لما سار الحسين (عليه السلام) من عذيب الهجانات، وصل الى قصر بني مقاتل فنزل به فاذا هو بفسطاط مضروب فقال: لمن هذا؟ فقيل لعبيد اللّه بن الحر الجعفي، قال: ادعوه إليّ، فلمّا أتاه الرسول قال له: هذا الحسين بن عليّ (عليه السلام) يدعوك، فقال عبيد اللّه: انا للّه و انا إليه راجعون، و اللّه ما خرجت من الكوفة الّا كراهية أن يدخلها الحسين و أنا بها و اللّه ما أريد أن أراه و لا يراني و لم يأت.
فرجع الرسول فأخبره فقام إليه الحسين (عليه السلام) فجاء حتى دخل عليه و سلم و جلس ثم دعاه الى الخروج معه فأعاد عليه عبيد اللّه بن الحر تلك المقالة و استقاله ممّا دعاه إليه، فقال له الحسين (عليه السلام): فان لم تكن تنصرنا فاتق أن تكون ممن قاتلنا، فو اللّه لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا الّا هلك، فقال: اما هذا فلا يكون أبدا إن شاء اللّه تعالى، ثم قام الحسين (عليه السلام) من عنده حتى دخل رحله.
و لما كان في آخر الليل أمر فتيانه بالاستقاء من الماء ثم أمر بالرحيل فارتحل من قصر بني مقاتل، فقال عقبة بن سمعان: فسرنا معه ساعة فخفق و هو على ظهر فرسه خفقة ثم انتبه و هو يقول: انا للّه و انا إليه راجعون و الحمد للّه رب العالمين، ففعل ذلك مرتين أو ثلاثة، فأقبل ابنه عليّ بن الحسين عليهما السّلام فقال: مم حمدت اللّه و استرجعت؟ فقال: يا بني انّي خفقت خفقة فعنّ لي فارس على فرس و هو يقول: القوم يسيرون و المنايا تسير إليهم، فعلمت انّها أنفسنا نعيت إلينا.
فقال له: يا أبة لا أراك اللّه سوء، ألسنا على الحق؟ قال: بلى و الذي إليه مرجع العباد، قال:
فأننا اذا لا نبالي أن نموت محقين، فقال له (عليه السلام): جزاك اللّه من ولد خير ما جزى ولدا عن والده.
فلما أصبح نزل فصلّى الغداة ثم عجّل في الركوب فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرقهم فيأتيه الحرّ بن يزيد فيرده و أصحابه، فلم يزالوا يتياسرون كذلك حتى انتهوا الى نينوى، فاذا راكب على نجيب له عليه السلاح متنكب قوسا مقبل من الكوفة، فوقفوا جميعا ينتظرون فلما انتهى إليهم سلم على الحر و أصحابه و لم يسلم على الحسين و أصحابه و دفع الى الحر كتابا من عبيد اللّه بن زياد اللعين، فاذا فيه:
«أما بعد فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي و يقدم عليك رسولي و لا تنزله الّا بالعراء في غير خضر و على غير ماء، فقد أمرت رسولي أن يلزمك و لا يفارقك حتى يأتيني بانفاذك أمري و السلام».
فلما قرأ الحر الكتاب قرأه على الحسين (عليه السلام) و أصحابه و أخذهم بالنزول في ذلك المكان على غير ماء و لا قرية، فقال له الحسين (عليه السلام): دعنا ويحك ننزل في هذه القرية أو هذه، يعنى نينوى و الغاضريّة، قال: و اللّه لا أستطيع ذلك و هذا الرجل قد بعث إليّ عينا عليّ.
فقال زهير بن القين: يا بن رسول اللّه دعنا نقاتلهم، انّ قتال هؤلاء القوم الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا بعدهم، فلعمري ليأتينا بعدهم ما لا قبل لنا به، فقال الحسين (عليه السلام):
ما كنت لأبدأهم بالقتال، ثم نزل و ذلك يوم الخميس و هو اليوم الثاني من المحرم .
روى السيد ابن طاوس انّه: وصل كتاب عبيد اللّه بن زياد الى الحر في عذيب الهجانات، فضيّق الحر على الامام (عليه السلام)
بحسب ما أمره عبيد اللّه، فجمع الحسين (عليه السلام) أصحابه و قام فيهم خطيبا، فحمد اللّه و أثنى عليه و ذكر جدّه فصلّى عليه ثم قال: «انّه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون و انّ الدنيا قد تغيّرت و تنكّرت و أدبر معروفها و استمرت حذاء و لم تبق منها الّا صبابة كصبابة الاناء و خسيس عيش كالمرعى الوبيل ، الا ترون الى الحق لا يعمل به و الى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّا فانّي لا أرى الموت الّا سعادة و الحياة مع الظالمين الّا برما».
فقام زهير بن القين و قال: قد سمعنا هداك اللّه يا ابن رسول اللّه مقالتك و لو كانت الدنيا لنا باقية و كنّا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الاقامة، و قام هلال بن نافع البجلي فقال:
و اللّه ما كرهنا لقاء ربنا و انّا على نيّاتنا و بصائرنا نوالي من والاك و نعادي من عاداك، و قام برير بن خضير فقال: و اللّه يا ابن رسول اللّه لقد منّ اللّه بك علينا أن نقاتل بين يديك و تقطع فيك أعضاؤنا ثم يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة .