قائدا الفئتين
لا خلاف بين اثنين من المسلمين على الإطلاق بأنّ مواجهة ضارية ودموية قد حدثت بين فئتين من «المسلمين» في كربلاء :
الفئة الأولى : وتتألف من آل محمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وذوي قرباه الذين لا تجوز صلاة المسلم بغير الصلاة عليهم(1) ، والذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً(2) ، وافترض مودتهم ومحبتهم على كلِّ مسلم(3) ، ومن اُولئك الذين نصروهم ووقفوا معهم حتّى نهاية المجابهة(4) .
الفئة الثانية : وتتألف من أركان دولة الخلافة الإسلاميّة وجيشها الجرار الذي اشترك فعلياً بالقتال , وصنع بسيوفه وسهامه وسنابك خيله مذبحة كربلاء بصورتها المأساوية الدامية .
قائدا الفئتين
قائد الفئة الأولى : الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) .
قائد الفئة الثانية : « خليفة المسلمين » يزيد بن معاوية بن أبي سفيان .
قائد الفئة الاُولى
الإمام الحسين بن علي كالشمس المتألقة في رابعة السماء ، يعرفه أهل الأرض وأهل السماء ، وهو ابن رسول الله بالحكم الشرعي ؛ فقد أعلن الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأمر من ربه بأنه لن تكون له ذرّية من صلبه ، وأن ذرّيته ستكون من صلب ابن عمه وزوج ابنته البتول علي بن أبي طالب (عليه السّلام)(5) .
وأعلن بالمقام نفسه أن كلّ بني اُنثى ينتمون إلى عصبتهم إلاّ ولد فاطمة فهو أبوهم وهو عصبتهم (6) , وأعلن الرسول (صلّى الله عليه وآله) بنشوة عارمة مرات ومرات أمام المسلمين أنّ هذا ابني الحسن ، أو هذا ابني الحسين , أو هذان ابناي . لقد صارت اُبوة النبي للحسن والحسين من المسلمات العامة التي لا يختلف فيها اثنان .
وأعلن الرسول بأمر من ربه أن الحسن والحسين سبطا هذه الاُمّة(7) , وأنهما سيّدا شباب أهل الجنّة(8) , وأنهما ريحانتاه من هذه الاُمّة(9) . ولطالما قال لفاطمة الزهراء (عليها السّلام) : (( ادعي ابنيَّ )) . فيشمّهما ويضمّهما(10) .
ثمَّ أعلن النبي (صلّى الله عليه وآله) بأنهما عضوان من أعضائه(11) ، وأنهما أحب أهل بيته إليه(12) , وأنّه حرب لمن حاربوا , وسلم لمن سالموا(13) .
لقد كانت هذه الإعلانات النبوية معلومة بالضرورة من كل سكّان الجزيرة العربية أو رعايا دولة النبي (صلّى الله عليه وآله) ؛ المسلم ، واليهودي ، والنصراني على السواء ؛ فقد سمع الجميع بواقعة المباهلة(14) ، وبواقعة التطهير(15) ، وبواقعة المودة في القربى(16) ، وبواقعة جعل الصلاة على آل محمّد جزءاً من الصلاة المفروضة على العباد(17) .
ثمَّ إنّ الحسين هو الإمام الشرعي , فلم ينتقل الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى جوار ربه إلاّ بعد أن ترك الاُمة على المحجة البيضاء ، وبيّن لها الأئمة الشرعيين الذين اختارهم الله ليتعاقبوا تباعاً على قيادة الاُمة من بعده , وحدّدهم باثني عشر إماماً ؛ أوّلهم علي ، وثانيهم الحسن ، وثالثهم الحسين ، وتسعة من ولد الحسين سمّاهم الرسول بأسمائهم قبل أن يولدوا ؛ كدليل على صدقه بتبليغ ما اُوحي إليه من ربّه(18) .
أبوه علي بن أبي طالب (عليه السّلام)
ووالد الإمام الحسين هو الإمام علي بن أبي طالب ، شمس المشارق والمغارب ، يعرفه الثقلان ، ولا يخفى على مبصر من أهل الأرض وأهل السماء . ابن عم النبي الشقيق ، وأخوه ، ووالد سبطيه ، وعضده ، وفارس الإسلام الأوحد ، وحامي حماه . أعلنه الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأمر من ربه سيداً للعرب ، وسيداً لكافة المسلمين(19) , ووليا للمؤمنين (20) ، وهو صاحب التاريخ الشخصي الحافل بالأمجاد التي لا تضاهيها أمجاد ، والفضائل التي تتضائل دونها كلّ الفضائل إلا فضائل النبيين والرسل .
لقد كان جمعاً بذاته ، وجيشاً بمفرده ، وينبوع علم لدنّي بمكنونه .
وقد أعلن النبي (صلّى الله عليه وآله) أمام الأكثرية الساحقة من المسلمين التي اشتركت في غزوة تبوك مكانة علي المميزة التي لا تدانيها مكانة ، فقال له أمام ذلك الجمع الحاشد : (( أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي )) .
لقد خصّه الله تعالى بكافة المنازل التي كانت لهارون , ولم يستثن من تلك المنازل والاختصاصات إلاّ منزلة النبوة . وقد أجمعت الاُمّة على صحة هذا الحديث ، وعلى صحة صدوره من النبي (صلّى الله عليه وآله)(21) .
أبو طالب جد الحسين (عليه السّلام) لأبيه
وأبو طالب هو والد الإمام علي (عليه السّلام) ، وهو عمّ النبي الشقيق لأبيه عبد الله ؛ فعبد الله والد الرسول (صلّى الله عليه وآله) , وأبو طالب والد علي (عليه السّلام) إخوة أشقاء ، فهو أقرب الناس لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
ولمّا مات جد الرسول عبد المطلب كفله عمه أبو طالب وكان عمر الرسول آنذاك 8 سنوات ، وبقي الرسول في بيت عمه مدة 17 عاماً يأكل مما يأكل منه أولاد أبي طالب ، ويشرب مما يشربون , ويلبس مما يلبسون , بل إنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) كان أحب إلى عمّه أبي طالب وإلى زوجة عمّه من أبنائهما . وكان مفضلاً عندهما على كل الأبناء .
ويوم ماتت فاطمة بنت أسد وصف النبي الكريم طبيعة علاقته بتلك الاُم الصالحة فقال : (( اليوم ماتت اُمي ، إنها كانت اُمي ، وإنها كانت لتجيع صبيانها وتشبعني ، وتشعثهم وتدهنني ، وكانت اُمي ))(22) .
وبقي الرسول (صلّى الله عليه وآله) في بيت عمّه محاطاً بأنبل العواطف من عمه وزوجته وأبناء عمّه حتّى بلغ الخامسة والعشرين ، عندئذ خطب له عمه خديجة بنت خويلد فتزوجها , واستقل الرسول (صلّى الله عليه وآله) في بيت خاص به .
ولما شرّف الله نبيه بالرسالة كان لأبي طالب الدور البارز في قيادة جبهة الإيمان ؛ فهو الذي أرسى قواعد التحالف بين بني هاشم وبني المطلب ، وكوّن من البطنين جبهة واحدة وقفت برجولة أمام بطون قريش الـ 23 التي اتحدت ضد محمّد ودعوته.
