لقد شكل مصرع الحسين (عليه السلام) مع الأيام نقطة تحول عظمي في تاريخ الأمة الإسلامية.
وإذا كانت السلطة الأموية تهدف من وراء الجريمة الشنعاء التي ارتكبتها في تصفية آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في كربلاء وأزالتهم من الوجود، حتى يحلو لهم التحكم برقاب المسلمين بالجور والظلم، فقد ذهبت جميع هذه الأماني أدراج الرياح، ولم يجنوا منها غير الخزي والعار.
ثم بعد ذلك حاولوا طمس القبر الشريف، فاستخدموا شتى وسائل الترهيب والتخويف، ومن بعدهم السلطة العباسية التي حذت نفس النهج الأموي. وهكذا كان الحال مع الرأس الشريف، فكل المحاولات التي استخدمت في طمس آثاره باءت بالفشل.
وكانت العناية الإلهية تتعقب الرأس الشريف في كل موضع حل فيه، حتى كتب لهذا الرأس الشريف أن يظهر للوجود، سواء في عاصمة الدولة الأموية أو في الرقة أو القاهرة أو عسقلان، وكل فريق يعتز ويفتخر بمدفن الرأس في أرضه. وإذا كان الأمويون يسعون في فعلتهم هذه من التنكيل بالعترة الطاهرة وطمس آثارهم، لكن دائرة السوء كانت عليهم هذه المرة، فأصبحوا في خبر كان تلاحقهم اللعنات، ويشيد للرأس الشريف بنيانا في عاصمة أعدائه ليبقى شاهدا على خسة ونذالة آل أمية إلى يوم يبعثون.
اختلفت الرواة في مسألة دفن الرأس الشريف على أقوال: أو لا - عند أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالنجف معه إلى جهة رأسه الشريف، ذهبت إليه بعض علماء الشيعة، استنادا إلى أخبار وردت عن الإمام الصادق (عليه السلام).
ففي رواية أبي فرج السندي، قال: كنت مع أبي عبد الله جعفر بن محمد حين قدم إلى الحيرة، فقال ليلة: أسرجوا لي البغل، فركب وأنا معه حتى انتهينا إلى الظهر، فنزل فصلى ركعتين، ثم تنحى فصلى ركعتين.
فقلت: جعلت فداك، إني رأيتك صليت في ثلاث مواضع!
فقال: أما الأول فموضع قبر أمير المؤمنين (عليه السلام)، والثاني موضع رأس الحسين والثالث موضع منبر القائم .
وفي رواية أبان بن تغلب عن الإمام الصادق (عليه السلام) وذكر مثل الحديث .
وبالإسناد عن يزيد بن طلحة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) وهو بالحيرة: أما تريد ما وعدتك؟ قال: قلت: بلى، يعني الذهاب إلى قبر أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: فركب وركب إسماعيل [ابن الإمام الصادق (عليه السلام)] معه وركبت معهم، حتى إذا جاز الثوية، وكان بين الحيرة والنجف عند ذكوات بيض، فنزل ونزل إسماعيل ونزلت معهم، فصلى ركعتين وصلى إسماعيل وصليت، فقال لإسماعيل: قم فسلم على جدك الحسين، فقلت: جعلت فداك أليس الحسين بكربلاء؟!
فقال: نعم، ولكن لما حمل رأسه إلى الشام سرقه مولى لنا ودفنه بجنب أمير المؤمنين (عليه السلام) .
وبالإسناد عن عمر بن عبد الله بن طلحة النهدي، عن أبيه، وذكر مثل الحديث، إلا أنه قال: ولكن (فلان) مولى لنا سرقه فجاء به فدفنه هاهنا.
- إنه مدفون مع جسده، رده علي بن الحسين (عليه السلام) عند رجوعه مع الأسارى من الشام.
- إنه دفن عند قبر أمة فاطمة (عليها السلام) ، قال ابن سعد، لما وصل إلى المدينة كان سعيد بن العاص واليا عليها، فوضعه بين يديه، وأخذ بأرنبة أنفه، ثم أمر به فكفن ودفن عند أمه فاطمة (عليها السلام).
