ذكر أربابُ المقاتل : أنّ عمر بن سعد أمر بالرؤوس فقُطعت ، فكانت ثمانية وسبعين رأساً ، أخذت كندة ثلاثة عشر [ رأساً ] ، وأقبلت هوازن باثني عشر [ رأساً ] ، وجاءت تميم بسبعة عشر رأساً ، وأقبلت بنو أسد بستّة عشر رأساً ، واختصَّت مذحج بسبعة ، ولسائر الجيش ثلاثة عشر رأساً(1) .
وساروا بها إلى الكوفة ، ثُمّ سيّر ابن زياد رأس الحسين (عليه السّلام) ورؤوس مَن قُتل معه من أهله وصحبه مع السّبايا إلى يزيد بالشام(2) .
ولم يترك سيّد الشُّهداء (عليه السّلام) الدعوة إلى الدِّين ، وتفنيد عمل الظالمين حتّى في هذا الحال ، وهو مرفوع على القناة ، فكان مُتمّماً لنهضته المُقدّسة التي أراق فيها دمه الطاهر ، وقد استضاء خلق كثير من إشراقات رأسه الأزهر .
لهفي لرأسِكَ فوق مسلوبِ القَنَا يـكسوهُ مِـنْ أنـوارِهِ جلْبابَا
يتلُو الكتَابَ علـى السِّنانِ وإنّمَا رفـعُوا به فوقَ السِّنانِ كتابَا
ولا غرابة بعد أنْ كان سيّد الشُّهداء (عليه السّلام) دعامة من دعائم الدِّين ومنار هداه ، وعنه يأخذ تعاليمه ومنه يتلقَّى معارفه ، وهو صراطه المستقيم ومنهجه القويم ، دونه كانت مفاداته ، وفي سبيله سبقت تضحيته ، فهو حليف القرآن منذ اُنشئ كيانه ؛ لأنّهما ثقلا رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) وخليفتاه على اُمّته ، وقد نصّ المُشرّع الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بأنّهما لنْ يفترقا حتّى يردا عليه الحوض ؛ فبذلك كان سلام اللّه عليه غير مبارح تلاوته طول حياته ؛ في تهذيبه وإرشاده ، في دعوته وتبليغه ، في حلّه ومرتحله حتّى في موقفه يوم الطَّفِّ ـ ذلك المأزق الحرج بين ظهراني اُولئك الطغاة المُتجمهرين عليه ـ ليتمّ عليهم الحجّة ، ويوضّح لهم المحجّة .
هكذا كان يسير إلى غايته المُقدّسة سيراً حثيثاً ، حتّى طفق يتلو القرآنَ رأسُهُ الكريم فوق عامل السّنان ، عسى أنْ يحصل مَن يُكهربه نورُ الحقّ ، غير أنّ داعية الحقّ والرشاد لمْ يُصادف إلاّ قصراً في الإدراك ، وطبعاً في القلوب ، وصمماً في الآذان : ({خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة : 7].
وبلغ من غلواء ابن زياد وتيهه في الضّلال أنْ أمر بالرأس الشريف فطيفَ به في شوارع الكوفة وسككها(3) .
يقول زيد بن أرقم : كنتُ في غرفة لي ، فمرّوا بالرأس على رمح ، فسمعته يقرأ : {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف : 9]
فوقف شعري ، وقلتُ : رأسك أعجب وأعجب(4) !
ولمّا صُلب في سوق الصّيارفة ، وهناك ضوضاء ، فأراد (عليه السّلام) لفت الأنظار نحوه ، تنحنح تنحنحاً عالياً ، فاتَّجه النّاس نحوه ، وأبهرهم الحال ، فشرع في قراءة سورة الكهف إلى قوله تعالى : {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] (5)وعجب الحاضرون ؛ إذ لم تعهد هذه الفصاحة والإتيان على مقتضى الحال من رأس مقطوعٍ ، وبقي النّاس واجمون لا يدرون ما يصنعون .
ولمّا صُلب على شجرة بالكوفة ، سُمع يقرأ قوله تعالى : {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء : 227] (6).
قال هلال بن معاوية : سمعت رأس الحسين (عليه السّلام) يخاطب حامله ، ويقول : (( فرّقتَ رأسِي وبَدني ، أفرقَ اللّهُ بينَ لحمِكَ وعظمِكَ ، وجعلكَ آيةً ونكالاً للعالمين )) . فرفع اللعينُ سوطاً وأخذ يضرب بين رأسه المُطهّر (7).
وحدّث سلمة بن الكهيل : أنّه سمع رأس الحسين (عليه السّلام) بالكوفة يقرأ ، وهو مرفوع على الرمح : {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] (8).
كما سمعه ابن وكيدة يقرأ القرآن فشكّ أنّه صوته ؛ حيث لم يعهد مثله يتكلّم ، فإذا الإمام (عليه السّلام) يخاطبه : (( يابنَ وكيدة ، أما علمتّ أنَّ معاشرَ الأئمّة أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون )) . فزاد تعجّبه وحدّث نفسه أنْ يسرق الرأس ويدفنُه ، فنهاه الإمام (عليه السّلام) وقال : (( يابنَ وكيدة ، ليس إلى ذلك سبيلٌ ، إنّ سفكَهمْ دَمي أعظمُ عندَ اللّه مِن إشهارهم رأسي ، {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر : 71] (9) .
