غادر الإمام الحسين (عليه السلام) مكّة ، ولم يمكث فيها ، فقد علم أن الطاغية يزيد قد دسّ عصابة من الإرهابيين لاغتياله ، وان كان متعلّقاً بأستار الكعبة ، فخاف أن يراق دمه في البيت الحرام ، وفي الشهر الحرام ، وبالإضافة إلى ذلك فان سفيره مسلم بن عقيل قد كتب إليه يحثّه على القدوم إلى الكوفة ، وان أهلها يترقّبون قدومه ، ويفدونه بأرواحهم ودمائهم ، ويقدمون له الدعم الكامل لتشكيل حكومة علوية في بلادهم.
وسار الإمام مع عائلته تحفّ بها الكوكبة المشرقة من شباب أهل البيت : الذين يمثّلون القوة والعزم والإباء ، وعلى رأسهم سيّدنا أبو الفضل (عليه السلام) فكانت رايته ترفرف على رأس أخيه أبي الأحرار من مكّة المكرّمة إلى أرض الشهادة والفداء كربلاء ، وكان يراقب بدقّة حركة القافلة وسيرها خوفاً على عيال أخيه وأطفاله من أن يصيبهم عناء أو أذى من وعورة الطريق ، وقد تكفّل جميع شؤونهم وما يحتاجون إليه ، وقد وجدوا في رعايته وحنانه من البرّ ما يفوق حدّ الوصف.
وواصل الإمام سيرته الخالدة ، وقد طافت به هواجس مريرة ، فقد أيقن أنّه سيلاقي مصرعه ، ومصارع أهل بيته على أيدي هؤلاء الذين كاتبوه بالقدوم إلى مصرهم ، وقد تشرّف بمقابلته في الطريق الشاعر الكبير الفرزدق همام بن غالب ، فسلّم عليه وحيّاه ، وقال له : « بأبي أنت وأمّي يا بن رسول الله (صلى الله عليه واله) ما أعجلك عن الحجّ ؟ ».
فأحاطه الإمام علماً بما عزمت عليه السلطة من اغتياله قائلاً :
« لو لم أعجل لأخذت .. ».
وسارع الإمام قائلاً :
« من أين أقبلت ؟ .. »
« من الكوفة .. ».
« بيّن لي خبر الناس .. »
كشف الفرزدق للإمام بوعي وصدق الحالة الراهنة في الكوفة ، وانّها لا تبشّر بخير ، ولا تدعو إلى التفاؤل قائلاً :
« على الخبير سقطت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني أميّة ، والقضاء ينزل من السماء ، والله يفعل ما يشاء ... وربّنا كل يوم هو في شأن .. ».
واستصوب الإمام حديث الفرزدق ، وأخبره عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة ، وانه ماضٍ قدماً في جهاده ، وذبّه عن حرمة الإسلام ، فان نال ما يرومه فذاك ، وإلاّ فالشهادة في سبيل الله قائلاً له :
« صدقت لله الأمر من قبل ، ومن بعد ، يفعل الله ما يشاء ، وكل يوم ربّنا في شأن ، ان نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على أداء الشكر وان حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدّ من كان الحقّ نيّته ، والتقوى سريرته » وأنشأ الإمام هذه الأبيات :
لئن كانت الدنيا تعدّ نفيسة
فـدار ثواب الله أعلى وأنبل
وان كانت الأبدان للموت أنشئت
فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل
وان كانت الأرزاق شيئاً مقدراً
فقلة سعي المرء في الرزق أجمل
وان كانت الأموال للترك جمعها
فما بال متروك به المرء يبخل
ودلّ هذا الشعر على زهده في الدنيا ، ورغبته الملحّة في لقاء الله تعالى ، وانّه مصمّم كأشدّ ما يكون التصميم على الجهاد ، والشهادة في سبيل الله.
إنّ التقاء الإمام مع الفرزدق كشف عن خنوع الناس ، وعدم اندفاعهم لنصرة الحق فالفرزدق الذي كان يملك وعياً اجتماعياً ، ووعياً ثقافياً متميزاً رأى ريحانه رسول الله (صلى الله عليه واله) وهو ماضٍ في طريقه إلى الشهادة قد تضافرت قوى الباطل على حربه فلم يندفع إلى نصرته ، والالتحاق بموكبه ، واختار الحياة على الشهادة ، فاذا كان هذا حال الفرزدق فكيف بغيره من جهّال الناس وسوادهم.
وصول النبأ بمقتل مسلم :
وسارت قافلة أبي الأحرار تطوي البيداء لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى ( زرود ) وإذا برجل قد أقبل من جهة الكوفة ، فلمّا رأى الامام الحسين (عليه السلام) عدل عن الطريق وقد وقف الامام يريد مسألته فلمّا رآه قد مال عنه واصل سيره ، وكان مع الإمام عبد الله بن سليمان ، والمنذر بن المشمعل الأسديان فسارعا نحو الرجل حينما عرفا رغبة الإمام في سؤاله ، فأدركاه ، وسألاه عن خبر الكوفة فقال لهما : إنّه لم يخرج حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، ورآهما يجرّان بأرجلهما في الأسواق ، فودّعاه وأقبلا مسرعين حتى التحقا بالإمام ، فلما نزل الثعلبية قالا له :
« رحمك الله ان عندنا اخباراً ان شئت حدّثناك به علانية ، وان شئت سرّاً ».
ونظر الإمام إلى أصحابه الممجّدين فقال :
« ما دون هؤلاء سرّ ».
« أرأيت الراكب الذي استقبلته عشاء أمس ؟ .. »
« نعم وأردت مسألته ... ».
« والله استبرأنا لك خبره ، وهو أمرؤ منّا ذو رأي ، وصدق ، وعقل ، وانه حدّثنا انّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم ، وهانئ ورآهما يجرّان في الأسواق بأرجلهما .. ».
وتصدّعت قلوب العلويين وشيعتهم من هذا النبأ المفجع ، وانفجروا بالبكاء واللوعة ، حتى ارتجّ الموضع بالبكاء ، وسالت الدموع كالسيل ، وشاركنهم السيّدات من أهل البيت بالبكاء ، وقد استبان لهم غدر أهل الكوفة ونكثهم لبيعة الإمام ، وانّهم سيلاقون المصير الذي لا قاه مسلم ، والتفت إلى بني عقيل فقال لهم :
« ما ترون فقد قتل مسلم ؟ .. ».
ووثبت الفتية كالأسود ، وهي تعلن استهانتها بالموت ، وسخريتها من الحياة ، مصمّمة على المنهج الذي سار عليه مسلم قائلين :
« لا والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم .. ».
راح أبو الأحرار يقول بمقالتهم :
« لا خير في العيش بعد هؤلاء .. ».
وقال متمثلاً :
« سأمضي وما بالموت عار على الفتى
إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما
فان مُتّ لم أندم وإن عشت لم ألم
كفى بك عاراً أن تذل وترغما »
لقد مضيت ـ يا أبا الأحرار ـ قدماً إلى الموت ، بعزم وتصميم ، وأنت مرفوع الرأس ، ناصع الجبين في سبيل كرامتك ، ولم تخضع ، ولم تلن لأولئك الأقزام الذين غرقوا في الرذائل والموبقات.
النبأ المفجع بشهادة عبد الله :
وسار موكب الإمام لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى زبالة ، فوافاه النبأ الفظيع بشهادة عبد الله بن يقطر الذي أوفده للقيا مسلم بن عقيل ، فقد ألقت الشرطة القبض عليه ، وبعثته مخفوراً إلى ابن مرجانة ، فلمّا مثل عنده صاح به الخبيث الدنس :
« اصعد المنبر ، والعن الكذّاب ـ يعني الامام الحسين ـ ابن الكذّاب ، حتى أرى رأيي فيك .. ».
وظنّ ابن مرجانة انّه على غرار شرطته ، ومن سنخ جلاّديه الذين باعوا ضمائرهم عليه ، وما درى أنّه من أفذاذ الأحرار الذين تربّوا في مدرسة أهل البيت : ، وسجّلوا الفخر والشرف لهذه الأمة ، واعتلى البطل العظيم أعواد المنبر ، ورفع صوته صوت الحقّ الهادر قائلاً :
« أيّها الناس أنا رسول الحسين بن فاطمة ، لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة الدعيّ ابن الدعيّ .. ».
واسترسل في خطابه الثوري ، وقد دعا فيه إلى نصرة ريحانة رسول الله (صلى الله عليه واله) والذبّ عنه ، ومناهضة الحكم الأموي الذي عمد إلى إذلال الإنسان المسلم ، وسلب حريته وإرادته ، وانتفخت أوداج ابن مرجانة وورم أنفه ، فأمر بإلقاء هذا العملاق من أعلى القصر ، فأخذته الشرطة ، ورمته من أعلى القصر فتكسّرت عظامه ، وبقي به رمق من الحياة ، فأسرع إليه الخبيث عبد الملك اللخمي فذبحه ليتقرّب إلى سيّده ابن مرجانة.
ولمّا علم أبو الأحرار بمصرع عبد الله شقّ عليه ذلك ، ويئس من الحياة ، وعلم أنّه يسير نحو الموت ، وأمر بجمع أصحابه ، والذين اتبعوه طلباً للعافية لا للحق ، ليعلمهم بما آل إليه أمره من تخاذل الناس عنه ، وانصرافهم إلى بني أميّة قائلاً :
« أمّا بعد : فقد خذلنا شيعتنا فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام .. ».
وتفرّق ذوو الاَطماع الذين اتبعوه من أجل الغنيمة ، والظفر ببعض مناصب الدولة وخلص إليه الصفوة الكريمة من أصحابه الممجدين الذي اتبعوه على بصيرة من أمرهم وليست عندهم أية أطماع.
لقد صارح الإمام أصحابه بالواقع في تلك المرحلة الحاسمة ، فأعلمهم أنّه ماضٍ إلى الشهادة لا إلى الملك والسلطان ، وان من يلتحق به سيفوز برضا الله ، ولو كان الامام من عشّاق السلطة لما أدلى بذلك ، وكتم الأمر لأنّه في أمسّ الحاجة إلى الناصر والمحامي عنه.
لقد كان الإمام (عليه السلام) ينصح أصحابه وأهل بيته بالتخلي عنه في كل موقف والسبب في ذلك أن يكونوا على بصيرة من أمرهم ، ولا يدّعي أحد منهم أنّه كان على غير علم بالأمر.
الالتقاء بالحرّ :
وسار موكب الإمام يطوي البيداء حتى انتهى إلى « شراف » وفيها عين ماء فأمر الإمام فتيانه بالاستقاء والاكثار منها ، ففعلوا ذلك ، وسارت القافلة ، فانبرى بعض أصحاب الإمام بالتكبير ، فاستغرب الامام منه ، وقال له :
« لمَ كبّرت ؟ ... »
« رأيت النخل ... ».
وأنكر عليه رجل من أصحاب الإمام ممن عرف الطريق ، فقال له :
« ليس ها هنا نخل ، ولكنها اسنّة الرماح ، وآذان الخيل » ...
وتأمّلها الإمام ، فطفق يقول : وأنا أرى ذلك ـ أي أسنّة الرماح وآذان الخيل ـ وعرف الإمام أنّها طلائع الجيش الأموي جاءت لحربه فقال لأصحابه :
« أما لنا من ملجأ نلجأ إليه ، فنجعله وراء ظهورنا ، ونستقبل القوم من وجه واحد .. ».
وكان بعض أصحابه عارفاً بسنن الطريق فقال له :
« بلى هذا ذو حُسم (1) إلى جنبك ، تميل إليه عن يسارك ، فان سبقت إليه فهو كما تريد .. ».
ومال موكب الإمام إليه ، فلم يبعد كثيراً حتى أدركه جيش مكثف بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي ، قد عهد إليه ابن مرجانة أن يجوب في صحراء الجزيرة للتفتيش عن الإمام ، وإلقاء القبض عليه ، وكان عدد ذلك الجيش فيما يقول المؤرّخون زهاء ألف فارس ، ووقفوا قبال الإمام في وقت الظهر ، وقد أشرفوا على الهلاك من شدّة الظمأ ، فرقّ عليهم الإمام ، فأمر أصحابه أن يسقوهم الماء ، ويرشفوا خيولهم ، وسارع أصحابه فسقوا الجيش المعادي لهم عن آخره ، ثم انعطفوا إلى الخيل فجعلوا يملأون القصاص والطساس فإذا عبّ الفرس فيها ثلاثاً ، أو أربعاً ، أو خمساً ، عزلت ، وسقى الآخر حتى سقوها عن آخرها.
لقد تكرّم الإمام (عليه السلام) على أُولئك الوحوش الانذال الذين جاءوا لحربه فأنقذهم من الظمأ القاتل ، ولم تهزّهم هذه الأريحية وهذا النبل ، فقابلوه بالعكس ، فمنعوا الماء عنه ، وعن أطفاله حتى تفتّت قلوبهم من الظمأ.
خطاب الإمام في الجيش :
وخطب الإمام (عليه السلام) خطاباً بليغاً في قطعات ذلك الجيش ، فأوضح لهم أنّه لم يأتهم محارباً ، وانّما جاءهم محرراً ومنقذاً لهم من جور الأمويين وظلمهم ، وقد توافدت عليه وفودهم وكتبهم تحثّه بالقدوم لمصرهم ليقيم دولة القرآن والإسلام ، وهذه فقرات من خطابه الشريف :
« أيّها الناس ، انّها معذرة إلى الله عزّ وجلّ ، وإليكم ، إنّي لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت بها عليَّ رسلكم ان أقدم علينا فانّه ليس لنا إمام ، ولعل الله أن يجمعنا بك على الهدى ، فان كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فاعطوني ما أطمئنّ به من عهودكم ومواثيقكم ، وان كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم .. ».
