كانت ليلة عاشوراء أشد ليلة مرت على أهل بيت الرسالة حفّت بالمكاره و المحن و أعقبت الشر و آذنت بالخطر و قد قطعت عنهم الحالة القاسية من بني أمية و اتباعهم كل الوسائل الحيوية و هناك ولولة النساء و صراخ الأطفال من العطش المبرح و الهم المدلهم.
إذا فما حال رجال المجد من الأصحاب و سروات الشرف من بني هاشم بين هذه الكوارث فهل أبقت لهم مهجة ينهضون بها أو أنفسا تعالج الحياة و الحرب في غد!
نعم كانت ضراغمة آل عبد المطلب و الصفوة من الأصحاب عندئذ في أبهج حالة و أثبت جأش فرحين بما يلاقونه من نعيم و حبور و كلما اشتد المأزق الحرج أعقب فيهم انشراحا بين ابتسامة و مداعبة إلى فرح و نشاط.
و مذ أخذت في نينوى منهم النوى و لاح بها للغدر بعض العلائم
غدا ضاحكا هذا و ذا متبسما سرورا و ما ثغر المنون بباسم
هازل برير عبد الرحمن الأنصاري فقال له عبد الرحمن: ما هذه ساعة باطل؟
فقال برير لقد علم قومي ما أحببت الباطل كهلا و لا شابا و لكني مستبشر بما نحن لاقون، و اللّه ما بيننا و بين الحور العين إلا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم و لوددت أنهم مالوا علينا الساعة «1».
و خرج حبيب بن مظاهر يضحك فقال له يزيد بن الحصين الهمداني ما هذه
ساعة ضحك! قال حبيب: و أي موضع أحق بالسرور من هذا؟ ما هو إلا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم فنعانق الحور «2».
تجري الطلاقة في بهاء وجوههم إن قطبت فرقا وجوه كماتها
و تطلعت بدجى القتام أهلة لكن ظهور الخيل من هالاتها
فتدافعت مشي النزيف إلى الردى حتى كأن الموت من نشواتها
و تعانقت هي و السيوف و بعد ذا ملكت عناق الحور في جناتها «3»
فكأنهم نشطوا من عقال بين مباشرة للعبادة و تأهب للقتال لهم دوي كدوي النحل، بين قائم و قاعد و راكع و ساجد قال الضحاك بن عبد اللّه المشرقي مرت علينا خيل ابن سعد فسمع رجل منهم الحسين عليه السّلام يقرأ : {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران : 178، 179].
فقال الرجل نحن و رب الكعبة الطيبون ميزنا منكم.
قال له برير: يا فاسق أنت يجعلك اللّه في الطيبين هلم إلينا و تب من ذنوبك العظام فو اللّه لنحن الطيبون و أنتم الخبيثون.
فقال الرجل مستهزئا: و أنا على ذلك من الشاهدين «4».
و يقال إنه في هذه الليلة انضاف إلى أصحاب الحسين من عسكر ابن سعد اثنان و ثلاثون رجلا «5» حين رأوهم متبتلين متهجدين عليهم سيماء الطاعة و الخضوع للّه تعالى.
قال علي بن الحسين عليه السّلام سمعت أبي في الليلة التي قتل في صبيحتها يقول و هو يصلح سيفه :
يا دهر اف لك من خليل كم لك بالإشراق و الأصيل
من صاحب و طالب قتيل و الدهر لا يقنع بالبديل
و إنما الأمر إلى الجليل و كل حي سالك سبيل
فأعادها مرتين أو ثلاثا ففهمتها و عرفت ما أراد و خنقتني العبرة و لزمت السكوت و علمت أن البلاء قد نزل.
و أما عمتي زينب لما سمعت ذلك و ثبت تجرّ ذيلها حتى انتهت إليه و قالت وا ثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة! اليوم ماتت أمي فاطمة و أبي علي و أخي الحسن «6» يا خليفة الماضي و ثمال الباقي فعزاها الحسين و صبّرها و فيما قال: يا اختاه تعزي بعزاء اللّه و اعلمي أن أهل الأرض يموتون و أهل السماء لا يبقون و كل شيء هالك إلا وجهه، ولي و لكل مسلم برسول اللّه أسوة حسنة.