وفي طريقهم إلى الشام نزلوا عند صومعة راهب ، وفي الليل أشرف عليهم الراهب فرأى نوراً ساطعاً من الرأس الشريف ، وسمع تسبيحاً وتقديساً وتهليلاً ، وقائلاً يقول : السّلام عليك يا أبا عبد اللّه . فتعجّب الراهب ولم يعرف الحال ، حتّى إذا أصبح وأراد القوم الرحيل سألهم عن الرأس ، فأخبروه أنّه رأس الحسين بن علي بن أبي طالب ، واُمّه فاطمة ، وجدّه محمّد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ، فطلب الرأسَ من خولي الأصبحي ، فأبى عليه ، فاسترضاه بمال كثير دفعه إليه ، وأخذ الراهب الرأس الشريف وقبّله وبكى ، وقال : تباً لكم أيَّتها الجماعة ، لقد صدقت الأخبار في قوله : إذا قُتل هذا الرجل تمطر السّماءُ دماً .
ثُمّ أسلم ببركة الرأس الطاهر ، وبعد أنْ ارتحلوا نظروا إلى الدراهم فإذا هي خزف مكتوب عليها : {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء : 227] (10) وحدّث المنهال بن عمر قال : رأيت رأس الحسين (عليه السّلام) بدمشق أمام الرؤوس ورجل يقرأ سورة الكهف ، فلمّا بلغ : {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف : 9] . وإذ الرأس يخاطبه بلسان فصيح : وأعجبُ مِنْ أصحابِ الكهفِ قتلِي وحَمْلي (11) . وفي هذا الحال كُلّه لم ينقطع الدَّمُ من الرأس الشريف ، وكان طريّاً ، ويُشمّ منه رائحةٌ طيّبة .
وبالرغم من جدّ يزيد في محو آثار أهل البيت (عليهم السّلام) ، واحتقار حرم النّبّوة حتّى أنزلهم في الخربة التي لا تكنّهم من حرٍّ ولا برد ، واستعماله القسوة بالرأس المُقدّس ؛ من صلبه على باب الجامع الاُموي ، وفي البلد ثلاثة أيّام ، وعلى باب داره .
لم يزل أهل الشام ـ ومَن حضر فيها من غيرهم ـ يُشاهدون كراماتٍ باهراتٍ من الرأس الزاهر لا تصدر إلا من نبيٍّ أو وصيِّ نبيٍّ ، فأحرجهم الموقف ؛ خصوصاً بعد ما وقفت العقيلة زينب الكبرى سلام اللّه عليها في ذلك المجلس المغمور بالتمويهات والأضاليل ، فأفادت النّاس بصيرة بنوايا ابن ميسون السيّئة ، وموقفه من الشريعة الطاهرة ، وأنّه لم يرد إلا استئصال آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؛ حيث لم يُعهد في الإسلام مثل هذا الفعل الشنيع خصوصاً مع عيال النّبّي الكريم (صلّى الله عليه وآله) ، ذلك الذي ما زال يهتف في مواقفه الكريمة باحترام المرأة وعدم التعرّض لها بسوء ، وكان (صلّى الله عليه وآله) يُشدّد النّكير إذا بلغه في مغازيه قتل النّساء ، حتّى إنّ جماعة من المسلمين لمّا استأذنوه لقتل ابن أبي الحقيق أذن لهم ، وأمرهم بعدم التعرّض للنساء والصبيان وهُم مشركون .
وعلى سيرته مشى المسلمون ، وإنّ سيّدهم أمير المؤمنين (عليه السّلام) لمّا أنزل عائشة في الدار ، قال له رجل من الأزد : واللّه ، لا تفلتنا هذه المرأة . فغضب أمير المؤمنين (عليه السّلام) وقال) : صهْ ، لا تهتُكْنَ سِتْراً ، ولا تَدخلْنَ دارَاً ، ولا تُهيّجنَ امرأةً بِأَذًى وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ ، وسفهنَ أُمَرَاءَكُمْ وصلحاءَكُمْ ؛ فَإِنَّهُنَّ ضعافٌ ، ولقد كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيُكافِئ المرْأةَ بالضَّربِ فَيُعَيَّرُ بِهَا عَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ ، فلا يَبلُغنِّي عنْ أحدٍ تعرَّضَ لامرأةٍ فأنكلُ بِهِ ) (12).
من هذا عرف النّاس ضلال يزيد وتيهه في الباطل ؛ فاكثروا اللائمة عليه حتّى مَن لم ينتحل دينَ الإسلام .
وحديثُ رسول ملك الروم مع يزيد في مجلسه أحدث هزّةً في المجلس ، وعرف يزيد الإنكار منهم ، وأنّه لم تُجدِ فيهم تلك التمويهات ؛ وكيف تٌجدي وقد سمع مَن حضرَ المجلس صوتاً عالياً من الرأس المُقدّس لمّا أمر يزيد بقتل ذلك الرسول : (لا حَولَ ولا قوةَ إلاّ باللّهِ (13) .( وأيّ أحد رأى أو سمع قبل يوم الحسين (عليه السّلام) رأساً مقطوعاً ينطق بالكلام الفصيح ؟ وهل يقدر ابنُ ميسون أنْ يقاوم أسرار اللّه ، أو يُطفئ نوره تعالى شأنه ؟! كلاّ .