وأحجموا عن الجواب لأن أكثرهم ممن كاتبوه وبايعوه على يد سفيره العظيم مسلم بن عقيل.
وحضر وقت صلاة الظهر فأمر الإمام مؤذّنه الحجاج بن مسروق أن يؤذّن ويقيم للصلاة ، وبعد فراغه منها التفت الامام إلى الحرّ فقال له :
« أتريد أن تصلّي بأصحابك ؟ .. ».
فقال الحرّ بأدب :
« بلى نصلّي بصلاتك .. ».
وائتمّ الجيش بريحانة رسول الله (صلى الله عليه واله) وبعد الفراغ من الصلاة انصرفوا إلى اخبيتهم ، ولما حضر وقت صلاة العصر جاء الحرّ مع قومه فاقتدوا بالأمام في الصلاة وبعد الانتهاء منها خطب الإمام الحسين (عليه السلام) خطاباً رائعاً ، فقد قال بعد حمد الله والثناء عليه :
« أيّها الناس : إنّكم إن تتّقوا الله ، وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله ، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فان أنتم كرهتمونا ، وجهلتم حقّنا ، وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم ... ».
لقد دعاهم إلى تقوى الله ، ومعرفة أهل الحقّ ، ودعاة العدل فان في ذلك رضاً لله ونجاة لأنفسهم ، كما دعاهم إلى مناصرة أهل البيت : روّاد الشرف والفضيلة ، ودعاة العدل الاجتماعي في الإسلام ، وهم أولى وأحقّ بولاية أمور المسلمين من بني أميّة الذين حكموا فيهم بغير ما أنزل الله ، وإذا لم يستجيبوا لذلك ، وتبدّلت نيّاتهم فانّه ينصرف عنهم إلى المكان الذي جاء منه.
وانبرى إليه الحرّ ، وكان لا يعلم بشأن الكتب التي بعثتها جماهير أهل الكوفة إلى الإمام فقال له :
« ما هذه الكتب التي تذكرها ؟ .. ».
فأمر الإمام عقبة بن سمعان بإحضارها فأخرج خرجين مملوئين صحفاً فنشرها بين يدي الحرّ ، فبهر منها ، وجعل يتأمّل فيها ، وقال للإمام :
« لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ... ».
ورام الإمام أن ينصرف إلى المكان الذي جاء منه فمنعه الحرّ ، وقال له :
« أن لا أفارقك إذا لقيتك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد .. ».
ولذعت الامام هذه الكلمات القاسية ، فثار في وجه الحرّ ، وصاح به « الموت أدنى إليك من ذلك .. ».
وأمر الإمام أصحابه بالركوب فلمّا استووا على رواحلهم أمرهم بالتوجه إلى يثرب فحال الحرّ بينهم وبين ذلك ، فصاح به الحسين :
« ثكلتك أمّك ما تريد منّا ؟ .. ».
واطرق الحرّ برأسه إلى الأرض ، وتأمّل ، ثم رفع رأسه إلى الامام وقال له بأدب :
« ولكن والله ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما يقدر عليه .. ».
وسكن غضب الامام ، وأعاد عليه القول :
« ما تريد منّا .. ؟ ».
« أريد أن أنطلق بك إلى ابن زياد .. ».
« والله لا أتبعك .. ».
« إذن والله لا أدعك .. ».
وكاد الوضع أن ينفجر باندلاع الحرب إلاّ أن الحر ثاب إلى رشده ، فقال للإمام :
« إنّي لم أُؤمر بقتالك ، وانّما أُمرت أن لا افارقك حتى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ، ولا يردّك إلى المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد ، فلعلّ الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بأمرك ».
واتفقا على هذا الأمر فتياسر الإمام عن طريق العذيب والقادسية ، وأخذت قافلة الإمام تطوي البيداء ، وكان الحرّ مع جيشه يتابع الامام عن كثب ويراقبه كأشدّ ما تكون المراقبة.
خطاب الإمام :
وانتهى موكب الإمام إلى ( البيضة ) فألقى الإمام خطاباً رائعاً على الحرّ وأصحابه أعلن فيه عن دوافع ثورته ودعاهم إلى مناصرته ، وكان من بنود هذا الخطاب هذه الفقرات :
« أيّها الناس : إن رسول الله (صلى الله عليه واله) قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله (صلى الله عليه واله) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله » ..
« إلاّ أن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ ممن غيّر ، وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم انّكم لا تسلموني ، ولا تخذلوني ، فان أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم ، وأنا الحسين بن علي ، وابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه واله) نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم ، ولكن فيَّ أسوة ، وإن لم تفعلوا ، ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي ، فلعمري ما هي لكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي ، وابن عمّي مسلم فالمغرور من اغترّ بكم ، فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومن نكث فانّما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم .. ».
وأعلن أبو الأحرار في هذا الخطاب الرائع دوافع ثورته المقدّسة على حكومة يزيد ، وانّها لم تكن من أجل المطامع والأغراض الشخصية الخاصة ، وانّما كانت استجابة للواجب الديني الذي لا يقرّ بأيّ حال من الأحوال حكومة السلطان الجائر الذي يستحلّ حرمات الله ، وينكث عهده ، ويخالف سنّة رسوله ، وإن من لم يندفع إلى ساحات الجهاد لمناهضته فانّه يكون شريكاً له في ظلمه وجوره ، كما ندّد (عليه السلام) بالأمويين وقد نعتهم بأنّهم قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، واستأثروا بالفيء ، وعطّلوا حدود الله ، والإمام (عليه السلام) أحقّ وأولى من غيره بتغيير الأوضاع الراهنة وإعادة الحياة الإسلامية المشرقة إلى مجراها الطبيعي بين المسلمين ، وأعرب لهم أنّه إذا تقلّد شؤون الحكم فسيجعل نفسه مع أنفسهم ، وأهله مع أهليهم من دون أن يكون له أي امتياز عليهم ، وقد وضع الإمام بهذا الخطاب النقاط على الحروف ، وفتح لهم منافذ النور لو كانوا يبصرون ، ولما أنهى الإمام خطابه قام إليه الحرّ فقال له :
« أنّي أذكرك الله في نفسك ، فانّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ ... ».
