الطريق إلى الموت
يوم امتنع الإمام الحسين (عليه السّلام) عن مبايعة يزيد كان موقناً أنه قد سلك الطريق إلى الموت ، وأن يزيد وجنوده سيقتلونه ، وسيقتلون أهل بيت النبوة عاجلاً أم آجلاً ، وأن مسألة قتلهم مسألة وقت ليس إلاّ .
وقد خصصنا بحثاً في الفصول السابقة بعنوان «يقين الإمام الحسين» أثبتنا فيه أن الإمام (عليه السّلام) كان يعرف أين يُقتل ، وكيف يُقتل ، ومَن يُقتل معه ، ومتى يُقتل ، ومَن هم القتلة .
كان موقناً أن المنايا يرصدنه ليبقى دائماً على طريق الموت لا يحيد عنها قيد أنملة , وكان الإمام دقيقاً إلى درجة التصوير الفني عندما تمثّل بقول يزيد بن المفرّع الحميري وهو يدخل لوداع جده العظيم :
يوم اُعطى مخافة الموت ضيماً والمنايا ترصدنني أن أحيدا (1)
ومع يقين الإمام (عليه السّلام) أنه يسلك هو وأهل بيته الطاهرين وأصحابه الصادقين الطريق إلى الموت ، وأن الفرعون وجنوده سيطاردونهم حتّى يظفروا بهم ، وأنهم سيقتلونهم أشنع قتلة ، إلاّ أن الإمام قد صمم بأن يكون موته وموت أهل بيته وأصحابه الصادقين موتاً من نوع خاص يليق بعظمة الإمام وطهر أهل بيت النبوة ، وجلال وشموخ الصادقين من أصحابه ؛ موتاً ينالون به أعظم درجات الشهادة عند الله تعالى ، وهكذا وصّاه الجد العظيم يوم جاء الحسين (عليه السّلام) لوداعه(2) .
يريده الإمام موتاً بحجم عظمة المهمة والأهداف التي خرج لتحقيقها ، موتاً يكشف حقيقة الفرعون وجنوده .
استغلال فترة المطاردة
مثلما صمّم الإمام الحسين (عليه السّلام) على أن يكون موته وأهل بيته وأصحابه من نوع خاص , كذلك صمم الإمام على استغلال فترة مطاردة الاُمويِّين له ، وما تبقّى له من حياة أحسن استغلال ؛ لتسمع الاُمّة كلها بخروجه ، ولإقامة الحجة عليها ، وليكشف الاُمويِّين على حقيقتهم البشعة ، ولفضح يزيد ونظامه ، وليعلن باسم الله ورسوله وباسم الاسلام الذي يمثّله بطلانَ الخلافة ، وعدم شرعيتها ، وبطلان كافة الفتاوى الفارغة التي كانت تضفي هالة من القداسة الزائفة على الخليفة الجبّار المتغلب ، وتُحرّم معصيته والخروج عليه .
وليظهر الخليفة المتغلب بصورته الحقيقية كغاصب ما ليس له ، وجالس بالقهر بالمكان الذي خصصه الله لغيره(3) , وكمدّع لما ليس له(4) , وكمطيع للشيطان , وتارك للرحمن ، ومبطل للحدود ، وشارب للخمور ، ومستأثر بأموال المسلمين(5) , وكمفسد كبير في ثوب مصلح ، وكقائد لحزب الشيطان(6) , وكإمام فاسق يحكم بالجور والعدوان(7) .
والإمام يريد من الاُمّة ومن العالم كله أن يتساءل : كيف يمكن التوفيق بأن ادّعاء الخليفة أنه «خليفة رسول رب العالمين» , وبين أعماله الإجراميّة المنبثقة عن سلوكه الشخصي القذر ، ومسيرته الإرهابيّة كحاكم مستهتر بالأموال والأرواح ، وبأحكام الدين ، وطويته الفاسدة التي تضمر الحقد والبغض للبقية من آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)(8) ؟!
والإمام (عليه السّلام) يريد من الاُمّة أن تستفيق من غفلتها ومن نومها العميق , ومن تطرّفها وحبها للحياة مع الذل ؛ فالعيش كالمرعى الوبيل هو خسة ؛ فالحق لا يُعمل به ، والباطل لا يُتناهى عنه ، والموت للخلاص من هذه الحياة ما هو إلاّ شهادة ، والحياة مع الظالمين ليست إلاّ برماً(9) .
ويريد الإمام الحسين (عليه السّلام) من الاُمّة أن ترجع لدينها وتعرف مَن هم الذين اختارهم الله ولاة لأمرها فتلتفّ حولهم ، وتتخلّى عن طاعة بني اُميّة ؛ فإنها إن فعلت ذلك فإن يزيد سيسقط تلقائياً .
لقد تمكّن الإمام خلال فترة المطاردة ، وبوسائل محدودة ، ومن خلال تصريحاته وخطبه ومقابلاته التي كانت تفيض بالصدق واليقين ، وأنبل المشاعر نحو الدين والاُمّة من أن يوصل ما أراد إيصاله للاُمّة ، ومن إقامة الحجة عليها وعلى الاُمويِّين معاً .
وتمكّن خلال الفترة المتبقّية له من الحياة من أن يضرب المثل الأعلى بالشجاعة والتضحية والإقدام ، والإقبال على الموت بنفس مطمئنة راضية في سبيل نصرة الحق ، ولا يخفى ما لذلك من أثر في بعث الحياة باُمّة أذلها الاُمويِّون فذلّتِ ، وما لذلك من أثر في تحجيم بني اُميّة وجنودها كعصاة وكأعداء لله ولرسوله ، وكقتلة مجرمين لا همّ لهم إلاّ مصالحهم الأنانية الضيّقة .
والأهم أنه مزّق وبمنتهى القوة كافة البراقع والمظاهر الزائفة التي كانوا يتسترون بها ، وعرّاهم وكشفهم للاُمّة وللعالم كله حقيقتهم البشعة .
الحوار بين لغة الدين والمنطق , ولغة المخالب والأنياب
لقد ترك الإمام الحسين (عليه السّلام) جوار جدّه العظيم وهو كاره ، وخرج وهو كاره , وتمنّى لو اُتيحت له الفرصة ليبقى في المدينة ، ويتنقل في بلاد الإسلام ، ويدخل مع يزيد وجنوده في حوار بلغة الدين والمنطق ، ويقنعهم أنه الأولى بسلطان النبي وميراثه ، والأحق ، وأنه الإمام الشرعي المؤهل إلهياً لهذا المنصب ، وأنه الأولى بمبايعتهم لهم ، وأن يزيد الذي يصر على أخذ البيعة من الإمام الحسين (عليه السّلام) أو أن يضرب عنقه ليس مؤهلاّ للخلافة والقيادة ؛ لا في سلوكه ، ولا في سيرته ، ولا في علمه ، ولا في تاريخ أبيه وجده الدموي المتميز بعداوة صارخة لله ولرسوله ؛ فصدور يزيد وجنوده أضيق من أن تتسع بذلك ، وأسماعهم أضعف من أن تطيق سماع ذلك .