ولقد أنكرت عليه زوجته هند بنت عمرو بن سهيل ، وكانت عند عبد اللّه بن عامر بن كريز ، وهو ابن خال عثمان بن عفان ، فإنّ عامراً وأروى اُمَّ عثمان اُمُّهم اُمّ حكيم البيضاء بنت عبد المُطّلب بن هاشم بن عبد مناف ، فأجبره معاوية على طلاقها لرغبة يزيد بها(14) ؛ فإنّها لمّا أبصرت الرأس الزاهي مصلوباً على باب دارها ، ورأت الأنوار النّبويّة تتصاعد إلى عنان السّماء ، وشاهدت الدَّمَ يقطر منه طرياً ، أدهشها الحالُ ، وعظم مصابه في قلبها ، فلم تتمالك دون أنْ دخلت على يزيد في مجلسه ، مهتوكة الحجاب ، وهي تصيح : رأسُ ابن بنت رسول اللّه على دارنا !
فقام إليها وغطّاها ، وقال لها : أعولي وابكي على الحسين ؛ فإنّه صريخة بني هاشم ، عجّل عليه ابن زياد .
ورأت في منامها كأنّ رجالاً نزلوا من السّماء وطافوا برأس الحسين (عليه السّلام) يُسلّمون عليه ، ولمّا انتبهت جاءت إلى الرأس فأبصرت نوراً حوله ، فطلبت يزيد لتقصّ عليه الرؤيا ، فإذا هو في بعض الغرف يبكي ويقول : مالي ولحسين ! وقد رأى مثل ما رأت ، فأصبح يزيد ومِلء اُذنه حديث الأندية عن القسوة التي استعملها والجور الشديد ، فلم يرَ مناصاً من إلقاء التبعة على عاتق ابن زياد وتبعيداً للسُّبّة عنه ، ولكنّ الثابت لا يزال ، وهذا هو السّرُّ في إنشاء كتاب صغير وصفه المؤرّخون بأنّه مثل ( اُذن الفأرة ) ، أرفقه بكتابه الكبير إلى الوالي بأخذ البيعة من المدينة عامّة ، وفي الكتاب الصغير إلزام الحسين (عليه السّلام) بالبيعة وإنْ أبى تضرب عنقه.
وليس الغرض من إنشاء الكتاب الصغير إلا أنّ يزيد لمّا كان عالماً بأنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) لم يجعله خليفة ، ولا كانت بيعته ممّا اتَّفق عليها صلحاءُ الوقت وأشرافُ الاُمّة ، وما صدر من الموافقة منهم ، يوم أرادها أبوه معاوية ، إنّما هو للوعيد والتهديد ، فأراد يزيد أنْ يُخلِّي رسمياتهِ عن الأمر بقتل الحسين (عليه السّلام) ، بحيث لو صدر ذلك من عامله ولامه النّاس وخطّؤوه ، تدرّع بالعذر بخلوِّ كتابه للعامل بهذا الفعل ، وإنّما هو شي جاء به من قِبَلِ نفسه ، وكان له المجال حينئذ في إلقاء التبعة على العامل .
ولكن هلمّ واقرأ العجيب الغريب في إحياء العلوم ج3 ص106 ، في الآفة الثامنة من آفات اللسان ، فهناك ترى الغزالي تائهاً في الغلواء لمّا وشجت عليه عروق النّصب والتحيّز إلى الاُمويِّين ، فأبى أنْ يلعن قاتل الحسين (عليه السّلام) حتّى على الإجمال ، فيُقال : ( لعنة اللّه على قاتل الحسين ) ، مُعلّلاً باحتمال موته بعد التوبة ! وقد فاته أنّ التائب إنْ قُبلت توبته لا يشمله اللعن ، فإذاً أيّ بأس إذا قيل : لعنة اللّه على قاتل الحسين (عليه السّلام) ، لولا ذلك العداء المحتدم بين الحوائج والبغض لأهل هذا البيت الطاهر (عليهم السّلام) ؟!
وأغرب من ذلك قياسه يزيد بوحشي قاتل حمزة أسد اللّه وأسد رسوله ، فقال فيه : إنّ وحشي تاب عن الكفر والقتل جميعاً ، ولا يجوز أنْ يُلعن مع أنّ [ القتلة ] كبيرة ، فإذا لم يُقيّده بالتوبة وأطلق كان فيه خطر . . . إلى آخره .
لا قياس بين يزيد ووحشي ؛ فإنّ وحشيَّاً قتل حمزة وهو كافر ، فلمَّا أسلم سقطت عنه كُلُّ تبعة كانت عليه ؛ لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله ، بخلاف يزيد ؛ فإنّه قتل الحسين (عليه السّلام) وهو يظهر الإسلام ، وقد ارتدّ بقتله ؛ إمّا لأنّ الحسين (عليه السّلام) إمامٌ معصومٌ ، أو لتشفّيه بذلك من رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) بما صنعه مع خاله وجدّه يوم بدر .
على أنّ من المقطوع به أنّ مَن باء بذلك الإثم العظيم ، وهو قتلُ الحسين (عليه السّلام) ، لا يتوفّق للتوبة نهائياً ؛ فإنّه من الذنوب التي لا تدع صاحبها أنْ يتحيّز إلى خير أبداً .
كما أنّ من المقطوع به أنّ وحشياً وإنْ أظهر الإسلام أمام الرسول (صلّى الله عليه وآله)
وسكت عنه النّبيُّ ، وقال : غيّبْ وجهَكَ عنِّي (15). فلا يختم له بالصّلاح والسّعادة أبداً ، ولا يأتي يوم القيامة وعليه شارة الهدى ، وقد قتل سيّد الشُّهداء حمزة بن عبد المُطّلب الشاهد للأنبياء بالتبليغ وأداء الرسالة .
كيف لا يُلعن يزيد وقد جوّز العلماء المُنقّبون لعنه ، وصرّحوا بخروجه عن طريقة الإسلام ، كما أفصح عن ذلك شعره ؛ فإنّه لمّا وردت عليه سبايا آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأشرفوا على ثنيّة جيرون ، ونعب الغراب ، قال (16) :
لـمّا بَدَتْ تلكَ الحُمولُ وأشرَقَتْ تلكَ الشُّموسُ على رُبَى جَيرونِ
نعبَ الغُرابُ فقلتُ قُلْ أو لا تََقُلْ فقدْ اقتضيتُ مِنَ الرَّسولِ دُيونِي
فمن اُولئك العلماء القاضي أبو يعلى ، وأحمد بن حنبل ، وابن الجوزي ، والكيا الهراسي ، والشيخ محمّد البكري ، وسعد
التفتازاني ، وسبط ابن الجوزي .
وقال الجاحظ : إنّ المنكرات التي اقترفها يزيد ؛ من قتل الحسين (عليه السّلام) ، وإخافته أهل المدينة ، وهدم الكعبة ، وحمل بنات رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) سبايا ، وقرعه ثنايا الحسين (عليه السّلام) بالعود ، هل تدلّ هذه القسوة والغلظة على نصب وسوء رأيّ ، وحقد و بغضاء ، ونفاق ويقين مدخول ، أمْ تدلّ على الإخلاص ، وحبِّ النّبيِّ (صلّى الله عليه وآله) والحفظ له ، وصحّة السّيرة ؟!وعلى هذا فلا يعدو الفسقَ والضلال ، وذلك أدنى مناله . فالفاسق ملعونٌ ، ومَن نهى عن شتمِ الملعونِ فملعون
وقال العلاّمة الآلوسي : لا توقّف في لعن يزيد ؛ لكثرة أوصافه الخبيثة ، وارتكابه الكبائر في جميع أيّام تكاليفه ، ويكفي ما فعله أيام استيلائه بأهل المدينة ومكّة ، والطامّة الكبرى ما فعله بأهل البيت (عليهم السّلام) ، ورضاه بقتل الحسين على جدّه وعليه أفضل الصلاة والسّلام ، واستبشاره بذلك وإهانته بأهل بيته ممّا تواتر معناه .
والذي يغلب على ظنّي أنّ الخبيث لمْ يكُنْ مُصدّقاً بالرسالة ، وأنّ مجموع ما فعله مع أهل حرم اللّه وأهل نبيّه وعترته الطيّبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات ، وما ورد منه من المخازي ليس بأضعف دلالة على عدم تصديقه من إلقائه ورقة من المصحف الشريف في قذر ، ولا أظنّ أمره خافياً على أجلّة المسلمين إذ ذاك ، ولكن كانوا مغلوبين مقهورين لم يسعهم إلاّ الصبر ، ليقضِ اللّهُ أمراً كان مفعولا .
ولو سُلّم أنّ الخبيث كان مسلماً ، فهو مُسلمٌ جَمعَ من الكبائر ما لا يحيط به نطاق البيان ، وأنا اذهب إلى جواز لعن مثله على التعيين ، ولو لم يُتصوّر أنْ يكون له مَثلٌ من الفاسقين ، والظاهر أنّه لم يتُبْ ، واحتمال توبته أضعف من إيمانهِ .
ويُلحق به ابن زياد وابن سعد وجماعة ، فلعنة اللّه عليهم أجمعين ، وعلى أنصارهم وشيعتهم ومَن مال ميلهم إلى يوم الدِّين ، ما دمعت عينٌ على أبي عبد اللّه الحسين (عليه السّلام .
ويُعجبني قول شاعر العصر عبد الباقي أفندي العُمري :
يزيدُ على لعنِي عريضُ جنابِهِ فأغدُو بهِ طولَ المَدَى ألعنُ اللَّعنَا
ومَن يخشى القيل والقال بلعن ذلك الضليل ، فليقل : لعنَ اللّهُ مَن رضي بقتل الحسين (عليه السّلام) ، ومَن آذى عترة النّبيِّ (صلّى الله عليه وآله) بغير حقٍّ ، ومَن غصبهم حقّهم . فإنّه يكون لاعناً له ؛ لدخوله تحت العموم دخولاً أوَّلياً في نفس الأمر .
