أوصى أمير المؤمنين لولده الحسن و عهد إليه في الإمامة و سلمه مواريث النبوة، كما أوصى الحسين (عليه السلام) و بقية أولاده بإطاعته، و قد وقف الحسين الى جانب أخيه الحسن و شاهد جميع الأحداث التي مر بها أخوه و كانا على اتّفاق تام في الرأي و جميع التدابير التي اتخذها الحسن (عليه السلام) بعد أن رأى موقف أهل العراق المتخاذل و أحاط بكل ما دبره معاوية من المكائد و الدسائس و أصبحت الأكثرية من جيش العراق في تصرف معاوية بن أبي سفيان و طغمته، و لم يكن ليخفى على الإمام أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) ان المعركة لو قدر للحسن أن يدخلها مع معاوية في حرب ستكون لصالح معاوية و ستنتهي حتما إما بقتل الحسن و الحسين و جميع الهاشميين و خلص شيعتهم أو بأسرهم، كما يبدو ذلك لكل من تتبع الأحداث التي رافقت تلك الفترة القصيرة من خلافة الحسن (عليه السلام)، و قد تحدثنا عن ذلك خلال حديثنا عن سيرة الإمام أبي محمد الحسن بما لا يدع مجالا لكل من يحاول التشكيك في موقف الحسن و إلصاق التهم به.
و من ذلك يتبين أن ما رواه ابن الأثير في أسد الغابة و ابن كثير في البداية و النهاية، و ابن عساكر في تاريخه الكبير من أن الحسين (عليه السلام) كان كارها لما فعله الحسن، و أنه قال له: أنشدك اللّه أن لا تصدق أحدوثة معاوية و تكذب أحدوثة ابيك، و أن الحسن قال له: اسكت أنا أعلم بهذا الأمر منك كما يدعي في أسد الغابة، و أنه قال له: لقد هممت أن أسجنك في بيت و أطينه عليك حتى اقضي بشأني هذا و أفرغ منه ثم اخرجك منه كما يزعم ابن كثير في البداية و النهاية، و أنه قال له: و اللّه ما اردت أمرا الا خالفتني الى غيره كما يزعم ابن عساكر في تاريخه، مما ذكرناه سابقا من تحديد الملابسات و الاحداث التي احاطت بموقف الحسن (عليه السلام) يتبين ان هذه المرويات لا اساس لها من الصحة، هذا بالإضافة الى ان الحسين (عليه السلام) كان ابعد نظرا و أعمق تفكيرا في الأمور و معطياتها حتى من أفذاذ عصره الذين قدروا للحسن (عليه السلام) موقفه الحكيم الذي لم يكن له مجال لاختيار سواه، و كان ارفع شأنا من ان تخفى عليه المصلحة التي ادركها غيره فيما فعله اخوه حتى يقف منه ذلك الموقف المزعوم. و حسب تقديري ان الذين وضعوا اسطورة الخلاف بينهما بهذا الشكل ارادوا بذلك ان يسجلوا على احدهما و لو خطأ من هذا النوع بعد ان تعسر عليهم ان يقفوا لاحدهما على عثرة او زلة قدم في تاريخهما الناصع المحفوف بالمصاعب و الاحداث، لأن النتيجة الحتمية لموقف الحسين السلبي من اخيه لو صح هو خطأ احدهما، اذ لا يعقل ان يكون الصواب حليفهما و كل منهما يرى و يتبنى خلاف ما يراه الآخر و يتبناه.
و من الجائز أن تكون غاية اولئك الذين وضعوا أسطورة الخلاف بينهما و نسبوا إلى الحسين ذلك الموقف من أخيه أن يسجلوا عليه وحده الخطأ، بحجة أن ما فعله الحسن (عليه السلام) كان لمصلحة المسلمين، و قد نفذ فيه أمنية جده الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله) حيث قال كما زعم أبو بكرة: إن ابني هذا سيد و سيصلح اللّه به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، و لازم ذلك حسب تقديرهم ان الحسين لم يكن مصيبا في موقفه من أخيه كما لم يكن مصيبا في ثورته لأنه تجاهل مصلحة المسلمين كما يزعمون.