لقد اتّسع فرعون مصر على جبروته بموسى وهارون ، وأتاح لهما الفرصة ليدليا بما عندهما ، وسمع منهما حجتهما كاملة ، بل وأتاح لهما الفرصة ليثبتا صحة هذه الحجة على مرأى ومسمع من الشعب المصري كله .
وكان موسى آمناً خلال فترة طرحه لما جاء به ، ولم يتعرض له فرعون بسوء , وعندما التقى موسى بالسحرة على مشهد من الناس ليثبت صحة ما جاء به ، كان موسى آمناً لم يتعرض له فرعون ولا جنوده بالسوء ، وعندما نجح موسى بهزيمة السحرة أمام الناس لم يتعرض له ، ولم يقتله , بل اتهمه والسحرة بالمكر , وتركهم أحياء ، وتركهم طلقاء .
ليت فرعون ـ يزيد ـ المسلمين قد تخلّق بأخلاق فرعون مصر وأتاح للإمام الحسين (عليه السّلام) ما أتاحه فرعون مصر لموسى ! ليته منح الإمام الحسين (عليه السّلام) الفرصة والحرية التي منحها فرعون مصر لموسى ! ليته سمع حجة الإمام الحسين (عليه السّلام) كاملة وأتاح له الفرصة ليثبت صحة ما جاء به ، وما عنده ، وأعطاه الحرية والأمن إلى حين على الأقل لما كان هنالك داع للخروج ، ولما كانت هنالك ضرورة لنثر شمل أهل بيت النبوة وتشتيتهم في البلاد ، ومطاردتهم بهذه الهمجية والوحشية التي لم يعرف لها التاريخ مثيلاً !
إنّ فرعون مصر لم يطلب من موسى أن يبايعه ، ولم يطلب منه أن يعترف بشرعيّة حكمه ؛ لأنه يدرك بأن طلبه غير معقول وغير منطقي .
إنّ فرعون مصر لم يخيّر موسى بين الاعتراف بشرعيّة حكمه أو بالموت كما فعل يزيد عندما أمر واليه على المدينة أن يأخذ البيعة من الحسين وإن أبى أن يضرب عنقه(10) , أو أن يأخذه أخذاً شديداً ليست فيه رحمة حتّى يبايع(11) .
فيزيد ابن معاوية يسوم الإمام الحسين (عليه السّلام) عمداً وبغضاً ، ويعامله معاملة السوقة , ويتصرف بالمغصوب تصرف المالك ، ويريد من صاحب الحق أن ينسى حقه ، وأن يبارك للغاصب ما غصب .
يريد من ابن النبي وأهل بيت الطهارة أن يصفقوا للماجن على مجونه ، وللخليع على خلاعته ، وللفاسق على فسقه , وإن لم يفعلوا ذلك فلا داعي لأن يسمع الخليفة كلامهم ؛ فيزيد أقل وأذل من أن يرتقي إلى مستوى فرعون مصر ليعطي الإمام الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته من الفرص والأمان ما أعطاه فرعون لموسى .
فالطاغية لا يجد ولا يعرف أصلاً لغة الحوار بالدين والمنطق , إنه وجنوده يعرفون ويجيدون لغة المخالب والأنياب والإرهاب , والبطش والقسوة ، فلو ظفر وجنوده بالإمام الحسين وأهل بيت النبوة لقطعوهم إرباً إرباً وبمنتهى الوحشية والهمجية ، ولما سمع بمقالتهم وحجتهم أحد ، ولأشاعت وسائل إعلام دولة الخلافة أن الإمام وأهل بيت النبوة قد انتحروا ، أو أكلوا طعاماً مسموماً فماتوا .
وليس من المستبعد ان يتظاهر الاُمويِّين بالحزن على الإمام الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته , وأن يتظاهروا بالبراءة , ويلبسون القفازات البيض وأيديهم ملطخة بدماء الجريمة ، وكل هذا يفرض على الإمام الحسين (عليه السّلام) وأهل بيت النبوة أن يخرجوا في جنح من الليل ، وأن لا يمكنوا جيش الطاغية من إلقاء القبض عليهم .
طبيعة رحلة الشهادة
عندما امتنع الإمام الحسين (عليه السّلام) عن بيعة يزيد بن معاوية كان موقناً أن المواجهة قد بدأت بينه وبين يزيد تماماً كما بدأت بين موسى وفرعون مصر . وعندما خرج الإمام الحسين (عليه السّلام) من المدينة المنورة كان لديه الإحساس العميق بأنه يفر من يزيد وجنوده تماماً كما فر موسى من فرعون مصر وجنوده .
كان الإمام الحسين (عليه السّلام) موقناً أنه وأهل بيته وأصحابه غرباء تماماً ، يسيرون في مملكة بني اُميّة بلا ناصر ولا معين ، بين قوم قلوبهم غلف لا يعون ولا يرحمون .
وقد أثبتت الوقائع بالفعل في ما بعد ؛ لأن فرعون مصر وجنوده كانوا بمنتهى الرحمة والخلق إذا ما قيست أفعالهم بأفعال جيش الاُمويِّين ، فعندما غادر الإمام المدينة المنورة تلا قوله تعالى : {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص : 21](12) , وهو عين ما قاله موسى عندما فرّ من فرعون مصر وجنوده .
والإمام الحسين (عليه السّلام) الذي اختاره الله إماماً ، وأعدّه وأهّله لا يلقي الكلام على هوانه ، إنما يبرز بكلامه ومقارنته أدق المخفيات بصيغة يفهمها المكلفون فهماً كاملاً ؛ لتقوم الحجة عليهم وفق موازين الحق ومعاييره .
ولمّا وصل الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى مكّة تلا قوله تعالى : {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص : 22](13) , وهو عين ما قاله موسى عندما ابتعد نسبياً عن الخطر , وعندما أشرف على مدين .
فالتمثّل بقول موسى في مكانين مختلفين ، وفي فترتين زمنيتين متباعدتين يعكس بوضوح وحدة المحنة بين النبي موسى والإمام الحسين (عليهما السّلام) ، ووحدة الجو النفسي بينهما ، والتشابه بالحالتين ، والتطابق في طبيعة الخصمين ، ووحدة المعاناة ؛ وإبرازاً لهذا فإن الإمام الحسين (عليه السّلام) يستعين بإعجاز القرآن ليضع الاُمّة معه في موقفه وطبيعة معاناته ، وليستصرخ لا شعورها لنصرته .
الخارطة الجغرافية والإعلاميّة لرحلة الشهادة
من المدينة إلى مكّة
قبل أن يخرج الإمام الحسين (عليه السّلام) من المدينة إلى مكّة بادئاً رحلة الشهادة كتب الرسالة التي وجهها إلى بني هاشم ، والتي تحدثت عن اُمور غيبية لم تحدث بيقين قاطع أثارت فضول أهل المدينة ، وعرفوا مضمونها , وجاء فيها : (( بسم الله الرحمن الرحيم , من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم . أمّا بعد , فإنَ مَن لحق بي منكم استشهد ، ومَن تخلّف لم يبلغ الفتح . والسّلام ))(14) .
ثمّ إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) قد اجتمع مع نساء بني هاشم عندما اجتمعن للنياحة والبكاء لمّا سمعن بعزم الإمام على الخروج ، وتكلّمت النسوة مع عمته اُمّ هانيء ، واجتمع معها الإمام الحسين (عليه السّلام) . ومن خلال المعلومات التي وصلت إلينا يبدو واضحاً أن الإمام الحسين (عليه السّلام) قد استشرف أمامهن رحلة الشهادة , وأحاطهن علماً بمآل هذه الرحلة ، واُمّ هانيء التي روت للإمام الحسين (عليه السّلام) تفاصيل الهاتف الذي سمعته(15) .
ومن الطبيعي أن يكون حديث الإمام الحسين (عليه السّلام) مع الهاشميات قد انتشر بين نساء المدينة خلال يومين أو ثلاثة من اجتماع الإمام بهن . ثمَّ هل يعقل أن تجتمع الهاشميات للنياح والبكاء ، وينحن ويبكين ، ولا تسأل نساء المدينة عن السبب ؟!
وقد أفضى الإمام الحسين (عليه السّلام) بتصريحات أمام ابن الزبير(16) , والمسور بن مخرمة(17) , وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام(18) , وعبد الله العدوي(19) .
ثمَّ إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) كتب لأخيه محمّد بن الحنفيّة كتاباً سمّاه «الوصية» بيّن فيه الغاية من خروجه , جاء فيه : (( وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً , ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدي ؛ اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب , فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومَن ردّ عليَّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين ... ))(20) .
ثمّ إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) قد أجرى حواراً موسّعاً مع أخيه محمّد بن الحنفيّة ، وأذن له بالبقاء في المدينة ، وشاع بين سكان أهل المدينة أن الإمام قد كتب وصيته وسلّمها لمحمد بن الحنفيّة ، فمن الطبيعي أن يسأل أهل المدينة ابن الحنفيّة عمّا جرى , وعن مضمون الوصية , بل ومن الطبيعي أن يسأله أمير المدينة وأركان إمارته أن يبعثوا ليزيد بن معاوية بكل ما سمعوه من أخبار الإمام الحسين (عليه السّلام) .
ولم يخرج الإمام الحسين (عليه السّلام) من المدينة إلاّ بعدما أقام الحجة كاملة على أهلها ، وبعدما يئس من نصرتهم له . ولو كان عند الإمام الحسين (عليه السّلام) أي أمل بنصرة أهل المدينة وحمايتهم له ولأهل بيته لما خرج منها .
ولقد عبّر الإمام (عليه السّلام) عن شعوره بالمرارة وخيبة الأمل فيهم ، وعن غضبه منهم بأكثر من مناسبة ؛ فقد شكا أمام قبر جده (صلّى الله عليه وآله) قائلاً : (( أنا فرخك وابنُ فرختك ، وسبطك في الخلف الذي خلفت على اُمّتك ، فاشهد عليهم يا نبي الله أنهم قد خذلوني وضيّعوني ، وأنهم لم يحفظوني ، وهذه شكواي إليك حتّى ألقاك ))(21) .
ومثل قول الإمام (عليه السّلام) : (( ... وقد سمعت رسول الله يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان , وعلى الطلقاء أبناء الطلقاء ، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه . فوالله لقد رآه أهل المدينة على منبر جدي فلم يفعلوا ما أمروا به ، فابتلاهم الله بابنه يزيد زاده الله في النار عذاباً ))(22) .
ومثل قول الإمام (عليه السّلام) مناجياً رسول الله أمام قبره الشريف : (( لقد خرجت من جوارك كرهاً ، وفرّق بيني وبينك حيث إني لم اُبايع ليزيد بن معاوية شارب الخمور ، وراكب الفجور ، وها أنا خارج من جوارك على الكراهة , فعليك مني السلام ))(23) .
وغاية الإمام الحسين (عليه السّلام) من الخروج منصبّة على البحث عن مأوى آمن يأوي إليه وأهل بيته ، فلو كان الإمام واثقاً أن المدينة هي المأوى الآمن ، وأن أهلها سيمنعونه ويحمونه لما كانت هنالك ضرورة لرحلة الشهادة ؛ فأهل المدينة أعرف بالإمام وبمكانته من غيرهم , ويعرفون أنه المظلوم وصاحب الحق الشرعي مثلما يعرفون تاريخ يزيد ومعاوية وأبي سفيان , وهو تاريخ أسود .
ومع هذا , ومع سبق الترصد والإصرار خذل أهل المدينة الإمام الحسين (عليه السّلام) خذلاناً تاماً ، وتجاهلوا خروج الإمام (عليه السّلام) ، وتجاهلوا العهد والموثق الذي قطعوه على أنفسهم أمام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بأن يحموه ويحموا أهله كما يحمون أنفسهم وذراريهم .
والخلاصة : إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) لم يغادر المدينة إلاّ بعدما كان موقناً بأن أهلها خاذلوه لا محالة ، ومع هذا لم يغادر المدينة إلاّ بعدما أسمع حجته لرجالها ونسائها ، ولشيوخها وشبابها ، وبعدما أقام الحجة كاملة عليهم ، وعلى أركان دولة الخلافة في المدينة المنورة . ولما تيقّن الإمام (عليه السّلام) أنه قد فعل ذلك كله غادر المدينة متوجّها إلى مكّة , وكان ذلك في ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب من سنة ستّين للهجرة .
خرج الإمام الحسين (عليه السّلام) ببنيه وإخوته وجلّ أهل بيت النبوة إلاّ محمّد بن الحنفيّة(24) من المدينة نهائياً إلى مكّة المكرمة , وهو يتلو قوله تعالى : {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص : 21] (25).
وفي رواية ثانية أن الإمام (عليه السّلام) قد خرج من المدينة يريد مكّة بجميع أهله , وذلك لثلاث ليال مضين من شهر شعبان في سنة ستّين للهجرة , وهو يتلو الآية ...(26) .
وأثناء مسيرته إلى مكّة لزم الطريق الأعظم ، وأبى أن يحيد عنها ، وقال لمسلم بن عقيل الذي أشار عليه بالعدول عن الطريق : (( والله يابن عمي , لا فارقت هذا الطريق أبداً أو أنظر إلى أبيات مكّة , أو يقضي الله في ذلك ما يحب ويرضى ))(27) .
فالإمام الحسين (عليه السّلام) لا يخفى خروجه على أحد ؛ فهو يسلك الطريق العام علناً , بل هو يجهد نفسه ليعلم كل المسلمين بخروجه ، ولتكون أسباب الخروج معروفة عند كل مسلم ومسلمة بمن فيهم يزيد وأركان دولته ؛ لأن الإمام (عليه السّلام) لا يطلب ملكاً كابن الزبير ، ولا يتلبّد لملك كابن عمر ، إنما هو صاحب حق ، وصاحب رسالة معني من كل الوجوه بإبلاغ مضامين تلك الرسالة إلى كافة المكلّفين من حاكمين ومحكومين على السواء .
في مكّة المكرمة
لو أخذنا بالرواية الاُولى التي تقول : إن الإمام الحسين (عليه السّلام) قد خرج من المدينة المنورة متوجهاً إلى مكّة المكرمة في اليوم الثالث من شهر شعبان , لقدّرنا أن الإمام قد وصل إلى مكّة المكرمة في منتصف شهر شعبان .
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الإمام أدّى العمرة وخرج من مكّة قبل إتمام الحج ؛ كراهية منه أن تستباح به حرمة البيت الحرام(28) , فمعنى هذا أن الإمام الحسين (عليه السّلام) قد بقي في مكّة قرابة أربعة أشهر تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً .
هذه المدة الكافية أتاحت له فرصة للاجتماع مع أهل مكّة ، ومع وفود الحجيج التي جاءت من مختلف البلاد الإسلاميّة , ومن الطبيعي أن يطلعهم الإمام (عليه السّلام) على خروجه وعلى أسباب هذا الخروج ، وأن يبيّن لهم حاجته إلى مأوى آمن يأوي إليه ، وإلى قوم يمنعونه وأهل بيته بطريقة مهذّبة لا تخدش كبرياء الحق الذي يمثله.
ومن الطبيعي أن يتوافد المسلمون عليه للإسلام ، وتقديم الاحترام لابن النبي الوحيد المتبقي على وجه الأرض ، وطمعاً بالبركة ، وتقرباً للنبي (صلّى الله عليه وآله) .
ومن المؤكد أنهم أصغوا إليه , وأنه قد ملكهم بحديثه المميز ؛ فقد أسر حديثه حتّى خصومه ، وأخالهم قد استمعوا إليه بشغف بالغ ، وعزّ عليهم ما يعانيه الإمام وأهل بيت النبوة في محنتهم تلك ، وأخالهم قد ودّعوه وقبّلوا يده وعيونهم تفيض بالدمع , وألسنتهم ترجوه الدعاء لهم , ثمَّ اختفوا ليمارسوا عادات العبادات .
وهكذا أقام عليهم الحجة كاملة غير منقوصة ، وشهدوا على أنفسهم من حيث لا يشعرون بأن ابن النبي وأهل بيت النبوة قد استنصروا فلم يُنصَروا , وطلبوا
الدعم فلم يُدعموا ، واستحموا فلم يحمهم أحد ، وبيّنوا الحق وطلبوا من المسلمين اتباعه فأعرض المسلمون عنهم , وهذا قمة ما هو مطلوب من الإمام ؛ فالإمام ملزم ببذل عناية لا بتحقيق غاية ، مكلف بأن يبيّن الحق ويقيم الحجة على الناس ، لكنه ليس مكلفاً بأن يجبر الناس إجباراً على اتّباع الحق .
ويبدو مؤكداً أن الإمام الحسين (عليه السّلام) قد اجتمع في مكّة مع عبد الله بن العباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب(29) , وقد حببا إليه البقاء والعودة معهما إلى المدينة , وخوّفاه من سيف يزيد بن معاوية وجنده ، وقال له ابن عمر : ارجع إلى المدينة , وإن لم تحب أن تبايع فلا تبايع أبداً .
فقال له الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( هيهات يابن عمر ! إنّ القوم لا يتركوني إن أصابوني ، وإن لم يصيبوني فلا يزالون حتّى اُبايع وأنا كاره أو يقتلوني )) . وقال له الإمام الحسين (عليه السّلام) أيضاً : (( اتقِ الله يا ابا عبد الرحمن ولا تدعنّ نصرتي )) .
ثمّ أقبل الإمام الحسين (عليه السّلام) على عبد الله بن العباس فقال : (( يابن عباس , إنك ابن عمِّ والدي ... فإني مستوطن بهذا الحرم ومقيم فيه أبداً ما رأيت أهله يحبّوني وينصروني , فإذا هم خذلوني استبدلت بهم غيرهم ... واستعصمت بالكلمة التي قالها ابراهيم (عليه السّلام) يوم اُلقي في النار : حسبي الله ونعم الوكيل )) .
فبكى ابن عمر وابن عباس بكاءً شديداً , والحسين يبكي معهما ساعة , ثمَّ ودّعهما وعاد ابن عمر وابن عباس إلى المدينة(30) .
ويبدو واضحاً أن الإمام (عليه السّلام) قد قابل عبد الله بن الزبير ، ويبدو واضحاً أن ابن الزبير قد شجّع الإمام على الخروج من مكّة إلى الكوفة ، ومن المؤكد أن الإمام يعرف ابن الزبير ومطامعه بدليل قول الإمام (عليه السّلام) : (( ها إنّ هذا ليس شيئاً يؤتاه من الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق ، وقد علم أنه ليس له من الأمر معي شيء ، وأن الناس لا يعدلوه بي ، فَودّ أني خرجت منها لتخلو له ))(31) . هذه نماذج من مقابلة الإمام لبعض ملأ القوم في مكّة .
ويبدو واضحاً أنّ عبد الله بن عباس مشفق وناصح ، وصادق العاطفة نحو الإمام الحسين (عليه السّلام) ، ولكن شيخوخته وطعنه في السن إلى جانب مرضه وفقدانه لبصره قد منعاه من الخروج معه .
أمّا عبد الله بن عمر فهو يطمع بالخلافة ذات يوم ، ولم لا ؟ فهو ابن عمر الذي قاد بطون قريش الـ 23 ، وواجه النبي نفسه ، وعيّن الخليفة الذي أراد ، ثمَّ ورث دولة مستقرة بعد موت الخليفة الأوّل ، وبقدرة قادر صار حبيب الجماهير وفاتنها .
لقد ورث ابن عمر تاريخاً ، لكنه لا يريد أن يخرج كما خرج الإمام الحسين (عليه السّلام) ، فلو خرج مع الإمام الحسين (عليه السّلام) لكان خروجه لمصلحة غيره , ولدخل في مقامرة قد تنجح ويأخذ ثمرتها غيره ، أو لا تنجح فيدفع ضريبة هو في غنى عنها ، والأفضل له أن يصافح الخليفة وأركان دولته ، وأن يجاملهم , بل ويساعدهم ويشجّع الناس على بيعتهم تحت شعار الدخول في الصلح ووحدة المسلمين , فيتجنب شر الخليفة وأركان دولته , وينال نصيباً وافراً مما في أيديهم ، فيبقى هو العلم بوصفه ابن الخليفة ، وهو الرقم الصحيح من رعية كلِّها أصفار أو كسور ؛ لذلك اختار ابن عمر أن يكون دائماً مع الغالب !
وهو صاحب النظرية الشهيرة التي صارت في ما بعد مبدأً دستورياً من مبادئ دولة الخلافة «نحن مع مَن غلب»(32) , ومع هذا فإن ابن عمر لم يقطع صلته بالمعارضة ؛ فهو يبكي أمام الإمام الحسين (عليه السّلام) ، ويوحي له بأنه متعاطف معه ومشفق عليه ، ويرى ما لم يره الإمام ، ويتمنى على الإمام أن يدخل في صلح يزيد وأن يبايع يزيد ، وأن يعود إلى المدينة ليصبح مطيعاً كرعية يزيد !
من الطبيعي أنّ يزيد وأركان دولته سيسمعون بكلِّ ما قاله عبد الله بن عمر , وسيرتاحون لموقفه ، ويغدقون عليه الصلات والعطايا باعتباره حكيماً من حكماء دولة الخلافة ، وهكذا يقنع عبد الله بن عمر نفسه بأنّه مع الجميع ، وأنه حبيب الجميع ، وليس من المستبعد أن يعهد له أحد الخلفاء في ما بعد بالخلافة .
وحتّى تأتي تلك اللحظات السعيدة يعيش ابن عمر آمناً مرفّهاً ونجماً متألّقاً , وعالماً مشهوراً من علماء دولة الخلافة ؛ يفتي بضرورة البيعة ، ويفتي بالصلاة خلف كلِّ بر وفاجر ، وتقديم الطاعة لمَن غلب كائناً مَن كان ... إلخ .
أمّا عبد الله بن الزبير ، فقد صدق عمر بن الخطاب عندما وضع الزبير بوزن الإمام علي (عليه السّلام) ، ووضع أبناء أصحاب الشورى بوزن أبناء الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، فهو في قرارة نفسه يعتقد أنّ أباه أولى بالخلافة من علي (عليه السّلام) ، وأنه أولى بالخلافة من أولاد علي (عليه السّلام) , ولكن حجمه ووزنه يقصران به عن منافسة الإمام (عليه السّلام) .
لكنه يتمنى كبقية أبناء الخمسة الذين اختارهم عمر لمنافسة الإمام علي (عليه السّلام) ، واختار ابناءهم لمنافسة أبناء الإمام علي (عليه السّلام) . نعم ، يتمنّى أن تبتلع الأرض ذرّية الرسول ليخلو له وجه الخلافة ، وليتألق في غيابهم كما يحلو له .
فلو أن الثلاثة وقفوا مع الإمام الحسين (عليه السّلام) ونصروه ، لخلقوا تياراً هائلاً من التأييد للإمام الحسين (عليه السّلام) في المدينة ، ولوقف مَن تبقّى من الصحابة وأبناء الصحابة وقفة واحدة خلف الإمام الحسين (عليه السّلام) , ولكان عسيراً على يزيد وأركان دولته أن يفعلوا ما فعلوا بعباد الله ، لكن لكل واحد من الثلاثة ملف خاص ، وحسابه الخاص به .
قصة الأمان والرغبة بإدانة الإمام الحسين (عليه السّلام)
تتحدث بعض الروايات أن عبد الله بن جعفر قد كتب إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) كتاباً جاء فيه : أمّا بعد , فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي ؛ فإني مشفق عليك ... وإن هلكت اليوم طفئ نور الأرض ؛ فإنك علم المهتدين ، ورجاء المؤمنين ...
وأنّه قد طلب من عمرو بن سعيد بن العاص عامل يزيد على مكّة أن يكتب أماناً للحسين ، وأن يمنّيه البر والصلة , ويبعثه إليه ... وبالفعل كتب عمرو بن سعيد بن العاص الأمان للحسين (عليه السّلام) , إلاّ أن الإمام الحسين (عليه السّلام) قد رفض هذا الأمان(33) .
ونصحه الحكماء كعبد الله بن عمر(34) , وعبد الله بن العباس(35) , وعبد الله العدوي(36) , والواقدي , وزرارة(37) , وحتّى الحكيمات المسلمات كعمرة بنت عبد الرحمن كتبن إليه يعظمن ما يريد الإمام أن يصنعه ، ويأمرنه بالطاعة ولزوم الجماعة ، ويخبرنه أنه يساق إلى مصرعه(38) .
ويروي الرواة أنّ ابن عمر كان يقول : غلبنا حسين بن علي بالخروج ، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة ، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له أن لا يتحرك ما عاش ، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس ؛ فإنّ الجماعة خير(39) .
ويروي بعض المؤرّخين أنّ عبد الله بن عمر قال للإمام الحسين (عليه السّلام) : لا تخرج ؛ فإنّ رسول الله خيّره الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ، وإنّك بضعة منه , فلا تعاطها ـ يعني الدنيا ـ ... فاعتنقه وودّعه ...(40) .
وحتّى مروان بن الحكم بن العاص الملعون ابن الملعون على لسان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ينصح الإمام الحسين (عليه السّلام) قائلاً : يا أبا عبد الله , إنّي ناصح فأطعني تُرشد وتُسدد .
فقال له الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( وما ذلك ؟ قل حتّى أسمع )) .
فيقول له مروان : إني آمرك ببيعة أمير المؤمنين يزيد ؛ فإنه خير لك في دينك ودنياك(41) !
ويذهب بعض من المؤرّخين إلى أن الإمام الحسين (عليه السّلام) قد خرج من المدينة متوجّهاً إلى العراق ...
فطاعة الخليفة وفق هذه الثقافة فرض على كلِّ مسلم ومسلمة ؛ لأنه قد خُلق ليُطاع والقبول بأفعال الخليفة واجب على كلِّ مسلم ومسلمة ، ومعصية الخليفة جرم بحق الله وبحق رسوله قبل أن يكون جرماً بحقِّ الخليفة ، والخارج على الخليفة هو شاق لعصا الطاعة ، وخارج على الجماعة قبل أن يكون خارجاً على الخليفة ، وبالتالي فإنّ الخروج على الخليفة حرام (بإجماع المسلمين) , وجريمة من جرائم الخيانة العظمى بغض النظر عن شخصية الخارج ؛ لأنّ الخروج على الخليفة مهما كان دينه أو خلقه أو أفعاله حرام بإجماع أهل القبلة !
تلك هي الثقافة الفاسدة لدولة الخلافة , فالإمام الحسين (عليه السّلام) بالنسبة لقواميس هذه الثقافة خارج على الطاعة ، مفارق للجماعة ، ومتولٍّ لغير ما تولّى المؤمنون , ولكن نظراً لمكانة الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وقربه من رسول الله يتمايل إعلام دولة الخلافة وعلماء الخلفاء , ويسلكون الطرق الملتوية لإفهام العامة بذلك , وبطرق غير مباشرة .
هم لا يقولون بصراحة ذلك عن الإمام الحسين (عليه السّلام) ، ولكنهم يصرحون بذلك عبر أساليب ملتوية , وبطرق غير مباشرة . قال يزيد بن معاوية لعلي بن الحسين (عليه السّلام) بعد مذبحة كربلاء : أبوك ـ يعني الإمام الحسين (عليه السّلام) ـ الذي قطع رحمي ، وجهل حقي ، ونازعني سلطاني ، فصنع الله به ما قد رأيت . (كما قال الطبري ذلك في تاريخه) .
فيزيد موقن وفق ثقافة دولة الخلافة أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) قد جهل حقّ يزيد بالطاعة , ونازعه سلطانه الذي أعطاه الله له ، وبالتالي فإنّ العقوبة من جنس العمل وحجمه .
فالمؤرّخون يتبنّون النظرية الرسميّة لدولة الخلافة , والفتاوى الرسميّة لعلماء دولة الخلافة المتعلقة بقضية الخروج ، ولكنهم يتمايلون لإيصال مضامين هذه النظرية بطرق غير مباشرة . ومن وسائلهم الاختلاق وخلط الأوراق ، وخلط المتناقضات خلطاً يتعذر معه الوقوف على الحقائق الموضوعية المجردة .
