لقد أجمع المؤرخون على أن عبيد اللّه بن زياد أوصى ابن سعد حينما أرسله لحرب الحسين (عليه السلام) ان يمثل به و يرسل إليه برأسه تنفيذا لأمر يزيد بن معاوية لعنه اللّه و أجزاه، و أن عمر قد مثل بالحسين و أهل بيته و أصحابه و أرسل رءوسهم إلى الكوفة و أرسلها ابن زياد إلى الشام مع السبايا او قبلها كما في بعض المرويات، و أنه قد دفن أشلاء قتلاه و ترك الحسين و القتلى من بنيه و أصحابه على رمال كربلاء و تم بعد ذلك دفن جسد الحسين و العباس و أصحاب الحسين حيث قبورهم الآن بلا شك في ذلك عند أحد من المحدثين و المؤرخين.
أما رأس الحسين فقد ارسل الى الشام مع بقية الرؤوس كما ذكرنا و وضعه يزيد بين يديه في طست و جعل ينكت ثناياه بقضيب كان في يده، و يتمثل بقول القائل كما يروي بعض الرواة:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا و استهلوا فرحا ثم قالوا يا يزيد لا تشل
و قد دفن الرأس بعد ذلك، و لكن متى و في أي مكان فلقد اختلف
المؤرخون و الرواة في ذلك و تعددت أقوالهم حتى بلغت تسعة أقوال كما أحصاها بعض المؤلفين، و الذي يراه أكثر الشيعة اعتمادا على بعض المرويات أنه مدفون مع الجسد في كربلاء و أن الإمام زين العابدين قد استوهبه من يزيد فوهبه إياه و في طريقه إلى المدينة مر على كربلاء و ألحقه بالجسد الشريف.
و القول الثاني أن يزيد بن معاوية أرسله إلى المدينة و كان الوالي عليها عمرو بن سعيد بن العاص و دفنه عمرو بن سعيد إلى جانب قبر أمه و أخيه الحسن في البقيع، و ممن ذهب إلى ذلك أبو الفداء في تاريخه و عمر بن الوردي في المجلد الأول من تاريخه أيضا و علي بن عبد اللّه السمهوري في وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، و أضاف إلى ذلك أن ابن أبي الدنيا قال: وجدوا في خزانة ليزيد بن معاوية رأس الحسين (عليه السلام) فكفنوه و دفنوه بدمشق عند باب الفراديس.
و قيل كما جاء في إسعاف الراغبين في سيرة المصطفى و فضائل أهل بيته الطاهرين: أن يزيد بن معاوية أمر أن يطاف برأسه في البلاد فلما انتهى إلى عسقلان دفنه أميرها بها، و لما غلب الأفرنج على عسقلان افتداه منهم الصالح طلائع وزير الفاطميين بمال جزيل و مشى إلى لقائه عدة مراحل و وضعه في كيس من حرير أخضر على كرسي من خشب الآبنوس و فرش تحته المسك و الطيب و بنى عليه المشهد الحسيني المعروف بالقاهرة بالقرب من خان الخليلي.
و قال صاحب مرشد الزوار الى طريق الأبرار كما نقل عنه مؤلف نور العين في مشهد الحسين: ذكر بعض العلماء ممن عاصر الفاطميين أن هذا الرأس الذي بالقاهرة هو رأس الحسين (عليه السلام) و كان بعسقلان و في عهد الظاهر الفاطمي كتب عباس إلى الظاهر يقول: ان الافرنج قد اشرفوا على الاستيلاء على عسقلان و إن بها رأسا يقال إنه رأس الحسين بن علي فأرسل إليه من تختار ليأخذه، فبعث إليه مكنون الخام مع جماعة من الخدم فحمل الرأس من عسقلان إلى مصر ثم أدخل الى القصر و استقر فيه كما هو الآن و بنى الظاهر مسجد الفاكهاني ليجعله فيه، و بنى طلائع بن رزيك مسجدا بظاهر باب زويلة أيضا و هو المسمى بجامع صالح ليجعله فيه، ثم استقر رأيهم على أن يجعلوه في القصر في قبة تعرف بقبة الديلم و كانت دهليزا من دهاليز الخدمة و نظم المهذب بن الزبير بهذه المناسبة قصيدة طويلة يقول فيها:
لهف نفسي لرؤوس نقلت بعد مثواها هنا ثم هنا
و قال المقريزي في المجلد الأول من خططه أن الأفضل بن أمير الجيوش خرج في عسكر كبير إلى بيت المقدس و به سقمان و أيلفاري ابنا ارتق في جماعة من أقاربهما و رجالهما و عساكر كثيرة من الأتراك، و في قاموس الأعلام لسامي بك ان ارتق هو مؤسس دولة بني أرتق الذين حكموا ديار بكر و حلب و ماردين، و قد حكم سقمان و ايلفاري ابنا ارتق من سنة 484 إلى سنة 516، فراسلهما الأفضل بن أمير الجيوش يلتمس منهما تسليم القدس إليه بغير حرب فلم يجيباه فقاتل البلد و نصب عليها المنجنيق و أخيرا لم يجدا بدأ من الإذعان إليه و سلماه القدس، و عاد في عساكره فدخل عسقلان و كان بها مكان دارس فيه رأس الحسين (عليه السلام) فأخرجه و عطره و حمله في سفط إلى أجل دار بها و عمر المكان الذي كان فيه الرأس فلما تكامل البناء حمل الأفضل الرأس الشريف على صدره و سعى به ماشيا إلى أن وضعه في محله، و في سنة 548 نقل الرأس من عسقلان إلى القاهرة و كان الذي نقله من عسقلان إلى القاهرة الأمير سيف المملكة و القاضي المؤتمن بن مسكين و دفن عند قبة الديلم بباب دهليز الخدمة فكان كل من يدخل يقبل الأرض أمام القبر.
