كلّ مَنْ قُتل في سبيل الدين مع غلواء الدعاية القائمة على بذل الأموال كما أعرب عن ذلك مجمع بن عبد الله للحسين باعتبارهم خوارج امتنعوا عن بيعة الإمام وخليفة المسلمين ( أمير المؤمنين ) يزيد ؟
وهذا عمرو بن الحجاج الزبيدي يخاطب الجند برفع صوته : الزموا طاعتكم ، ولا ترتابوا في قتل مَنْ مرق من الدين ، وخالف الإمام .
وقد استمرت هذه الدعاية حتّى بعد سقوط الاُمويِّين بعدّة قرون .
يقول ابن خلدون في المقدّمة(6) عن القاضي أبي بكر ابن العربي المالكي ما معناه : إنّ الحسين قُتل بشرع جدّه .
واقتصر بنو أسد في حومة الحائر على ثلاث حفر ؛ للحسين (عليه السّلام) , وعلي الأكبر , وللشهداء من بني هاشم , وحفرة لبقية الشهداء من الأنصار . واستحال عليهم نقل جثمان الحسين (عليه السّلام) دفعة واحدة من محلّ مقتله إلى حفرته ؛ إذ كان مقطّعاً إرباً إرباً ، ووضعوه فوق حصير بورياء ورفعوا أطرافه , وكدسوا بقية الأشلاء من غير ما فارق بين ضجيع ، وبعضهم فوق بعض وهالوا عليهم التربة .
وقيل : أسموا حفرة الشهداء لسعة فتجتها بجذوع النخل ، وعلموا الحفائر بما كان المعهود في مثله ، وجرت به السنن ، وأصبح للإسلام به عرف وعادة على غرار ما هو المعمول به اليوم عند البدو .
والعلم (بالتحريك) : لغة علم الثوب من أطراز ، وهو العلامة ، وجمعه أعلام ، مثل : سبب وأسباب ، وعلّمت له علامة (بالتشديد) إمارة يعرف بها ، كانت أعلام حفرهم قائمة حتّى أمر المتوكّل بحرث قبر الحسين (عليه السّلام) .
تحرّى محمّد بن الحسين الأشناني لقبر الحسين (عليه السّلام) ووضع حوله علامات ، وبعد قتل المتوكّل حضر مع بعض الطالبيِّين والشيعة فأخرجوا وأعادوا علم حفرته الطاهرة دون بقية الحفر , فطُمست أعلامهم .
وذكر المفيد محمّد بن محمّد بن نعمان في الإرشاد ـ عند انصرام القرن الرابع ومستهل الخامس ـ أصحاب الحسين الذين قُتلوا معه , فإنّهم دُفنوا حوله ، ولسنا نحصل لهم أجداثاً على التحقيق(7) والتفصيل إلاّ أنّا لا نشك أنّ الحائر محيط بهم . وصرّح في محلّين آخرين : وأنّهم كلّهم مدفونون قرب الحسين في مشهده ، حفروا لهم حفرة وأكثر , واُلقوا فيها جميعاً وسوّي عليهم .
ولغاية الاختبار الذي قمت به عند تجديد تبليط الروضة الزاكية أحطت بموضع حفرتهم يتصل بالقسم الشرقي من الشبكة المباركة بغير ما انفصال ، ولسماء حفرتهم أزج(8) رومي في ستة أمتار بعرض مترين ، ولا بدّ من أن تكون حفرة الهاشميِّين داخل الشبكة المنسوبة لعلي بن الحسين (عليه السّلام) ، فيما بين أجداث الشهداء والجدث الأقدس الحسيني .
كان نبث علم الذي علموا به جدث المصطفى (صلّى الله عليه وآله) برواية ابن سعد في الطبقات عن الإمام جعفر بن محمّد ، عن أبيه , كان وجه الأرض شبراً .
ووصف القاسم بن محمّد أنّه حصباء حمراء(9) كان لجدث أمير المؤمنين (سلام الله عليه) ، علماً جرفه السيل برواية محمّد بن خالد ، عن الإمام جعفر بن محمّد (عليه السّلام) , بين الذكوات البيض على ما رواه ابن طاووس في الفرحة .
ولم تجرِ العادة آنذاك باتّخاذ أبنية ( أضرحة ) على الأجداث إلاّ للمصطفى (صلّى الله عليه وآله) ؛ لدفنه في حجرته الطاهرة الذي أقامه بنفسه (صلّى الله عليه وآله) حال حياته لإيوائه(10) .
بطبيعة الحال كان مظللاً فاعتزلته السيدة عائشة إلى ما يجاوره ...
وفضلاً عمّا كان يحيط بنو أسد ، ولورود لفظ الجميع من الممكن أن شاركوهم أهل قرية نينوى ، وكلاهما تقريباً يتساويان في البُعد عن الحائر الأقدس ، ولهذا العلم الذي رفعوه على الأجداث الطاهرة ، وعندئذ أشار السجاد (عليه السّلام) في خبر زائدة .
مع ما كان من المقتضي لدفع الشبهات عن أنفسهم أن يساووا وجه الأجداث عند الدفن من غير ما أيّ علامة بارزة ؛ إبقاءً على حياتهم ، إلاّ أنّ استبسالهم على سبيل التضحية بعثهم على أن يعلموا علماً .
ولتماسك تسوية العلم كان المصطفى (صلّى الله عليه وآله) أمر لجدث ولده إبراهيم بن مارية القبطية بقربة ماء أتاه بها أحد الأنصار(11) رش العلم ، وكذلك رشّ على علم جدثه الأقدس (صلّى الله عليه وآله) بعد دفنه(12) , فلا بدّ من أنّ بني أسد آخر عمل قاموا به بعد دفن الأشلاء أن رشّوا أعلام الحفر بماء عند انصرافهم ؛ لتتماسك التربة ، وكان ذلك خاتمة عملهم في كلّ ما قاموا به .