وردّ عليه أبو الشهداء قائلاً :
« أبالموت تخوّفني ، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ، وما أدري ما أقول لك ، ولكنّي أقول : كما قال أخو الأوس لابن عمّه ، وهو يريد نصرة رسول الله (صلى الله عليه واله) أين تذهب ، فانّك مقتول ، فقال له :
سأمضي وما بالموت عار على الفتى
إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلماً
و وآس الرجال الصالحين بنفسه
وخالف مثبوراً وفارق مجرما
فان عشت لم أندم وان متّ لم أُلم
كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما
ولما سمع الحرّ ذلك تنحّى عنه ، وعرف أنّه مصمّم على الموت والتضحية لإنقاذ المسلمين من ويلات الأمويين وجورهم :
رسالة ابن مرجانة إلى الحرّ :
وتابعت قافلة الإمام سيرها في البيداء ، وهي تارة تتيامن ، وأخرى تتياسر وجنود الحرّ يذودون الركب عن البادية ، ويدفعونه تجاه الكوفة ، والركب يمتنع عليهم ، وبينما هم كذلك ، وإذا براكب يجدّ في سيره ، فلبثوا هنيئة ينتظرونه فإذا به رسول من ابن زياد إلى الحرّ ، فسلّم الخبيث على الحرّ ، ولم يسلّم على ريحانة رسول الله (صلى الله عليه واله) ، وناول الحرّ رسالة من ابن مرجانة جاء فيها :
« أمّا بعد : فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ، ويقدم عليك رسولي ، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن ، ولا على غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام .. ».
وأعرض ابن مرجانة عما عهد به إلى الحر من إلقاء القبض على الإمام ، وإرساله مخفوراً إلى الكوفة ، ومن المحتمل أنّه خاف من تطوّر الأحداث ، وانقلاب الأوضاع إليه ان وصل الإمام إلى الكوفة ، فرأى التحجير في الصحراء بعيداً عن المدن أولى بالوصول إلى أهدافه.
وقرأ الحرّ كتاب ابن مرجانة على الإمام ، وكان يريد أن يستأنف سيره ليحطّ رحله صوب قرية أو ماء ، فامتنع عليه الحرّ لأن نظرات الرقيب الوافد من ابن زياد كانت تتابعه ، وكان يسجّل عليه كل بادرة يخالف أوامر سيّده ابن مرجانة ، وأشار زهير بن القين وهو من أعلام أنصار الإمام ومن خلّص أصحابه عليه أن يبادر إلى قتال الحرّ ، فامتنع عليه الإمام ، وقال ما كنت أبدأهم بقتال.
في كربلاء
وكان ركب الإمام في كربلاء فأصرّ عليه الحرّ أن ينزل فيها ، ولم يجد الإمام بُدّاً من النزول فالتفت إلى أصحابه قائلاً :
« ما اسم هذا المكان ؟ .. ».
« كربلاء .. ».
وفاضت عيناه بالدموع ، وراح يقول :
« اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء .. ».
وأيقن الإمام بنزول الرزء القاصم ، فالتفت إلى أصحابه ينعي إليهم نفسه ونفوسهم قائلاً :
« هذا موضع كرب وبلاء ، ها هنا مناخ ركابنا ، ومحطّ رحالنا ، وسفك دمائنا .. ».
وسارع أبو الفضل العباس مع الفتية من أهل البيت : ، وسائر الأصحاب الممجدين إلى نصب الخيام لعقائل الوحي ، ومخدرات النبوة ، وقد خيّم عليهنّ الرعب ، وأيقن بمواجهة الأحداث الرهيبة على صعيد هذه الأرض.
ورفع الإمام الممتحن يديه بالدعاء إلى الله شاكياً إليه ما ألمّ به من عظيم المحن والخطوب قائلاً :
« اللهمّ .. انّا عترة نبيّك محمد (صلى الله عليه واله) قد أخرجنا ، وطردنا ، وأزعجنا عن حرم جدّنا وتعدّت بنو أميّة علينا ، اللهمّ فخذ لنا بحقّنا ، وانصرنا على القوم الظالمين .. ».
وأقبل الإمام على أهل بيته وأصحابه ، فقال لهم :
« الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا مُحصوا بالبلاء قلَّ الديّانون .. ».
يا لها من كلمات ذهبية حكت واقع الناس واتجاهاتهم في جميع مراحل التأريخ فهم عبيد الدنيا ، وعبيد السلطة ، وأما الدين والمثل العليا فلا ظلّ لها في أعماق نفوسهم ، فإذا دهمتهم عاصفة أو بلاء هربوا من الدين ، ولم يثبت عليه إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان أمثال الصفوة العظيمة من أهل بيت الحسين وأصحابه.
ثم حمد الامام (عليه السلام) الله وأثنى عليه ، والتفت إلى أصحابه قائلاً :
« أمّا بعد : فقد نزل بنا ما قد ترون. وان الدنيا قد تغيّرت ، وتنكّرت ، وأدبر معروفها ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل (2) ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله ، فاني لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برما .. » (3).
لقد أعلن أبو الأحرار بهذا الخطاب عمّا حلّ به من المحن والبلوى ، وأعلم أهل بيته وأصحابه عن عزمه الجبّار وأرادته الصلبة في مقارعة الباطل ، واقامة الحق الذي آمن به في جميع أدوار حياته ... وقد وجه إليهم هذا الخطاب ليكونوا على بيّنة من أمرهم ، ويشاركوه في تحمّل المسؤولية ، وقد هبّوا جميعاً وهم يسجّلون في تأريخ البشرية أروع الأمثلة للتضحية والفداء من أجل إقامة دولة الإسلام ، وكان أول من تكلّم منهم زهير بن القين وهو من أفذاذ الأحرار فقال له :
« سمعنا يا بن رسول الله (صلى الله عليه واله) مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها .. ».
ومثلت هذه الكلمات شرف الإنسان الذي لا يضاهيه شرف ، وقد حكى ما في نفوس أصحابه الأحرار من الولاء لريحانة رسول الله (صلى الله عليه واله) والتفاني في سبيله ، وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام وهو برير الذي وهب حياته لله ، فقال له :
يا بن رسول الله (صلى الله عليه واله) لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ، وتقطع فيك أعضاؤنا ، ثم يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة .. ».
ولا يوجد في البشرية مثل هذا الإيمان الخالص ، لقد أيقن أن نصرته لابن رسول الله (صلى الله عليه واله) فضل ومنّة من الله عليه ليفوز بشفاعة جدّه الأعظم يوم يلقى الله.
وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام ، وهو نافع فأعلن نفس المصير الذي اختاره الأبطال من أصحابه ، فقال :
« أنت تعلم أن جدّك رسول الله (صلى الله عليه واله) لم يقدر أن يشرب الناس محبّته ، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحبّ ، وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر ، ويضمرون له الغدر ، يلقونه بأحلى من العسل ، ويخلفونه بأمرّ من الحنظل ، حتى قبضه الله إليه ، وان أباك عليّاً كان في مثل ذلك ، فقوم قد أجمعوا على نصره ، وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين ، حتى أتاه أجله فمضى إلى رحمة الله ورضوانه وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمن نكث عهده ، وخلع بيعته فلن يضرّ إلاّ نفسه ، فسر بنا راشداً معافى ، مشرقاً ، ان شئت أو مغرباً ، فو الله ما اشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا ، نوالي من والاك ونعادي من عاداك .. » (4).