وذكر الشعبي: إن مروان بن الحكم كان بالمدينة، فأخذه وتركه بين يديه،
وتناول أرنبة أنفه، وقال:
يا حبذا بردك في اليدين * ولونك الأحمر في الخدين
والله لكأني أنظر إلى أيام عثمان! وقال ابن الكلبي: سمع سعيد بن العاص، أو عمرو بن سعيد، الضجة من دور بني هاشم فقال:
عجت نساء بني زياد عجة * كعجيج نسوتنا غداة الأرنب
وروى أن مروان أنشد:
ضرب الدهر وسر فيهم ضربة * أثبتت أوتاد ملك فاستقر
ويؤيد هذا الرأي القرطبي حيث يقول: لما ذهب بالرأس إلى يزيد بعث به إلى المدينة، فأقدم إليه عدة من موالي بني هاشم، وضم إليهم عدة من موالي بني سفيان ثم بعث بثقل الحسين، وجهزهم بكل شئ ولم يدع لهم حاجة بالمدينة إلا أمر لهم بها، وبعث برأس الحسين (عليه السلام) إلى عمرو بن سعيد بن العاص، وهو إذ ذاك عامله على المدينة، فقال عمرو: وددت أنه لم يبعث به إلي، ثم أمر عمرو بن سعيد بن العاص برأس الحسين (عليه السلام) فكفن ودفن بالبقيع عند قبر أمه فاطمة عليها الصلاة والسلام .
وابن كثير يؤيد رأي القرطبي، فيقول: روى محمد بن سعد: إن يزيد بعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد نائب المدينة، فدفنه عند أمه بالبقيع .
وابن تيمية أيضا يذهب إلى أن الرأس دفن في المدينة، فيقول: إن الذي ذكره من يعتمد عليه من العلماء والمؤرخين، أن الرأس حمل إلى المدينة ودفن عند أخيه . وكان يستدل على أن الرجل إذا قتل سلموا رأسه وبدنه إلى أهله، كما فعل الحجاج في قتل ابن الزبير، وإن ما كان بينه وبينه من الحروب، أعظم بكثير مما كان بين الحسين وبين خصومه، فإن ابن الزبير ادعاها بعد قتل الحسين، وبايعه أكثر الناس، وحاربه يزيد حتى مات وجيشه محاربون له بعد الحرة، ثم تولى عبد الملك غلبه على العراق مع الشام، بعث إليه الحجاج بن يوسف، فحاصره الحصار المعروف حتى قتل، ثم صلبه، ثم سلمه إلى أمه .
هذا هو الدليل الذي اعتمده ابن تيمية على مصير الرأس في المدينة، ولا يخفى على القارئ النابه من أن ابن تيمية فاته كثير من الذين قتلوا في الحروب قد صلبت رؤوسهم وطافوا بها في المدن، وخير مثال رأس زيد بن علي، كما في رواية أبي الفرج الأصفهاني، قال: وجه يوسف بن عمر رأس زيد بن علي (رضوان الله عليه) ورؤوس أصحابه إلى هشام بن عبد الملك مع زهرة بن سليم . فلما جاء بالرأس إلى هشام بن عبد الملك نصبه على باب دمشق، ويروى أنه ألقى الرأس أمامه فأقبل الديك ينقر رأسه، فقال بعض من حضر من الشاميين :
أطردوا الديك عن ذوابة زيد * لقد كان لا يطأه الدجاج
أما يحيى لما قتل (رضوان الله عليه) سلبوا ما كان عليه من درعه وثيابه وسلاحه وتركوه عريانا بصحراء الجوزجان، وساروا برأسه إلى نصر بن سيار، فوجه نصر بالرأس إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ثم أرسل نصر بن سيار إلى موضع يحيى بن زيد الذي هو مدفون فيه فاستخرجه واستخرجوا أخاه أبا الفضل (أخوه من الرضاعة) فصلبا جميعا بالجوزجان على قارعة الطريق وقيل على باب مدينة الجوزجان .
بعد هذا لا يمكننا أن نعول على دليل ابن تيمية في كون الرأس مدفون بالمدينة.
- إنه مدفون بدمشق، قال ذلك سبط ابن الجوزي، وما حكاه ابن أبي الدنيا قال: وجد رأس الحسين (عليه السلام) في خزانة يزيد بدمشق فكفنوه ودفنوه بباب الفراديس. وقد أيد هذا الرأي كل من البلاذري والواقدي . وقد علق الأستاذ حسن الأمين على قول إنه مدفون بباب الفراديس بدمشق، فقال: وكان هذا الموضع المعروف الآن بمسجد أو مقام أو مشهد رأس الحسين بجانب المسجد الأموي بدمشق، وهو مشهد مشيد عظيم.
