بعدما أيقن الحسين ( عليه السلام ) ، أنَّ أعداءه لا يَتناهون عن مُنكر في سبيل النَّكال والنِّكاية به ، استعدَّ لدفاع الطوارئ عن أهله ، ورحله وانتظار قتله ، لكنَّما وجد مُعسكره في أجرد البِقاع عن مَزايا الدفاع ، وكان مع العدوِّ رِجالة سوء مِن أسقاط الكوفة ، تَبعوا شِمراً الضبابي ؛ لطمعهم في الجوائز المُشاعة ، وجَشعهم على بقايا موائد الرؤساء ، وشَوقاً إلى غَنيمةٍ باردةٍ ، ولا سلاح لدى هؤلاء ، سِوى الحِجارة والجَسارة ؛ فكان يَخشى منهم على مُعسكر الحسين (عليه السلام) مِن كلِّ الوجوه ، سيَّما وإنَّ هؤلاء الأذناب ، لا يلتزمون بما تلتزم به رؤساء القبائل ، مِن آداب العرب ؛ فخرج الحسين ( عليه السلام ) مِن مُعسكره ، يَتخيَّر مَوضعاً مُناسباً للدفاع .
وبعدما سَبَر غَور الوهّاد والأنجاد ، أشرف على سِلسلةِ هِضاب ، وروابي تُليق حسب مزاياها الطبيعيّة ، أنْ تُتَّخذ للحرم والخِيَم ، وهذه الروابي والتِّلال مُتدانية على شاكلة الهلال ، وهو المُسمَّى بـ ( الحِير ) أو ( الحائر ) ، لكنَّ هذا الحِصن ، إنَّما يُفيد مَن استغنى عن الخروج لطلب ماء ، أو ذخيرة ، أو عتاد ، وأمَّا مَن لا يَجد القَدر الكافي منها ، كالحسين ( عليه السلام ) ، فإنَّ تَحصُّن في مِثل الموضع ، فكأنَّه يَبغي الانتحار ، أو إلقاء أهله في التَّهلُكة ؛ لأنَّ عدوَّه يَتمكَّن مِن حصاره مِن فُرجَة الجِهة الشرقيَّة بكميَّة قليلة ، وإهلاك المَحصور جوعاً وعَطشاً في زمن قصير .
لكنَّ الحسين ( عليه السلام ) ، رأى بجنب هذه وجنوبها رابيةً مُستطيلة ، أصلح مِن أُختها للتحصين ؛ لأنَّ المُحتمي بفِنائها يَكتنفه مِن الشمال والغرب ربوات ، تَقي مِن عاديات العدوِّ ، برُماة قليلين مِن صَحب الحسين ( عليه السلام ) ، إذا اختبأوا في الروابي ، وتَبقى مِن سَمتي الشرق والجنوب ، جوانب واسعة تحميها أصحاب الحسين ( عليه السلام ) ورجاله ، ومنها يخرجون إلى لقاء العَدوِّ ، أو تَلقِّي الرُّكبان ؛ فنقل إلى هذا الموضع حرمه ومعسكره ، ويعرف الآن ( بخيمكاه ) ، ( أي المخيم ) ؛ فصارت مُحوَّطة الحِير خير فاصلة بينهم وبين مُعسكر الأعداء ، وأمر أصحابه أنْ يُقرِّبوا البيوت بعضها مِن بعض ، ويُدخلوا الأطناب بعضها مِن بعض ، وأنْ يُضرِموا النار في قَصب وحطب ، كانا مِن وراء الخِيم في خَندق حفروه مِن شِدَّة الاحتياط ، وأوجد في مُخيَّمه مزايا الدفاع المُمكِنة ، وهو ينتظر الفرج كلَّما ضاق المَخرج .
لا يَبرح البشر ، مِن احترام بعض الآداب في المُحاربات ، مَهْما كان المُحاربون وحوشاً وكَفرة ، كاجتنابهم قتل النساء والأبرياء ، ومنع الماء والطعام عنهم ، وأصبحت حكومات اليوم تُراعي هذه الأُصول بعَين الاحترام ، وتُعَدُّ ارتكاب هذه المظالم مِن أقبح الجرائم ، وقد نهى شرع الإسلام كبقيَّة الشرائع السماويَّة عن : حصار الأبرياء ، والتعرُّض بالنساء ، ومَنع الماء والطعام عنهم ، أو عن المرضى والأسرى والأطفال ؛ لأنّهم بُراءٌ مِمَّا قامت به رجالهم المُحاربون ، وقد مَنعت الشريعة والعاطفة أيضاً ذبح الحيوان عَطشاناً .