وهو الذي رعى أوّل اجتماع للبطنين المتحالفين , وتصدّى لخصوم محمّد في ذلك الاجتماع ولجمهم(23) , وهو الذي أعلن أمام بطون قريش بأنها إذا قتلت محمّداً فإن الهاشميِّين والمطّلبين سيقاتلونها حتّى الفناء التام(24) , وهو نفسه الذي طالما خاطب النبي (صلّى الله عليه وآله) أمام بطون قريش : يابن أخي , إذا أردت أن تدعو إلى ربك فأعلمنا حتّى نخرج معك بالسلاح(25) .
وهو نفسه الذي كان يستقبل وفود بطون قريش ويسمع لمطالبها ، وينقل رد النبي عليها(26) , وهو الذي شجّع بنيه على التضحية بأرواحهم دفاعاً عن ابن عمّهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(27) , وهو الناطق الرسمي باسم النبي (صلّى الله عليه وآله) عندما أكلت دابة الأرض صحيفة المقاطعة التي تعاقدت عليها بطون قريش , وهو الذي قاد عملية رجوع الهاشميِّين والمطّلبيين إلى مكّة بعد ثلاث سنين من حصار بطون قريش لهم(28) , وهو شاعر النبي (صلّى الله عليه وآله) وحامي حماه(29) .
ومن هنا نفهم معنى قول الرسول (صلّى الله عليه وآله) عندما مات أبو طالب : (( ما نالت منّي قريش حتّى مات أبو طالب ))(30) ؛ ولهذا سمى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) العام الذي توفي فيه أبو طالب وماتت فيه زوجته بـ ( عام الحزن ) ، وعد موت الاثنين مصيبتين ، وعبّر الرسول عن ذلك بقوله : (( اجتمعت مع هذه الاُمّة في هذه الأيام مصيبتان , لا أدري بأيهما أنا أشد جزعاً ! ))(31) .
والخلاصة : إنّ أبا طالب كان أحد أركان جبهة الإيمان ، وقد استغل مكانته الاجتماعية لصالح الرسول (صلّى الله عليه وآله) ولصالح الإسلام ، وكان ساعد النبي الأيمن طوال حياته المباركة . ويوم مات أبو طالب لخّص النبي (صلّى الله عليه وآله) هذه المواقف النبيلة بقوله : (( يا عمّ , ربّيت صغيراً ، وكفلت يتيماً ، ونصرت كبيراً ، فجزاك الله عنّي خيراً ))(32) .
ومن المثير للدهشة حقاً أنّ أعداء أهل بيت النبوة الذين استولوا على مقاليد الاُمور بالقوة , وسيطروا على مناهج التربية والتعليم عندما لم يقووا على إنكار هذه المواقف أشاعوا بأن أبا طالب مات على الشرك ، فهو في ضحضاح من النار على حد تعبير المغيرة بن شعبة المشهور بحقده على بني هاشم كما يقول علامة المعتزلة ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عند مناقشته لإسلام أبي طالب .
قائد الفئة الثانية
القائد الفعلي لجيش الخلافة الجرار في كربلاء هو يزيد بن معاوية بن صخر المكنّى بأبي سفيان ؛ فهو المهندس الفعلي لمجزرة كربلاء وصانعها ، وما كان عبيد الله بن زياد ، ولا عمر بن سعد بن أبي وقاص ، ولا بقية أركان القتل والإجرام في كربلاء إلاّ مجرد جلاوزة أو عبيد يأتمرون بأمر سيدهم يزيد بن معاوية , وينفّذون توجيهاته العسكرية بدقة كاملة , أو مجرد أدوات أو دمى يحرّكها حيثما يشاء ، وكيفما يشاء ، ومتى يشاء .
ولِم لا ؟! فهو « أمير المؤمنين , وخليفة رسول الله على المسلمين ! » بيده مفاتيح خزائن الدولة « الإسلاميّة » , وتحت إمرته تعمل كافة جيوشها الجرارة . والأكثرية الساحقة من رعايا دولته تصفق له رغبة أو رهبة , متأملة باستمرار وصول « الأرزاق » إليها من خليفتها ، ووجلها من أن يغضب فيقطع عنها « الأرزاق » فتموت جوعاً !
ضرورات البحث العلمي
قبل قليل عرّفنا القارئ الكريم بشخصية الإمام الحسين بن علي (عليه السّلام) الذي قاد الفئة الأولى في كربلاء ، وبشخصية أبيه علي (عليه السّلام) ، وجدّه عبد مناف بن عبد المطلب المكنى بأبي طالب ؛ ونزولاً عند ضرورات البحث العلمي سنعرف القارئ بشخصية يزيد بن معاوية بن صخر المكنى بأبي سفيان ؛ بوصفة قائد الفئة الثانية في كربلاء .
فمَن هو يزيد ؟
هو يزيد بن معاوية بن صخر المكنى بأبي سفيان ، جدته لأبيه هند التي لاكت كبد حمزة عم النبي (صلّى الله عليه وآله) في معركة اُحد . نشأ نشأة مترفة في بيت أبيه معاوية الذي تربّع على ولاية الشام قرابة عشرين عاماً , وعاش حياة الملوك المترفين .
وهيّأ معاوية لابنه كل أسباب التعليم للمعارف المشهورة في عصره ؛ لأن معاوية كان يعدّ العدة للانقضاض على منصب الخلافة ، ويهيّئ الأسباب لتمويل الخلافة إلى ملك ينحصر في ذرّية أبي سفيان أو البيت الاُموي ، وكان يرجو أن يكون ابنه يزيد هو الملك الثاني بعد أبيه !
إلاّ أنّ الولد يزيد نشأ جانحاً ميّالاً للعبث واللهو ، مستهتراً وخليعاً ، مدمناً على الصيد وشرب الخمر ، مولعاً بالكلاب والقرود ، ملحداً في قرارة نفسه ، حاقداً على النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) وعلى آله وأهل بيته (عليهم السّلام) خاصة , وعلى الهاشميِّين عامة بعد أن عرف طبيعة الصراع الدامي الذي جرى بين رسول الله وآله والهاشميِّين من جهة وبين أبيه وجده وآل أبي سفيان والبيت الأموي من جهة اُخرى .
وبعد أن عرف أن علياً وحمزة والهاشميِّين قتلوا أعمامه وأجداده وأقاربه ، ولكن يزيد كان من الذكاء بحيث إنه قد عرف بأن النبوة قد صارت طريقاً للملك ، وأن الدين قد صار وسيلة لاستقرار هذا الملك ؛ فجاهر بعصيانه وعبثه واستهتاره وادعائه بأنه مسلم ، وكتم إلحاده وكفره ، ثمَّ انكشفت حقيقته من زلات لسانه لما شاهد الرؤوس تُحمل إليه ، قال :
نعب الغرابُ فقلت قل أو لا تقلْ فقد اقتضيت من الحسين ديوني
ومن هنا فقد حكم ابن الجوزي ، والقاضي أبو يعلى ، والتفتازاني ، وجلال الدين السيوطي بكفره ولعنه(33) , وقد قال ابنه معاوية عندما مات والده واصفاً إيّاه بقوله : ... ومن أعظم الاُمور علينا علمنا بسوء مصرعه ، وبؤس منقلبه وقد قتل عترة الرسول ، وأباح الخمر وخرب الكعبة ...(34) .