- إنه بمسجد الرقة على الفرات بالمدينة المشهورة، ذكر ذلك عبد الله بن عمران الوراق في كتابه (المقتل) فقال: لما حضر الرأس بين يدي يزيد بن معاوية قال: لأبعثنه إلى آل أبي معيط عن رأس عثمان، وكانوا بالرقة، فبعثه إليهم فدفنوه في بعض دورهم، ثم أدخلت تلك الدار في المسجد الجامع، قال: وهو إلى جانب سدرة هناك وعليه شبيه النيل لا يذهب شتاء ولا صيفا .
- إنه بمصر، نقله بعض الخلفاء الفاطميون إلى القاهرة من مدفنه في عسقلان، وذلك أن يزيد بعد أن نصب الرأس ثلاثة أيام في دمشق وضعه في خزائن السلاح زيادة في التشفي على عادة العرب في الجاهلية، وظل في خزائن يزيد وخلفائه من بعده حتى عهد سليمان بن عبد الملك الذي غير الكثير من أمر أسلافه، وكان فيما غيرة أن أمر بدفن الرأس، ولكنه لم يدفنه في دمشق لأنه حدس بأن سيكون لمدفن رأس الحسين شأن يوما ما، بل دفنه في عسقلان بفلسطين، وفي العام ٤٥٨ نقله الفاطميون إلى مدفنه الحالي في القاهرة، وله فيه مشهد عظيم يزار.
وقد أيد هذا الرأي الشيخ عبد الله الشبراوي صاحب كتاب (الإتحاف بحب الأشراف). فقال: لما دفن الرأس الشريف ببلاد الشرق ومضى عليه مدة، أرشى عليه الوزير طلائع بن رزيك وأنفق ثلاثين ألف دينار، ونقله إلى مصر وبني عليه المشهد الشريف، وخرج وهو وعسكره حفاة إلى نحو الصالحية من طريق الشام يتلقون الرأس الشريف، ثم وضعه طلائع في برنس من حرير أخضر على كرسي من الأبنوس وفرش تحته المسك والطيب .
وقد ذكر تقي الدين المقريزي: وفي شعبان سنة إحدى وتسعين وأربعمائة خرج الأفضل ابن أمير الجيوش بعساكر إلى بيت المقدس، وبه اسكان وأبلغاري ابنا أرتق في جماعة من أقاربهما وجندهما، وجماعة كثيرة من الأتراك، فراسلهما الأفضل يلتمس منهما تسليم بيت المقدس إليه من غير حرب، فلم يجيباه إلى ذلك، فقابل البلد ونصب عليها المنجنيق وهدم منها جانبا فلم يجدا بدا من الإذعان إليه وسلما إليه، فخلع عليهما وأطلقهما، وعاد في عسكره وقد ملك بيت المقدس
فدخل عسقلان، وكان فيها مكان دارس فيه (رأس الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)) فأخرجه وحمله على سفط إلى أجل دار بها، وعمر المشهد بعسقلان إلى أن نقل منها إلى القاهرة، وكان وصوله إلى القاهرة يوم الأحد ثاني جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وكان الذي وصل بالرأس الشريف من عسقلان الأمير سيف المملكة تميم، وكان والي عسقلان والقاضي المؤتمن بن مسكين، واستقر الرأس الشريف بالقصر الذي هو فيه الآن بمصر يوم الثلاثاء عاشر جمادى الآخرة المذكور .
وقال صاحب مرشد الزوار: ذكر العلماء أن رأس الإمام الحسين (رضي الله عنه) كان بعسقلان، فلما كان في أيام الظاهر الفاطمي كتب عياش إلى الظاهر يقول: أما بعد فإن الإفرنج قد أشرفوا على أخذ عسقلان وأن بها رأسا يقال إنه رأس السيد الحسين (رضي الله عنه)، فأرسل من تختار ليأخذه فبعث إليه مكنون الخادم في عشاري من عشاريات الخدمة، فحمل الرأس من عسقلان فأرسى له في الموضع المعروف بالكافوري من الخليج الحاكمي، فحمل وأدخل إلى القصر واستقر فيه كما هو الآن، وبنى الظافر بأعداء الله إسماعيل بن الحافظ لدين الله عبد المجيد الفاطمي مسجد الفاكهاني ليجعله فيه وذلك سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
وبنى طلائع بن رزيك مسجدا بظاهر باب زويله وهو المسمى بجامع الصالح الآن ليجعله فيه، ثم اجتمع رأيهم أن يجعلوه بالقصر بقبة تعرف بقبة الديلم، وكانت دهليزا من دهاليز الخدمة، فبناه طلائع بن رزيك وأتقن بناءه ونقل الرأس الشريف إليه سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وكان طلائع هذا صالحا سنيا وزيرا للفائز الفاطمي .
وقال ابن عبد الظاهر: إن الملك الصالح طلائع بن رزيك لما قصد نقل الرأس الشريف من عسقلان خوفا عليه من الإفرنج، بنى جامعه الذي هو الآن خارج باب زويله ليدفن الرأس ويفوز بهذا الفخار، فغلب أهل القصر على ذلك وقالوا: لا يمكن ذلك إلا عندنا، فعمدوا إلى هذا المكان وبنوه ونقلوا إليه الرخام، وذلك في خلافة الفائز علي بن طلائع في سنة تسع وأربعين وخمسمائة .
وهذا الرأي ما يؤيده المؤرخ الأستاذ حسن الأمين حيث يقول: وهذا الرأي الأخير هو الذي يؤيده التاريخ وينتهي إليه كل تحقيق تاريخي، وهو ما أخذت به بعد بحث طويل .
وقال: يؤيد المؤرخ الفلسطيني مصطفى الدباغ، دفن رأس الحسين في عسقلان مستشهدا برواية شعبية يتناقلها أهالي قرية (زرنوقة) القريبة من مدينة الرملة، عن الآباء والأجداد فيشيرون إلى مكان محدود من قريتهم ويذكرون باعتزاز: (إن القافلة قد استراحت هنا وهي في طريقها إلى عسقلان) .
هذه هي أقوال الرواة في مسألة دفن الرأس الشريف، وأعتقد صواب رأي الأستاذ الأمين فيما ذهب إليه حيث إن مشهد رأسه الشريف في مصر معظما على بقية المشاهد التي تنسب إليه، حيث خصصت له الأوقاف منذ الوهلة الأولى لتشييد بنائه الشامخ، كما أن المصريين يذكرون باعتزاز كرامات هذا المشهد المطهر، وقد مدحته الشعراء وأثنت عليه، فقد قال عبد الله الشبراوي: وقد كثرت القصائد والأشعار في مدح هؤلاء القوم الأطهار سيما في هذا المشهد الأنور والمعبد الأزهر.
وقال أيضا: لأبي الخطاب بن دحية في ذلك جزء لطيف مؤلف، واستفتى القاضي زكي الدين عبد العظيم في ذلك، فقال: هذا مكان شريف، وبركته ظاهرة، والاعتقاد فيه خير، والسلام .
وما أجد هذا المشهد الشريف، والضريح الأنور المنيق، حيث يقول القائل:
نفسي الفداء لمشهد أسراره * من دونها ستر النبوة مسبل
ورواق عز فيه أشرف بقعة * ظلت تحار لها العقول وتذهل
تغضي في بهجته النواظر هيبة * ويرد عنه طرفه المتأمل
ومع هذا فنحن نقول كما قال سبط ابن الجوزي رحمه الله: ففي أي مكان رأسه أو جسده فهو ساكن في القلوب والضمائر، قاطن في الأسرار والخواطر، أنشد بعض أشياخنا في هذا المعنى:
لا تطلبوا المولى حسين * بأرض شرق أو بغرب
ودعوا الجميع وعرجوا * نحوي فمشهده قلبي
وقفة مع ابن تيمية في كتابه رأس الحسين (عليه السلام)
لابن تيمية كتيب صغير سماه (رأس الحسين)، حققه الدكتور السيد الجميلي، قال الدكتور الجميلي عن عمله في هذا الكتاب: " ناقشنا آراء ابن تيمية وفي حالة عدوله عن الحقيقة بحسن نية طبعا، رددنا عليه بآراء العلماء والمؤرخين الكبار الذين أخذ عنهم، مثل الطبري والمسعودي وابن عبد ربه والقاضي ابن العربي والإمام القرطبي " .