ثمّ كيف يبرّر علماء دولة الخلافة ومؤرّخوها خذلان «حكماء القوم» ومَن تبقّى من المهاجرين والأنصار للإمام الحسين (عليه السّلام) ، وسماحهم بحدوث المذبحة وبالصورة البشعة التي حدثت بها ؟! بل وكيف تتفق واقعة المذبحة مع تفاصيل نظرية عدالة كلِّ الصحابة التي اخترعها معاوية وأركان دولة الخلافة ؟!
لقد رأوا أنه من الأنسب تخطئة الإمام الحسين وأهل بيت النبوة (عليهم السّلام) على تخطئة حكماء القوم وأبناء المهاجرين والأنصار . وليضفوا على أنفسهم رداء الحياد والموضوعية أطالوا الطريق ، والتفّوا حول الحقائق ؛ طمعاً بطمسها وتزويرها أو التشكيك بها .
ثمّ هل يعقل أن تسمح دولة الخلافة للمؤرّخين والعلماء بتأريخ أو بفتاوى تدينها ؟! فالدولة في كل عصر هي الرقيب الصارم على المطبوعات والنشر والفتاوى ، وصاحبة السيطرة الكاملة على وسائل الإعلام .
ثمَّ كيف تبرّر دولة الخلافة وأشياعها عملاً ببشاعة مذبحة كربلاء أمام الاُمم الاُخرى ، ومعتنقي الرسالات الاُخرى ؟! فرأت أنّ التضحية بالإمام الحسين وبأهل بيت النبوة (عليهم السّلام) أولى من التضحية بالخليفة وأركان دولته وطواقم مؤيديه ؛ لهذا كلّه دسّوا من الروايات ما اعتقدوا بأنها تدين الإمام (عليه السّلام) وتشوه نهضته المباركة .
ولست أدري بأي منطق صارت نصائح «حكماء القوم» , وفتاوى علماء دولة الخلافة ، وخزعبلات أعلامها صواباً ، وصارت تصريحات الإمام الحسين (عليه السّلام) وفتاويه خطأً ؟!
ومَن الذي شهد لهم بذلك ؟ فلماذا لا يكون الإمام مصيباً وهم مخطئون مثلاً ؟ ثمَّ مَن هو الأولى بالاتّباع ؛ الإمام الحسين (عليه السّلام) ، أم حكماء القوم وعلماء دولة الخلافة ؟!
فهل حكماء القوم وعلماء دولة الخلافة هم الثقل الأصغر ؟! وهل هم أهل بيت النبوة المشهودة لهم بالطهارة ؟! وهل هم آل محمّد ، أو ذوو القربى ؟! بل هل هم الأعلم ؟! فكل علم يدعونه ينتهي إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، فأيّهما أولى بعلم الرسول وصوابه ؛ ابنه المقيم وإيّاه تحت سقف واحد , والمُعدّ للإمامة إلهيّاً ، أم اُولئك الذين لم يروا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلاّ لماماً ؟!
فهل يعقل أن يعلم «حكماء القوم وعلماء دولة الخلافة» , ويجهل إمام أهل بيت النبوة ؟! هذا أمر لا يكون بالفعل .
وهل المطلوب حتّى يكون الإمام (عليه السّلام) مصيباً أن يسلّم عنقه ليزيد حتّى يبايع أو يُقتل ؟!
إنّ أوامره واضحة : «خذ البيعة من الحسين , وإن أبى فاضرب عنقه»(42) , أو «خذه أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتّى يبايع»(43) .
فإذا كنّا لا نرى استهجاناً في حكماء القوم وعلماء دولة الخلافة ليزيد بن معاوية , أو لغيره من أئمة الجور ومن فراعنة الاُمّة ، فلا يمكن لعاقل أن يصدّق أنّ رجلاً بعظمة الإمام الحسين (عليه السّلام) , وبيقينه من ربه ، وفئة بعظمة أهل بيت النبوة يمكنها أن تبايع رجلاً منحرفاً فاسداً كيزيد بن معاوية . فلا أنا ولا أنت ولا أي إنسان لديه إحساس بالكرامة وبالانتماء لدين الإسلام يقبل ذلك .
وقد جرت العادة في عالم الإجرام أن يتنصّل المجرمون من جرائمهم , فيحمّلون الضحية وزر الجريمة ، أو يطمسون الأدلة التي تثبت الجريمة ، أو يقلبون الحقائق أو يزوّرونها في غياب الضحية ، لكن القتلة الذين نفّذوا فصول الجريمة فصلاً فصلاً يعرفون وقائعها ، ويعيشون حياتهم ملاحقين بالأشباح ، غارقين بالدمويّة .
أمان عمرو بن سعيد بن العاص
قال الواقدي في مغازيه : إنّ عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص : إنّي لأراك معرضاً , تظن أنّي قتلتُ أباك , والله ما قتلته(44) .
فعمر بن الخطاب بهذه الطريقة الذكية يريد أن يذكّر سعيد بن العاص بأنّ علي بن أبي طالب (عليه السّلام) هو قاتل أبيه ، وعمرو هذا هو ابن سعيد . ومعنى ذلك أن والد الإمام الحسين (عليه السّلام) قد قتل جد عمرو بن سعيد ، وقتل أعمام عمرو , فكيف ينسى عمرو قاتل جدّه وأعمامه ، وكيف يتجاهل ذلك وهو الموتور ابن الموتور , وكيف يتحول من حاقد على علي بن أبي طالب وذرّيته إلى محبٍّ ومشفق عليهم ، يتبرع بإعطاء صكوك الأمان لهم ؟!
عندما قُتل الحسين (عليه السّلام) أرسل ابن زياد عبدَ الملك بن الحارث السلمي ، فقال له : انطلق حتّى تقدم المدينة على عمرو بن سعيد بن العاص فبشّره بمقتل الحسين . وإنّ عمرو هذا أمير المدينة يومئذ .
قال عبد الملك : فدخلت على عمرو بن سعيد ، فقال : ما وراءك ؟
فقلت : ما سرّ الأمير ؛ قُتل الحسين بن علي .
فقال : نادِ بقتله .
فناديت ، فلم أسمع والله واعية قط مثل واعية نساء بني هاشم في دورهن على الحسين ، فقال عمرو بن سعيد ضاحكاً :
عجّت نساءُ بني زيادٍ عجةً كعجيج نسوتِنا غداةَ الأرنبِ
ثمَّ قال : هذه واعية بواعية عثمان بن عفان . هذا ما رواه الطبري في تاريخه عن عوانة بن الحكم .
وقال أبو الفرج الأصفهاني في «الأغاني» : بعد خروج الحسين أمر عمرو بن سعيد بن العاص صاحب شرطته على المدينة أن يهدم دور بني هاشم , ففعل , وبلغ منهم كل مبلغ(45) .
لست أدري , كيف نوفّق بين أفعال عمرو بن سعيد وحقده وبين إشاعة إعطائه الأمان للإمام الحسين (عليه السّلام) ، ورفض الإمام لهذا الأمان ؟! إلاّ إذا اعتبرنا أن عمرو بن سعيد قد أعطى كتاب الأمان كخدعة ليلقي القبض على الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وعمرو هذا مؤهل لذلك ، والإمام الحسين أهل لأن يكشف مثل هذه الخدع .
ثمَّ إنّ يزيد بن معاوية وهو رأس الدولة وفرعونها يأمر واليه على المدينة بأن يأخذ البيعة من الإمام الحسين (عليه السّلام) , وإن أبى أن يضرب عنقه , فهل يملك عمرو بن سعيد أن يتجاهل أوامر الذي عيّنه أميراً وأن يعطي الأمان للحسين ؟!
يبدو أن أركان الخلافة لا يتقنون الكذب ! ثمَّ إنّ أولاد عبد الله بن جعفر خرجوا مع الإمام الحسين (عليه السّلام) بمحض اختيارهم , ومباركة أبيهم وعلمه , واستشهدوا معه .
ويروي الطبري في تاريخه أنه لما بلغ عبد الله بن جعفر مقتل ابنيه مع الحسين (عليه السّلام) دخل عليه بعض مواليه والناس يعزونه ، فقال : هذا ما لقينا ودخل علينا من الحسين ! فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله , ثمَّ قال : يابن اللخناء ! أللحسين تقول هذا ! والله لو شهدته لأحببت أن لا اُفارقه حتّى اُقتل معه . والله إنه لما يسخي بنفسي عنهما ، ويهوّن عليّ المصاب بهما أنهما اُصيبا مع أخي وابن عمي , مواسين له , صابرين معه .
ثمَّ أقبل على جلسائه فقال : الحمد لله , عزّ عليّ بمصرع الحسين أن لا يكن آست حسيناً يدي فقد آساه ولَدَي .
هذه طبيعة عبد الله بن جعفر ، وطبيعة محبته للإمام , فهل يمكن لمثل هذا الرجل أن يقع في ألاعيب عمرو بن سعيد بن العاص , وأن يغفل عن مكر يزيد وبني اُميّة ثانية ؟! يبدو أن أركان دولة الخلافة لا يتقنون حتّى صنع الكذب وإحكامه ؛ فغايتهم إدانة الضحية ، ووضع أكاليل الغار على المجرم ، وتتويجه بالزور والبهتان فاتحاً مع الماجدين .
الإمام الحسين (عليه السّلام) في مكّة , والعراق في مخاض
لأن العراق كان مركز الخلافة في عهد الإمام علي (عليه السّلام) ، فقد صار محطة لمن هبّ ودب من الناس . كان أهل العراق مع الإمام علي (عليه السّلام) ، وكان أهل الشام مع معاوية ، وانتهت الحرب عملياً بهزيمة معسكر الإمام وانتصار معسكر معاوية .
ومع أن أهل العراق قد عجلوا بهزيمة معسكرهم ، وساعدوا معاوية طمعاً بأمواله , إلاّ أن معاوية عاملهم معاملة المهزومين ، وتصرّف معهم تصرف الفاتح ؛ فقتل أخيارهم ، وأبقى شرارهم ، وهدم دورهم ، وأذلهم أيّما إذلال . وقارنوا بين حكم الإمام (عليه السّلام) وحكم معاوية , ونظام الإمام (عليه السّلام) ونظام معاوية , وولاة الإمام (عليه السّلام) وولاة معاوية ، وعرفوا الفروق النوعية بين الرجلين وبين النظامين ، فندموا ولات حين مندم .
وكان معاوية قد ملكهم بالفعل , وملك أموالهم وذرّياتهم , وحكمهم حكماً جبرياً ، وأدركوا أنه لا يقوى أحد على معاوية إلاّ الله ، وأنه لا خلاص منه إلاّ بانتهاء أجله . فلما مات معاوية رقصت قلوب العراقيّين فرحاً ، ولكن على استحياء وبخفية ؛ لأن معاوية ألقى الرعب في قلوبهم ؛ فهم يخافونه بحياته ، وبموته يخافون صورته ، ويخافون شبحه ، ومع هذا لمّا هلك معاوية غالب العراقيون خوفهم وكتبوا إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) مجموعة من الكتب .
كتب الشيعة
اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي ، فخطبهم قائلاً : إنّ معاوية قد هلك ، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته , وقد خرج إلى مكّة ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه ؛ فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه , وإن خفتم الوهل والفشل فلا تضرّوا الرجل من نفسه .
فقالوا : لا بل نقاتل عدوه , ونقتل أنفسنا دونه .
قال : فاكتبوا إليه .
فكتبوا إليه الرسالة التالية : بسم الله الرحمن الرحيم , للحسين بن علي , من سليمان بن صرد ، والمسيب ابن نجبة , ورفاعة بن شداد ، وحبيب بن مظاهر , وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة , سلام عليك . أمّا بعد , فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزها , وغصبها فيأها ، وتأمّر عليها بغير رضاً منها ، ثمَّ قتل خيارها ، واستبقى شرارها ، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها ، فبعداً له كما بعدت ثمود ! إنه ليس علينا إمام ، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحق .
وأرسلوا الكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني ، وعبد الله بن وأل التميمي ، وبالفعل سلّما الكتاب للإمام الحسين في العاشر من شهر رمضان ، وبعد يومين أرسلوا قيس بن مسهر الصيداوي ، وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكدن الأرحبي ، وعمارة بن عبيدة السلولي فحملوا معهم قرابة 150 صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة , وبعد يومين آخرين أرسلوا هاني بن هاني السبيعي , وسعيد بن عبد الله الحنفي , وكتبوا : أمّا بعد , فحي هلا ، فإنّ الناس ينتظرونك ، ولا رأي لهم في غيرك ، فالعجل العجل .
وكتب شبث بن ربعي , وحجار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث بن يزيد ، وعزرة بن قيس ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي ، ومحمد بن عمر التميمي : أمّا بعد , فقد أخضرّ الجنان ، وأينعت الثمار ، وطم الجمام ، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجندة(46) .
فجمع الحسين (عليه السّلام) رسل أهل الكوفة وقال لهم : (( إنّ رسول الله أمرني بأمر وأنا ماضٍ له ... ))(47) .
وكتب رسالة إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين ... إلى أن قال : (( وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل , وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم ... فإن كنتم على ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم , فقوموا مع ابن عمي وبايعوه وانصروه , ولا تخذلوه ... ))(48) .
وكتب الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى رؤوس الأخماس بالبصرة ، وإلى أشرافها ؛ مالك بن مسمع البكري ، والأحنف بن قيس ، والمنذر بن الجارود ، ومسعود بن عمرو , وقيس بن الهيثم ، وعمرو بن عبيد الله بن معمر كتاباً جاء فيه : (( أمّا بعد , فإن الله اصطفى محمداً على خلقه , وأكرمه بنبوته ، واختاره لرسالته , ثمَّ قبضه إليه ... وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه , وورثته وأحق الناس بمقامه ، فاستأثر علينا قومنا بذلك , ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه ... وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب , وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيّه ؛ فإن السنة قد اُميتت ، وإن البدعة قد اُحييت ، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد ))(49) .
