الأستاذ جواد جميل
آه يا ليلـةَ الاسـى والدمــوع * اطفئي فـي دم الطفوف شموعي
ودعيني أعيش في ظلمة الحزن * فعمـري شمسٌ بغيـرِ طلـوع
وانثري في عيوني الجمرَ وقاداً * وخلـي اللهيـبَ بيـن ضلوعي
وأمسحي بالسواد لـونَ وجودي * فلقـد كفّـن الـرمـادُ ربيعـي
الشيخ مهدي المصلي
ليلةٌ أسهـرت عيـون الليـالـي * لتُـرينــا عـزائـمَ الأبطـالِ
وتُرينا الشمـوسَ تفتـرسُ الليـ * ـلَ لتمحو عصرَ الليالي الطوالِ
وتُرينا الإنسانَ يسمو على النجـ * ـمِ منـاراً ورجلُـهُ في الـرمالِ
الأستاذ جاسم الصحيّح
يـا ليلةً كسـتَ الـزمانَ بغـابة * من روحهـا قمريـة الادغـال
ذكـراكِ ملحمـةٌ توشَّحَ سِفـرُها * بـروائع نُسجت مـنَ الاهوال
فهنا الحسين بخيطُ من أحلامـه * فجرينِ فجرَ هوىً و فجرَ نِضال
الأستاذ يقين البصري
يا ليلة يامخاض الـدهر يـاحقباً * قدسيةً يـانضالاً مـورقاً ذهبـا
يا ليلة مـن عـذابات مطـرزة * بالكبرياء شطبت المحل والجدبا
الأستاذ فرات الأسدي
جنهم فـي الطـفِ ليلٌ وهـمُ * بالحسين الطهر قد جنّوا خبالا
فاشهـدي يا ليلة الضوء هوىً * نضراً يبتكـر الرؤيـا جمالا
السيد مدين الموسوي
يا ليلةً وقـفَ الزمـانُ بهـا * وجلاً يُدونُ أروع الصـور
وقف الحسين بها ومن معه * جبلاً وهم كجنادل الحجـر
الشيخ عبد الكريم آل زرع
أليلةَ عاشـوراءَ يـا حلكاً شَبَّـا * حنينك أدرى من نهارك ما خبّا
وما خبّأ الآتي صهاريج أدهـُرٍ * بساعاتِه قـد صبّ صاليَها صبّا
الشيخ علي الفرج
أنت يـا ليلة انخسـاف المرايـا * في وجـوه السنيـن والأحقـاب
غُرست فيك آهتـي واحتضاري * ونمت فيك صـرختي واغترابي
الحسين (عليه السلام) يخطب في اصحابه
ويأذن لهم بالتفرّق عنه
روي عن الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) قال : جمع الحسين (عليه السلام) اصحابه بعدما رجع عمر بن سعد وذلك عند قُرب المساء قال : فدنوت منه لاسمع وأنا مريض فسمعتُ أبي وهو يقول لاصحابه : أُثني على الله تبارك وتعالى أحسنَ الثناء وأحمدَهُ على السّراء والضراء أللهم اني أحَمَدُك على أن أكرمتنا بالنبوّة وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً فاجعلنا من الشاكرين.
أما بعد فإني لا أعلمُ أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرَّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكُم الله عني جميعاً خيراً ألا وإني أظنُ يوَمنا من هؤلاءِ الاعداءِ غداً إلاّ واني قد أذنتُ لكم فانطلقِوا جميعاً في حل ليس عليكم حَرجٌ منّي ولا ذمام هذا الّليلُ قد غشيّكم فاتّخذوه جَمَلا وليأخُذ كلُ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرّقوا في سَوادِكم ومدائنكم حتى يُفرجَ الله فإنَّ القومَ إنما يطلبوني ولو قد أصابوني لَهوا عن طلب غيري.
جواب بني هاشم والانصار للحسين (عليه السلام)
فقال له إخوتُه وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبدالله بن جعفر : لِم نفعل ؟ لنبقى بعدَكَ! لا أرانا الله ذلك أبداً بدأهم بهذا القولِ العباسُ بن علي (عليه السلام) ثم إنهم تكلموا بهذا أو نحوه....
وفي رواية أخرى : فقام اليه العباس بن علي أخوه عليهما السلام وعلي ابنه وبنو عقيل فقالوا له : معاذ الله والشهر الحرام فماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم إنا تركنا سيدنا وابن سيدنا وعمادنا وتركناه غرضاً للنبل ودريئةً للرماح وجزراً للسباع وفررنا عنه رغبةً في الحياة معاذ الله بل نحيا بحياتك ونموت معك !! فبكى وبكوا عليه وجزاهم خيراً
فقال الحسين (عليه السلام) : يا بني عَقيل حَسبُكم من القتلِ بمسلِم اذهبوا قد أذِنتُ لكم !.
قالوا : فما يقولُ الناس ؟ يقولون : أَنا تركنا شَيخَنا وسيدَنا وبني عمومتِنا خيرَ الاعمام ولم نرْم معَهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيف ولا ندري ما صنعوا ! لا والله لا نفعل ولكن تفديك أنَفسُنا وأموالنُا وأهلونا ونقاتلُ معك حتى نردَ مورِدَك فقبحَ اللهُ العيشَ بعدَك !.
فقام إليه مسلمُ بنُ عوسجة الاسدي فقال : أنحنُ نخلي عنك ولمّا نعذر إلى الله في أداء حقِك ؟ أما واللهِ حتى أكسر في صدورِهمْ رمحي وأضربَهمْ بسيفي ما ثبت قائمُه في يدي ولا أُفارقُكَ ولو لم يكنْ معي سلاح أقاتُلهم به لَقذفتُهم بالحجارة دونَك حتى أموت معك.
وقال سعد بن عبد الله الحنفي : واللهِ لا نخليكَ حتى يعلمَ اللهُ أنا قد حفظنا غَيبةَ رسول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فيك واللهَ لو علمتُ أني أقتلُ ثم أحيا ثم أحرقُ حيَّاً ثم اذرُّ يُفعلُ ذلك بي سبعين مرةً ما فارقتُك حتى ألقى حِمامي دونَك فكيف لا أفعل ذلكَ وإنما هي قتلةٌ واحدةٌ ثمَّ هيَ الكرامةُ التي لا انقضاء لها أبداً !.
ثم قام زُهير بن القين وقال : واللهِ لوددتُ أني قُتلتُ ثم نُشرتُ ثم قُتلتُ حتى أقتلَ كذا ألف قتلة وأن اللهَ يدفعُ بذلكَ القتلَ عن نفسِك وعن أنفُس هؤلاءِ الفتيةِ من أهل بيتك !.
وتكلم جماعةُ أصحابهِ بكلام يشبهُ بعضه في وجه واحد فقالوا : واللهِ لا نُفارِقُكَ ولكن أنفُسنا لكَ الفداء ! نَقيكَ بنحورِنا وجباهِنا وأيدينا فإذا نحنُ قُتِلنا كُنا وفَينا وقضينا ما علينا .
الحسين (عليه السلام) يأذن للحضرمي بالانصراف لفكاك ولده وقيلَ لمحمّدِ بن بشر الحضرمي في تلكَ الحال : قد أُسرَ ابنُك بثغر الرّي فقال : عندَ اللهِ احتسبه ونفسي ما كُنتُ اُحب أَن يُؤسرَ وأن أبقى بعده !
فَسمِعَ الحسين (عليه السلام) قولَه فقال : رَحِمكَ اللهُ أنت في حل من بيعتي فاعملْ في فكاكِ ابنِك ؟!
فقال : أكلتني السّباعُ حيّاً إ نْ فارقتُكَ !