ولا يخالف أحد في جواز اللعن بهذه الألفاظ سوى ابن العربي المالكي وموافقيه ؛ فإنّهم على ظاهر ما نُقل عنهم لا يُجوّزون لعن مَن رضي بقتل الحسين (عليه السّلام) ، وذلك لَعمري ، هو الضلال البعيد الذي كاد يزيد على ضلال يزيد . . . إلى آخره .
وبعد هذا فهل يتوقّف أحد من لعنِ يزيد والبراءة منه ؟! وإنْ كان فليس [ هذا ] إلاّ الضَّلال والعناد ، أعاذ الله أولياءه من شرّ الحقد .
لمّا كثرت اللائمة على يزيد خشي الفتنة وانقلاب الأمر ، فتداركه بإرجاع السّجاد (عليه السّلام) والعيال إلى وطنهم ، ومكّنهم ممّا يريدون برأس الحسين (عليه السّلام) إلى كربلاء ودفنه مع الجسد ، ولم يختلف في ذلك اثنان من علماء الإماميّة المعروفين بالبحث والتنقيب ؛ ومن هنا نسبه المجلسي في البحار إلى المشهور بين العلماء .
وفي روضة الواعظين صفحة 165 قال : ردّ الرأس إلى الجسد .
وقال ابن نما في مُثير الأحزان صفحة 58 : إنّه المُعوّل عليه.
وفي اللهوف لابن طاووس صفحة 112 : عليه عملُ الإماميّة .
وقال ابن شهر آشوب في المناقب 2 / 200 : ذكر المرتضى في بعض رسائله أنّ رأس الحسين (عليه السّلام) اُعيد إلى بدنه في كربلاء.
وقال الطوسي : ومنه زيارة الأربعين.
وفي مقتل العوالم صفحة 154 : إنّه المشهور بين علمائنا.
وهو ظاهر الطبرسي في إعلام الورى صفحة 151 ، والسيّد في رياض المصائب .
وأمّا باقي الرؤوس فلم يتعرّض لها أرباب المقاتل ، ولكنْ في نفَس المهموم صفحة 253 ، ورياض الأحزان صفحة 155 ، عن حبيب السّير : إنّ يزيد سلّم جميع الرؤوس إلى علي بن الحسين (عليه السّلام) ، فألحقها بالأبدان الطاهرة في العشرين من صفر ، ثُمّ توجّه إلى المدينة . ولعلّ الاعتبار يُساعده ؛ فإنّ يزيد لمّا نقم عليه النّاس وكثر الاضطراب ، لم يرَ بُدّاً من موافقة الإمام السّجاد (عليه السّلام) على كُلّ ما يُريد ، وإخراجهم من الشّام عاجلاً .
نعم ، ذكر العلاّمة السيّد محسن الأمين في أعيان الشيعة 4 / 290 القسم الأوّل : أنّه رأى في سنة 1321 هـ في المقبرة المعروفة بمقبرة باب الصغير بدمشق مشهداً وضع على بابه صخرة مكتوب عليها : هذا مدفن رأس العبّاس بن عليٍّ ، ورأس عليِّ الأكبر بن الحسين (عليه السّلام) ، ورأس حبيب بن مظاهر .
قال : ثُمّ إنّه انهدم بعد ذلك بسنين هذا المشهد ، واُعيد بناؤه ، واُزيلت هذه الصخرة ، وبُني ضريح داخل المشهد ، ونقش عليه أسماء كثيرة لشهداء كربلاء ، ولكنَّ الحقيقة أنّه منسوب إلى الرؤوس الشريفة الثلاثة المُقدّم ذكرها بحسب ما كان موضوعاً على بابه كما مرّ ، وهذا المشهد الظنّ القوي بصحة نسبته ؛ لأنّ الرؤوس بعد حملها إلى دمشق والطواف بها ، وانتهاء غرض يزيد من إشهار
الغلبة والتنكيل بأهلها والتَّشفّي ، لا بدّ أنّ تُدفن في إحدى المقابر ، فدُفنت هذه الرؤوس الثلاثة في مقبرة باب الصغير ، وحُفظ محلُّ دفنها ، والله أعلم . . . إلى آخره .
هذا ما ذكره السيّد (أيّده الله) ، ولو اطّلع على حبيب السّير لاعتقد عدم صحة الدفن هناك ، على أنّ التغيير الذي ذكره يدلّنا على أنّ الحفظة لذلك المشهد لهم غرضٌ آخر ، وليس بالمستبعد أنّ ذلك المشهد محلّ صلب الرؤوس .
وحقيق أنْ يُقال في كُلّ منها :
هامةٌ في الحَياةِ طاوََلتِ الشُّهبَ ومَـا نـالَها هُـبوبُ الرِّياحِ
أنِفَتْ بعدَ موتٍها التُّربِ فاختا رَتْ لـهَا مَسكناً رُؤوسَ الرِّماحِ
ــــــــــــــــــــ
(1) اللهوف في قتلى الطفوف / 85 ، لواعج الأشجان / 197 .