ثمَّ إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد لعن يزيد باسمه فقال : (( يزيد ! لا بارك الله بيزيد ، نُعي إليَّ الحسين ، واُوتيت بتربته ، واُخبرت بقاتله ... وآها لفراخ آل محمّد من خليفة مستخلف مترف ، يقتل خلفي وخلف الخلف ))(35) .
ولعنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالوصف ، فقال : (( سبعة لعنتهم , وكلُّ نبي مجاب الدعوة ... والمستحل من عترتي ما حرّم الله ))(36) .
وأخرج الواقدي عن عبد الله بن حنظلة الغسيل ، قال : والله , ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء ؛ إنه رجل ينكح اُمهات الأولاد , والبنات , والأخوات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة . تجد ذلك في الصواعق المحرقة لابن حجر / 137 .
وقال الذهبي : ولما فعل يزيد ما فعل بأهل المدينة مع شربه الخمر ، وإتيانه المنكرات , اشتد عليه الناس . وجاء في المستدرك على الصحيحين للحاكم إنّ يزيد رجل يشرب الخمر ، ويزني بالحرم . راجع فضائل الخمسة 3 / 390 .
هذه طبيعة يزيد الذي قاد جيش الخلافة في كربلاء ، وصنع مجزرتها الرهيبة ؛ فذبح آل محمّد وأهل بيته ومَن والاهم , وأخذ بنات النبي (صلّى الله عليه وآله) سبايا بعد أن مثّل بضحاياه شر تمثيل .
وقد ولي الحكم ثلاث سنوات ؛ ففي السنة الأولى من حكمه قتل أولاد النبي وأحفاده , وبني عمومته ومَن والاهم بمذبحة كربلاء ، وفي السنة الثانية استباح المدينة ، وفضّ جيشه ألف عذراء , وقتل عشرة آلاف مسلم بيوم واحد وهو « يوم الحرة » , ختم أعناق الصحابة , وأخذ البيعة على أنهم خول وعبيد « لأمير المؤمنين » يتصرف بهم تصرف السيد بعبيده .
أمّا في السنة الثالثة فقد هدم الكعبة وأحرقها . وهذه اُمور قد أجمعت الأمة على صحة وقوعها وتوثيقها .
مَن هو والد يزيد وجدّه ؟
معاوية هو والد يزيد , وصخر بن اُمية المكنى بأبي سفيان هو جد يزيد , وكلاهما طليق ، ومن المؤلفة قلوبهم ، وكلاهما من أئمة الكفر بإجماع الأمة ؛ فالثابت بالإجماع أن الاثنين قد استسلما يوم فتح مكة ، فأعلنا إسلامهما بعد أن أغلقت أمامهما كل الأبواب .
والثابت كذلك أن الرجلين قد قاوما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ودينه بكل أساليب المقاومة ، وحارباه بكل فنون الحرب ، وكاداه بكل طرق الكيد طوال فترة 21 عاماً , وهي المدة الممتدة بين إعلان النبوة وفتح مكة .
وهذه حقائق لا ينكرها إلاّ تافه مريض ؛ فأبو سفيان من أكابر تجّار مكة ، وهو الوارث لمنصب قيادة البطون . وبعد موت أبي جهل صار أبو سفيان زعيم جبهة الشرك بلا منازع ، فهل يعقل أن تتّحد بطون قريش الـ 23 ضد محمّد (صلّى الله عليه وآله) ودينه , وضد بني هاشم دون علمه وعلم أولاده حنظلة ويزيد ومعاوية وهم سادات مجتمع الكفر ؟!
وهل يعقل أن تجري عمليات تعذيب المستضعفين قبل الهجرة دون علم وموافقة أبي سفيان وبنيه ؟!
وهل يعقل أن تهدد بطون قريش بقتل محمّد دون علم أبي سفيان وموافقته ؟!
ومَن يصدق بأن بطون قريش الـ 23 المتحدة قد أجمعت على حصار النبي وبني هاشم ومقاطعتهم ثلاث سنين في شعب أبي طالب دون علم قائدها أبي سفيان وموافقته ؟!
وهل يعقل بأن تجري البطون اتصالات مع زعماء الطائف ليردوا النبي رداً مؤلماً دون علم أبي سفيان ومباركته ؟! ومن يصدّق بأن بطون قريش قد أرسلت وفداً إلى النجاشي ليرد المهاجرين دون علم أبي سفيان وبنيه وموافقتهم ؟! وهل يعقل أن تتآمر بطون قريش الـ 23 على قتل النبي (صلّى الله عليه وآله) ليلة هجرته , وأن تختار منها مئة رجل ليضربوا النبي (صلّى الله عليه وآله) ضربة رجل واحد دون علم أبي سفيان ومباركته ؟!
ألم يخرج أولاد أبي سفيان لقتال النبي في بدر ؟ ألم يُقتل بكره حنظلة هنالك ؟ أليس هو قائد المشركين في أحد ؟ ألم تخرج عائلة أبي سفيان كلها مع جيش المشركين في أحد ؟ أليست زوجته هند هي التي بقرت بطن حمزة عم النبي (صلّى الله عليه وآله) وأخرجت كبده لتأكله من كيدها وحقدها ؟ أليس أبو سفيان هو الذي جمع الأحزاب وقادها ، وأنسحب بها بعد الهزيمة ؟ وأين كان بنوه ؟
لقد أعلن أبو سفيان في داخل الكعبة كما يروي الواقدي ، وهو الذي قال لوفد اليهود : إنّ أحب الناس إلينا مَن أعاننا على عداوة محمّد(37) ! هذه عقيدة أبي سفيان وعقيدة بنيه ؛ كره بلا حدود ، وحقد بلا حدود ، وحسد بلا حدود .
كانت أفعال أبي سفيان وبنيه وبني عمومته واضحة في أذهان الجميع من سكان الجزيرة ؛ المسلم والمشرك ، واليهودي والنصراني ، كانت جرائم أبي سفيان وبنيه جراحات دامية في قلب النبي وآله وبني هاشم , وفي قلوب الذين آمنوا ، فمن الطبيعي أن يلعنهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأن يدعوا عليهم لكشف حقيقتهم للأمة .
فلعنه الرسول (صلّى الله عليه وآله) في سبعة مواطن(38) , ولعنه رسول الله في الركعة الثانية من صلاة الصبح(39) .
وقال السيوطي : وأخرج أحمد ، والبخاري ، والترمذي ، والنسائي ، وابن جرير ، والبيهقي أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد قال يوم أحد : (( اللّهمَّ إلعن أبا سفيان ... ))(40) .
ويروي نصر بن مزاحم عن البراء بن عازب ، قال : أقبل أبو سفيان ومعه معاوية , فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( اللّهمَّ العن التابع والمتبوع , اللّهمَّ عليك بالأقيعس )) . فقال البراء لأبيه : مَن الأقيعس ؟ قال : معاوية(41) .
وأخرج نصر بن مزاحم ، قال : نظر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى أبي سفيان وهو راكب , ومعاوية وأخوه أحدهما قائد والآخر سائق , فلما نظر رسول الله إليهم قال : (( اللّهمَّ العن القائد والسائق والراكب )) .
قلنا : أنت سمعت رسول الله ؟
قال : نعم ، وإلاّ فصمّتا اُذناي كما عميتا عيناي(42) .