قال : فاعطِ ابنَكَ هذهِ الاثواب البُرُود يستعينُ بها في فداء أخيهِ فأعطاه خَمسةَ أثوابَ قيمتُها ألف دينار .
ولله درّ السيد رضا الهندي ـ عليه الرحمة ـ إذ يقول في هذه الصفوة الانجاب :
صيداً إذا شبّ الهياج وشابت الـ * ارض الـدما والطفل رعباً شابـا
ركزوا قناهـم في صدور عداتهم * ولبيضهم جعلـوا الـرقاب قرابـا
تجلو وجوههم دجـى النقع الذي * يكسـو بظلمتـه ذكـاء نقـابــا
وتنادبـت للذب عنـه عصبـة * ورثـوا المعـالي أشيباً وشبابــا
مـن ينتدبهم للكريـهة ينـتدب * منهـم ضراغمة الاسود غضابـا
خفوا لداعي الحرب حين دعاهم * ورسوا بعرصة كربلاء هضابـا
أسدٌ قد اتخذوا الصـوارم حليـة * وتسربلوا حلق الـدروع ثيـابـا
تخذت عيونهم القساطل كحلهـا * وأكفّهم فيض النحـور خضابـا
يتمايلـون كأنمـا غنـى لـهم * وقـع الضبـا وسقاهُمُ أكـوابـا
بـرقت سيوفهم فـأمطرت الطلا * بدمائهـا والنقـعُ ثـار سحـابا
وكـأنهـم مـستقبلون كواعبـاً * مستقبلـيـن أسنـةً وكعــابـا
وجدوا الردى من دون آل محمد * عذبـاً وبعدهـم الحيـاة عذابـا
ودعاهـم داعي القضـاء وكلُهُم * ندبٌ إذا الداعي دعاه أجـابا
الامام الحسين (عليه السلام) لا يأذن بالشهاده لمن كان عليه دين :
روي عن موسى بن عمير عن أبيه قال : أمرني الحسين بن علي (عليه السلام) قال : نادِ أَنْ لا يُقتل معي رجلٌ عليه دَينٌ وناد ِبها في الموالي فإنّي سمعتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) يقول : من مات وعليه دين اُخذ من حسناته يومَ القيامة
و بمضون آخر وردت أيضاً عن موسى بن عمير الانصاري عن أبيه قال : أمرني حسين بن علي عليهما السلام فقال : نادِ في الناس أنْ لا يقاتلِنَّ معي رجلٌ عليه دينٌ فإنَّهُ ليس من رجُل يموتُ و عليه دينٌ لا يَدعُ له وفاءً إلا دخلَ النَّار !!
فقام إليه رجلٌ فقالَ : إنَّ امرأتي تكفّلت عنّي ؟
فقال : و ما كفالَةُ امرأة و هل تقضي امراةٌ .
وذكرها الذهبي أيضاً : عن الثوري عن أبي الجحَّاف عن أبيه : أن رجلاً قال للحسين (عليه السلام) : إنَّ عليَّ ديناً.
قال (عليه السلام) : لا يُقاتلُ معي مَنْ عليه دين
سكينة تصف ليلة العاشر
روي مؤلف كتاب نور العيون بإسناده عن سكينةَ بنت الحسين (عليه السلام) أنها قالت : كُنتُ جالسةً في ليلة مقمّرة وسط الخيمة وإذا أنا أسمع من خلفها بكاءً وعويلاً فخشيت أن يفقه بي النساء فخرجت أعثر بأذيالي وإذا بأبي (عليه السلام) جالس وحوله أصحابه وهو يبكي وسمعته يقول لهم : أعلموا أنّكم خرجتم معي لعلمكم أنّي أقدم على قوم بايعوني بألسنتهم وقلوبهم وقد إنعكس الأمر لأنهم استحوذ عليم الشيطان فأنساهم ذكر الله والآن ليس لهم مقصدٌ إلاّ قتلي وقتل من يجاهد بين يدي وسبي حرمي بعد سلبهم وأخشى أنّكُم ما تعلمون وتستحون والخدع عندنا أهل البيت محرّم فمن كره منكم ذلك فلينصرف فإنّ الليل ستير والسبيل غير خطير والوقت ليس بهجير ومَنْ واسانا بنفسه كان معنا غداً في الجنان نجيّاً من غضب الرحمن وقد قال جدّي محمد (صلى الله عليه وآله) : ولدي الحسين يُقتل بأرض كربلاء غريباً وحيداً عطشاناً فريداً فمن نصره فقد نصرني ونصر ولده القائم ـ عجل الله فرجه ـ ولو نصرنا بلسانه فهو في حزبنا يوم القيامة.
قالت سكينة : فو الله ما أتمّ كلامه إلاّ وتفرق القوم من عشرة وعشرين فلم يبق معه إلا واحد وسبعون رجلاً فنظرت إلى أبي منكساً رأسه فخنقتني العبرة فخشيت أن يسمعني ورفعت طرفي إلى السماء وقلت : اللهم انّهم خذلونا فاخذلهم ولا تعجل لهم دعاءً مسموعاً وسلط عليهم الفقر ولا ترزقهم شفاعة جدّي يوم القيامة ورجعت ودموعي تجري على خدي فرأتني عمتي أم كلثوم فقالت : ما دهاك يابنتاه فأخبرتها الخبر فصاحت واجدّاه واعليّاه واحسناه واحسيناه واقلّة ناصراه أين الخلاص من الأعداء ليتهم يقنعون بالفداء تركت جوار جدّك وسلكت بنا بُعدَ المدى فعلا منّا البكاء والنحيب.
فسمع أبي ذلك فأتى إلينا يعثر في أذياله ودموعه تجري وقال : ما هذا البكاء ؟
فقالت : يا أخي ردّنا إلى حرم جدّنا فقال : يا اختاه ليس لي إلى ذلك سبيل قالت : أجل ذكرهم محل جدّك وأبيك وأمك وأخيك قال : ذكّرتهم فلم يذكّروا ووعظتهم فلم يتعظوا ولم يسمعوا قولي فما لهم غير قتلي سبيل ولا بدّ أن تروني على الثّرى جديلاً ولكن أوصيكنّ بتقوى الله ربّ البريه والصبر على البلية وكظم نزول الرزيّة وبهذا أوعد جدّكم ولا خلف لما أوعد ودّعتكم إلهي الفرد الصمد ثم تباكينا ساعة والإمام (عليه السلام) يقول : {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] .
الامام الحسين (عليه السلام) يُخبر أصحابَه بالشهادة :
روى عن أبي حمزة الثمالي ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام يقول : لمّا كان اليوم الذي اُستشهد فيه أبي (عليه السلام) جمعَ اهله واصحابه في ليلة ذلك اليوم فقال لهم : ياأهلي وشيعتي اتخذوا هذا الليل جملاً لكم وانجو بإنفسكم فليس المطلوب غيري ولو قتلوني ما فكروا فيكم فانجوا رحمكم الله فأنتم في حلٍّ وسعة من بيعتي وعهدي الذي عاهدتموني
فقال إخوته وأهله وأنصاره بلسان واحد : والله يا سيدنا يا أبا عبدالله لا خذلناك ابدا والله لا قال الناس : تركوا إمامهم وكبيرهم وسيدهم وحده حتى قُتل ونبلو بيننا وبين الله عُذراً ولا نخليك أو نُقتل دونك !!
فقال لهم : ياقوم إني في غَد اُقتلُ وتُقتَلون كُلكُم معي ولا يَبقى مِنكم واحدٌ فقالوا : الحمدُ للهِ الذي أكرمَنا بنصرِكَ وشرّفَنَا بالقتل معك أولا ترضى أن نكون معكَ في درجتِكَ يا ابن رَسولِ اللهِ ؟
فقال (عليه السلام) جزاكم الله خيراً ! ودعا لهم بخير ـ فأصبح وقُتل وقُتلوا معه اجمعون ـ .
فقال له القاسم بن الحسن (عليه السلام) : وأنا فيمن يُقتل ؟ فأشفق عليه فقال له : يا بُني كيف الموت عندك ؟ قال : يا عم فيك أحلى مِنَ العسل فقال : إي واللهِ فداك عَمُكَ إنك لاحد من يُقتل من الرجال معي بعد أن تبلو ببلاء عظيم ويُقتل ابني عبدالله.
فقال : يا عم ويصلون إلى النساء حتى يُقتل عبدالله وهو رضيع ؟ فقال : فداك عمك ( يُقتل ابني عبدالله إذا جفت روحه عطشاً وصرت إلى خيمنا فطلبتُ له ماءً ولبناً فلا أجد قط فأقول : ناولوني ابني لاُشربه مِنْ فيَّ ) فيأتوني به فيضعونه على يديَّ فأحمله لاُدنيه من فيَّ فيرميه فاسق بسهم فينحره وهو يناغي فيفيض دمه في كفي فأرفعه إلى السماء وأقول : اللهم صبراً واحتساباً فيك فتعجلني الاسنة منهم والنار تسعر في الخندق الذي في ظهر الخيم فأكرُّ عليهم في أمرّ أوقات في الدنيا فيكونُ ما يُريد الله فبكى وبكينا وارتفع البكاءُ والصُراخ من ذراري رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الخيم.
ويسألني زهير بن القين وحبيب بن مظاهر عن علي فيقولون : يا سيدّنا فسيدّنا علي ؟ فيشيرون اليَّ ماذا يكون من حاله ؟
ـ فيقول مستعبراً ـ : ما كان الله ليقطع نسلي من الدنيا فكيف يصلون إليه وهو أبُ ثمانية أئمة
وفتية من بني عدنان ما نظـرت * عين الغــزالة أعلى منهمُ حسبـا
اكفُهم يخصبُ المرعى الجديب بها * وفي وجوههم تستمطــر السُحبـا
أكرم بهـم من مصاليت وليـدهمُ * بغير ضرب الصلى بالبيض ما طربا
الامام الحسين (عليه السلام) يُري أصحابَه منازلهم في الجنة:
وروي أنَّ الحسين (عليه السلام) كشفَ لاصحابه عن أبصارهم فرأوا ما حباهمُ اللهُ من نعيم وعرَّفَهم منازلَهم فيها وليس ذلك في القدرةِ الالهيةِ بعزيز ولا في تصرفاتِ الامام بغريب فإنَّ سحرةَ فرعون لمّا آمنوا بموسى (عليه السلام) وأراد فرعون قتْلَهم أراهم النبيُ موسى (عليه السلام) منازلَهم في الجنة .
قال شاعر اهل البيت الفرطوسي ـ عليه الرحمة ـ :
وأراهم وقد رأى الصدقَ منهم * في الموالاة بعد كشف الغطاءِ
مالهم من منازل قد اُعــدت * في جنان الخلود يوم الجـزاءِ
ولعمري وليـس ذا بعسيــر * أو غريب من سيد الشّهــداءِ
فلقد أطلـعَ الكليــمُ عليهــا * منهم كـلَّ ساحـر بجــلاءِ
حينما آمنـوا بما جـاءَ فيـه * عندَ إبطال سحرِهم والريـاءِ
بعد خوف من آلِ فرعونَ مرد * لهم منـذر بسـوءِ البــلاءِ
فـأراهم منـازلَ الخيرِ زلفىً * وثواباً في جنـةِ الاتقيــاءِ
لازدياد الـيقين بـالحق فـيهم * بعد دحض للشك والافتــراءِ
وثَباتاً منهم على الدين فيمــا * شاهدوه من عالم الارتقاءِ
وروي عن سعد بن عبدالله عن احمد بن محمد ابن عيسى عن الاهوازي عن النضر بن سويد عن عاصم بن حميد عن ابي حمزة الثمالي قال : علي بن الحسين (عليه السلام) كنت مع أبي في الليلة التي قُتل في صبيحتها فقال (عليه السلام) لاصحابه هذا الليل فاتّخذوه جملاً فإنَّ القوم إنما يريدونني ولو قتلوني لم يلتفتوا اليكم وانتم في حل وسعة.
فقالوا : والله لا يكون هذا ابداً ! قال : إنكم تُقتلون غداً ( كُلّكُم ) ولا يفلت منكم رجُل قالوا الحمد لله الذي شرفّنا بالقتل معك ثم دعا وقال لهم : ارفعوا رؤوسَكم وانظروا فَجعلوا يَنظرون إلى مواضعِهم ومنازلِهم من الجنة وَهو يقولُ لهم : هذا منزِلُكَ يا فلان وهذا قصرُك يافلان وهذه درجتك يافلان فكان الرجلُ يَستقبلُ الرّماحَ والسيوفَ بصدرِه وَوجهِه ليصلَ إلى مَنزِلِه مِنَ الجنة .
وَفي حديثِ أبي جعفر الباقر (عليه السلام) إن الحسينَ (عليه السلام) قال لاصحابهِ : ابشروا بالجنةِ فواللهِ إنّا نَمكثُ مَا شاء اللهُ بعدَ مَا يجري عَلينا ثم يُخرجُنا اللهُ وإياكم حتى يَظهر قَائمُنا فَينتقمَ من الظالمينَ وأنا وأنتم نُشاهِدهم في السلاسل والاغلال وأنواع العذاب !!
فَقيلَ له : مَنْ قائمُكُم يا ابن رسولِ الله؟
قال : السابع مِن وِلدِ ابني محمد بن علي ِّ الباقر وهو الحجةُ ابنُ الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي ابني وهو الذي يَغيبُ مدةً طويلةً ثم يظهرُ وَيملاُ الارضَ قسطاً وَعدلاً كما مُلئت ظلماً وَجوراً .
وروى الصدوق ـ عليه الرحمة ـ في علة إقدام أصحاب الحسين (عليه السلام) على القتل قال : حدثنا محمد بن ابراهيم بن اسحاق رضي الله عنه قال : حدثنا عبدالعزيز بن يحيى الجلودي قال حدثنا محمد بن زكريا الجوهري قال : حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قلت له : أخبرني عن أصحابِ الحسين (عليه السلام) وإقدامِهم على الموتِ فقال : إنَّهم كُشفَ لَهم الغطاء حتى رَأوا منازلَهم من الجنةِ فكانَ الرجلُ منهم يَقدمُ على القتلِ لِيُبادرَ إلى حَوراءَ يُعانِقُها وإلى مكانِه مِن الجنة .
وجاء في زيارة الناحية المقدسة : أشْهدُ لَقدْ كَشفَ اللهُ لكمُ الغِطاء وَمَهّد لكُمُ الوطاء وأجزل لكم العطاء وكُنْتُمْ عن الحقِّ غَيرَ بطاء وأنتُم لنا فُرطاء ونحنُ لكُم خُلطاءُ في دارِ البقاء والسلام عليكُمْ ورحمةُ اللهِ وبركاته
ولقد أجاد من قال فيهم (صلى الله عليه وآله) :
وذووا المروة والوفا أنصـارُه * لهم على الجيش اللئامِ زئيـرُ
طهرت نفوسهم لطيب اُصولها * فعناصرٌ طابت لهم وحجـورُ
فتمثّلت لهم القصورُ وما بهِـم * لولا تمثّلت القصورُ قصـورُ
ما شاقَهم للموت إلاّ دَعْــوَة * الرحمن لا ولدانُها والحورُ
وقال الاخر :
وفتية من رجال الله قد صبـروا * على الجلاد وعانوا كلَّ محـذورِ
حتّى تراءت لهم عـدن بزينتهـا * مآتماً كُنَّ عُرس الخُرَّد الحورِ
وقال آخرٌ أيضاً :
وبيتوه وقد ضـاق الفسيــحُ بـه * منهم على موعد من دونه العطـلُ
حتى إذا الحرب فيهم من غد كشفت * عن ساقها وذكى من وقد ما شعلُ
تبـادرت فتيـةٌ من دونه غــررٌ * شمّ العرانين ما مالوا ولا نكلـوا
كأنّما يجتنــى حلـواً لانفسهــم * دون المنون من العسّالـة العسـلُ
تراءت الحور في أعلى القصور لهم * كشفاً فهان عليهم فيه ما بذلـوا
الامام الحسين (عليه السلام) يعظ أصحابه ويبشّرهم:
جاء في تفسير الامام العسكري (عليه السلام) في قوله عزوجل : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] قال (عليه السلام) : ولمّا امتحن الحسين (عليه السلام) ومن معه بالعسكر الذين قتلوه ،وحملوا رأسه قال لعسكره : أنتم من بيعتي في حل فالحقوا بعشائركُم ومواليكم.
وقال : لاهل بيته قد جعلتكم في حلٍّ من مفارقتي فإنَّكمْ لا تُطيقونهم لتضاعف اعدادهم وقواهُمْ وما المقصود غيري فدعوني والقوم فإنَّ اللهَ ـ عزّوجلّ ـ يُعينُني ولا يُخليني من حُسني نظرهِ كعاداته في اسلافنا الطَّيبين.
فأمّا عسكره ففارقوه وأما أهله الادنون من أقربائه فأبوا !! وقالوا : لا نفارقك ويحلُّ بنا ما يحلُّ بك ويحزننا ما يحزنك ويصيبنا ما يصيبك وإنّا أقرب ما نكونُ إلى الله إذا كنا معك.
فقال لهم : فإنْ كُنتم قد وطنتم أنفسكم على ما وطَّنت نفسي عليه فاعلموا أنَّ الله إنّما يهبُ المنازل الشريفة لعباده (لصبرهم) باحتمال المكارة وأنَّ الله وإنْ كان خَصَّني مع مَنْ مضى مِنْ أهلي الَّذينَ أنا آخرُهُم بقاءً في الدُّنيا من الكرامات بما يَسهل عليَّ معها احتمال الكريهات فإنَّ لكم شطرُ ذلك من كرامات الله تعالى واعلموا أن الدنيا حُلوها ومرها حُلمٌ والانتباه في الاخرة والفائز من فاز فيها والشقيُّ مَنْ شقي فيها.
أولا اُحدثكم بأول أمرنا وأمركم معاشرَ أوليائنا ومحبينا والمعتصمينَ بنا ليسهل عليكم احتمال ما أنتم له معرضون ؟
قالوا بلى يا ابن رسول الله
قال : إنَّ الله تعالى لمّا خلقَ آدم وسوّاهُ وعلَّمَه أسماء كلَّ شيء وعرضهم على الملائكة جعل محمداً وعلياً وفاطمةَ والحسنَ والحسينَ عليهم السلام أشباحاً خمسةً في ظهرِ آدم وكانت أنوارُهم تُضيءُ في الافاق من السماوات والحُجب والجنان والكرسيّ والعرش فأمر الله تعالى الملائكة بالسجود لادم تعظيماً له إنَّه قد فضّله
بأن جعله وعاء لتلك الأشباح التي قد عم أنوارها في الآفاق فسدوا إلا إبليس ابى أن يتواضع لجلال عظمة الله وأن يتواضع لأنوارنا أهل البيت وقد تواضعت لها الملائكة كلها واستكبر وترفع وكان باءبائه ذلك وتكبره من الكافرين .
ومن جملة البشارات التي بشر بها الحسين (عليه السلام) اصحابه عليهم السلام هو مارواه القطب الراوندي عن أبي سعيد سهل بن زياد عن الحسن بن محبوب عن أبن فضيل عن سعد الجلاّب عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قال الحسين بن علي عليهما السلام لاصحابه قبل أن يُقتل : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : يا بُنيَّ إنك ستساقُ إلى العراق وهي أرضٌ قد التقى بها النبيّون وأوصياء النبيّين وهي أرضٌ تدعى ( عموراء ) وإنك تستشهد بها ويستشهد معك جماعةٌ من أصحابك لا يجدون ألم مس الحديد وتلا : {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] تكونُ الحرب عليك وعليهم برداً وسلاماً فابشروا فو الله لئن قتلونا فإنَّا نرد على نبيّنا
الحسين (عليه السلام) يعالج سيفه ووصيته لاُخته زينب ( عليها السلام ):
رويَّ عن عليِ بنِ الحسينِ بن علي (عليه السلام) قال : إني جالسٌ في تلكَ العشيّةِ التي قُتل أبي صَبيحتَها وَعمتي زينبُ عندِي تُمرضُني إذ اعتزلَ أبي بأصحابِه في خَباء له وَعندَه حُوَىّ مَولى أبي ذر الغُفاري وَهو يُعالجُ سَيفَه ويُصلِحُهُ وأبي يقولُ :
يَا دهرُ أفٍّ لكَ مِنْ خَليـلِ * كَمْ لكَ بالاشراقِ وَالاصيلِ
مِنْ صَاحب أو طالب قَتيلِ * وَالدهرُ لا يَقنعُ بالبديــلِ
وإنَّمَا الامرُ إلى الجليــلِ * وَكلُّ حيٍّ سَالـكُ السبيـلِ
قال : فأعادها مرتين أو ثلاثاً حتى فَهِمتُها فَعرَفتُ مَا أرادَ فَخنقَتني عَبرتي فرددّتُ دَمعي ولزمتُ السكون فَعلمتُ أنَ البلاءَ قد نزلَ فأمّا عمَّتي فإنها سَمِعت ما سمعتُ وهي امرأةٌ وَفي السماءِ الرقَّةُ والجزعُ فَلم تملك نفسَها أن وَثبت تَجرُّ ثوبَها وَإنها لحاسرةٌ حتى انتهت إليه فقالت : واثكلاه لَيتَ الموتَ أعدمني الحياة اليومَ ماتتْ فاطمةُ أمّي وعليٌّ أبي وحسنٌ أخي يا خليفةَ الماضي وثمال الباقي .
قال : فَنظَر إليها الحسين (عليه السلام) فقال : يا أُخيّةُ لا يُذهبنَّ حلمَكِ الشيطانُ قالت : بأبي أنتَ وأمي يا أبا عبدالله استقتلتَ نَفسي فداكَ.
قالت أتُقتل نصبَ عيني جهرة * ما الرأي فيَّ وما لديَّ خفيـرُ
فأجابها قلّ الفدا كثُــر العدى * قَصُرَ المدى وسبيلنا محصور
فَردَّ غُصّتَهُ وَترقرقتْ عَيناهُ وَقالَ : لو تُركَ القطا ليلاً لنام قالت : يَاويلتي أفتَغصِبُ نفسَكَ اغتصاباً ؟ فذلكَ أقرحُ لِقلبي وأشدُّ على نَفسي وَلطمَتْ وَجهَهَا وأهوتْ إلى جَيبِها وشقتهُ وَخرّت مَغشياً عليها.
فقام إليها الحسين (عليه السلام) فصبَّ على وَجهِهِا الماءَ وقال لها : يا أُخيَّة اتقّي اللهَ وَتعزّي بعزاءِ اللهِ واعلمي أنَّ أهل الارضِ يَموتون وأنَّ أهل السماءِ لا يبقونَ وأنَّ كلَ شيء هالكٌ إلا وجهَ اللهِ الذي خَلقَ الارضَ بقُدرتهِ وَيبعثَ الخلقَ فيعودونَ وَهو فردٌ وحدَه أبي خيرٌ مني وأمي خيرٌ مني وأخي خيرٌ مني وَلي وَلَهم ولكلِ مُسلم برسولِ اللهِ أسوةٌ.
قال : فعزّاها بهذا وَنحوهِ وقال لها : يا أُخيّة إني اُقسمُ عليكِ فأبرِّي قَسمي لا تشُقي عليَّ جَيباً وَلا تخمشي عليَّ وَجهاً وَلا تدعي عليَّ بالويلِ والثبورِ إذا أنا هلكت.
وفي رواية ثم قال (عليه السلام) : يا اُختاه يا اُمّ كلثوم وأنتِ يا زينب وأنتِ يا فاطمة وأنتِ يا رباب إذا أنا قُتلت فلا تشققنَ عليَّ جيباً ولا تخمشن عليَّ وجهاً ولا تقلن هجراً.
اٌخت يـا زينب اُوصيــك وصايــا فاسمعي * إنني في هــذه الارض مـُلاق مَصـرعي
فاصبري فالصبـرُ من خيم كــرامِ المتــرعِ * كلُ حيّ سينحيــه عن الاحيــاء حيـــن
في جليلِ الخطبِ يا أختُ اصبري الصبر الجميل * إن خيرَ الصبرِ ما كــان على الخطبِ الجليل
واتركي اللطمَ على الخــدِ وإعـلان العويــل * ثم لا أكــره سَقيَ العينِ ورد الوجنتيـــن
واجمعي شملَ اليتامى بعد فقــدي وانظمــي * واشبعي من جــاعَ منهم ثم اروي مَنْ ظُمي
واذكُــري انهــم في حفظهـم طُــل دمي * ليتني من بينهم كالانــف بيـن الحاجبيــن
قال : ثم جاء بها حتى أجلسَها عندي وَخرجَ إلى أصحابهِ فأمرَهم أن يُقرِّبوا بعض بيوتهم مِن بعض وأن يُدخِلوا الاطناب بعضها في بعض وأن يكونوا هُم بين البُيوت إلا الوجه الذي يأتيهم منهُ عدوّهُم .
من وصايا الامام الحسين عليه السلام :
قيل ومن جملة وصاياه (عليه السلام) والتي استأثرت باهتمام بالغ عنده وتدل على مدى حرصه الشديد في نشر أحكام الدين والشرع المبين مع ما هو فيه هو وصيته (عليه السلام) لاُخته زينب ( عليها السلام ) بأخذ الاحكام من الامام علي بن الحسين عليهما السلام وإلقائها إلى الشيعة ستراً عليه.
فقد جاء عن علي بن أحمد بن مهزيار عن محمد بن جعفر الاسدي عن احمد بن إبراهيم قال : دخلت على حكيمة بنت محمد بن علي الرضا اُخت أبي الحسن العسكري عليهم السلام في سنة اثنين وثمانين ( ومائتين ) بالمدينة فكلمتها من وراء الحجاب وسألتها عن دينها ؟ فَسمّت لي من تأتم به ثمَّ قالت : فلان بن الحسن (عليه السلام) فَسمتهُ.
فقلت لها : جعلني الله فداكِ معاينةً أو خبراً ؟ فقالت : خبراً عن أبي محمد (عليه السلام) كتب به إلى أمه فقلت لها : فأين المولود ؟ فقالت : مستور فقلت : فإلى مَنْ تفزع الشيعة ؟ فقالت : إلى الجدَّة أم أبي محمد عليه السلام
فقلت لها أقتدي بمَنْ وصيتُهُ إلى المرأة ؟!
فقالت : إقتداءً بالحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام إنَّ الحسين بن علي (عليه السلام) أوصى إلى اُخته زينب بنت علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الظاهر وكان ما يخرج عن علي بن الحسين من علم يُنسب إلى زينب بنت علي تَستّراً على علي بن الحسين (عليه السلام)
وفي هذا المعنى يقول الفرطوسي ـ عليه الرحمه ـ :
وهو أوصى إلى العقيلة جهـراً * ولزين العباد تحـت الخفــاء
فهي تعطي الاحكام للناس فتوىً * بعد أخذ من زينـة الاوليــاء
كلُّ هذا ستراً عليــه وحفظاً * لعليٍّ من أعيـُنِ الرُقبـاء
ولهذا قيل : أنه كان لزينب ( عليها السلام ) نيابة خاصة عن الحسين (عليه السلام) وكان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام حتى بريء زين العابدين (عليه السلام) من مرضه
الامام الحسين (عليه السلام) يتفقّد التلاع والعقبات وكلامه مع نافع بن هلال:
كان نافع ابن هلال من أخص أصحاب الامام الحسين (عليه السلام) به وأكثرهم ملازمة له سيما في مضان الاغتيال ـ وقيل أنه كان حازماً بصيراً بالسياسة ـ فلما رأى الحسين (عليه السلام) خَرجَ في جَوفِ الليلِ إلى خارج الخيامِ يَتفقدُ التلاعَ والعقباتِ تبعَهُ نافعُ فسألَه الحسينُ (عليه السلام) عما أخرجَهُ قال : يَابنَ رسولِ اللهِ أفزعني خُروجُكَ إلى جِهةِ مُعسكر هذا الطاغي.
فقال الحسينُ (عليه السلام) : إني خرجتُ أتفَقدُ التلاعَ وَالروآبي مخافةَ أن تكونَ مَكمَناً لِهجُومِ الخيل يِومَ تحملونَ ويَحملونَ ثُّم رجَع (عليه السلام) وَهو قَابضٌ على يدِ نافعَ وَيقولُ : هيَ هيَ واللهِ وَعدٌ لا خُلفَ فيه.
ثم قال لَه : ألا تَسلُك بَين هَذيَنِ الجبلَيِن في جَوفِ الليلِ وَتنجُو بنفسِك ؟ فَوقعَ نَافعُ على قَدميهِ يُقبلهُما ويقولُ : ثَكلتني أمي إن سَيفي بألف وَفرسي مثلُه فَو اللهِ الذي مَنَّ بِكَ عليَّ لا فارقتُكَ حتى يَكلا عن فَري وجري.
زينب ( عليها السلام ) تحدّث الحسين (عليه السلام) في استعلامه نيّات أصحابه:
ثُم دَخلَ الحسين (عليه السلام) خَيمةَ زينب وَوقفَ نافعٌ بإزاءِ الخيمةِ ينَتظرُه فَسمعَ زينبَ تقولُ لَهُ : هَل استعلمتَ مِنْ أصحابِكَ نياتِهم فإني أخشى أن يُسلموك عند الوثَبة.
فقال لها : واللهِ لقد بلوتُهم فما وجدتُ فيهم إلا الاشوسَ الاقعسَ يَستأنسونَ بالمنيةِ دوني استيناسَ الطفلِ إلى محالبِ أمه.
قال نافعُ : فلّما سمعتُ هذا منه بَكيتُ وأتيتُ حبيبَ بنَ مظاهر وَحكيتُ ما سمعتُ منه وَمن أُختهِ زينب.
قال حبيب : واللهِ لولا انتظارُ أمرهِ لعاجلتُهم بسيفي هذه الليلة.
قلت : إني خَلّفتُه عندَ أُختهِ وأظنُ النساءَ أفقنَ وَشاركنها في الحسرةِ فهل لكَ أن تجمعَ أصحابَك وَتواجهُوهُنَّ بِكلام يُطيّبُ قلوبَهُنَّ.
حبيب (عليه السلام) يخطب في الانصار ويُطيّب خواطر النساء:
فقام حبيب ونادى : يا أصحابَ الحميةِ وليوث الكريهةِ فتطالَعوا من مضاربهم كَالاسود الضاريةِ فقالَ لبني هاشم : ارجعوا إلى مقركم لا سهرتْ عُيونُكُمْ.
ثُّم التفتَ إلى أصحابه وحَكى لهم ما شَاهدَهُ وسمعَهُ نافعٌ فقالوا بأجمعِهِم : والله الذي مَنَّ عَلينا بهذا الموقفِ لولا انتظارُ أمره لعاجلناهم بسيوفِنا الساعة! فَطبْ نَفساً وَقرَّ عَيناً فجزاهُمْ خيراً.
وَقال : هَلموا معي لنواجه النسوةَ ونُطيبَ خَاطرَهُنَّ فجاءَ حبيبُ وَمعُه أصحابُه وَصاحَ : يا معشرَ حرائرِ رسولِ اللهِ هذه صوارمُ فتيانِكُمْ آلوا ألا يغمدوها إلا في رقابِ مَنْ يُريدُ السوء فيكُمْ وَهذهِ أسنة غلمانِكُمْ أقسَموا ألا يَركزوها إلا في صُدورِ مَنْ يُفرّق نَاديكم.
فَخرجن النساء إليهم ببكاء وعويل وَقلن أيها الطيبون حاموا عن بناتِ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وحرائرِ أمير المؤمنين (عليه السلام).
فضجّ القومُ بالبكاءِ حتى كأنَّ الارض تَميد بهم .
ولقد اجاد الصحيح اذ يقول في ذلك :
ووراءَ أروقة الخيام حكايـة * اخرى تتيه طيوفها بجمال
فهنالك الاسدي يبدع صورة * لفدائه حوريـةَ الاشكــال
ويحاول استنفار شيمة نخبة * زرعوا الفلاة رجولة ومعالي
نادى بهم والمجد يشهد أنـه * نادى بأعظم فاتحين رجـال
فاذا الفضاء مدجّج بصوارم * واذا التراب ملغمٌ بعوالــي
ومشى بهم أسداً يقود وراءه * نحو الخلود كتيبة الاشبـال
حتى إذا خدرُ العقيلـة أجهشت * استارُه في مسمع الابطـال
القى السـلام فما تبقّت نبضة * في قلبه لم ترتعشْ بجـلال
ومذ التقته مع الكآبـة زينـب * مخنوقة من همّهـا بحبـال
قطع استدارة دمعة في خدهـا * وأراق خاطرها من البلبـال
وتفجر الفرسان بالعهد الـذي * ينساب حول رقابهـم بدلال
قرِّي فؤاداً يا عقيلة واحفظـي * هذي الدموع فانهنَّ غوالـي
عهد زرعنا في السيوف بذوره * وسقته ديمة جرحنا الهطـال
زينب ( عليها السلام ) تتفقّد خيمة الحسين والعبّاس ( عليهما السلام ):
روي عن فخر المخدّرات زينب ( عليها السلام ) قالت : لما كانت ليلة عاشوراء من المحرم خرجتُ من خيمتي لاتفقّد أخي الحسين (عليه السلام) وأنصاره وقد أفرد له خيمة فوجدته جالساً وحده يُناجي ربّه ويتلو القرآن فقلت في نفسي : أفي مثل هذه الليلة يُترك أخي وحده والله لامضين إلى إخوتي وبني عمومتي واُعاتبهم بذلك فأتيت إلى خيمة العبّاس فسمعت منها همهمة ودمدمة فوقفت على ظهرها فنظرت فيها فوجدت بني عمومتي وإخوتي وأولاد إخوتي مجتمعين كالحلقة وبينهم العباس بن أمير المؤمنين ( عليهما السلام ) وهو جاث على رُكبتيه كالاسد على فريسته.
العباس يخطب في بني هاشم ويحرِّضهم على القتال قبل الانصار
فخطب فيهم خطبة ما سمعتها إلاّ من الحسين (عليه السلام) مشتملة بالحمد والثناء لله والصلاة والسلام على النبي (صلى الله عليه وآله).
ثم قال في آخر خطبته : يا إخوتي وبني إخوتي وبني عمومتي إذا كان الصباح فما تقولون ؟
فقالوا : الامر إليك يرجع ونحن لا نتعدى لك قولك.
فقال العبّاس (عليه السلام) : إن هؤلاء أعني الاصحاب قوم غرباء والحمل الثقيل لا يقوم إلاّ بأهله فإذا كان الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم نحن نقدمهم للموت لئلا يقول الناس قدّموا أصحابهم فلما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة فقامت بنو هاشم وسلّوا سيوفهم في وجه أخي العباس وقالوا : نحن على ما أنت عليه !
قالت زينب ( عليها السلام ) : فلما رأيت كثرة اجتماعهم وشدّة عزمهم وإظهار شيمتهم سكن قلبي وفرحت ولكن خنقتني العبرة.
حبيب يحاور الانصار ويحرّضهم على القتال قبل بني هاشم :
فأردت أن أرجع إلى أخي الحسين (عليه السلام) وأخبره بذلك فسمعت من خيمة حبيب بن مظاهر همهمة ودمدمة فمضيت إليها ووقفت بظهرها ونظرت فيها فوجدت الاصحاب على نحو بني هاشم مجتمعين كالحلقة وبينهم حبيب بن مظاهر وهو يقول : يا أصحابي لِمَ جئتم إلى هذا المكان أوضحوا كلامكم رحمكم الله فقالوا : أتينا لننصر غريب فاطمة ( عليها السلام )!
فقال لهم : لم طلقتم حلائلكم ؟ فقالوا : لذلك !
قال حبيب : فإذا كان في الصباح فما أنتم قائلون ؟
فقالوا : الرأي رأيك ولا نتعدى قولاً لك.
قال : فإذا صار الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم نحن نقدمهم للقتال ولا نرى هاشمياً مضرجاً بدمه وفينا عرق يضرب لئلا يقول الناس : قدَّموا ساداتهم للقتال وبخلوا عليهم بأنفسهم.
فهزَّوا سيوفهم ( في ) وجهه وقالوا : نحن على ما أنت عليه.
زينب تتعجب من موقف بني هاشم والانصار .
قالت زينب : ففرحتُ من ثباتهم ولكن خنقتني العبرة فانصرفت عنهم وأنا باكية وإذا بأخي الحسين (عليه السلام) قد عارضني فسكنت نفسي وتبسمت في وجهه فقال : أُخيّة. فقلت : لبيك يا أخي. فقال (عليه السلام) : يا أختاه منذ رحلنا من المدينة ما رأيتك متبسمة أخبريني ما سبب تبسمك ؟
فقلت له : يا أخي رأيت من فعل بني هاشم والاصحاب كذا وكذا !!
فقال لي : يا أُختاه إعلمي أن هؤلاء أصحابي من عالم الذرّ وبهم وعدني جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) هل تحبين أن تنظري إلى ثبات إقدامِهم ؟
فقلت : نعم. فقال (عليه السلام) : عليك بظهر الخيمة.
الامام الحسين (عليه السلام) يخطب في أصحابه ويكشف لهم عن أبصارهم
قالت زينب : فوقفت على ظهر الخيمة فنادى أخي الحسين (عليه السلام) : أين إخواني وبنو أعمامي ! فقامت بنو هاشم وتسابق منهم العباس وقال : لبيك لبيك ما تقول ؟
فقال الحسين (عليه السلام) : أُريد أن أُجدد لكم عهداً فأتى أولاد الحسين وأولاد الحسن وأولاد علي وأولاد جعفر وأولاد عقيل فأمرهم بالجلوس فجلسوا.