النتائج
أقبلت الشيعة على مسلم بن عقيل يبايعونه حتّى أحصى ديوانه 18 ألفاً(50) , وقيل : 25 ألفاً , وكتب مسلم بن عقيل إلى الإمام (عليه السّلام) : أمّا بعد , فإن الرائد لا يكذب أهله :
1 ـ وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً , فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي ؛ فإنّ الناس كلهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى . والسّلام(51) .
2 ـ جمع يزيد بن مسعود بني تميم ، وبني حنظلة , وبني سعد وقال لهم : إنّ معاوية مات ، فأهون به والله هالكاً ومفقوداً ، ألا وإنه قد انكسر باب الجور والإثم ، وتضعضعت أركان الظلم ... إلى أن قال : وقد قام ابنه يزيد شارب الخمور ، ورأس الفجور , يدّعي الخلافة على المسلمين ، ويتأمّر عليهم بغير رضاً منهم ؛ قصر حلم ، وقلة علم ، ولا يعرف من الحق موطئ قدمه , فاُقسم بالله
قسماً مبروراً لَجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين .
وهذا الحسين بن علي ابن بنت رسول الله ، ذو الشرف الأصيل , والرأي الأثيل ، له فضل لا يُوصف ، وعلم لا ينزف ، وهو أولى بهذا الأمر ؛ لسابقته وسنّه , وقدمه وقرابته ؛ يعطف على الصغير ، ويحنو على الكبير ، فأكرم به راعي رعية ، وإمام قومه ، وجبت لله به الحجة ، وبلغت به الموعظة , فلا تعشوا عن نور الحق ، ولا تسكعوا في وهدة الباطل ؛ فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل فاغسلوها بخروجكم إلى ابن بنت رسول الله ونصرته .
وكتب إلى إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) كتاباً جاء فيه : بسم الله الرحمن الرحيم , أمّا بعد , فقد وصل إليَّ كتابك ، وفهمت ما ندبتني إليه , ودعوتني له من الأخذ بخطي من طاعتك ، والفوز بنصيبي من نصرتك , وإنّ الله لم يُخلِ الأرض قط من عامل عليها بخير , أو دليل على سبيل نجاة ، وأنتم حجة الله على خلقه ، ووديعته في أرضه ؛ تفرعتم من زيتونة أحمدية هو أصلها وأنتم فرعها .
فاقدم سعدت بأسعد طائر ؛ فقد ذلّت لك أعناق بني تميم ، وتركتهم أشد تتابعاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها وكظها ، وقد ذلّت لك رقاب بني سعد ، وغسلت درن صدورهم بماء سحابة مزن حين استهل برقها فلمع(52) .
فلما قرأ الإمام الحسين (عليه السّلام) الكتاب سُرّ سروراً عظيماً , وقال : (( آمنك الله يوم الخوف ، وأعزّك وأرواك يوم العطش )) .
أمّا المنذر بن جارود فإنه جاء بالكتاب وبالرسول إلى عبيد الله بن زياد ؛ لأن المنذر خشي أن يكون الكتاب دسيساً من عبيد الله .
تصميم الإمام الحسين (عليه السّلام) على الخروج إلى العراق
لما وصلت كتب أهل الكوفة مع رسلهم , وكتاب يزيد بن مسعود من البصرة ، أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل لأخذ البيعة من القوم ، فلما جاءه كتاب مسلم صمّم الإمام (عليه السّلام) على المسير إلى العراق ؛ لأنه كان قد وعد أهل العراق بالقدوم
إليهم إن هم بايعوا رسوله مسلم بن عقيل ، وما الذي يمنع من مسيرته طالما أنّ أهل الكوفة قد أعطوه البيعة ، وطالما أنّ له طائفة كبيرة من الأنصار والمؤيدين في البصرة ؛ فالكوفة والبصرة عملياً هما العراق في تلك الأيام .
من مكّة إلى العراق
مكث الإمام الحسين (عليه السّلام) في مكّة أربعة أشهر استطاع خلالها أن يبسط قضيته العادلة أمام الخاصة والعامة من سكان مكّة ومن حولها ، وأن يقيم الحجة عليهم ، وشهد أهل مكّة ومَن حولها على أنفسهم من حيث لا يشعرون ، وخلال هذه الفترة التقى الإمام الحسين (عليه السّلام) مع زوار بيت الله الحرام من معتمرين وحجاج ، فأحاطهم علماً بواقعه وطموحاته الشرعيّة وحاجته منهم .
واستجاب الإمام (عليه السّلام) لمنطق الاُمور ؛ فطاف وسعى ، وأحل إحرامه وجعل حجه عمرة ؛ لأنه لم يتمكّن من إتمام الحج مخافة أن يُقبض عليه(53) .
وبعد ذلك جمع الإمام أهل بيته وأصحابه , وخطب فيهم قائلاً : (( الحمد لله , ما شاء الله ، ولا قوة إلاّ بالله ، وصلّى الله على رسوله . خُطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، ما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخُيّر لي مصرع أنا لاقيه ، كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات ... لا محيص عن يوم خُط بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويوفّينا أجر الصابرين ... ))(54) .
وبعد ذلك أمر أهله وأصحابه بالاستعداد للمسير إلى العراق حسب القراءة الموضوعية ؛ فإنّ الإمام (عليه السّلام) سيقدم على جند مجندة له ، وإنّ أكثريّة أهل العراق معه ، وحسب هذا الظاهر فما كان ينبغي للإمام أن يكون بهذه الحالة من التشاؤم ؛ فهو يركز تركيزاً عجيباً على فكرة الموت ، وحتمية الموت ، وأنه قدرٌ خُط بالقلم .
ويبدي آلام حنينه وأشواقه إلى لقاء الخالدين من أسلافه ، بل وأبعد من ذلك فإنه يضع لقطة فنّية أمام مستمعيه , فيصوّر نفسه مقتولاً ، ويتصور الذئاب تتسابق إلى جثمانه الطاهر فتقطّعه لتطعم صغارها والجياع من عائلتها .
ويتبرم الإمام من الحياة , ويخرج بقناعة ويقين أنّ الموت خير من الحياة ؛ فالإمام يتعامل مع خطين :
1 ـ خط الظاهر الذي يعرفه الناس كلهم . ففي هذا الخط خطة من العناية والسعي ، وكأنه الخط الوحيد .
2 ـ وخط الحقيقة والباطن , ويمثّل مآلات الاُمور ، ومنتهيات حركات المخلوقات , إنه يرى بعين البصر والبصيرة ، وينبئ بوقوع الحوادث قبل وقوعها ، فتأتي الحادثات في ما بعد بالصورة والكيفية التي أخبر بها الإمام (عليه السّلام) .
إنه يتحدث عن اُمور لم تقع أو ستقع بعد سنين بالثقة واليقين الذي يتحدث به عن اُمور وقعت قبل دقيقة , إنه بفضل الله ومنّته سابق لحركة الموجودات ، ومحيط بمآلاتها تماماً ؛ فبالوقت الذي كان فيه أصحابه سعداء برسل الكوفة وكتبها , وبأخبار بني تميم وبني سعد وبني مرة في البصرة ، أثار مسألة الموت ، وصوّر أدق اُمور