أول ما بدأ ابن تيمية كلامه في كتابه المذكور، حملته الشعواء على رواة الشيعة، ناعتا إياهم بالرافضة وأهل الكذب، ففي معرض كلامه يقول: (فإنهم ينقلون أحاديث وحكايات، ويذكرون مذاهب ومقالات، وإذا طالبتهم بمن قال ذلك ونقله؟ لم يكن لهم عصمة يرجعون إليها، ولم يسموا أحدا معروفا بالصدق في نقله، ولا بالعلم في قوله. بل غاية ما يعتمدون عليه، أن يقولوا: أجمعت الطائفة الحقة، وهم عند أنفسهم الطائفة الحقة، الذين هم عند أنفسهم المؤمنون، وسائر
الأمة كفار " .
ثم يبدأ هجومه أيضا على الأئمة المعصومين وبالذات على الإمام المنتظر (عج)، فهو يقول: " ويقولون: إنما كانوا على الحق لأن فيهم الإمام المعصوم، والمعصوم عند الرافضة الإمامية الاثني عشرية، هو الذي يزعمون أنه دخل سرداب سامرا بعد موت أبيه الحسن بن علي العسكري، سنة ستين ومائتين، وهو إلى الآن لم يعرف له خبر، ولا وقع له أحد على عين ولا أثر " .
ثم يتمادى في غيه ويشدد هجومه، ويعتبر الإمام المنتظر ما هي إلا فكرة عند الجهال الضلال فابن تيمية الحنبلي المملوء حقدا على أئمة الرسالة، هذا الحقد الذي تراكم وضاق به صدره حتى نفثه لسانه، وثم تلافقته أقلام السوء والضلال تروي عنه، وتكيل له المديح وتعتبره شيخ الإسلام بلا منازع. والذي يهمنا الآن من ابن تيمية هو ما جاء في كتابه عن رأس الحسين.
فابن تيمية ينكر حمل الرأس الشريف إلى يزيد في الشام فهو يقول: " فقد تمن أن القصة التي يذكرون فيها حمل الرأس إلى يزيد، ونكثه بالقضيب كذبوا بها ". وكان يعتمد على دعم حجته بأن الرأس حمل إلى قدام عبيد الله بن زياد، وفي حضرة أبي برزة الأسلمي، ويقول أيضا: " بعض الناس روى بإسناد منقطع: إن هذا النكث كان بحضرة يزيد بن معاوية، وهذا باطل، فإن أبا برزة، وأنس بن مالك، كانا بالعراق ولم يكونا بالشام، ويزيد بن معاوية كان بالشام، لم يكن بالعراق حين قتل الحسين، فمن نقل أنه نكث بالقضيب بحضرة هذين قدامه فهو كاذب قطعا، كذبا معلوما بالنقل المتواتر " .
فابن تيمية بروايته هذه، أنكر آراء جميع المؤرخين الذين سبقوه بمئات السنين ، الذين اتفقوا على أن الرأس حمل إلى الشام، كما أيده الطبري في تأريخه، وابن الأثير في الكامل، وابن كثير في البداية والنهاية، والمسعودي في مروج الذهب.
أما المشاهد الأخرى التي ذكرت لرأس الحسين في دمشق والرقة وعسقلان والقاهرة فهو ينكرها جملة وتفصيلا، حيث يقول: " والمقصود هنا إن نقل رأس الحسين إلى الشام لا أصل له في زمن يزيد، فكيف ينقله بعد يزيد " .
ثم يزداد شيخ الإسلام في تخبطه، ويصرح بأن أهل البيت لم يسبى منهن أحد، ويتهم من يقول ذلك بأن لا عقل له يميز به ما يقول، ولا له إلمام بمعرفة المنقول!
فقط ابن تيمية يميز ما يقول، وله إلمام بمعرفة المنقول، وإلا كيف توصل مؤرخنا الكبير إلى أن الحجاج هو الذي قتل آل البيت! وابن تيمية فاته أيضا بأن الحسين لم يقتله يزيد إنما قتله الحجاج!! أما نص ما قاله ابن تيمية: " وما ما يرويه من لا عقل له يميز فيه ما يقول، ولا له إلمام بمعرفة المنقول، من أن أهل البيت سبوا، وأنهم حملوا على البخاتي، وأن البخاتي نبت لها من ذلك الوقت سنامان، فهذا الكذب الفاضح لمن يقوله، فإن البخاتي لا تستر امرأة، ولا سبى أهل البيت أحد، ولا سبي منهن أحد، بل هذا كما يقولون: الحجاج قتلهم " . كما يذكر في جانب آخر بأن الحجاج لم يقتل أحدا من بني هاشم، كما عهد إليه خليفته عبد الملك .