وشاعت حقيقة أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد لعن أبا سفيان وبنيه ، قال الإمام علي (عليه السّلام) في خطبة له يوم صفّين : (( ... طليق وابن طليق , وحزب من الأحزاب ، لم يزل لله ولرسوله عدواً هو وأبوه حتّى دخلا في الإسلام مكرَهَين ))(43) .
وقال مرة : (( سيروا إلى بقية الأحزاب ، قتلة المهاجرين والأنصار .. )) . وقال مرة اُخرى : (( إنّما تقاتلون الطلقاء وأبناء الطلقاء , ومَن أسلم كرهاً ، وكان لرسول الله حرباً ))(44) .
وخاطب الإمام علي (عليه السّلام) معاوية قائلاً : (( وأنت ابن حزب من الأحزاب , وابن أعدى قريش لله ولرسوله ))(45) .
قال أيوب الأنصاري لعلي (عليه السّلام) : يا أمير المؤمنين , إن معاوية كهف المنافقين ...
وكتب قيس بن سعد بن عبادة أمير الخزرج مخاطبا معاوية : فإنما أنت وثن وابن وثن , دخلت الإسلام كرهاً ، وخرجت منه طوعاً , لم يقدم إيمانك ، ولم يحدث نفاقك(46) .
وكتب له الإمام السبط (عليه السّلام) : (( وأنت ابن حزب من الأحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول الله ولكتابه ))(47) .
وكتب محمّد بن أبي بكر إلى معاوية : وأنت اللعين ابن اللعين ، ثمَّ لم تزل أنت وأبوك تبغيان الغوائل لدين الله ، وتجهدان على إطفاء نور الله ، وتجمعان على ذلك الجموع ، وتبذلان فيه المال ، وتحالفان فيه القبائل ، على ذلك مات أبوك ، وعلى ذلك خلفته . والشاهد على ذلك من يأوي إليك من بقية الأحزاب ، ورؤوس النفاق والشقاق لرسول الله(48) .
ومع أن أبا سفيان وأولاده قد أسلموا مكرهين بعد أن اضطروا للاستسلام بعد حرب دامت بينهم وبين رسول الله وآله 23 عاماً ، إلاّ أنّ إسلامهم لم يغير حقيقة مشاعرهم نحو آل النبي على الأقل ؛ فهم يحقدون على آل محمّد (عليهم السّلام) , وقد بينت هند اُم معاوية طبيعة هذا الحقد عندما حاولت أكل كبد حمزة عم النبي (صلّى الله عليه وآله) .
ولمّا آلت الاُمور إلى عثمان دخل أبو سفيان عليه يوماً بعدما ذهب بصره ، فقال : أها هنا أحد ؟ فقالوا : لا . فقال أبو سفيان : اللّهمَّ اجعل الأمر أمر جاهليّة ، والملك ملك غاصبيّه ، واجعل أوتاد الأرض لبني اُميّة(49) .
ورأى أبو سفيان الناس يوماً يتهافتون على النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقال في نفسه : لو عاودت الجمع لهذا الرجل . فكشف الله لرسوله ما حاك أبو سفيان في صدره , عندئذ ضرب الرسول في صدر أبي سفيان وقال له : (( إذن يخزيك الله ))(50) .
وعلى الرغم من أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد بسط سلطانه على العرب إلاّ أن أبا سفيان لم ييأس من النيل من رسول الله ؛ فقد كمن لرسول الله ومعه أحد عشر فرداً بعد عودته من غزوة تبوك لينفروا ناقة الرسول فيسقط عنها بالعقبة ويموت كما يروي علامة المعتزلة ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة(51) .
لقد وصلتنا مثل هذه الأنباء عن سيرة الرجلين على الرغم من أنّ الاُمويِّين قد حكموا ألف شهر ، سيطروا خلالها على وسائل الإعلام ومناهج التربية والتعليم ، فلو لم تكن حقيقة الرجل من الشيوع والعموم لما وصلتنا مثل هذه الأنباء .
صحيح أن سلطان الدولة التاريخيّة على المناهج التربوية والتعليمية واضح وله بصمات . خذ على سبيل المثال صحيح البخاري ، فأهل السنة بعتبرونه بعد القرآن بالصحة , ومع هذا يروي في صحيحه(52) أنّ الرسول كان يقول إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة : (( اللّهمَّ العن فلاناً وفلاناً وفلاناً بعدما يقول : سمع الله لمَن حمده )) .
من المؤكد أن الرسول الكريم سمّى الفلانات الثلاثة بأسمائها الملعونة , ومن المؤكد أن البخاري يعرف أسماء الفلانات الثلاثة ، لكنه استعاض عن كل اسم بكلمة فلان ، فلو ذكر البخاري أسماء الفلانات الثلاثة لما صار لصحيحه أية قيمة ، ولهاجت الغوغاء وماجت ، ولَجنّ جنون الجموع المسلمة التي اُشربت ثقافة التاريخ والمناهج التربوية والتعليمية لدولة الخلافة التاريخية .
إلى أي بطن ينتمي يزيد ؟
ينتمي يزيد وأبوه معاوية وجدّه صخر إلى البطن الأموي المشهور بحقده وحسده وكراهيته لبني هاشم عامة , ولآل محمّد وأهل بيت النبوة (عليهم السّلام) خاصة . ففي معركة بدر قتل أهل بيت النبوة أحد عشر رجلاً من بني اُميّة دفعة واحدة ، منهم : حنظلة بن أبي سفيان شقيق معاوية وعم يزيد ، وعتبة بن ربيعة جد معاوية ، والوليد بن عتبة خال معاوية ، وشيبة بن عتبة شقيق جد معاوية وعم اُمّه ، والعاص بن سعيد ، وعقبة بن معيط وهم القرابة القريبة لعثمان بن عفان بن أبي العاص بن اُميّة بن عبد شمس(53) ؛
لهذا كله امتزج الكره والحسد والحقد في قلوب الاُمويِّين ونفوسهم فانحرفوا انحرافاً مهلكاً .
وقد نبه النبي (صلّى الله عليه وآله) الأمة إلى حقيقة المشاعر الأمويّة ، فقال : (( إنّ أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلاً وتشريداً ، وإنّ أشد قومنا لنا بغضاً بنو اُميّة ، وبنو المغيرة ، وبنو مخزوم ))(54) .
وعندما بيّن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) آية (أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً) , قال : (( هما الأفجران من قريش ؛ بنو اُميّة وبنو المغيرة ؛ فأمّا بنو المغيرة فقطع الله دابرهم يوم بدر ، وأمّا بنو اُميّة فمتعوا إلى حين ))(55) .
لقد عبّرت جويرية بنت أبي جهل عن الوضع النفسي لبطون قريش ، فعندما صعد بلال على ظهر الكعبة وأذّن وسمعت الأذان ، قالت بعفوية : قد لعمري رفع لك ذكرك ؛ أمّا الصلاة فسنصلي . والله لا نحب مَن قتل الأحبة أبداً(56) .
لقد عاش البطن الأموي رهينا لسلسلة من العقد ؛ لماذا يكون النبي من بني هاشم ؟ كيف يثأرون من الهاشميِّين وبالذات آل محمّد وأهل بيته لقتلاهم في بدر ؟ كيف يستعيدون حقهم بقيادة بطون قريش ؟ وكيف يوفقون بين الإسلام وبين هذه العقد المميتة ؟
قلنا : إنّ الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) كان هو القائد الأعلى لمنتسبي الفئة الأولى التي تجمعت والتفت حوله ، وقاتلت معه ببسالة خارقة حتّى اُبيدت وقتلت عن بكرة أبيها في كربلاء .