دلّ هذا الخطاب الرائع على وعي نافع ، وإدراكه العميق للأحداث ودراسته لأبعادها فقد أعرب أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله) بما يملك من طاقات روحية لم يستطع أن يجمع الناس على محبّته ، ويخضعهم إلى الإيمان برسالته ، فقد كان هناك طائفة من المنافقين انتشروا في صفوف المسلمين ، وهم يضمرون الكفر في دخائل نفوسهم ويظهرون الإسلام على ألسنتهم ، وكانوا يبغون للنبيّ (صلى الله عليه واله) الغوائل ويكيدون له في غلس الليل وفي وضح النهار ، وكذلك حال وصيّه وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين من بعده فقد ابتلي بمثل ما ابتلي به النبيّ (صلى الله عليه واله) فقد آمن به قوم وحاربه قوم آخرون ، وحال الإمام الحسين (عليه السلام) كحال جدّه وأبيه ، فقد آمنت به قلّة مؤمنة من أصحابه ، وزحفت لحربه الجموع الهائلة من الذين نزع الله الإيمان من قلوبهم.
وعلى أيّ حال فقد تكلّم أكثر أصحاب الإمام بمثل كلام نافع وهم يعلنون له الإخلاص والتفاني ، وقد شكرهم الامام ، وأثنى عليهم ، ودعا لهم بالمغفرة والرضوان.
خروج الجيوش لحرب الإمام الحسين :
وتمّت أحلام ابن مرجانة ، وتحققت آماله حينما استولت طليعة جيوشه على ريحانة رسول الله (صلى الله عليه واله) ، وأخذ يطيل النظر فيمن ينتدبه لحربه ، ويرشّحه لقيادة قوّاته المسلّحة ، وتصفح الأرجاس من أذنابه وعملائه ، فلم ير رجساً مثل عمر بن سعد يقدم على اقتراف هذه الجريمة فقد درس نفسيته ، ووقف على ميوله واتجاهاته التي منها الخنوع والمروق من الدين ، وعدم المبالاة بارتكاب الآثام والجرائم ، والتهالك على المادة وغير ذلك من نزعاته الشريرة.
وعرض ابن مرجانة سليل الأدعياء على ابن سعد القيام بحرب سبط رسول الله (صلى الله عليه واله) فامتنع عن إجابته فهدده بعزله عن ولاية الريّ فلم يطق صبراً عنها ، فقد سال لها لعابه فأجابه إلى ذلك ، وزحف إلى كربلاء ، ومعه أربعة آلاف فارس ، وهو يعلم أنّه خرج لقتال ذريّة رسول الله (صلى الله عليه واله) الذين هم خيرة من في الأرض ، وانتهى الجيش إلى كربلاء فانظم إلى الجيش الرابض هناك بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي.
خطبة ابن زياد :
وأمر الطاغية بجمع الناس في رحاب المسجد الأعظم فهرعوا كالأغنام خوفاً من ابن مرجانة ، وقد امتلأ الجامع منهم فقام خطيباً فقال :
« أيّها الناس : إنّكم قد بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون ، وهذا أمير المؤمنين يزيد ، قد عرفتموه حسن السيرة ، محمود الطريقة ، محسناً إلى الرعية ، يعطي العطاء في حقّه ، وقد أمنت السبل على عهده ، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره ، وهذا ابنه يزيد يكرم العباد ، ويغنيهم بالأموال ، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة ، وأمرني أن أقّرؤها عليكم ، واخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين فاسمعوا له وأطيعوا .. » (5).
لقد خاطبهم باللغة التي يفهمونها ، ويتهالكون عليها ، ويقدمون أرواحهم بسخاء في سبيلها ، وهي المادة التي هاموا بحبها ، وقد أجابوه إلى ما أراد فزجّهم لاقتراف أفظع جريمة في تأريخ البشرية.
واسند القيادة في بعض قطعات جيشه إلى كل من الحصين بن نمير ، وحجار بن أبجر ، وشمر بن ذي الجوشن ، وشبث بن ربعي ، وغيرهم ، وقد زحفوا بمن معهم إلى كربلاء لمساعدة ابن سعد.
احتلال الفرات :
وقامت العصابة المجرمة التي تحمل شرور أهل الأرض وخبثهم باحتلال الفرات ، ولم تبق شريعة أو منفذ إلاّ وقد وضع عليها الحرس ، وقد صدرت إليهم الأوامر المشدّدة من قبل القيادة العامة بالحذر واليقظة كي لا تصل قطرة من الماء إلى عترة رسول الله (صلى الله عليه واله) الذين هم من خيرة ما خلق الله.
ويقول المؤرّخون : حيل بين الحسين والماء قبل قتله بثلاثة أيّام(6) وكان ذلك من أعظم ما عاناه الإمام من المحن والخطوب ، فكان يسمع صراخ أطفاله ، وهم ينادون : العطش ، العطش ، وذاب قلب الإمام حناناً ورحمة لذلك المشهد الرهيب ، فقد ذبلت شفاه أطفاله ، وذوي عودهم ، وجفّ لبن المراضع ، وصوّر أنور الجندي هذا المنظر المفجع بقوله :
وذئاب الشرور تنعم بالماء
وأهـل النبيّ من غير ماء
بالظلم الأقدار يظمأ قلب الليث
والليث موثق الأعضاء
وصغار الحسين يبكون في الصحراء
يا ربّ أين غوث القضاء
لقد نزع الله الرحمة من قلوبهم ، فتنكّروا لإنسانيتهم ، وتنكّروا لجميع القيم والأعراف ، فان جميع الشرائع والمذاهب لا تبيح منع الماء عن النساء والأطفال فالناس فيه جميعاً شركاء ، وقد أكّدت ذلك الشريعة الإسلامية ، واعتبرته حقاً طبيعياً لكل إنسان ، ولكن الجيش الأموي لم يحفل بذلك ، فحرم الماء على آل النبيّ (صلى الله عليه واله) وكان بعض الممسوخين يتباهى ويفخر لحرمانهم الحسين من الماء ، فقد انبرى الوغد اللئيم المهاجر بن أوس صوب الامام رافعاً صوته قائلاً :
« يا حسين ألا ترى الماء يلوح كأنّه بطون الحيات ، والله لا تذوقه أو تموت دونه .. » (7).
واشتدّ عمرو بن الحجاج نحو الحسين ، وهو فرح كأنّما ظفر بمكسب أو مغنم قائلاً :
« يا حسين هذا الفرات تلغ فيه الكلاب ، وتشرب فيه الحمير والخنازير ، والله لا تذوق منه جرعة حتى تذوق الحميم في نار جهنّم .. » (8).
وكان هذا الوغد الأثيم ممن كاتب الإمام الحسين (عليه السلام) بالقدوم إلى الكوفة.
وانبرى جلف آخر من أوغاد أهل الكوفة وهو عبد الله بن الحصين الأزدي فنادى بأعلى صوته لتسمعه مخابرات ابن مرجانة فينال منه جوائزه وهباته ، قائلاً :
« يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء ، والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشاً .. ».
فرفع الإمام يديه بالدعاء عليه قائلاً :
« اللهمّ اقتله عطشاً ، ولا تغفر له أبداً .. » (9).
لقد تمادى هؤلاء الممسوخون بالشرّ ، وسقطوا في هوّة سحيقة من الجرائم والآثام ما لها من قرار.
سقاية العباس لأهل البيت :
والتاع أبو الفضل العبّاس كأشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة حينما رأى أطفال أخيه وأهل بيته وهم يستغيثون من الظمأ القاتل ، فانبرى الشهم النبيل لتحصيل الماء ، وأخذه بالقوة ، وقد صحب معه ثلاثين فارساً ، وعشرين راجلاً ، وحملوا معهم عشرين قربة ، وهجموا بأجمعهم على نهر الفرات وقد تقدّمهم نافع بن هلال المرادي وهو من أفذاذ أصحاب الامام الحسين فاستقبله عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من مجرمي حرب كربلاء وقد اعهد إليه حراسة الفرات فقال لنافع :
« ما جاء بك ؟ .. ».
« جئنا لنشرب الماء الذي حلأتمونا عنه .. ».
« اشرب هنيئاً .. ».
« أفأشرب والحسين عطشان ، ومن ترى من أصحابه ؟. ».
« لا سبيل إلى سقي هؤلاء ، انّما وضعنا بهذا المكان لمنعهم عن الماء .. ».
ولم يعن به الأبطال من أصحاب الإمام ، وسخروا من كلامه ، فاقتحموا الفرات ليملأوا قربهم منه ، فثار في وجوههم عمرو بن الحجاج ومعه مفرزة من جنوده ، والتحم معهم بطل كربلاء أبو الفضل ، ونافع بن هلال ، ودارت بينهم معركة إلاّ انّه لم يقتل فيها أحد من الجانبين ، وعاد أصحاب الامام بقيادة أبي الفضل ، وقد ملأوا قربهم من الماء.
لقد أروى أبو الفضل عطاشى أهل البيت ، وانقذهم من الظمأ ، وقد منح منذ ذلك اليوم لقب ( السقاء ) وهو من أشهر ألقابه ، وأكثرها ذيوعاً بين الناس كما أنّه من أحبّ الألقاب وأعزّها عنده (10).
أمان الشمر للعباس وأخوته :
وبادر الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن إلى سيّده ابن مرجانة فأخذ منه أماناً لأبي الفضل وأخوته الممجّدين ، وقد ظنّ أنّه سيخدعهم ، ويفردهم عن أخيهم أبي الأحرار ، وبذلك يضعف جيش الإمام ، لأنّه يخسر هؤلاء الأبطال الذين هم من أشجع فرسان العرب ، وجاء الخبيث يشتدّ كالكلب ، وقد وقف أمام جيش الحسين ، وهتف منادياً :
« أين بنو أختنا العباس واخوته ؟ .. ».
وهبّت الفتية كالأسود ، فقالوا له :
« ما تريد يابن ذي الجوشن ؟ .. ».
فانبرى مستبشراً يبدي لهم الحنان المزيّف قائلاً :
« لكم الأمان .. ».
وصاحوا به ، وهم يتميّزون من الغيظ ، فقد لذعهم قوله :
« لعنك الله ، ولعن أمانك ، أتؤمننا ، وابن بنت رسول الله (صلى الله عليه واله) ، لا أمان له ... » (11).
وولّى الخبيث خائباً فقد ظنّ أن السادة الأماجد اخوة الإمام من طراز أصحابه الممسوخين الذين باعوا ضمائرهم على ابن مرجانة ووهبوا حياتهم للشيطان ، ولم يعلم أن أخوة الحسين (عليه السلام) من أفذاذ الدنيا ، الذين صاغوا الكرامة الإنسانية ، وصنعوا الفخر والمجد للإنسان.
زحف الجيوش لحرب الحسين :
وزحفت طلائع الشرك والكفر لحرب ريحانة رسول الله (صلى الله عليه واله) في عصر الخميس لتسع خلون من شهر محرم ، بعد أن صدرت إليهم الأوامر المشدّدة من ابن مرجانة بتعجيل القتال وحسم الموقف خوفاً من تبلور رأي الجيش وحدوث انقسام في صفوفه ، وكان الإمام محتبياً بسيفه أمام بيته اذ خفق برأسه ، فسمعت شقيقته عقيلة بني هاشم السيدة زينب أصوات الرجال ، وتدافعهم نحو أخيها ، فانبرت إليه فزعة مرعوبه ، فايقظته ، فرفع الإمام رأسه فرأى أخته مذهولة ، فقال لها بعزم وثبات :
« إنّي رأيت رسول الله (صلى الله عليه واله) في المنام ، فقال : إنك تروح إلينا .. ».
وذابت نفس العقيلة أسى وحسرات ، وانهارت قواها ، ولم تملك نفسها أن لطمت وجهها ، وراحت تقول :
« يا ويلتاه ... » (12).
والتفت أبو الفضل إلى أخيه فقال له :
« أتاك القوم .. ».
وطلب الإمام منه أن يتعرّف على خبرهم قائلاً :
« اركب بنفسي أنت يا أخي ، حتى تلقاهم ، فتقول لهم : ما بدا لكم ، وما تريدون ؟ .. ».
لقد فدى الإمام (عليه السلام) اخاه بنفسه ، وهو مما يدلّ على سموّ مكانته ، وعظيم منزلته ، وانه قد بلغ قمّة الإيمان ، وأعلى مراتب المتقين ... وأسرع أبو الفضل نحو الجيش ، ومعه عشرون فارساً من أصحابه ، ومن بينهم زهير بن القين ، وحبيب بن مظاهر ، وسألهم أبو الفضل عن سبب زحفهم ، فقالوا له :
« جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه ، أو نناجزكم ... » (13).
وقفل العباس إلى أخيه ، فأخبره بمقالتهم ، وراح حبيب بن مظاهر يعظهم ويحذّرهم من عقاب الله قائلاً :
« أما والله بئس القوم يقدمون غداً على الله عزّ وجلّ ، وعلى رسوله محمد (صلى الله عليه واله) وقد قتلوا ذريته ، وأهل بيته ، المتهجّدين بالاَسحار ، الذاكرين الله كثيراً بالليل والنهار ، وشيعته الأتقياء الأبرار .. » (14).