(2) تاريخ الطبري 4 / 351 ، الكامل في التاريخ لابن الأثير 4 / 83 الثقات لابن حبّان 2 / 313 ، ينابيع المودَّة للقندوزي الحنفي 3 / 29 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14 / 280 ، بلاغات النّساء لابن طيفور / 21 ، البداية والنّهاية لابن كثير 8 / 209 .
وقد تعصّب ابن تيمية فأنكر بعث ابن زياد للسبايا والرؤوس إلى يزيد ، وهو إنكارٌ باطلٌ ردّه كثيرٌ من المُحدّثين والمؤرِّخين .
قال الذهبي في السّير 3 / 319 : أحمد بن محمّد بن حمزة : حدّثني أبي عن أبيه ، قال : أخبرني أبي حمزة بن يزيد الحضرمي ، قال : رأيت امرأة من أجمل النّساء وأعقلهنَّ ، يُقال لها : ( ريّا ) ، حاضنة يزيد ـ يُقال : بلغت مئة سنة ـ ، قالت : دخل رجلٌ على يزيد ، فقال : أبشر ، فقد أمكنك اللّه من الحسين ، وجيء برأسه . قالت : فوضع في طست ، فأمر الغلام فكشف ، فحين رآه خمر وجهه كأنه شمّ منه . فقلتُ لها : أقرعَ ثناياه بقضيبٍ ؟ قالتْ : أي واللّه .
وقد حدّثني بعض أهلنا أنّه رأى رأس الحسين مصلوباً بدمشق ثلاثة أيّام ، وحدّثتني ريّا أنّ الرأس مكث في خزائن السّلاح حتّى ولي سلمان ، فبعث فجيء به ، وقد بقي عظاماً أبيضَ ، فجعله في سفط وطيَّبه وكفّنه ودفنه في مقابر المسلمين ، فلمّا دخلت ( المُسوِّدة ) سألوا عن موضع الرأس فنبشوه وأخذوه ، فاللّه أعلم ما صُنع به .
وذكر باقي الحكاية ، وهي قوية الإسناد .
يحيى بن بكير ، حدّثني الليث قال : أبى الحُسين (عليه السّلام) أنْ يستأسر حتّى قُتل بالطَّفِّ ، وانطلقوا ببنيه عليٍّ وفاطمة وسُكينة إلى يزيد ، فجعل سكينة خلف سريره لئلاّ ترى رأس أبيها ، وعليَّاً في غلٍّ ، فضرب على ثنيَّتي الحسين وتمثّل بذلك البيت . . .
وفي مجمع الزوائد للهيثمي 9 / 195 رواية الليث المُتقدّمة ، وقال عقبها : رواه الطبراني ورجاله ثقات .
والرواية في المُعجم الكبير للطبراني 3 / 104 ، وكذلك في تاريخ الإسلام للذهبي 7 / 442 ، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 70 / 15 ، والكامل في التاريخ لابن الأثير 4 / 86 .
وفي الإصابة 2 / 71 : كان آخر ذلك أنْ قُتل واُتي برأسه إلى عبيد اللّه ، فأرسله ومَن بقي من أهل بيته إلى يزيد ، ومنهم عليّ بن الحسين وكان مريضاً ، ومنهم عمَّته زينب ، فلمّا قدموا على يزيد أدخلهم على عياله .
وكذلك في تاريخ الطبري 4 / 352 ، وغيرها من المصادر الكثيرة التي نطقت بهذا الأمر ، فالتعلّل بعدم إرسالهم إليه تعلّلٌ باطلٌ لمْ يُستند إلى دليل بعدما أثبت المُحدّثون والمؤرّخون ذلك .
(3) تاريخ الطبري 4 / 348 .
(4) الإرشاد للشيخ المفيد 2 / 117 ، إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي / 473 ، الدّر النّظيم / 561 .
(5) مناقب آل أبي طالب 3 / 218 .
(6) مدينة المعاجز للبحراني 4 / 100 .
(7) نهاية الدراية للصدر / 217 ، الوافي بالوفيات للصفدي 15 / 201 ، نَفَس الرحمن في فضائل سلمان للطبرسي / 362 ، شرح إحقاق الحقّ للمرعشي 33 / 694 .
(8) مدينة المعاجز للبحراني 3 / 462 .
(9) مدينة المعاجز 4 / 104 .
(10) مسند أحمد بن حنبل 1 / 256 ، صحيح مسلم 4 / 21 و 5 / 144 ، سنن ابن ماجة 2 / 947 ، وغيرها من المصادر .
(11) تاريخ الطبري 2 / 184 ، البداية والنّهاية لابن كثير 4 / 157 ، السّيرة النّبويّة لابن هشام 3 / 747 .