و يبدو من المعنيين بتحقيق هذه الأمور أن الرأس الشريف مر بمرحلتين حتى استقر في القاهرة إذا صح أنه فيها، الأولى أنه دفن أولا في دمشق في مكان قريب من باب الفراديس بأمر من يزيد بن معاوية، أو أنه وجد في خزائنه فأخذ منها و دفن.
و ممن رجح دفنه في دمشق ابن أبي الدينار البلاذري في تاريخه و الواقدي أيضا، و هؤلاء بين من ذهب إلى أنه مدفون بباب الفراديس و بين من ذهب إلى أن يزيد بن معاوية دفنه في قبر أبيه، و بين من ذهب إلى أنه دفن في المسجد و قيل في سور البلد، و بعد ذلك نقل من دمشق إلى عسقلان بواسطة الفاطميين، و بقي بها إلى القرن الخامس الهجري، و ممن ذهب إلى ذلك عثمان مدوخ في كتابه العدل الشاهد في تحقيق المشاهد، فقد قال في كتابه بعد أن عرض هذه المراحل: و الدليل على ذلك أن بعض العلماء عمد إلى مكان قديم قريب من باب الفراديس و شرع في هدمه ليجعله خزانة لحفظ الكتب فعثر على طاق في الجدار محكم السد بحجر كبير مكتوب عليه بالنقش في الحجر ما فهموا منه أن هذا مشهد رأس الحسين السبط فرفعوا ذلك الى و الي الشام فذهب و رأى ذلك بنفسه و أمرهم أن لا يحدثوا في المكان شيئا، ثم رفع الأمر الى السلطان عبد المجيد خان ابن السلطان محمود خان، فأمر بكشف ذلك المكان بحضور جمهور من العلماء و الامراء و وجوه الناس و كشفوا الحجر الذي عليه الكتابة فوجدوا فجوة خالية ليس فيها شيء و بعد أن رآها الحاضرون أمر بسدها كما كانت، و رفع ذلك الى السلطان عبد المجيد فأمر بصنع طوق من الفضة حول الحجر، و مضى المؤلف يقول: و كنت أعلم مقدار وزنه و أظنه سبعة آلاف درهم، و استطرد يقول: ان هذه الامارة تدل على ان هذا الرأس دفن بدمشق و بعدها بنحو مائة عام ظهر مشهد عسقلان و انتقل من عسقلان إلى القاهرة بواسطة الملك الصالح طلائع في نصف القرن السادس.
و أكد وجوده في القاهرة حيث مشهده الآن (عبد الرحمن كتخدا القردغلي) لما اراد توسيع المسجد المجاور للمسجد الشريف، قيل ان هذا المشهد لم يثبت فيه دفن فأراد تحقيق ذلك فكشف مشهد الحسين بحضور الناس و نزل فيه الاستاذ الجوهري الشافعي و الاستاذ الشيخ الجلوي المالكي و كانا من كبار العلماء العاملين فشاهدا؟؟؟ من الخشب الساج عليه طست من الذهب فوقه ستار من الحرير الأخضر و في داخله الرأس الشريف فأخبر الناس بذلك فبنى المسجد و المشهد و أوقف لهما اوقافا لا يزال ريعها ينفق عليهما.
و قيل ان الرأس مدفون بمسجد الرقة في المدينة المشهورة كما نص على ذلك عبد اللّه بن عمر الوراق في كتابه المقتل، فقد جاء فيه: لما أرسل ابن زياد رأس الحسين إلى يزيد بن معاوية قال: لأبعثنه إلى آل أبي معيط بدلا عن رأس عثمان و كانوا في الرقة فبعثه إليهم فدفنوه في بعض دورهم ثم أدخلت تلك الدور في المسجد و هو إلى جانب سدرة هناك.
و قيل انه في دمشق و لم يخرج منها و روى الذهبي في تاريخ الإسلام عن أبي بكر أنه قال: كنت في القوم الذين وثبوا على الوليد بن يزيد و نهبوا خزائنه في دمشق فأخذت سفطا و قلت فيه غنائي و ركبت فرسي و جعلته بين يدي و خرجت من باب توما ففتحته و اذا بحريرة فيها رأس مكتوب عليه هذا رأس الحسين بن علي فنزلت عن فرسي و حفرت له بسيفي و دفنته.
و قيل ان سليمان بن عبد الملك قد دفنه بعد أن بقي في خزائن الأمويين الى عهده، فلما تغلب المسودة سألوا عن موضعه و نبشوه و أخرجوه، و قيل انه بقي مدفونا إلى عهد تيمورلنك فنبشوه و أخذوه إلى بلادهم و دفنوه فيها كما أكد جماعة منهم ابن تيمية أن المكان الموجود في القاهرة ليس لرأس الحسين و قيل غير ذلك عن الرأس الشريف و مكانه و لم يتقدم أحد ممن تبنوا تلك الأقوال بدليل قاطع برواية يمكن الاطمئنان إليها و حتى أن من قال من الشيعة بأنه دفن مع الجسد الشريف في كربلاء لم يقدم دليلا مقنعا على ذلك، و القدر المتيقن أن الجسد الشريف قد دفن حيث مشهده الآن و ان الرأس الكريم قد حمل إلى الشام مع السبايا.
أما خروجه من الشام إلى عسقلان أو الرقة أو المدينة أو القاهرة، أو أنه بقي في خزائن بني أمية و غير ذلك فليس فيما بأيدينا من المصادر ما يوجب الاطمئنان إلى شيء من ذلك، و من الجائز القريب أن يكون يزيد بن معاوية قد دفنه في الشام اما إلى جانب المسجد أو في مقبرتها، لأنه قد أحس بالنقمة العارمة عليه في مختلف المناطق الإسلامية و أدرك أن نتائج قتل الحسين
ستكون قاسية عليه و على البيت الأموي بصورة عامة، لذلك فقد كان يحاول تلافي اخطار جريمته التي لم يسجل التاريخ لها مثيلا و يتملق إلى الإمام زين العابدين و إلى السبايا و يتنصل من ابن زياد و يلعنه في المجتمعات و يقول: لقد حملني ابن مرجانة ما لا أطيق.
و من البعيد في مثل هذا الجو المشحون بالقلق و الاضطراب ان يترك رأس الحسين (عليه السلام) بين يديه أو في خزائنه في حين أن بقاءه يثير الأحزان و يعيد إلى الأذهان صورا لتلك المأساة التي أحس المسلمون بمرارتها و أحس هو و أسرته بأخطارها، و يترك آثارا سيئة لا يمكن تلافي نتائجها، لذلك فإني أرجح أن يكون دفنه قد تم خلال الأيام الأولى من دخوله الى الشام، اما في باب الفراديس أو في مقبرتها أو في مكان ما، أما نقله بعد ذلك إلى عسقلان و منها إلى القاهرة أو إلى مكان آخر فليس بمحال، و لكن ثبوته يحتاج إلى دليل و ما ذكروه لا يصلح أن يكون دليلا. و على أي الأحوال فإذا حل الحسين في بقعة صغيرة من بقاع الأرض فقد حل في الوقت ذاته في قلوب آلاف الملايين من المؤمنين الطيبين و إذا خفيت تلك الرقعة الصغيرة على الباحثين و المؤرخين و حتى على أنصاره و محبيه فالقلوب التي احتلها الحسين و اتخذته إمامها و قائدها و مثلها الأعلى لا تخفي حبها و ولاءها و تقديسها للحسين و أنصار الحسين و لكل من يسير على درب الحسين بفخر و اعتزاز، لقد احتل الحسين كل قلب يبتسم للحق و الخير و العدالة و نصرة الضعيف و المظلوم و يحقد على الظالمين و الطغاة المستبدين و الخونة و المنافقين و يضحي في سبيل اللّه بنفسه و بكل ما يملك من مال و بنين، و بما أن قلبي من تلك القلوب التي احتلها فإني أقول بفخر و اعتزاز للباحثين عن مكانه:
لا تطلبوا رأس الحسين بشرق أرض أو بغرب
و دعوا الجميع و عرجوا نحوي فمشهده بقلبي