فقالت عليه السّلام: أفتغصب نفسك اغتصابا فذاك أقرح لقلبي و أشد على نفسي «7».
و بكت النسوة معها و لطمن الخدود و صاحت أم كلثوم وا محمداه وا علياه وا اماه وا حسيناه وا ضيعتنا بعدك؟!
فقال الحسين: يا اختاه يا أم كلثوم يا فاطمة يا رباب انظرن إذا قتلت فلا تشققن علي جيبا و لا تخمشن وجها و لا تقلن هجرا «8» ثم إن الحسين أوصى اخته زينب بأخذ الأحكام من علي بن الحسين و إلقائها إلى الشيعة سترا عليه و بذلك يحدّث أحمد بن إبراهيم قال: دخلت على حكيمة بنت محمد بن علي الرضا أخت أبي الحسن العسكري سنة 282 بالمدينة و كلمتها من وراء حجاب و سألتها عن دينها فسمّت من تأتم بهم و قالت فلان ابن الحسن! قلت معاينة أو خبرا قالت: خبر عن أبي محمد كتب به إلى أمه قلت لها أقتدي بمن وصيته إلى امرأة؟ قالت : اقتداء بالحسين بن علي بن أبي طالب فإنه أوصى إلى أخته زينب في الظاهر فكان ما يخرج من علي بن الحسين من علم ينسب إلى زينب سترا على علي بن الحسين عليه السّلام ثم قالت إنكم قوم أخبار، أما رويتم أن التاسع من ولد الحسين يقسم ميراثه في الحياة «اكمال الدين للصدوق» ص 275 باب 49 طبع حجر أول.
ثم إنه عليه السّلام أمر أصحابه أن يقاربوا البيوت بعضها من بعض ليستقبلوا القوم من وجه واحد و أمر بحفر خندق من وراء البيوت يوضع فيه الحطب و يلقى عليه النار إذا قاتلهم العدو كيلا تقتحمه الخيل فيكون القتال من وجه واحد «9».
و خرج عليه السّلام في جوف الليل إلى خارج الخيام يتفقد التلاع و العقبات فتبعه نافع بن هلال الجملي فسأله الحسين عما أخرجه قال: يا ابن رسول اللّه افزعني خروجك إلى جهة معسكر هذا الطاغي فقال الحسين: إني خرجت أتفقد التلاع و الروابي مخافة أن تكون مكمنا لهجوم الخيل يوم تحملون و يحملون ثم رجع عليه السّلام و هو قابض على يد نافع و يقول: هي هي و اللّه وعد لا خلف فيه.
ثم قال له ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل و تنجو بنفسك؟ فوقع نافع على قدميه يقبلهما و يقول: ثكلتني أمي، إن سيفي بألف و فرسي مثله فو اللّه الذي منّ بك علي لا فارقتك حتى يكلّا عن فري و جري.
ثم دخل الحسين خيمة زينب و وقف نافع بإزاء الخيمة ينتظره فسمع زينب تقول له: هل استعلمت من أصحابك نياتهم فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة.
فقال لها: و اللّه لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلا الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل إلى محالب أمه.
قال نافع: فلما سمعت هذا منه بكيت و أتيت حبيب بن مظاهر و حكيت ما سمعت منه و من أخته زينب.
قال حبيب: و اللّه لو لا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة قلت: إني خلفته عند أخته و اظن النساء أفقن و شاركنها في الحسرة فهل لك أن تجمع أصحابك و تواجهوهن بكلام يطيب قلوبهن فقام حبيب و نادى يا أصحاب الحمية و ليوث الكريهة فتطالعوا من مضاربهم كالأسود الضارية فقال لبني هاشم ارجعوا إلى مقركم لا سهرت عيونكم.