______________________________________
(1) إنّ المؤلّف لم يتعرّض لتاريخ بناء الصحن العباسي ووصفه ؛ لأنّ تاريخ الصحن العباسي ملازم لتاريخ بناء الحائر في مختلف العصور ؛ فإنّ معظم مَنْ حظوا بشرف تعمير وزخرفة الحائر الحسيني قد قاموا بنفس تلك التعميرات في حرم أخيه العباس , فأوّل بناء أقيم على القبر المطهّر هو عمارة عضد الدولة فنا خسروا البويهي ، وقد جدد عمارته الشاه طهماسب الصفوي ( قمر بني هاشم / 126 ) .
وقد جاء في رحلة ( ناصر الدين شاه إلى كربلاء / 137 ) : أنّ أمين الدولة صدر الأصفهاني هو الذي شيّد القبة العالية على الحضرة العباسيّة وغطّاها بالكاشاني النفيس . وفي سنة 1295 أمر فتح علي شاه القاجاري بصنع ضريح من الفضة الخالصة إلى مرقد العباس (عليه السّلام) , وبذل لذلك ( 6000 تومان ) من ماله الخاص ، وقد تعاون لإنجاز الضريح كلّ من الميرزا هدايت نوري المستوفي , والميرزا تقي نوري المستوفي ، وقد توفّى فتح علي شاه سنة 1250 قبل أن يتمّ الضريح ( مجلد القاجارية من ناسخ التواريخ / 275 ) . وقد أكمل الضريح ونصبه في محلّه على الروضة المطهّرة خلفه محمّد شاه والد ناصر الدين شاه ( المصدر نفسه / 480). لزيادة التفصيل راجع ( قمر بني هاشم / 126 ) . (عادل) .
(2) لعلّه عباس المدني صاحب نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس ، وكان قدومه عام 1131 هجرية . راجع 1 / 94 وما بعدها ، يقول في وصف الحضرة الحسينيّة : وأمّا ضريح سيّدي الحسين (عليه السّلام) , وفيه جملة قناديل من الورق المرصّع ، والعين ما يبهت العين ، ومن أنواع الجواهر الثمينة ما يساوي خراج مدينة ، وأغلب ذلك من ملوك العجم ، وعلى رأسه الشريف قنديل من الذهب الأحمر يبلغ وزنه منّين بل أكثر .
وقد عقد عليه قبة رفيعة السماك ، متّصلة بالأفلاك ، وبناؤها عجيب ، صنعة حكيم لبيب .
(*) هكذا وردت العبارة , ولعل هناك سقطاً ما أربك السياق . (موقع معهد الإمامين الحسنين)
(3) وهي المأذنة المعروفة بمنارة العبد نسبة إلى بانيها مرجان الجياتي سنة 767 ، وفي عام 982 رمّمت وأرخ ذلك بكلمة انكشتيار ـ أي خضر المحبّ ـ ( كلشن خلفاء لنظمي زاه / 103 وجه . مخطوط في خزانة المؤلّف ) .
وفي سنة 1357 هجرية حصل فيها تصدّع , فأوفدت الحكومة آنذاك أقدر المهندسين وكشفوا عليها , فبان بهم ميلانها جهة الغرب , حيث كانت خطرة على الحرم الشريف والقبة ، وبعد المداولة بين المهندسين رأوا أن لا مناص من هدمها ؛ حفظاً للقبة الشريفة ؛ وعليه فهدمت . (عادل) .
(4) كامل الزيارات ـ لابن قولويه .
(5) الطبري / 641 ، وورد فيه : ودفن الحسين وأصحابه أهل الغاضرية من بني أسد بعد ما قُتلوا بيوم .
(6) المقدّمة / 417 , طبعة القاهرة . وقد انتقد ابن خلدون انتقاداً شديداً هذا الزعم وفنّده بحجج قاهرة . ويدعم ابن العربي رأيه هذا ـ في كتابه العواصم من القواصم / 232 ـ أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال في حديث له : إنّه ستكون هنات وهنات , فمَنْ أراد أن يُفرّق أمر هذه الأمّة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً مَنْ كان . فيرى ابن العربي أنّ الذين اشتركوا في قتل الحسين (عليه السّلام) إنّما فعلوا ذلك إطاعة للأمر النبوي .
ويقول الدكتور علي الوردي في كتابه منطق ابن خلدون / 189 : والغريب من ابن العربي أنّه في الوقت الذي يشجب فيه خروج الحسين على يزيد تراه يدافع عن أولئك الذين خرجوا على علي بن أبي طالب أثناء خلافته ، فهو يحاول تبرير خروجهم بشتى الوسائل على الرغم من اعترافه قد بايعوا علياً أوّل الأمر .
(7) الأجداث : القبور , واحدها جدث .
(8) الأزج (بالتحريك) : البيت يُبنى طولاً .
(9) الطبقات الكبرى ـ لابن سعد 4 / 807 ط القاهرة سنة 1358 , و2 / 306 ط بيروت .
(10) الطبقات الكبرى 4 / 812 ط القاهرة , و2 / 292 ط بيروت .
(11) الطبقات الكبرى 1 / 123 ط القاهرة , و1 / 141 ط بيروت .
(12) الطبقات الكبرى 4 / 122 ط القاهرة , و2 / 306 ط بيروت .