جاء في حديث عن الامام أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) عن يوم تاسوعا قال : تاسوعا يومٌ حوصر فيه الحسين (عليه السلام) واصحابه ـ رضي الله عنهم ـ بكربلاء واجتمع عليه خيل أهل الشام وأناخوا عليه وفرح ابن مرجانة وعمر بن سعد بتوافر الخيل وكثرتها واستضعفوا فيه الحسين صلوات الله عليه واصحابَه وأيقنوا أنّه لا يأتي الحسين (عليه السلام) ناصر ولا يمدَّه أهل العراق بأبي المستضعف الغريب...
روى أصحاب السير أن عُمر بنَ سعد نهضَ إلى الحسينِ (عليه السلام) عشيةَ الخميسِ لتسع مضينَ من المحرم وجاء شمرٌ حتى وَقفَ على أصحابِ الحسين (عليه السلام) فقال : أينَ بنو أختِنا؟ فَخرجَ اليه العباسُ وجعفرٌ وعبدالله وعثمان بنو عليّ (عليه السلام) .
فقالوا له : مالكَ وما تريد؟ قال : أنتم يا بني أختي آمِنون قال له الفتية : لعنكَ اللهُ وَلعنَ أمانَكَ لئن كُنتَ خالنَا أتؤمِنُنا وَابن رسولِ اللهِ لا أمان له ؟
قال : ثُمَّ إن عُمرَ بنِ سعد نادى : يا خيلَ الله اركبي وَأبشري فركب في الناسِ ثُمَّ زَحفَ نَحوهم بعدَ صلاةِ العصرِ وحسينٌ (عليه السلام) جالسٌ أمامَ بيتهِ مُحتبياً بسيفهِ إذ خفقَ برأسه على ركبتيه وسمعت أخته زينب الصيحة فدنت من أخيها فقالت : يا أخي أما تسمع الاصوات قد اقتربت.
قال : فرفع الحسين (عليه السلام) رأسه فقال : إني رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في المنام فقال لي : إنك تروح إلينا قال : فلطمت أخته وجهها وقالت : يا ويلتا فقال : ليس لك الويل يا أختي اسكني رحمكِ الرحمن.
وفي رواية السيد ابن طاووس ـ عليه الرحمة ـ قال : وجلس الحسين (عليه السلام) فرقد ثم استيقظ فقال : يا أختاه إني رأيتُ الساعةَ جدي محمد (صلى الله عليه وآله) وأبي علياً وأُمي فاطمة وأخي الحسن (عليهم السلام) وهم يقولون : يا حسين إنك رائح الينا عن قريب وفي بعض الروايات غداً .
وقال العباس بن علي (عليه السلام) : يا أخي أتاك القوم قال : فنهض ثم قال : يا عباس اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم فتقول لهم : مالكم وما بدا لكم ؟ وتسألهم عما جاء بهم ؟
فأتاهم العباس (عليه السلام) فاستقبلهم في نحو من عشرين فارساً فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر فقال لهم العباس : ما بدا لكم وما تريدون قالوا : جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم قال : فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبدالله (عليه السلام) فأعرض عليه ما ذكرتم قال : فوقفوا ثم قالوا : القه فأعلمه ذلك ثم القنا بما يقول ،قال : فانصرف العباس راجعاً يركض إلى الحسين (عليه السلام) يخبره بالخبر.
ووقف أصحابه يخاطبون القوم فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين : كلم القوم إن شئت وإن شئت كلمتهم؟ فقال له زهير : أنت بدأت بهذا فكن أنت تكلمهم ؟
فقال له حبيب بن مظاهر : أما والله لبئس القوم عند الله غداً قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذريّة نبيه (صلى الله عليه وآله) وعترته وأهل بيته (عليه السلام) وعباد أهل المصر المجتهدين بالاسحار والذاكرين الله كثيراً .
فقال له عزرة بن قيس : إنك لتزكي نفسك ما استطعت !؟
فقال له زهير : ياعزرة إن الله قد زكاها وهداها فاتق الله يا عزرة فإني لك من الناصحين أنشدك الله يا عزرة أن تكون ممن يعين الضلاَّل على قتل النفوس الزكية.
قال يا زهير : ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت إنما كنت عثمانياً.
قال : أفلست تستدل بموقفي هذا أني منهم ؟ أما والله ما كتبت إليه كتاباً قط ولا أرسلت إليه رسولاً قط ولا وعدته نصرتي قط ولكن الطريق جمع بيني وبينه فلما رايته ذكرت به رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومكانه منه وعرفت ما يقدم عليه من عدوه وحزبكم فرأيت أن أنصره وأن أكون في حزبه وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظاً لما ضيَّعتم من حق الله وحق رسوله (صلى الله عليه وآله) قال : وأقبل العباس بن علي (عليه السلام) يركض حتى انتهى إليهم.
فقال : ياهولاء إن أبا عبدالله (عليه السلام) يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية حتى ينظر في هذا الامر فإن هذا أمرٌ لم يجر بينكم وبينه فيه منطق فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله فإما رضيناه فأتينا بالامر الذي تسألونه وتسومونه أو كرهنا فرددناه وإنما أراد بذلك أن يردهم عنه تلك العشية حتى يأمر بأمره ويوصي أهله فلما أتاهم العباس بن علي (عليه السلام) بذلك قال عمر بن سعد : ما ترى يا شمر؟ قال : ما ترى أنت ؟ أنت الامير والرأي رايك.
قال : قد أردت ألا أكون ثم أقبل على الناس فقال : ماذا ترون ؟ فقال عمر بن الحجاج بن سلمة الزبيدي : سبحان الله والله لو كانوا من الديلم ثم سألوك هذه المنزلة لكانَ ينبغي لَكَ أن تُجيَبهُم إليها.