أمَّا الحزب السُّفياني ، فقد ارتكب كلَّ هذه المَظالم والجرائم ؛ حَنقاً على حسين الفضيلة وآله.
ولا نَنسى ما حَدث يوم الدار ، يوم ثار المُهاجرون والأنصار ؛ فحاصروا الخليفة عثمان بن عفَّان ، وطالبوه أنْ يُسلِّم إليهم ابن عمِّه ( مروان ) ، فاستغاث بعليٍّ ( عليه السلام ) ، وشكا إليه العَطش ـ وعليٌّ يومئذٍ مُلتزم الحِياد التامَّ ـ ؛ فأرسل إليه مع ذلك ، وَلديه الحسن والحسين ( عليهما السلام ) يَحملان له الماء ، وهو مَحصور ، ويَحاميان عنه وعن بيته الجمهور ، وتَحمَّلا في سبيله الجروح والحرايج ، غير إنَّ محمد بن أبي بكر ( رضي الله عنه ) ، تَسوَّر هو ومَن معه مِن وراء البيت ، وكان منهم ما كان .
أمَّا معاوية الدَّهاء ، فقد شَيَّع الأمر في أهل الشام بالعكس ، مِمَّا كان بغرض بعثهم إلى حرب أمير المؤمنين ؛ فنشر بينهم أنَّ عثماناً قُتِل عَطشان ، وأنَّ عليَّاً منع الماء عنه ؛ لذلك سَبَق عليَّاً في صِفِّين إلى استملاك المَشرعة ، ومنع أهل العراق مِن ورودها .
أمَّا علي ( عليه السلام ) ، فأرسل مِن أبطال العراق مَن فتحوه ، ثمَّ تركها مُباحةً للجانبين ، فأبت نفسه الكريمة أنْ يُقاتلهم بالسوء ، وقال : ( كلاَّ ، لستُ أمنع عنهم ماءً أحلَّه الله لهم).
فجدَّد ابن زياد هذه البِدعة ، وأمر بمنع الماء عن الحسين ( عليه السلام ) ومَن معه ، وروَّج أكذوبته ؛ فكتب إلى ابن سعد : ( حِلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء ، فلا يذوقوا مِنه قَطرة ، كما فُعِل بالتقيِّ الزكيِّ عثمان ... ) إلى آخره .
مع أنَّ الحسين (عليه السلام) ، هو الذي حمل الماء إلى عثمان يوم الدار ، وعانى في سبيله المَشاقَّ ، وحاشا حسين الفضيلة ، وعليَّ الفتوَّة أنْ يرتكِبا منع الماء على ذي نفس ، ولو فرض الأمر كذلك ، فهل تؤخَذ عشرات النساء ولفيفٌ مِن الصِّبيَة والأطفال والمرضى بذلك ؟! فيُحرَمون مِن الماء المُباح !! كلاّ !! فالإسلاميَّة بريئة ، والإنسانيَّة ناقِمة مِن هذه المَظلمة الفاحشة .
تُرِك ابن ساقي الكوثر ، مَمنوعاً مِن الماء المُباح ثلاثة أيَّام ، هو وصحبه وآله ، وعشرات مِن نسوة وصِبيَة ، يُعانون هم وخيلهم العَطش في شهر آب اللَّهاب بعراء ، لا ماء فيه ولا كَلاء ، والخيل تصهل طالبة الماء ، والنسوة تَعجُّ لحاجتها إلى الماء ، والصِبيَة تَضجُّ وتنتظر الماء ، والرضيع يَصرخ ؛ إذ جفَّت مَراضعه ، والماء يَلمح جارياً بأعينهم ، والمانعون ينتحلون الإسلام ، وكلُّ هاتيك المَظالم القاسية ، مِن أجل أنَّ الحسين ( عليه السلام ) ، لم يَضع يده في أيدي الظالمين ، يُبايعهم على مَحو كتاب الله ، وسُنَّة نبيه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وقد كان لسان الحال مِن حسين العُلا يقول : ( إنَّ في وِسعكم أيُّها الأعداء ، تُضيِّقوا حدود مبدئي العالي ، ومقصدي العامّ ، وكذا في وسعكم أنْ تقضوا على حياتي ، وعلى صَحبي وعلي صِبيَتي ، ولكنْ ليس في وسعكم قَطّ ، أنْ تقضوا على قَضيَّتي ، ولا على دعوتي ، ولا على فِكرتي ما دُمت حيَّاً ، وما دام المسلمون أحياء ) .