ثم نادى : أين حبيب بن مظاهر أين زهير أين هلال أين الاصحاب فأقبلوا وتسابق منهم حبيب بن مظاهر. وقال : لبيك يا أبا عبدالله فأتوا إليه وسيوفهم بأيديهم فأمرهم بالجلوس فجلسوا فخطب فيهم خطبة بليغة.
ثم قال : يا أصحابي اعلموا أن هؤلاء القوم ليس لهم قصد سوى قتلي وقتل من هو معي وأنا أخاف عليكم من القتل فأنتم في حلٍّ من بيعتي ومن أحب منكم الانصراف فلينصرف في سواد هذا الليل.
فعند ذلك قامت بنو هاشم وتكلّموا بما تكلموا وقام الاصحاب وأخذوا يتكلمون بمثل كلامهم فلما رأى الحسين (عليه السلام) حُسن إقدامهم وثبات أقدامِهم قال (عليه السلام) : إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم وانظروا إلى منازلكم في الجنة فكشف لهم الغطاء ورأوا منازلهم وحورهم وقصورهم فيها والحور العين ينادين العجل العجل فإنا مشتاقات إليكم !
فقاموا بأجمعهم وسلوا سيوفهم وقالوا : يا أبا عبدالله أتأذن لنا أن نغير على القوم ونقاتلهم حتى يفعل الله بنا وبهم ما يشاء.
فقال (عليه السلام) : اجلسوا رحمكم الله وجزاكم الله خيراً.
الامام الحسين (عليه السلام) يأذن لنساء الأنصار بالانصراف لئلا تُسبى ومحاورة علي بن مظاهر مع زوجته ثم قال : ومن كان في رحله امرأة فلينصرف بها إلى بني أسد فقام علي بن مظاهر وقال : ولماذا يا سيدي ؟!
فقال (عليه السلام) : إن نسائي تُسبى بعد قتلي وأخاف على نسائكم من السبي فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته فقامت زوجته إجلالاً له فاستقبلته وتبسمت في وجهه. فقال لها : دعيني والتبسّم !!
فقالت : يا ابن مظاهر إني سمعت غريب فاطمة ( عليهما السلام ) خطب فيكم وسمعت في آخرها همهمة ودمدمةً فما علمت ما يقول ؟
قال : يا هذه إن الحسين (عليه السلام) قال لنا : ألا ومن كان في رحله امرأة فليذهب بها إلى بني عمها لاني غداً اُقتل ونسائي تُسبى.
فقالت : وما أنت صانع ؟ قال : قومي حتى أُلحقكِ ببني عمك بني أسد فقامت ونطحت رأسها في عمود الخيمة وقالت : والله ما أنصفتني يا بن مظاهر أيسرك أن تُسبى بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا آمنة من السبي ؟ أيسرك أن تُسلب زينب إزارها من رأسها وأنا أتستر بإزاري ؟ أيسرك أن تذهب من بنات الزهراء أقراطها وأنا أتزين بقرطي ؟ أيسرك أن يبيض وجهك عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويسودّ وجهي عند فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) أنتم تواسون الرجال ونحن نواسي النساء.
فرجع علي بن مظاهر إلى الحسين (عليه السلام) وهو يبكي فقال له الحسين (عليه السلام) : ما يبكيك ؟ فقال : سيدي أبتْ الاسدية إلاّ مواساتكم فبكى الحسين (عليه السلام) وقال : جُزيتم منّا خيراً .
قال الشاعر :
رجال تواصوا حيث طابت أصولهم * وأنفسهم بالصبر حتى قضوا صبرا
حماة حموا خــدرا أبي الله هتكـه * فعظّمه شأنــاً وشرّفــهُ قــدرا
فأصبح نهبــاً للمغاويــر بعدهم * ومنه بنات المصطفى أُبرزت حسرى
وقال آخر :
السابقون إلى المكـــارم والعلـى * والحائـزون غداً حياض الكـوثـــر
لو لا صوارمهــم ووقع نبالهــم * لم تسمــع الاذان صوتَ مكبــر
الاعداء يطوفون حول خيام الحسين (عليه السلام) :
هذا وقد أمر عمر بن سعد حرساً بقيادة عزَرَةَ بن قيس الاحمسي بحراسة الحسين (عليه السلام) وأصحابه فاخذوا يطوفون حول البيوت والفسطاط خوفاً من أن يفوت الحسين (عليه السلام) من قبضتهم أو يلتحق بمعسكره أحدٌ من الناس
الامام الحسين (عليه السلام) يأمر أصحابه بحفر الخندق وتنظيم الخيم:
قال الراوي : وكان الحسين (عليه السلام) أتى بقصب وحطب إلى مكان مِنْ ورائهم مُنخفض كأنَه ساقية فَحفروه في ساعة مِنْ الليلِ فَجعلُوه كَالخَندَقِ ثمْ ألقوا فيه ذلك الحطب والقصب وَقالوا : إذا عَدوا علينا فقاتلُونا ألقينا فيه النار كيلا نُؤتى مِنْ وَرائنا وَقاتلونا القومُ مِنْ وَجه واحد ففعلوا وكانَ لهم نافعاً .
وقال الدينوري : وأمر الحسين (عليه السلام) أصحابه أن يضمّوا مضاربهم بعضهم من بعض ويكونوا أمام البيوت وأن يحفروا من وراء البيوت أخدُوداً وأن يضرموا فيه حطباً وقصباً كثيراً لئلا يُأتوا من أدبار البيوت فيدخلوها .
وجاء في البداية والنهاية : وجعلوا البيوت بما فيها من الحرم وراء ظهورهم وقد أمر الحسين (عليه السلام) من الليل فحفروا وراء بيوتهم خندقاً وقذفوا فيه حطباً وخشباً وقصباً ثم أُضرمت فيه النار لئلا يَخلص أحد إلى بيوتهم من ورائها
وفي الارشاد إن الحسين (عليه السلام) خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يُقرّب بعضُهم بيوتَهم من بعض وأن يُدخلوا الاطناب بعضها في بعض وأن يكونوا بين البيوت فيستقبلون القوم من وجه واحد والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفّت بهم إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم .
الحكمة من ضم الخيم والمضارب :
وقيل إنّه عمل ذلك لعلمه ـ صلوات الله عليه ـ بما كان يضمرُه عمر بن سعد مع رؤساءِ عسكره ليلةَ العاشر فقد اتفقت آراؤُهم على أن يهجموا دفعةً واحدةً على الحسين (عليه السلام) وأصحابه على المخيم فيقتلون الرجال ويسبون النساء في ساعة واحدة ولذا قال الشيخ المفيد ـ عليه الرحمة ـ : وأقبل القوم يجولون حول بيوت الحسين (عليه السلام) فيرون الخندق في ظهورهم والنار تضطرم في الحطب والقصب الذي كان اُلقيَ فيه ولم يكن لهم طريق إلا من وجه واحد فغضبوا بأجمعهم .
ويؤيد هذا ماجاء في الانساب : واقتتلوا نصف النهار أشد قتال وأبرحه وجعلوا لا يقدرون على إتيانهم إلا من وجه واحد لاجتماع أبنيتهم وتقاربها ولمكان النار التي أوقدوها خلفهم وأمر عمر بتخريق أبنيتهم وبيوتهم فأخذوا يُخرّقونها برماحهم وسيوفهم .
وماجاء في الكامل أيضاً : فلمّا رأى ذلك عمر أرسل رجالاً يُقوّضونها عن أيمانهم وشمائلهم ليحيطوا بهم فكان النفر من أصحاب الحسين (عليه السلام) الثلاثة والاربعة يتخلّلون البيوت فيقتلون الرجل وهو يُقوّض وينهب ويرمونه من قريب أو يعقرونه فأمر بها عمر بن سعد فأحرقت.