ثم التفت إلى أصحابه و حكى لهم ما شاهده و سمعه نافع فقالوا بأجمعهم و اللّه الذي منّ علينا بهذا الموقف لو لا انتظار أمره لعاجلناهم بسيوفنا الساعة! فطب نفسا و قرّ عينا فجزاهم خيرا.
و قال هلموا معي لنواجه النسوة و نطيب خاطرهن فجاء حبيب و معه أصحابه و صاح: يا معشر حرائر رسول اللّه هذه صوارم فتيانكم آلوا ألا يغمدوها إلا في رقاب من يريد السوء فيكم و هذه أسنة غلمانكم أقسموا ألا يركزوها إلا في صدور من يفرق ناديكم.
فخرجن النساء إليهم ببكاء و عويل و قلن أيها الطيبون حاموا عن بنات رسول اللّه و حرائر أمير المؤمنين.
فضج القوم بالبكاء حتى كأن الأرض تميد بهم «10».
و في السحر من هذه الليلة خفق الحسين خفقة ثم استيقظ و أخبر أصحابه بأنه رأى في منامه كلابا شدت عليه تنهشه و اشدها عليه كلب أبقع و أن الذي يتولى قتله من هؤلاء رجل أبرص.
و أنه رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم بعد ذلك و معه جماعة من أصحابه و هو يقول له:
أنت شهيد هذه الأمة و قد استبشر بك أهل السموات و أهل الصفيح الأعلى و ليكن افطارك عندي الليلة عجل و لا تؤخر فهذا ملك قد نزل من السماء ليأخذ دمك في قارورة خضراء «11».
و انصاع حامية الشريعة ظامئا ما بل غلته بعذب فراتها
أضحى و قد جعلته آل أمية شبح السهام رمية لرماتها
حتى قضى عطشا بمعترك الوغى و السمر تصدر منه في نهلاتها
و جرت خيول الشرك فوق ضلوعه عدوا تجول عليه في حلباتها
و مخدرات من عقائل أحمد هجمت عليها الخيل في أبياتها
من ثاكل حرى الفؤاد مروعة أضحت تجاذبها العدى حبراتها
و يتيمة فزعت لجسم كفيلها حسرى القناع تعج في أصواتها
أهوت على جسم الحسين و قلبها المصدوع كاد يذوب من حسراتها
وقعت عليه تشم موضع نحره و عيونها تنهل في عبراتها
ترتاع من ضرب السياط فتنثني تدعو سرايا قومها و حماتها
أين الحفاظ و في الطفوف دماؤكم سفكت بسيف أمية و قناتها
أين الحفاظ و هذه اشلاؤكم بقيت ثلاثا في هجير فلاتها
أين الحفاظ و هذه أبناؤكم ذبحت عطاشى في ثرى عرصاتها
أين الحفاظ و هذه فتياتكم حملت على الاقتاب بين عداتها
حملت برغم الدين و هي ثواكل عبرى تردد بالشجي زفراتها
فمن المعزي بعد أحمد فاطما في قتل أبناها و سبي بناتها «12»
_________________
(1) الطبري ج 6 ص 241.
(2) رجال الكشي ص 53 طبع الهند.
(3) للعلامة السيد محمد حسين الكيشوان رحمه اللّه.
(4) تاريخ الطبري ج 6 ص 240 ط أول.
(5) اللهوف و تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 217 طبع النجف و سير أعلام النبلاء للذهبي ج 3 ص 210.
(6) تاريخ الطبري ج 4 ص 240 و كامل ابن الأثير ج 4 ص 24 و مقتل الخوارزمي ج 1 ص 238 فصل 11 و مقاتل الطالبيين لأبي الفرج ص 45 طبع إيران.
(7) اللهوف.
(8) الارشاد.
(9) الطبري ج 6 ص 240.
(10) الدمعة الساكبة ص 325 و تكرر في كلامه هلال بن نافع و هو اشتباه فإن المضبوط «نافع بن هلال» كما في زيارة الناحية و تاريخ الطبري و كامل ابن الأثير.
(11) نفس المهموم ص 125 عن الصدوق.
(12) للعلامة السيد محمد حسين الكيشوان ترجمته في شعراء الغري ج 8 ص 3.