(12) فتح الباري 7 / 284 ، المُعجم الأوسط للطبراني 2 / 222 ، الاستيعاب لابن عبد البر 4 / 65 ، اُسد الغابة لابن الأثير 5 / 84 ، تهذيب التهذيب لابن حجر 11 / 100 ، الكامل في التاريخ لابن الأثير 2 / 251 ، الوافي بالوفيات للصفدي 27 / 253 ، وذكر ابن الأثير في اُسد الغابة 5 / 84 : قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب : مات وحشيٌّ في الخمر . أخرجه الثلاثة ، وفي شرح مسند أبي حنيفة لملاّ علي القاري / 528 ، وابن كثير في البداية والنّهاية 4 / 22 ، السّيرة النّبويّة لابن هشام 3 / 592 ، السّيرة الحلبيّة للحلبي 2 / 538 ، واللفظ للأوّل ، وقال ابن الهمام : بلغني أنّ وحشيّاً لم يزل يُحدُّ في الخمر حتّى خُلع من الديوان ، فكان ابن عمر يقول : لقد علمت أنّ اللّه تعالى لم يكنْ ليدع قاتل حمزة رضي اللّه عنه هذا . . .
(13) روح المعاني للآلوسي 26 / 72 ، في تفسير قوله تعالى : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) .
(14) قال سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواصّ 2 / 266 : وذكر جدّي أبو الفرج في كتاب الردّ على المُتعصِّب العنيد المانع من ذمّ يزيد ، وقال : سألني سائل ، فقال : ما تقول في يزيد بن معاوية ؟ فقلت له : يكفيه ما به . فقال : أتجوّز لعنته ؟ فقلتُ : قد أجازها العلماء الورعون ، منهم أحمد بن حنبل ؛ فإنّه ذكر في حقِّ يزيد ما يزيد على اللعنة .
قال جدِّي : وأخبرنا أبو بكر محمّد بن عبد الباقي البزّار ، أنبأنا أبو إسحاق البرمكي ، أنبأنا أبو بكر بن عبد العزيز بن جعفر ، أنبأنا أحمد بن محمّد الخلاّل ، حدّثنا محمّد بن علي عن مهنّا بن يحيى ، قال : سألت أحمد بن حنبل عن يزيد بن معاوية ، فقال : هو الذي فعل ما فعل ! قلتُ : وما فعل ؟ قال : نهب المدينة ! قلتُ : فتذكرْ عنه الحديثَ ؟ قال : لا ، ولا كرامة ، لا ينبغي لأحد أنْ يكتب عنه الحديث .
وحكى جدّي أبو الفرج عن القاضي أبي يعلى الفرّاء في كتابه ( المعتمد في الاُصول ) بإسناده إلى صالح بن أحمد بن حنبل ، قال : قلتُ لأبي : إنّ قوماً ينسبوننا إلى توالي يزيد ، فقلتُ : فلم لا تلعنه ؟ فقال : فمتَى رأيتني لعنتُ شيئاً ؟! يا بُنيَّ ، لِمَ لا يُلعن مَن لعنهُ اللّه في كتابه ؟ فقلتُ : وأين لعنَ اللّهُ يزيدَ في كتابه ؟
فقال : في قوله تعالى : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * اُولئك الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ) سورة محمّد / 22 ـ 23 . فهل يكون فسادٌ أعظم من القتل ؟
وفي رواية : لمَّا سأله صالح ، فقال : يا بُنيَّ ، ما أقول في رجل لعنه اللّه في كتابه ؟! وذكره .
قال جدّي : وصنّف القاضي أبو يعلى الفرّاء كتاباً ذكر فيه بيان مَن يستحقّ اللّعن ، وذكر منهم يزيد ، وقال في الكتاب المذكور : الممتنع من جواز لعن يزيد ؛ إمّا أنْ يكون غيرَ عالم بذلك ، أو منافقاً يُريد أنْ يُوهم بذلك ، وربّما استفزّ الجهّال بقوله (عليه السّلام) : (( المؤمنُ لا يكونُ لعّاناً )) .
قال القاضي أبو الحسن : وهذا محمول على مَن لا يستحقّ اللّعنَ .
فإنْ قيل : فقوله تعالى : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ ) نزلت في منافقي اليهود ؟ قلتُ : فقد أجاب جدّي عن هذا في كتابه ( الردّ على المُتعصِّب العنيد ) وقال في الجواب : إنّ الذي نقل هذا مقاتل بن سليمان ، ذكره في تفسيره ، وقد أجمع عامّة المُحدّثين على كذبه ؛ كالبخاري ، ووكيع ، والسّاجي ، والسّعدي ، والرازي ، والنّسائي ، وغيرهم .
وقال : فسرّها أحمد بأنّها في المسلمين ، فكيف يقبل قول أحدٍ إنّها نزلت في المنافقين ؟!
فإنْ قيل : فقد قال النّبيُّ صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم : (( أوّل جيشٍ يغزو القسطنطينية مغفورٌ له )) . ويزيد أوّل مَن غزاها ؟ قلنا : فقد قال النّبيُّ صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم : (( لعنَ اللّهُ مَنْ أخافَ مَدينتي )) . والآخر ينسخ الأوّل .
وأمّا قوله صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم : (( أوّل جيشٍ يغزو القسطنطينية . . . )) . فإنّما يعني أبا أيّوب الأنصاري ؛ لإنّه كان فيهم .
ولا خلاف أنّ يزيد أخاف أهل المدينة وسبى أهلها ، ونهبها وأباحها ، وتُسمى وقعة الحرّة . . .