و مهما كان الحال فالذي اراه و تؤكده عشرات الشواهد انهما كانا منسجمين في تفكيرهما و نظرتهما للأمور و معطياتها و متفقين في كل ما جرى و تم التوصل إليه، و كما نسبوا إليه ذلك فقد نسبوا للحسن أنه كان على خلاف مع أبيه في كثير من مواقفه السياسية قبيل خلافته و خلالها، و أضاف بعضهم أنه كان عثمانيا يقابله أحيانا بما لا يليق من سائر الناس مع آبائهم، و قد ذكرنا ما قيل حول ذلك في محله خلال حديثنا عن الإمام الحسن (عليه السلام) و أثبتنا أن هذه المقالة من صنع الأمويين، و أنه كان منسجما مع سياسة أبيه كل الانسجام، لم يخالفه في شيء من أموره في جميع المراحل و الادوار التي مر بها.
غزوة القسطنطينية :
لقد نص جماعة من المؤرخين ان المسلمين في عهد معاوية بن أبي سفيان قد غزوا القسطنطينية مرتين سنة 49 و 51 بقيادة يزيد بن معاوية، و في الثانية يدعون بأنه كان مع الغزاة أبو أيوب الأنصاري و الحسين بن علي (عليه السلام)، و قال ابن كثير في تاريخه: ان الحسين كان يفد على معاوية بعد وفاة اخيه، فصادف ان وفد عليه سنة 51 و توجه مع الجيش إلى القسطنطينية غازيا بقيادة يزيد بن معاوية، و أكد ذلك علي بن الحسين بن عساكر في المجلد الرابع من تاريخه.
و يبدو بعد التتبع انه لم يدع أحد من المؤرخين اشتراك الحسين في تلك الغزوة سوى ابن عساكر و ابن كثير في تاريخهما كما ذكرنا، و لم يذكر ابن جرير الطبري في تاريخه سوى غزوة واحدة كانت سنة 49، و نص على اشتراك ابن عباس و ابن عمر و ابن الزبير و أبي أيوب الانصاري فيها و لم يذكر الحسين معهم، و كل من كتب عن معارك المسلمين في تلك الفترة لم يتعرضوا للحسين (عليه السلام)، و اتفقوا على أن أبا أيوب الأنصاري قد توفي خلال تلك الغزوة و أنه دفن حيث توفي بناء لطلبه و وصيته، و لما فتح السلطان محمد الثاني القسطنطينية كان أول ما فعله أن بنى قبره و شيده و أتقن بناءه، و جرت عادة سلاطين بني عثمان بعد ذلك أن كل من يتولى الحكم لا بد و ان يتقلد السيف و يتوج في مشهد أبي أيوب تيمنا به.
و يدعي بعض المؤرخين من العرب و غيرهم: ان المسلمين صنعوا طائرة ليستخدموها في حروبهم مع الرومان في تلك الغزوة، و بعد أن طار بها قائدها في الجو سقطت به و تحطمت، و يرى جماعة آخرون من الكتّاب أن عامل بيزنطية استخدم طائرة من القسطنطينية فوق الجيوش العربية التي حاصرتها، و بعد ان تسربت الى العرب اسرارها صنعوا مثلها و طاروا بها و لكنها سقطت في البسفور بعد أن قطعت مسافة و كادت أن تحقق اهدافها.
و مهما كان الحال فالنصوص التاريخية لم تؤكد اشتراك الحسين (عليه السلام) في تلك الغزوة، و هذا هو الراجح لا لأن قائدها يزيد و مسيّرها معاوية كما يذهب إلى ذلك بعض من لا يدرك حقيقة أهل البيت (عليه السلام) من الشيعة و غيرهم، ذلك لأن أهل البيت (عليه السلام) كانوا يتفانون في سبيل الإسلام سواء كان القائد صالحا أو فاسدا كما يؤكد ذلك تاريخهم الغني بالتضحيات في سبيله، بل لأن الحسين (عليه السلام) لم يكثر الاتصال بمعاوية، و لم يثبت تردده على الشام خلال حكم معاوية، و لو صح اشتراك الحسين كجندي في جيش يقوده يزيد بن معاوية لأذاعته اجهزة الأمويين بكل وسائلها، و لما خفي على أحد من المؤرخين، في حين أن أكثرهم لم يذكره مع المشتركين في تلك الغزوة بل لم يذكره في عداد المشتركين فيها سوى ابن كثير و ابن عساكر كما ذكرنا و مجرد ذلك لا يكفي لإثبات أمر من هذا النوع كما و أن إهمال أكثر المؤرخين لذلك لا يصلح لأن يكون دليلا على العدم ما لم يقترن ببعض القرائن و الملابسات.
الحسين مع عمال معاوية :
لقد روى بعض المؤرخين أنه حصل بين الحسين (عليه السلام) و الوليد بن عتبة بن أبي سفيان و كان يوم ذاك أمير المدينة لعمه معاوية بن أبي سفيان، نزاع على أرض كانت بينهما، و قد احتال الوليد على الحسين و استعان عليه بسلطانه، فقال له الحسين: و اللّه لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي ثم أقوم في مسجد رسول اللّه (صلى الله عليه واله) و أدعو بحلف الفضول، و كان عبد اللّه بن الزبير حاضرا، فقال: و أنا أحلف باللّه إن دعا به لآخذن سيفي و أقف معه حتى ينتصف من حقه أو نموت معا، و بلغت مقالتهما المسور بن محرمة الزهري فقال مثل ذلك، ثم بلغت عبد الرحمن بن عثمان التيمي فقال مثل ذلك، فلما بلغ هذا الموقف الوليد بن عتبة انصف الحسين ورد إليه ماله.
و جاء في شرح النهج لابن أبي الحديد أنه كان بين معاوية و الحسين (عليه السلام) نزاع على أرض في الحجاز فقال الحسين (عليه السلام) لمعاوية: إما أن تشتري مني و إما أن تردها علي أو تجعل بيني و بينك احد الاثنين عبد اللّه بن عمر أو عبد اللّه بن الزبير، و إلا فالرابعة و هي الصيلم، فقال معاوية و ما الصيلم؟ قال:
أهتف بحلف الفضول، ثم قام من مجلسه مغضبا فمر بعبد اللّه بن الزبير و أخبره بحواره مع معاوية و مقالته له، فقال ابن الزبير: و اللّه لئن هتفت به و أنا مضطجع لأقعدن أو قاعد لأقومن أو قائم لأمشين، أو ماش لأسعين حتى تنفذ روحي مع روحك أو لينصفنك، و لما بلغت مقالتهما معاوية قال: لا حاجة لنا بالصيلم و أرسل إلى الحسين (عليه السلام) ان ابعث فخذ مالك فقد ابتعناه منك.
و حلف الفضول هذا هو الحلف الذي تداعت إليه بعض القبائل من قريش لمكافحة الظلم و العدوان و قد اجتمعوا من أجله في دار عبد اللّه بن جدعان و تعاهدوا على أن لا يجدوا مظلوما في مكة إلا و يردوا عليه ظلامته، أو صاحب حق إلا و يقفوا إلى جانبه.
و جاء عن النبي (صلى الله عليه واله) انه قال: لقد شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلفا لو دعيت إلى مثله لأجبت، و إنما قال ذلك، لأن هذا الحلف يتفق في أهدافه مع الإسلام الذي يدعو لإحقاق الحق و نصرة المظلومين و المستضعفين، و يقال في سبب تسميته بهذا الاسم أن رجالا من وجوه مكة تحالفوا على رد المظالم يقال لهم فضيل و فضال و فضل و مفضل فسمي لذلك بحلف الفضول.