فقال لهم الحسين (عليه السلام) دعوهم فليحرقوها فأنّهم إذا حرقوها لا يستطيعون أن يجوزوا إليكم منها فكان كذلك .
وقد جاء في بعض الكتب أن بيوتَهم وخيمهم وفساطيطهم كانت مائة وسبعين السبعون للحسين (عليه السلام) وسائر بني هاشم والمائة للانصار والاصحاب والله أعلم بحقائق الامور.
الامام الحسين (عليه السلام) يرى جدّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) في السَّحَر روي إن الحسين (عليه السلام) لمّا كانَ وَقتُ السَّحَر خَفقَ برأسهِ خفقةً ثُمَّ استيقظَ فقال : أتعلمونَ ما رأيتُ في منامي السّاعةَ ؟ فقالوا : وَما الذي رأيتَ يا بنَ رسولِ الله ؟
فقال : رأيتُ كأنّ كلاباً قد شدَّت عَليَّ لتنهَشني وَفيها كَلبٌ أبقع رأيتُهُ أشدَّها عَليَّ وَأظنُّ أنّ الذي يَتولّى قَتلي رجلٌ أبرص مِن بين هؤلاءِ القومِ ثم إنّي رأيتُ بعدَ ذلك جَدي رسول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَمعَهُ جماعةٌ مِنْ أصحابِه وهو يقولُ لي : يَا بُنَّي أنت شهيدُ آلِ محمّد وَقد استبشرَ بكَ أهلُ السماوات وأهل الصفيحِ الاعلى فليكن إفطارُكَ عندي الليلة عَجِّل وَلا تُؤخر!فَهذا مَلكٌ قد نزلَ مِنَ السماءِ ليأخذَ دَمَكَ في قارورة خضراء فهذا ما رأيتُ وَقد أزف الامرُ واقترَبَ الرحيّلُ مَنْ هَذه الدنيا لا شَكّ في ذلك .
الاعداء يسمعون تلاوة الحسين (عليه السلام) وكلام برير معهم :
روى الضحاك بن عبدالله المشرقي قال : فلّما أمسى حسينٌ (عليه السلام) وأصحابُه قاموا الليلَ كلَّه يُصلونَ ويستغفرون ويَدعونَ ويتضرعون قال : فتمرُ بنا خيلٌ لَهم تَحرِسُنا وإنّ حسيناً (عليه السلام) لَيقرأ : {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 178، 179] .
فسمِعَها رَجلٌ مِنْ تلكَ الخيلِ التي كانت تحرسُنا فقال : نَحنُ وَربِّ الكعبةِ الطيبونَ مُيزنا منِكُمْ قال : فَعرفتُه فقلتُ لبِرُير بنِ خُضَير : تدري من هذا ؟ قال : لا قلتُ : هذا أبو حَرْب السبيعي عبدالله بن شهر وكان مضحاكاً بطلاً وكانَ شريفاً شجاعاً فاتكاً وكان سعيدٌ بن قيس ربَّما حَبسُه في جناية فقال له بُريرُ بنُ خضير : يا فاسق أنت يَجعلكَ اللهُ في الطيبينَ فقال له : من أنت ؟
قال : أنا بريرُ بنِ خضير قال : إنّا لله عزّ عليَّ هلكتَ والله هَلكت والله يا بريرُ قال : يا أبا حرب هل لك أن تتوب إلى اللهِ من ذنوبك العظام فوالله إنا لنحنُ الطيبونَ ولكنَّكُمْ لانتُم الخبيثونَ قال : وأنا على ذلك من الشاهدين قلتُ : ويحك أفلا ينفعُكَ معرِفتُكَ قال : جُعلتُ فِداكَ فمَن يُنادمُ يزيدُ بنِ عذرة الغفري من عنز بنِ وائل قال : ها هو ذا معي قال : قَبّحَ اللهُ رأيَك على كلِ حال أنت سفيه قال : ثم انصرفَ عنا وكانَ الذي يحرسُنا بالليلِ في الخيلِ عَزْرةُ بنِ قيس الاحمسي وكانَ على الخيل .
وقد رويت هذه الحادثة بصورة اُخرى كما عن ابن الاعثم الكوفي والخوارزمي قالا : وجاء شمر بن ذي الجوشن في نصف اليل يتجسس ومعه جماعة من أصحابه حتي قارب معسكر الحسين (عليه السلام) فسمعه يتلو قوله تعالي : ( ولا يَحسبنَّ الذين كفرُوا أنما نُملي لهُم خيرٌ لانفُسهم إنَّما نُملي لهُم ليِزدادُوا إثماً ولهُم عذابٌ مُهين ماكان اللهُ ليذرَ المؤمنينَ على ما أنتُم عليه حتى يَميزَ الخبيثَ مِنَ الطَّيبَ ) الاية.
فصاح رجل من أصحاب شمر : نحن وربّ الكعبة الطيبون وأنتم الخبيثون وقد مُيزّنا منكم فقطع برير بن خضير الهمداني صلاته ثم نادى : يا فاسق يا فاجر! يا عدوا الله يابن البوال على عقبيه أمثلُك يكون من الطيبين !؟ والحسين ابن رسول الله من الخبيثين والله ما أنت إلا بهيمة لا تعقل ما تأتي وما تذر ،فابشر يا عدو الله بالخزي يوم القيامة والعذاب الاليم فصاح شمر : إن الله قاتلك وقاتل صاحبك عن قريب.
فقال برير أبالموت تخوفني ؟! والله إن الموت مع ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحب اليَّ من الحياة معكم والله لا نالت شفاعةُ محمد (صلى الله عليه وآله) قوماً أراقوا دماء ذريته وأهل بيته !
فجاء إليه رجل من أصحابه وقال : يا برير إن أبا عبدالله يقول لك : ارجع إلى موضعك ولا تُخاطب القوم فلعمري لئِن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء فلقد نصحت وأبلغت في النصح والدعاء .
عبادة الحسين (عليه السلام) وأصحابه :
وَبات الحسينُ (عليه السلام) وأصحابُه ـ ليلةَ عاشوراء ـ وَلهم دويٌّ كَدويِّ النحلِ مَا بَينَ راكع وساجد وقائم وقاعد فَعبرَ عليهم مِنْ عسكرِ عُمر بنِ سَعد اثنانِ وَثلاثونَ رَجلاً وَكذا كانت سجيةُ الحسينِ (عليه السلام) في كَثرةِ صَلاتِه وَكمالِ صِفاته .
فكان صلوات الله عليه كما وصفه ابنه إمامنا المهدي (عليه السلام) : كنت للرسول ولداً وللقرآن سنداً وللاُمة عضُداً وفي الطاعة مجتهداً حافضاً للعهد والميثاق ناكباً عن سبيل الفُسّاق تتأوّه تأوّه المجهود طويلَ الرّكوعِ والسّجود زاهداً في الدنيا زهدَ الرَّاحل عنها ناظراً إليها بعين المستوحشين منها .
وقيل للامام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) : ما أقلَّ ولد أبيك ؟
فقال (عليه السلام) : العجب كيف ولدت له وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة فمتى كان يتفرغ للنساء !! وحجّ خمسة وعشرين حجة راجلاً .
وروي عن الامام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) : أنّه في الليلة التي قُتل أبوه في غدها قال (عليه السلام) :إن أباه قام الليل كلَّه يصلّي ويستغفر الله ويدعو ويتضرع وقام أصحابه كذلك يدعون ويصلّون ويستغفرون .
وقيل : أنه ما نام في هذه الليلة الحسين (عليه السلام) ولا أحد من أصحابه وأعوانه إلى الصبح وكذلك النسوة والصبيان وأهل البيت كل