وردّ عليه بوقاحة عزرة بن قيس فقال له : « يا بن مظاهر إنّك لتزكّي نفسك .. ».
وانبرى إليه البطل الفذّ زهير بن القين فقال له : « أتق الله يا بن قيس ، ولا تكن من الذين يعينون على الضلال ويقتلون النفس الزكية الطاهرة ، عترة خيرة الأنبياء .. ».
فأجابه عزرة :
« كنت عندنا عثمانياً فما بالك ، .. ».
فردّ عليه زهير بمنطق الشرف والإيمان :
« والله ما كتبت إلى الحسين ، ولا أرسلت إليه رسولاً ، ولكن الطريق جمعني وإياه ، فلما رأيته ذكرت به رسول الله (صلى الله عليه واله) وعرفت ما تقدمون من غدركم ، ونكثكم ، وسبيلكم إلى الدنيا ، فرأيت أن أنصره ، وأكون في حزبه حفظاً لما ضيّعتم من حقّ رسول الله (صلى الله عليه واله) .. » (15).
لقد كان كلام زهير حافلاً بالصدق بجميع رحابه ، فقد بيّن أنّه لم يكتب إلى الإمام بالقدوم إلى الكوفة لأنّه كان عثماني الهوى ، ولكنه حينما التقى بالإمام في الطريق ووقف على واقع الحال من غدر أهل الكوفة به ، ونكثهم لبيعته انقلب رأساً على عقب ، وصار من أنصار الإمام ، ومن أكثرهم مودّة وحباً له ، لأن الإمام من ألصق الناس برسول الله (صلى الله عليه واله).
وعلى أيّ حال فقد عرض أبو الفضل مقالة القوم على أخيه ، فقال له :
« ارجع إليهم فان استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلّنا نصلّي لربّنا هذه الليلة ، وندعوه ، ونستغفره فهو يعلم أنّي أحبّ الصلاة ، وتلاوة كتابه ، وكثرة الدعاء والاستغفار ... ».
لقد أراد ريحانة رسول الله (صلى الله عليه واله) أن يودّع الحياة الدّنيا بأثمن ما فيها وهي الصلاة والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم ، وان يواجه الله تعالى وقد تزوّد منها.
ورجع أبو الفضل (عليه السلام) إلى معسكر ابن مرجانة فأخبرهم بمقالةِ أخيه فعرض ابن سعد ذلك على الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن خوفاً من وشايته إذا استجاب لطلب الإمام ، فقد كان شمر المنافس الوحيد لابن سعد على إمارة الجيش كما كان عيناً عليه ، كما أراد أن يكون شريكاً له في المسؤولية فيما إذا عاتبه ابن زياد على تأخير الحرب.
ولم يبد الشمر أي رأي له في الموضوع ، وانما أحاله لابن سعد ليكون هو المسؤول عنه ، وانبرى عمرو بن الحجاج الزبيدي فأنكر عليهم هذا التردد والإحجام عن إجابة الإمام قائلاً :
« سبحان الله !! والله لو كان من الديلم ثم سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه .. » (16).
ولم يزد ابن الحجّاج على ذلك ، فلم يقل لهم : انّه ابن رسول الله (صلى الله عليه واله) وانّهم هم الذين غرّوه وكاتبوه بالقدوم إلى مصرهم ، لم يقل ذلك خوفاً من أن تنقل الاستخبارات العسكرية إلى ابن زياد ذلك فينال العقاب والحرمان ، وأيّد ابن الأشعث مقالته ، فاستجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب ، وأوعز إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك ، فدنا من معسكر الإمام ورفع صوته قائلاً : « يا أصحاب الحسين بن علي قد أجّلناكم يومكم هذا إلى غد فان استسلمتم ونزلتم على حكم الأمير وجهنا بكم إليه وان أبيتم ناجزناكم ... » (17).
وأُرجئ القتال إلى صبيحة اليوم العاشر من المحرّم ، وظلّ جيش ابن سعد ينتظرون الغد هل يجيبهم الإمام أو يرفض ما دعوه إليه.
الإمام يأذن لأصحابه بمفارقته :
وجمع ريحانة رسول الله (صلى الله عليه واله) أهل بيته وأصحابه في ليلة العاشر من المحرم ، وعرض عليهم ما يلاقيه من الشهادة ، وطلب منهم أن ينطلقوا في رحاب الأرض ويتركوه وحده ليلقى مصيره المحتوم ، وقد أراد بذلك أن يكونوا على بيّنة من أمرهم فقال لهم :
« أثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده على السرّاء والضرّاء ... اللهمّ إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة ، وعلّمتنا القرآن ، وفهّمتنا في الدين وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ، ولم تجعلنا من المشركين.
أمّا بعد : فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت خيراً من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً ، ألا وانّي لاَظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً ، واني قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً خيراً ، ثم تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله ، فان القوم انّما يطلبونني ولو أصابوني لُهوا عن طلب غيري ... » (18).
وتمثّلت روعة الإيمان ، وسرّ الإمامة بهذا الخطاب العظيم الذي كشف جانباً كبيراً عن نفسية أبي الأحرار ، فقد تجنّب في هذا الموقف الدقيق الحاسم جميع ألوان المنعطفات ، ووضع أصحابه وأهل بيته أمام الأمر الواقع فقد حدد لهم النتيجة التي لا مفرّ منها وهي القتل والتضحية ، وليس هناك أي شيء آخر من متع الدنيا ، وقد طلب منهم أن يخلوا عنه وينصرفوا تحت جنح الظلام ، فيتخذونه ستراً دون كل عين ، فلعلّهم يخجلون أن يبتعدوا عنه في وضع النهار ، فقد جعلهم في حلّ من التزاماتهم تجاهه ، وقد عرّفهم أنّه بالذات هو الهدف لتلك الوحوش الكاسرة المتعطشة إلى سفك دمه ، فإذا ظفروا به فلا إرب لهم في طلب غيره.
جواب أهل البيت :
ولم يكد يفرغ الإمام من خطابه حتى هبّت الصفوة من أهل البيت : ، وعيونهم تفيض دموعاً ، وهم يعلنون ولاءهم له ، وتضحيتهم في سبيله ، وقد مثلهم أبو الفضل العباس (عليه السلام) فخاطب الإمام قائلاً :
« لم نفعل ذلك ؟!! لنبقى بعدك ، لا أرانا الله ذلك أبداً .. ».
والتفت الإمام إلى السادة من ابناء عمّه من بني عقيل ، فقال لهم :
« حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا فقد اذنت لكم ... ».
وهبّت فيتة آل عقيل كالأسود تتعالى أصواتهم ، قائلين :
« إذن ما يقول الناس : ، وما نقول : ، إنا تركنا شيخنا وسيّدنا ، وبني عمومتنا خير الأعمام ، ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن برمح ، ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا ، لا والله لا نفعل ، ولكن نفديك بأنفسنا واموالنا وأهلينا نقاتل معك ، حتى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك ... » (19).