وفي رواية السيد ـ عليه الرحمة ـ فقال عمرو بن الحجاج الزبيدي : والله لو أنهم من الترك والديلم وسألونا مثل ذلك لاجبناهم فكيف وهم آل محمد (صلى الله عليه وآله) ؟!
فأجابوهم الى ذلك
وَقال قيسُ بن الاشعث : أجبهُم إلى مَا سألوكَ فَلعمري ليصبِحنكَ بالقتالِ غدوةً فقال :واللهِ لو أعلمُ أنْ يفعلوا ما أخرتهم العشية.
قال : وكانَ العباسُ بن عِلي (عليه السلام) حينَ أتى حسيناً بما عرضَ عليه عمرُ بن سِعد قال : ارجعْ إليهم فإنْ استطعت أن تؤخرهم إلى غدوةَ وتَدفعهُم عند العشيةِ لعلنا نُصلي لربِّنا الليلةَ وَندعوه وَنستغفُره فهوَ يَعلم أني قد كنتُ اُحبُ الصلاة لَه وَتلاوةَ كتابهِ وَكثرةَ الدعاءِ وَالاستغفارِ.
فاستمهـل السبـط الطغـاة لعله * يدعو إلـى الله العلي ويضـرع
فـأقـام لـيلتـه ينـاجي ربّـه * طوراً ويسجد في الظلام ويركع
وَرويَ عن الامام علي بن الحسين (عليه السلام) قال : أتانا رسول مِنْ قِبل عُمر بن سَعد فقامَ مثلَ حَيثُ يُسمعُ الصوتُ فقال : إنا قَد أجلناكم إلى غد فإن استسلمتم سَرحنا بكُم الى أميرِنا عُبيدِاللهِ بن زياد وَإنْ أبيتُم فَلسنا تاركيكُم .
وذكر البعض حديثا جرى بين العباس و بين اخته زينب (عليه السلام) وذلك بعد رجوعه من محادثة الشمر وقد انكر عليه رافضا أمانه الذى جاء به له و لاخوته !
قال : ورجع ابو الفضل العباس (عليه السلام) يتهدرس كالاسد الغضبان استقبلته الحوراء زينب (عليها السلام) وقد سمعت كلامه مع الشمر قالت له أخي ان أحدثك بحديث ؟ قال : حدثي يا زينب لقد حلا وقت الحديث !
قالت : إعلم يا بن والدي لما ماتت امنا فاطمة (عليها السلام) قال أبي لاخيه عقيل : اُريد منك ان تختار لي امرأةً من ذوي البيوت والشجاعة حتى اصيب منها ولداً ينصر ولدي الحسين بطف كربلا وقد ادخرك ابوك لمثل هذا اليوم فلا تقصر ياأبا الفضل!
فلما سمع العباس (عليه السلام) كلامها تمطى في ركاب سرجه حتى قطعتهما وقال لها : أفي مثل هذا اليوم تشجعينني وأنا ابن أمير المؤمنين (عليه السلام) ؟! فلما سمعت كلامه سرّت سروراً عظيماً.
بطل إذا ركب الـمطهم خلتـه * جبلاً أشّم يخف فيـه مـطهـم
بطل تـورث من أبيه شجاعةً * فيها انوف بني الضلالة تـرغم
وقد أجاد السيد محمد رضا القزويني حيث يقول :
قـرت لهـا عيـن الكـريمة زينب * لتراك اهـلاً أن تصـون خبـاءهـا
فمضـت تقــص عليـــك دورا * عاصفاً فيك الشهامة ما اعتزمت فدائَها
فـي ليلـة طـاب الحديث الحلو من * اخت و أنـت علـى الجواد إزاءهـا
تـروي مصـاهـرة الكـرام بقصة * قد انجبتك و لـم تـرد اخـفـاءهـا
فهـززت سيفـك أن تُطمئن قـلبهـا * بيــد تلقـت فـي غـد جـذاءهـا
فتصاعدت بيضاء تدعـوا ربّها * ألا يَخيـبَ السائلـون رجـائَها
فتحَّدث التـاريخُ عـنها أنَّهـا * ملئت بأسخى المكرُمات عطائَها
ومثل هذا الحديث حديث أخر جرى بين زهير بن القين مع أبي الفضل العباس (عليه السلام) كما في أسرار الشهادة للدربندي ـ عليه الرحمة ـ قال : أتى زهير إلى عبدالله بن جعفر بن عقيل قبل أن يقتل فقال له : يا أخي ناولني الرّاية.
فقال له عبدالله : اوفيَّ قصور عن حملها؟! قال : لا ولكن لي بها حاجة قال : فدفعها إليه وأخذها زهير وأتى فجأة العباس بن علي (عليه السلام) وقال ! يابن أمير المؤمنين (عليه السلام) أريد أن احدثك بحديث وعيته فقال : حَدّث فقد حلا وقت الحديث.
فقال له : اعلم يا أباالفضل إنَّ أباك أمير المومنين (عليه السلام) لما أراد أن يتزوج بإمرك اُم البنين فبعث إلى أخيه عقيل وكان عارفاً بأنساب العرب فقال (عليه السلام) : يا أخي اُريد منك أن تخطب لي امرأةً من ذوي البيوت والحسب والنسب والشجاعة لكي اُصيب منها ولداً يكون شجاعاً وعضداً ينصر ولدي هذا وأشار الى الحسين (عليه السلام) ليواسيه في طفّ كربلاء وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم فلا تقصر عن حلائل أخيك وعن إخوانك ؟ !
قال : فارتعد العباس وتمطى في ركابه حتى قطعه قال : يازهير تشجعني في مثل هذا اليوم ؟ والله لأريَّنكَ شيئاً ما رأيتَه قط .