وقلنا أيضاً : إنّ « الخليفة » يزيد بن معاوية بن أبي سفيان كان أيضاً هو القائد الأعلى لمنتسبي الفئة الثانية « جيش الخلافة » , وأركان دولة الخلافة الذين نفّذوا أوامره بدقة ، فقتلوا آل محمّد وأهل بيته وذوي قرباه ببرودة ، صانعين مذبحة كربلاء ، تلك المذبحة البشعة التي يترفع همج ما قبل التاريخ وعبدة الشيطان عن تلويث أيديهم بكلّياتها وتفاصيلها المخزية والمخجلة حقاً .
ما معنى أركان القيادتين ؟
يقصد بأركان القيادتين تلك العناصر البشرية المهمة أو البارزة التي شاركت القيادتين بالتخطيط والتدبير والتنفيذ ؛ فنفّذت الأولى أوامر الحسين (عليه السّلام) بالدفاع المشروع عن الدين والنفس ، ونفّذت الثانية أوامر يزيد بن معاوية ، فأشبعت رغبته بالعنف والتنكيل بخصومه ، وقتلهم وتعذيبهم أحياء وميّتين استجابة لأهوائه .
أركان قيادة الإمام الحسين (عليه السّلام)
1 ـ الهاشميّون من ذرّية أبي طالب
لا خلاف بأن ذرّية أبي طالب قد خرجت مع الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وهم شباب آل محمّد ، وزهرة أهل بيت النبوة ، وذوو قربى النبي ، تخرجوا من مدرسة النبوة فكانوا فراقد متألقة ، ونماذج بشرية لن تتكرر ، وأفضل فتية على وجه الأرض ، وشوقهم الفائق للجنة ، وطلبهم الحثيث للموت ، وسعيهم الدؤوب له ، وصبرهم العجيب على مكاره السفر .
واستماتتهم بالدفاع عن شيخ آل محمّد يعكس طبيعة وفاء اُولئك الفتية ، ونوعية إيمانهم ، ومعدن أصالتهم .
لقد كانوا نماذج بشرية تفوق كل مجالات وآفاق التصور والتصديق ؛ فكان اُولئك الفتية هم أبرز أركان قيادة الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وضعهم بالصورة الكاملة قبل خروجه من المدينة المنورة ، ووافقوه على كل ما فعل خطوة خطوة ، ونفّذوا أوامره برضا خاطر ؛ فما من أحد منهم إلاّ وقد قال للحسين (عليه السّلام) : ائذن لي يابن رسول الله لأدافع عنك ، واُقتل بين يديك .
وما من أحد منهم إلاّ وأثلج خاطر الحسين (عليه السّلام) صولة وجولة ، حتّى إذا ما قضي نحبه صار جرحاً غائراً في قلب الحسين ، وانهدم ركنٌ عصي من أركان قيادته ؛ ففتية آل محمّد كانوا هم ناصية أركان قيادة الحسين (عليه السّلام) .
فلمّا وقعت الواقعة تقدّموا وقاتلوا بين يديه , وسقطوا فرقداً إثر فرقد حتّى خلت السماء تماماً من فراقدها ، عندئذ كسر ظهر الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وأمتلأ قلبه بالجراح النازفة ، واضطر الحسين أن يحمل قلبه المثخن بالجراح وأن يقاتل جيش الخلافة وحيداً بعد أن تهدّمت أركان قيادته .
إنّ الكواكب التي انتثرت وتساقطت تباعاً من سماء كربلاء أمام الحسين (عليه السّلام) لهي ظاهرة قيادية كونية نادرة ، وإن تعجب لأراك الدهر عجباً ، فاعجب كيف بقي للحسين قلب ! وكيف انصرف ليقاتل وحده جيشاً يزيدُ على عشرين ألف مقاتل بعد أن فقد أركان قيادته !
واعجب لنفسية أفراد هذا الجيش المرتزق الذي أصرّ على قتال الحسين وحيداً , وبعد حملات هذا الجيش وصولاته على الإمام الوحيد قتلوه ، ولم يكتفوا بقتل الإمام (عليه السّلام) إنّما مثّلوا به أشنع تمثيل ، وبعد أن أكملوا المذبحة ذهبوا وصلّوا , وقالوا في صلاتهم كما أمرهم الله : « اللّهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد » , وهم قبل قليل آبادوا آل محمّد وذبحوا شيخهم كما تُذبخ الأضاحي !
2 ـ أركان قيادة الإمام الحسين (عليه السّلام) من غير بني هاشم
الذين أتبعوا الإمام الحسين (عليه السّلام) من غير بني هاشم هم نخبة الاُمة الإسلاميّة ، ولقد وصفهم أحد قادة الجيش الاُموي بقوله للجيش : أتدرون من تقاتلون ؟! إنما تقاتلون فرسان العصر ، وأهل البصائر ، وقوماً مستميتين(57) .
وقال عنهم الإمام علي (عليه السّلام) : (( ليس مثلهم إلاّ شهداء بدر ))(58) .
فالذين اتّبعوا الإمام الحسين (عليه السّلام) من غير بني هاشم واستشهدوا بين يديه في كربلاء كانوا على علم بما يجري ، وبالدوافع الذاتية لقادة فريقي المواجهة ؛ فهم يعرفون طبيعة الخلافة ، وطبيعة نظام دولته , وطبيعة أركان هذه الدولة ، وطبيعة الجيش « الإسلامي » الجرّار الذي يأتمر بأمر الخليفة ، وطبيعة الحالة التي آلت إليها نفسية الأمة .
فمن غير المحتمل على الإطلاق أن يخاطر أي فرد من أغلبية الرعية بقطع « الأرزاق » أو الاُعطيات الشهرية التي يقدمها الخليفة لعبيده ، أو يجاهر بعصيانه ليخسر دنياه ، ويخسر حياته , ويهدم داره .
فالذين اتّبعوا الإمام الحسين (عليه السّلام) ونالوا شرف الشهادة بين يديه نماذج بشرية عجيبة حقاً ، حلّلت واقعها تحليلاً دقيقاً ، وأصغت لنبيِّها وهو يأمرها بنصرة الإمام الحسين (عليه السّلام) فاختارت ما اختارت بقلوب راضية مطمئنة ، وبأعصاب هادئة ، وبرضا تام ، وساروا إلى الموت بخطى ثابتة , كلما فرّ الموت من أمامهم لاحقوه بلا كلل ولا ملل .
لقد صار الموت مطلبهم وغايتهم ونشوتهم العظمى , ولم لا ؟! فهم أنصار الحسين ، والحسين مقتنع قناعة نهائية لا تقبل المراجعة أن الموت خير من الحياة تحت حكم الظالمين ، بل إنه كان يرى الموت سعادة والحياة مع الظالمين برماً .
إنّ أنصار الحسين على خطه تماماً ، رافقوه وتداولوا الأمر معه ، ثمَّ نفّذوه بدقة وتفان . فلما وقعت الواقعة افتدوه ، وافتدوا أهل بيت النبوة الكرام ، وقاتلوا بين يديه حتّى قتلوا . لقد كانوا جبالاً حقيقية اندكت تباعاً بين يدَي الحسين (عليه السّلام) .