لقد صمّموا على حماية الإمام العظيم ، والدفاع عن أهدافه ومبادئه ، واختاروا الموت تحت ظلال الأسنّة على الحياة التي لا هدف فيها.
جواب أصحابه :
أمّا أصحاب الإمام (عليه السلام) فهم أحرار هذه الدنيا ، وقد اندفعوا يعلنون للإمام (عليه السلام) الفداء والتضحية دفعاً عن المبادئ المقدّسة التي ناضل من أجلها الإمام ، وقد انبرى مسلم بن عوسجة فخاطب الإمام قائلاً :
« أنحن نخلّي عنك ، وبماذا نعتذر إلى الله في اداء حقّك ، أما والله لا أفارقك حتى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم لقذفتهم بالحجارة حتى أموت معك .. ».
لقد عبّرت هذه الكلمات عن عميق إيمانه بريحانة رسول الله (صلى الله عليه واله) وانّه سيذبّ عنه حتى النفس الأخير من حياته.
وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام وهو سعيد بن عبد الله الحنفي فخاطب الإمام قائلاً :
« والله لا نخلّيك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله (صلى الله عليه واله) فيك ، أما والله لو علمت أنّي أقتل ، ثم أحيا ، ثم أحرق ، ثم أذرى يفعل بي ذلك سبعين مرّة لما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك ، وانّما هي قتلة واحدة ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا ... ».
وليس في قاموس الوفاء أصدق ، ولا أنبل من هذا الوفاء ، فهو يتمنّى من صميم قلبه أن تجري عليه عملية القتل سبعين مرّة ليفدي الإمام (عليه السلام) ، ليحفظ بذلك غيبة رسول الله (صلى الله عليه واله) وكيف لا يستطيب الموت في سبيله وانّما هو مرّة واحدة ، ثم هي الكرامة الاَبدية التي لا انقضاء لها.
وانبرى زهير بن القين فأعلن نفس الاتجاه الذي أعلنه المجاهدون من إخوانه قائلاً :
« والله لوددت أنّي قُتلت ، ثم نشرت ، ثم قتلت حتى أقتل ألف مرّة ، وان الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك .. » (20).
أرأيتم وفاء هؤلاء الأبطال ، فهل تجدون لهم مثيلاً في تأريخ هذه الدنيا ، لقد ارتفعوا إلى مستوى من النبل والشهامة لم يبلغه أي إنسان وقد أعطوا بذلك الدروس المشرقة في الدفاع عن الحق.
وأعلن بقيّة أصحاب الإمام (عليه السلام) الترحيب بالشهادة في سبيل إمامهم ، فجزاهم خيراً ، وأكّد لهم جميعاً أنّهم سينعمون في الفردوس الأعلى ، ويحشرون مع النبيين والصدّيقين ، وهتفوا جميعاً :
« الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك ، وشرّفنا بالقتل معك ، أو لا ترضى أن نكون معك في درجتك يا بن رسول الله .. » (21).
لقد أُترعت نفوس هؤلاء الأبطال بالإيمان العميق ، فتحرّروا من جميع ملاذ الحياة ولهوها ، واتجهوا صوب الله ، فرفعوا راية الإسلام عالية خفّاقة في رحاب هذا الكون.
إحياء الليل بالعبادة :
وأقبل الإمام (عليه السلام) مع الصفوة الطيبة المؤمنة من أهل بيته وأصحابه نحو الله يناجونه بقلوبهم وعواطفهم ، وهم يسألونه العفو والغفران ولم يذق أحد منهم طعم الرقاد ، فقد كانوا ما بين راكع وساجد وقارئ للقرآن ، وكان لهم دويّ كدويّ النحل.
وكانوا ينتظرون انبثاق نور الصبح بفارغ الصبر لينالوا الشهادة بين يديّ ريحانة رسول الله (صلى الله عليه واله).
وأما معسكر ابن زياد فقد باتوا وهم في شوق لطلوع الصبح ليريقوا دماء أهل البيت : ليقترّبوا بها إلى سيّدهم ابن مرجانة.
* * *
يوم عاشوراء
وليس مثل يوم العاشر من المحرّم في مآسيه وكآبته وكوارثه ، فلم تبق محنة من محن الدنيا ، ولا فاجعة من فواجع الدهر إلاّ جرت على ريحانة رسول الله (صلى الله عليه واله) فلا يوم مثل ذلك اليوم الخالد في دنيا الأحزان.
دعاء الامام :
وخرج أبو الأحرار من خبائه فرأى البيداء قد ملئت خيلاً ورجالاً وقد شهر أولئك البغاة اللئام سيوفهم لإراقة دمه ، ودماء الصفوة البررة من أهل بيته وأصحابه لينالوا الأجر الزهيد من الإرهابي المجرم ابن مرجانة ، ودعا الإمام بمصحف فنشره على رأسه ، ورفع يديه بالدعاء إلى الله قائلاً :
« اللهمّ أنت ثقتي في كل كرب ، ورجائي في كل شدة ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة ، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد ، وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدوّ أنزلته بك ، وشكوته إليك رغبة منّي إليك عمّن سواك ، ففرّجته وكشفته ، وكفيته ، فأنت وليّ كل نعمة ، وصاحب كل حسنة ، ومنتهى كل رغبة ... » (22).
لقد أناب الإمام إلى الله ، وأخلص له ، فهو وليّه ، والملجأ الذي يلجأ إليه في كل نائبة نزلت به.
خطبة الإمام :
ورأى الإمام (عليه السلام) أن يقيم الحجّة البالغة على أُولئك الوحوش قبل أن يقدموا على اقتراف الجريمة ، فدعا براحلته فركبها ، واتجه نحوهم ، فخطب فيهم خطابه التأريخي الحافل بالمواعظ والحجج ، فقد نادى بصوت عال يسمعه جلّهم :
« أيّها الناس اسمعوا قولي ، ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حقّ لكم عليّ ، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم ، فان قبلتم عذري ، وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف ، كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليَّ سبيل ، وان لم تقبلوا منّي العذر ، ولم تعطوا النصف من أنفسكم ، فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ، ثم امضوا إليَّ ولا تُنظرون ، إن ولّيي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين .. ».
وحمل الأثير هذه الكلمات إلى السيدات من عقائل النبوة ، ومخدرات الرسالة فتصارخن بالبكاء ، فبعث إليهنّ أخاه العباس ، وابنه عليّاً ، وقال لهما :
سكّتاهنّ ، فلعمري ليكثر بكاؤهنّ ، ولما سكتن استرسل في خطابه فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على جدّه الرسول (صلى الله عليه واله) وعلى الملائكة والأنبياء ، وقال في ذلك : ما لا يحصى