وقد أثنى ابن تيمية على يزيد بارتكابه الأفعال الشنيعة فيقول: " وكان له موقف بالقسطنطينية، وهو أول جيش غزاها، ما يعد من الحسنات!! ".
ثم يعرج إلى المتوكل ويعتبره من الأئمة الذين أنكروا على الشيعة بناء قبر الحسين (عليه السلام)، ويؤيد ما فعله بقبر الحسين (عليه السلام) فيقول: " وكانوا عند مقتل الحسين بكربلاء، قد بنوا هناك مشهدا، وكان ينتابه أمراء عظام، حتى أنكر ذلك عليهم الأئمة، وحتى أن المتوكل تقدم فيه بأشياء، يقال: إنه بالغ فيه إنكار ذلك، وزاد على الواجب! .
ولم يقتصر ابن تيمية عند هذا الحد بل أنكر قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في النجف، وادعى أنه قبر المغيرة بن شعبة، ثم أخذ يكيل الذم لبني بويه، ويقدحهم قدحا لاذعا، ويعتبرهم سببا بإظهار قبر الإمام علي (عليه السلام) فيقول: " وقريبا من ذلك، ظهر بنو بويه الأعاجم، وكان كثير منهم زندقة وبدع قوية، وفي دولتهم قوى بنو عبد القداح بأرض مصر، وفي دولتهم أظهر المشهد المنسوب إلى علي (رضي الله عنه) بناحية النجف، إلا فقبل ذلك لم يكن أحد يقول: إن قبر علي هناك، إنما دفن علي (رضي الله عنه) بقصر الإمارة بالكوفة، وإنما ذكروا إنه حكي عن الرشيد، إنه جاء إلى بقعة هناك، وجعل يعتذر إلى المدفون فيها، فقالوا: إنه علي، وإنه اعتذر إليه مما فعل بولده، فقالوا: هذا هو قبر علي، وقد قال قوم: إنه قبر المغيرة بن
شعبة " .
ثم يتناول شيخ الإسلام الشيعة، فيشن عليهم هجوما عنيفا، فمرة يصفهم بأهل الكذب والضلال، وأخرى بأهل البدع المنكرة، ثم يجعل لهم شبه شديد بالنصارى فيقول: " إن الذين يعظمون القبور والمشاهد لهم شبه شديد بالنصارى ".
لقد عاب ابن تيمية على الشيعة بناء قبور أئمتهم وإبرازها بما يليق بمكانتهم السامية بين المسلمين فيعتبر هذا مروق عن الدين، ومخالفة لإجماع المسلمين، والواجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. ثم يقول: نص على ذلك أئمة الإسلام من أهل المذاهب الأربعة، تبعه على رأيه ذلك محقق الكتاب السيد الجميلي، فراح أي الجميلي يسرد في هامش الكتاب آراء المذاهب الأربعة في تحريم البناء على القبور. وفات الأستاذ الجميلي البناء الفخم الذي شيد على قبر أبي حنيفة، إمام مذهب الحنفية في الأعظمية ببغداد.
كما فاته أيضا البناء الضخم الذي ضم ضريح عبد القادر الگيلاني في بغداد أيضا، وغيرها كثير سواء في بغداد أو القاهرة أو دمشق أو بقية عواصم المسلمين.
كانت هذه وقفة قصيرة مع صاحب الآراء المتطرفة ابن تيمية، وقد ظهر في كتيبه متخبطا في أفكاره يبتعد كثيرا عن موضوعه الأساسي، لكنه جعله ذريعة لصب جام غضبه على أهل البيت، وإلا ما علاقة ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) بموضوعه (رأس الحسين) فيقول: " وبمثل ذلك علمنا كذب من يدعي النص على علي "، والمتتبع لابن تيمية في كتابه هذا يخرج بحصيلة إنه لا يحسد ابن تيمية على سعة اطلاعه ومعرفته بالتاريخ، وإن ما أوردناه من بعض ما ذكر شيخ الإسلام يبقى للقارئ الكريم الحرية في إصدار حكمه، لأن القارئ النابه هو الذي يميز الغث من السمين.