أركان قيادة يزيد في كربلاء
قهر معاوية الاُمّة ، وتملّك أمرها بالقوة والتغلب ، ودانت له البلاد والعباد رغبة بما في يديه من مال ونفوذ ، أو رهبة من بطشه وجبروته . ولكن معاوية بدهائه مدرك أن الجمر في كثير من المواقع ما زالت تحت الرماد . لقد حصر معاوية الخطر على ملكه بمصدرين ، أحدهما : آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، وأهل بيت النبوة الذين لا ينفكون عن القول بأنهم أصحاب الحق الشرعيين بقيادة الاُمّة ، وأنّ معاوية
وأمثاله غاصبون لهذا الحق .
وثاني هذين الخطرين : أهل المدينة المجمعون على أن معاوية طليق وابن طليق لا تحلّ له الخلافة ، وأنّه غاصب لها . ولكن أهل المدينة منقسمون إلى شيع , تبع كل شيعة أحد غراس عمر بن الخطاب « أصحاب الشورى » ، أو تبع ابنه في حالة وفاة أبيه .
خطة معاوية
لقد أغرق معاوية أهل المدينة بالأموال والعطايا , وسلّط كل شيعة على الاُخرى ، فاستقامت له اُمور جميع الشيع إلى حين , وهكذا حيد معاوية هذا الخطر بسلاح المال .
وتفرغ بكل قوة الدولة لمواجهة مصدر الخطر الآخر المتمثل بآل محمّد ، أهل بيت النبوة ومَن والاهم ؛ ففرض على كل المسلمين أن يسبّوا علياً وأهل بيت النبوة في كلِّ صلاة , وبالعشي والإبكار , وأصدر سلسلة من مراسيمه الملكية تقضي بأن يُمحا من ديوان العطاء كلُّ من يوالي علياً وأهل بيته ، ثمَّ تُهدم داره ، ثمَّ يُقتل(59) .
ثمَّ ولى زياداً ابن أبيه على العراق لأنه كان يعرف شيعة أهل البيت ؛ ففتك بهم فتكاً ذريعاً , وصفّاهم من دون رحمة(60) .
وبكلِّ قوة الدولة قاد معاوية حملة اختلاق الأحاديث على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ لتمييع النصوص الشرعية المتعلقة بالخلافة من بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) , وخلط الأوراق(61) , وتوّج خطته بدس السم إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) وقتله(62) .
وهكذا هيّأ معاوية كل الظروف لتحويل الخلافة رسمياً إلى ملك ، ولحصر هذا الملك في ذرّيته وفي البيت الاُموي ، أشد البيوت عداء لله ولرسوله(63) .
وهكذا نجح معاوية بتحويل الدين رسمياً إلى مجرد طريق للملك ، والمحافظة عليه ، ونجح بتفريغ الإسلام سياسياً من محتواه ، وصار الخليفة فعلياً مجرد رجل « ميكافيلي » لا همّ له إلاّ البقاء في ملكه ، والمحافظة على هذا الملك بأي وسيلة كانت شرعية أو غيرها .
يزيد بن معاوية : وعملاً بنظام الملك والوراثة ورث يزيد بن معاوية عن أبيه مملكة مترامية الأطراف كانت بمثابة ضيعة كبرى لأبيه ، وورث مع الأقاليم قيادة اُمّة هرمت شبابها وذلّت فاستذلت حتّى صارت الأغلبية الساحقة من جماعاتها وأفرادها بمثابة عبيد أو أقنان لمعاوية وورثته .
يزيد يكمل خطة والده
بعد أن حمل ولاة الأقاليم البيعة ليزيد ، وبعد أن انتهت مراسيم تتويج الملك الجديد اُحيط الملك يزيد علماً بنقطتين هامتين :
أولاهما : إنّ شيخ آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، لم يبايع , وأنه قد خرج وأهل بيت النبوة من المدينة إلى مكّة تهرّباً من إعطاء البيعة ، ومن المؤكد أنه سيلجأ إلى العراق وإلى الكوفة بالذات عاصمة دولة الخلافة في عهد أبيه علي (عليه السّلام) .
وثانيهما : إنّ أهل المدينة وشيعها السياسية متلكِّئون بإعطاء البيعة , ويتأهبون للشغب .
عزم يزيد وإصراره
يزيد بطبيعته رجل جنس ولهو ، ورجال الجنس واللهو بالضرورة يعشقون العنف . لقد قرر أن يضرب خصومه وبمنتهى الوحشية والقسوة ، وأن يقطع دابر معارضيه وإلى الأبد ؛ فبدأ من حيث انتهى أبوه ، واستفاد من خبرة أبيه بالقمع والإرهاب ، ومن اُولئك الذين نفذوا سياسة أبيه بهذين المجالين .
(أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً) .
مَن ينفّذ المهمتين ؟
مَن يبيد آل محمّد وأهل بيت النبوة , ومَن يقتل شيخهم ؟ مَن يضع حداً نهائياً لتمرد أهل المدينة ويقصم ظهورهم إلى الأبد ؟ هذا ما كان يشغل ذهن يزيد بن معاوية .
سرجون ومعاوية
استشار يزيد سرجون مولاه وكاتبه ، ونديمه وأنيسه . وسرجون هذا نصراني دخل في خدمة معاوية(64) , فقال سرجون ليزيد : عليك بعبيد الله بن زياد . قال يزيد : لا خير فيه . فقال سرجون : لو كان معاوية حيّاً وأشار عليك به أكنت توليه ؟ قال يزيد : نعم . فقال سرجون : هذا عهد معاوية إليه بخاتمه ، ولم يمنعني أن اُعلمك به إلاّ معرفتي ببغضك له(65) .
عندئذ قرّر يزيد اختيار عبيد الله بن زياد لإنجاز النقطة أو المهمة الأولى المتمثلة بقتل الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السّلام) ، وبوصية من أبيه كما يقول الدينوري في « الإمامة والسياسة » .
قرر يزيد اختيار مسلم بن عقبة لإنجاز النقطة أو المهمة الثانية المتمثلة بوضع حد نهائي لتمرد أهل المدينة . وما يعنينا هو المهمة الأولى التي أوكل تنفيذها لعبيد الله بن زياد .
لقد استجاب يزيد لنصيحة سرجون ، ونفّذ العهد الذي كتبه معاوية حال حياته ، فعزل بشير بن النعمان وعيّن بدلاً منه عبيد الله بن زياد ليتولى تنفيذ المهمة القذرة . مرسوم التعيين
كتب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد قائلاً : أمّا بعد ، فإن الممدوح مسبوب يوماً ، وإن المسبوب يوماً ممدوح ، وقد سُمي بك إلى غاية أنت فيها كما قال الأوّل :
رُفعتَ وجاوزت السحاب وفوقَه فما لك إلاّ مرقبُ الشمس مقعدُ
وأمره بالاستعجال على الشخوص إلى الكوفة ليطلب ابن عقيل مندوب الحسين (عليه السّلام) فيوثقه أو يقتله أو ينفيه(66) .
وتلاحظ أن يزيد قد بيّن لعبيد الله بأنه بالذات هو وحده المؤهّل للقيام بهذه المهمة ، وأن يزيد قد أطلق يد قائده عبيد الله وأعطاه كافة الصلاحيات للتعامل مع مندوب الإمام الحسين مسلم بن عقيل .
وتشير المصادر إلى أن يزيد قد كتب لعبيد الله بن زياد رسالة اُخرى قال فيها : إنه قد بلغني أن حسيناً قد سار إلى الكوفة ، وقد ابتلى به زمانك من بين الأزمان ، وبلدك من بين البلدان ، وابتليت به أنت من بين العمال ، وعندها تُعتق ، أو تعود عبداً كما تعتبد العبيد(67) .
فأنت تلاحظ أن هذه الرسالة مليئة بالتحريض والتهديد ، والتذكير بنعمة آل أبي سفيان على عبيد الله وأبيه زياد ؛ فقد كان زياد عبداً من أبوين عبدين , وهما : عبيد وسمية ، فمنَّ عليه معاوية وألحقه بالاُمويِّين ؛ زاعماً أن أبا سفيان قد زنى بسمية سراً ، وأنها حملت زياداً من تلك الزنية ، وأن أبا سفيان هو الوالد الحقيقي لزياد وليس عبيداً كما كان شائعاً في المجتمع .
وعلاوة على « شرف » الإلحاق ولاّه معاوية العراقين يتصرف فيهما تصرف السيد مع عبيده ، وها هو يزيد يتمّ نعمته على حفيد سمية فيوليه العراقين أيضاً . بمعنى أن عبيد الله إن لم ينجح بالتصدي لشيخ آل محمّد وأهل بيت النبوة سيعود عبداً بلا حسب ولا نسب ولا مكانة .
وما يعنينا هو أن عبيد الله بن زياد عُيّن رئيساً لهيئة الأركان المكلّفة بأخذ البيعة من شيخ آل محمّد وأهل بيت النبوة وهم صاغرون , أو قتلهم والتمثيل بهم لوضع حد لخطرهم .
عمر بن سعد
لما جاء مسلم بن عقيل مندوب الحسين إلى الكوفة ، ورأى عمر بن سعد بن أبي وقاص إقبال الناس عليه أحرق الحسد والكره قلبه ، فكتب سراً إلى يزيد بن معاوية بذلك .
فمن الطبيعي أن يسر ذلك يزيد(68) ، ومن الطبيعي أن يطلب من عبيد الله تعيين عمر بن سعد بن أبي وقاص قائداً للقوات العسكرية المكلّفة بقتل شيخ آل محمّد وأهل بيت النبوة (عليهم السّلام) ، ومن الطبيعي أيضاً أن يعده الخليفة وعبيد الله بن زياد بولاية الري إن هو نجح بالمهمة الموكولة إليه .
وهكذا كان , إذ عُين عمر بن سعد قائداً عاماً للقوات العسكرية المكلفة بقتال أهل بيت النبوة وقتلهم والتمثيل بهم ، أمّا لماذا اختار عمر بن سعد بن أبي وقاص ليقود المرتزقة في كربلاء ؟ فإننا لا نعلم على وجه التحديد , ربما لأنّ عمر كتب له بقدوم مسلم وإقبال الناس عليه , وربما لأنه يعرف أن عمر بن سعد بن أبي وقاص من الكارهين لآل محمّد والحاقدين عليهم , وربما لإشعار الناس بأن أولاد سعد بن أبي وقاص معه ؛ استغلالاً لسمعة سعد كأحد الذين رشّحهم عمر بن الخطاب للخلافة , وربما لضرب بطون قريش ببعضها حتّى يكون هو الحكم .
شمر بن ذي الجوشن
ومن أركان قيادة يزيد بن معاوية شمر بن ذي الجوشن ، ويبدو أنه كان يتمتّع بمكانة خاصة عند عبيد الله ، وفي قلوب أفراد عشيرته ، وأنه كان وجيه هذه العشيرة ، وقائد أفرادها في كربلاء ، بدليل أن أكثر المؤرّخين يجمعون عند ذكر قطع رؤوس الشهداء بأن هوازن جاءت بكذا رأس من رؤوس الشهداء مع صاحبهم شمر بن ذي الجوشن(69) , ومن المؤكد أن ابن ذي الجوشن هذا كان قائداً للقوات الراجلة تحت إمرة سعد , ومن المؤكد أيضاً أن ابن ذي الجوشن هذا كان نائباً لعمر بن سعد بن أبي وقاص ، فعندما كان عمر يفاوض الإمام الحسين (عليه السّلام) كانت أوامر عبيد الله بن زياد أن قاتل أو سلّم الإمارة لشمر بن ذي الجوشن(70) .
ويبدو واضحاً للعيان أن شمر بن ذي الجوشن لا يكره محمداً وآل محمّد فحسب ، بل يحقد عليهم حقداً ، وعملاً بالمبدأ السائد « صارت النبوة طريقاً للملك » , فمن المؤكد أن شمراً هذا قد قرأ التاريخ وفهم تفاصيل معركة حُنين , والمواجهة بين قبيلته هوازن وبين النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله)(71) , فامتلأت نفسه بالكره والحقد على محمّد وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) ؛ ولأنه لا يستطيع أن يجهر بحقده على النبي (صلّى الله عليه وآله) فقد جهر بكراهيته وحقده على آل النبي (عليهم السّلام) , ولقد تجلى هذا الحقد بأبشع صوره في معركة الطفِّ .
وما يعنينا هو أنه كان الرجل الثالث في تلك القيادة المجرمة .
أركان القيادة الأقزام
وساعد الثلاثة في القيادة مجموعة من أركان القيادة الأقزام الذين لم تكن لهم مكانة الثلاثة الاُول , إلاّ أنهم لعبوا دوراً بارزاً في قيادة الجند الذين اشتركوا بمذبحة كربلاء , نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر : الحصين بن نمير التميمي ، وشبث بن ربعي ، وكعب بن طلحة ، وحجار بن أبجر ، ونصر بن حرشة ، ومضاير بن رهينة(72) .
ومن الذين قادوا قبائلهم : قيس بن الأشعث ، وهلال بن الأعور ، وغيهمة بن أبي زهير ، والوليد بن عمرو ...(73) .
القبائل التي اشتركت بالمذبحة
نذكر منها على سبيل المثال :
1 ـ كندة
2 ـ هوازن
3 ـ تميم
4 ـ بنو أسد
5 ـ مذحج(74)
6 ـ الأزد
7 ـ ثقيف(75)
عدد الفئتين
عدد فئة الإمام الحسين (عليه السّلام)
لا نعرف بالتحديد وعلى وجه الدقة واليقين عدد الفئة الأولى التي كان يقودها الإمام الحسين (عليه السّلام) في كربلاء ؛ لأن هذه الفئة مرّت بسلسلة من الظروف والأحوال أثّرت على عددها زيادة ونقصاناً حتّى استقرت نهائياً في العشر الأوائل من شهر محرم .
ولكن بالاستقراء العلمي للمصادر التاريخيّة ، والمقاتل ، وكتب الزيارات ، وروايات الذين توثقت علاقاتهم بآل محمّد (صلّى الله عليه وآله) وكانوا لهم شيعة ، وبحصر الذين نجوا من مذبحة كربلاء ، وبإعمال مناهج الاستقراء والاستدلال , والاستنباط والمقارنة , بهذا كله يمكن أن نقف على حقيقة العدد اليقيني .
عدد الناجين من المذبحة
تجمع كافة المصادر التي أشرنا إليها على أن كافة الذكور الذين تتكون منهم الفئة الأولى التي قادها الإمام الحسين (عليه السّلام) في كربلاء قد قتلوا عن بكرة أبيهم ، ولم ينجُ منهم غير ستة ؛ ثلاثة من بني هاشم وهم :
1 ـ الإمام علي بن الحسين , زين العابدين (عليه السّلام) ، فقد كان طريح الفراش ولا يقوى على الحركة .
2 ـ الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب .
3 ـ عمر بن الحسن بن علي بن أبي طالب , فقد كانا(76) طفلين(77) .
ونجا من المذبحة ثلاثة من أنصار الحسين (عليه السّلام) من غير الهاشميِّين , وهم :
1 ـ الضحاك بن عبد الله المشرقي ، عاهد الحسين (عليه السّلام) بالقتال معه ما كان القتال
نافعاً ، فإن لم يجد مقاتلاً معه كان في حلٍّ من العهد . وقد انسحب هذا الرجل عندما لم يعد قتاله مجدياً .
2 ـ عقبة بن سمعان مولى الرباب زوجة الإمام الحسين (عليه السّلام) الذي قال لعمر بن سعد عندما وقع بين يديه : أنا عبدٌ مملوك . فتركه .
3 ـ المرفع بن ثمامة الأسدي ، جاء وقومه بالمراحل الأخيرة من القتال , وهو يقاتل عندما لم يك القتال مجدياً , فأعطوه الأمان وأخذوه معهم(78) .
وقد أجمعت كافة المصادر على أنه عندما قُتل كافة أنصار الإمام الحسين (عليه السّلام) من غير بني هاشم ، وبعد أن قُتل ذكور آل محمّد وأهل بيت النبوة ، ركب الحسين (عليه السّلام) جواده , وامتشق حسامه ، وأخذ يقاتل جيش الخليفة وحيداً ، ولمّا عقروا جواده قاتل جيش الخلافة راجلاً , واستمر بالقتال وحيداً حتّى أثخنته الجراح وقُتل .
وبقتله ، وبقطع رؤوس الشهداء ، وبالدوس على جثثهم بسنابك الخيل ، وأخذ ملابسهم التي كانوا يرتدونها غنائم للقتلة ، وبالتمكن من بنات النبي (صلّى الله عليه وآله) وأخذهن سبايا أخذت مذبحة كربلاء صورتها النهائية , بمعنى أن الإمام الحسين (عليه السّلام) عملياً كان يدير القتال والعمليات العسكرية , ولم يقاتل قتالاً فعلياً إلاّ بعدما اُبيدت فئته وأصبح وحيداً أمام جيش القتلة .
رؤوس الشهداء (عليهم السّلام)
يمكن أن نستدل على عدد الفئة التي كان يقودها الإمام الحسين (عليه السّلام) بعدد رؤوس شهداء هذه الفئة التي حزّها وقطعها القتلة بعد قتل الشهداء ؛ لينالوا بهذه الرؤوس الحظوة عند الخليفة وأركان دولة الخلافة ، ويثبتوا رجولتهم وشجاعتهم لعل الخليفة يرضى منهم ويأمر لهم ببعض المال .
ويبدو أن هنالك أتفاقاً على عدد رؤوس الشهداء ، قال الطبري بروايته عن شاهد عيان من جيش الخلافة : « فقطف رؤوس الباقين , فسرّح باثنين وسبعين رأساً »(79) .
وقال الدينوري : « وحملت الرؤوس على أطراف الرماح , وكانت اثنين وسبعين رأساً »(80) .
وقال الشيخ المفيد : « وسرّح عمر بن سعد ... برأس الحسين ، وأمر برؤوس الباقين من أصحابه وأهل بيته فقُطعت , وكانوا اثنين وسبعين رأساً »(81) .
وقال المجلسي في بحار الأنوار : « إنّ رؤوس أصحاب الحسين وأهل بيته كانت ثمانية وسبعين رأساً »(82) .
عدد الشهداء (عليهم السّلام)
يبدو أن عدداً من الشهداء لم تُقطع رؤوسهم ؛ ومتابعة لاستقصائنا عن عدد الفئة الأولى التي كان يقودها الإمام الحسين (عليه السّلام) نذكر طائفة من الروايات التي تحدثت عن عدد القتلى من فئة الإمام الحسين (عليه السّلام) .
قال المسعودي : « وكان جميع من قتل مع الحسين في يوم عاشوراء بكربلاء سبعة وثمانين , منهم ابنه علي بن الحسين »(83) .
وقال الطبري في رواية له : « فقتل من أصحاب الحسين 72 رجلاً »(84) .
وقال الطبري في رواية اُخرى : « أقبل زحر بن قيس حتّى دخل على يزيد بن معاوية ، فقال : ما وراءك , وما عندك ؟ فقال : أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره ؛ ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته ، وستين من شيعته ، فأحطنا بهم حتّى أتينا على آخرهم »(85) .
عدد الفئة الأولى
قال الطبري في رواية له عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين ، الإمام الباقر (عليه السّلام) .... : (( فلمّا رأى ذلك عدل إلى كربلاء ، فنزل وضرب ابنيته ، وكان أصحابه خمسة وأربعين فارساً ومئة راجلاً ))(86) .
وفي رواية ثانية للطبري : « وإنهم لقريب من مئة رجل ، فيهم لصلب علي بن أبي طالب خمسة ، ومن بني هاشم ستة عشر ... »(87) .
وروى الطبري أيضاً : « وعبأ الحسين أصحابه , وصلّى بهم الغداة ، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً »(88) .
قال الدينوري : « وعبأ الحسين أيضاً أصحابه , وكانوا اثنين وثلاثين فارساً وأربعين راجلاً »(89) .
وقال اليعقوبي : « وكان الحسين في اثنين وستين أو اثنين وسبعين رجلاً من أهل بيته وأصحابه »(90) .
وقال الخوارزمي : « ولما أصبح الحسين عبأ أصحابه ، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً »(91) .
القول الفصل
قال الشيخ محمّد مهدي شمس الدين في كتابه « أنصار الحسين » ، والذي اعتمدنا عليه في هذه الناحية : « نلاحظ قبل أن نذكر تقديرنا الخاص في المسألة أن عدد أصحاب الحسين لم يكن ثابتاً في جميع المراحل , منذ الخروج من مكة إلى ما بعد ظهر اليوم العاشر من المحرم في كربلاء ، وإنما كان العدد متقلّبا عند الخروج من مكة بالعدد الذي ذكره الخوارزمي « 82 » , ثمَّ ازداد العدد كثيراً في الطريق ، ثمَّ تقلّص حتّى عاد إلى العدد الأوّل « 82 » رجلاً .
وربما يكون قد نقص عنه قليلاً أو ازداد بنسبة صغيرة قبل المعركة ؛ نتيجة لقدوم بعض الأنصار ، وتحول بعض جنود الجيش الاُموي إلى معسكر الحسين .
وتقديرنا الخاص نتيجة لما انتهى إليه البحث هو أن أصحاب الحسين الذين نقدّر أنهم استشهدوا معه في كربلاء من العرب والموالي يقاربون مئة رجل أو يبلغونها ، وربما زادوا قليلاً عن المئة . ولا نستطيع أن نعيّن عدداً بعينه ؛ لأنه لا بدّ من افتراض نسبة من الخطأ تنشأ عن تصحيف الأسماء ، ومن عدم دقة الرواة الذين نقلوا الأحداث ، وأسماء رجالها ، ول