وقال جدّي في كتاب ( الردّ على المُتعصِّب العنيد ) : ليس العجب من قتال ابن زياد الحسين ، وتسليطه عمر بن سعد على قتله والشّمر ، وحمل الرؤوس إليه ، وإنّما العجب من خذلان يزيد ، وضربه بالقضيب ثناياه ، وحمل آل رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم سبايا على أقتاب الجمال ، وعزمه على أنْ يدفع فاطمة بنت الحسين إلى الرجل الذي طلبها ، وإنشاد أبيات ابن الزَّبعري : ليت أشياخي ببدر شهدوا . . .
وردّه الرأس إلى المدينة وقد تغيّر ريحه ، وما كان مقصوده إلاّ الفضيحة وإظهار رائحته للنّاس ، أفيجوز أنْ يفعل هذا بالخوارج ؟! أليس إجماع المسلمين أنّ الخوارج والبغاة يُكفَّنون ويُصلّى عليهم ويُدفنون ؟!
وكذا قول يزيد : لي أنْ أسبيكم ـ لمّا طلب الرجل فاطمة بنت الحسين ـ ، قول لا يقنع لقائله وفاعله اللّعنة ! ولو لمْ يكُنْ في قلبه أحقادٌ جاهليّة ، وأضغان بدريّة لاحترم الرأس لمّا وصل إليه ، ولم يضربه بالقضيب ، وكفّنه ودفنه ، وأحسنَ إلى آل رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم .
قلتُ : والدليل على صحة هذا ؛ إنّه استدعى ابن زياد إليه وأعطاه أموالاً عظيمة وتحفاً كثيرة ، وقرّب مجلسه ورفع منزلته ، وأدخله على نسائه وجعله نديمه ، وسكر ليلة فقال للمُغنّي : غنِّ . ثُمّ قال يزيد بديهاً :
اسـقنِي شربةً تُروِّي فُؤادِي ثُمّ مِلْ فاسقِ مثلَها ابنَ زيادِ
صاحبَ السّرِّ والأمانةِ عنْدي ولـتسديدِ مَـغنمِي وجهادِي
قاتلَ الخارجيِّ أعنِي حُسيناً ومُـبيدَ الأعـداءِ والْـحُسّادِ
وقال ابن عقيل : وممّا يدلّ على كفره وزندقته ـ فضلاً عن جواز سبّه ولعنته ـ أشعارهُ التي أفصح فيها بالإلحاد ، وأبان عن خبث الضّمير وسوء الاعتقاد ، فمنها قوله في قصيدته التي أوّلها :
عُـليّةُ هـاتِي واعلنِي وترنَّمِي بـذلكَ إنّـي لا اُحـبُّ التناجيَا
حـديثُ أبي سُفيانَ قِدماً سَمَا بهَا إلـى اُحـدٍ حتَّى أقامَ البواكيَا
ألا هاتِي فاسقِينِي على ذاك قهوةً تَـخيَّرهَا الـعنْسيُّ كَرْماً شآميَا
إذا مَـا نَـظرْنا في اُمورٍ قديمةٍ وجـدنَا حَـلالاً شُربَها مُتواليَا
وإنْ مِتُّ يا اُمَّ الاُحيمرِ فانكَحِي ولا تـأمَلِي بـعدَ الفراقِ تلاقيَا
فـإنَّ الّذي حُدّثتِ عنْ يوم بعثِنا أحاديثُ طسمٍ تجعلُ القلبَ ساهيَا
إلى غير ذلك ممّا نقلتُه من ديوانه ، ولهذا تطّرق إلى هذه الاُمّة العار بولايته عليها ، حتّى قال أبو العلاء المعرّي يُشير بالشّنار إليها :
أَرَى الأَيّامَ تَفعَلُ كُلَّ نُكرٍ فَما أَنا في العَجائِبِ مُستَزيدُ
أَلَيسَ قُرَيشُكُمْ قَتَلَتْ حُسَيناً وكانَ عَلى خِلافَتِكُم يَزيدُ
قلتُ : ولمّا لعنه جدّي أبو الفرج على المنبر ببغداد بحضرة الإمام النّاصر وأكابر العلماء ، قام جماعة من الجفاة من مجلسه فذهبوا ، فقال جدّي : ( أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ) سورة هود / 95 .
وحكى لي بعضُ أشياخنا عن ذلك اليوم : أنّ جماعة سألوا جدّي عن يزيد ، فقال : ما تقولون في رجل ولي ثلاث سنين ؛ في السّنة الاُولى قتل الحسين ، وفي السّنة الثانية أخاف المدينة وأباحها ، وفي السّنة الثالثة رمى الكعبة بالمجانيق وهدّمها وحرّمها ؟
فقالوا : يُلعن . فقال : فالعنوه .
تذكرة الخواصّ / 2 ـ 265 ـ 280 ، وارجع لكلام ابن الجوزي ـ الجدّ ـ في كتاب الردّ على المُتعصِّب العنيد / 13 ـ 17 .
(15) روح المعاني للآلوسي 26 / 74 ، في تفسير قوله تعالى ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) الآية .
(16) بحار الأنوار 45 / 144 .