قد يتساءل مستغرب : ما العلاقةُ بين المواعظ الحسينيّة والأخلاق ؟! أليست المواعظُ والحِكَمُ تُدرجُ في حقل العلوم والمعارف ؟
الجواب : نعم , هي كذلك تُدرَجُ في العلوم والمعارف , ولكنْ نتساءل نحنُ في المقابل : أليستِ السُّنَّةُ النبويّةُ المطهّرة قد امتدّتْ بأمر الله سبحانه وتعالى وحكمته ومشيئته في سُنَّةِ أهلِ بيته (عليهمُ السّلام) ؟
أليستْ السنّةُ النبويّة على ثلاث صور :
1 ـ فعل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
2 ـ قوله
3 ـ تقريره ؟
ألَمْ يكنْ للنبيّ (صلّى الله عليهِ وآلِهِ) في هذه الصور الثلاث توجيهاتٌ أخلاقيّةٌ للاُمّة ؟ حيث صدرتْ منه أفعالٌ في مكارم الأخلاق , وأقوالٌ في محاسن الأخلاق , وإقرارٌ وتبريكٌ وتشجيع لمَنْ صدرَ منه خلُقٌ طيّب , أو بانتْ منه صفةٌ أخلاقيّةٌ حميدة .
فالمصطفى الأكرم (صلّى الله عليهِ وآلهِ) كان كريماً , وكان يدعو إلى الكرم ويشوّق إليه , مبيّناً فضائلَه , ورذائلَ البخل . ويوم جيء بالاُسارى إليه أمر (صلّى الله عليهِ وآلِه) عليّاً (عليه السّلام) بضرب أعناقهم ؛ إذْ كانوا قد حاربوه وقتلوا المؤمنين , ثمّ أمره بإفرادِ واحدٍ من الأسرى المشركين لا يقتله , فقال الرجل : لِمَ أفردتني من أصحابي والجنايةُ واحدة ؟!
فأجابه (صلّى الله عليهِ وآلِه) قائلاً : (( إنَّ الله تبارك وتعالى أوحى إليَّ أنّك سخيُّ
قومِك , ولا أقتلك )) .
فقال الرجل : فإنّي أشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ الله , وأنّك رسولُ الله .
قال : فقاده سخاؤه إلى الجنّة (1) .
* وجاء عن الإمام محمّد الباقر (عليه السّلام) أنّه اُتي النبيّ (صلّى الله عليهِ وآلِه) بأسارى , فأمر بقتلهم وخلّى رجلاً من بينهم , فقال الرجل : كيف أطلقتَ عنّي من بينهم ؟!
فقال : (( أخبرني جَبرئيلُ عنِ الله (جلَّ جلالُه) أنَّ فيك خمسَ خصالٍ يُحبُّها الله ورسولُه ؛ الغَيرةُ الشديدةُ على حرمِك , والسخاء , وحُسْنُ الخلُق , وصدقُ اللسان , والشجاعة )) .
فلمّا سمعها الرجلُ أسلمَ وحسُنَ إسلامُه , وقاتل مع رسولِ الله (صلّى الله عليهِ وآلِه) قتالاً شديداً حتّى استُشهد(2) .
* ورأى النبيّ (صلّى الله عليهِ وآلهِ) أبا أيّوب الأنصاريّ (رضوانُ الله عليه) يلتقطُ نُثارةَ المائدة , فقال (صلّى الله عليهِ وآلهِ) : (( بُورِكَ لك , وبُوركَ عليك , وبُورك فيك ))(3) . فدعا له (صلّى الله عليهِ وآلِه) ؛ لأنّه عمِل مستحَبّاً , وكان منه التواضعُ واحترامُ نعمةِ الله (عزَّ وجلَّ) .
وأهلُ البيت (سلامُ الله عليهم) كانوا يباركون لِمَنْ تصدُرْ منه بادرةٌ أخلاقيّة إيمانيّة فيومَ عاشوراء التفتَ أبو ثمامةَ الصائدي إلى الشمس قد زالتْ ـ أي حَلّ وقتُ الظهر فقال للحسين (عليه السّلام) : نفسي لكَ الفداء ! إنّي أرى هؤلاءِ قد اقتربوا منك لا والله لا تُقتَلُ حتّى اُقتلَ دونك , واُحبّ أنْ ألقى الله وقد صلّيتُ هذه الصلاةَ التي دنا وقتُها .
فرفع الحسين (سلام الله عليه) رأسَه إلى السماءِ وقال : (( ذكرتَ الصلاة , جعَلَكَ الله مِنَ المصلّينَ الذَّاكرين . نعم هذا أوّلُ وقتها , سَلُوهم أن يكفُّوا عنّا حتّى نُصلّي ))(4) .
فدعا (عليه السّلام) له ؛ لأنّه ذكر الصلاةَ في أوّلِ وقتها ؛ اعتناءً بها , واهتماماً بطاعةِ الله (عزَّ وجلَّ) كما يُحبّ , وممّا يُحبّه سبحانه الصلاةُ في أوّل وقتها . فالتشجيعُ على الواجبات والمستحبّات والفضائل هو من الأخلاق الحميدة ؛ لأنّه سببٌ لأنْ تسودَ السننُ الشريفة والأخلاقُ الكريمة .
ولا يفوتنا أن نقول : إنَّ الإمامةَ هي الامتدادُ الإلهيُّ والشرعيُّ للنبوّة , وبما أنَّ السُّنَّةَ النبويّةَ سُنَّةٌ مطهَّرةٌ معصومة , كذلك سُنّةُ الأئمّةِ الأطياب . فالأخلاقُ عندهم تظهرُ مَرَّةً في صورةِ فعل , ومرّةً اُخرى في صورةِ وعظٍ وإرشاد , ومرّةً ثالثة في صورةِ تقرير .
ثمّ لا ينبغي أنْ يفوتَنا أنَّ الوعظَ هو قول , والقولُ هو من العمل , فكما يكون الاعتداءُ على المؤمنِ البريء بالضربِ حراماً , كذلك شتمُه بالقول حرام , وكما يكونُ الدرهمُ والدينارُ صدقةً , كذلك الكلمةُ الطيّبةُ صدقة , وكما تكون الغلاّتُ والأموالُ زكاةً , كذلك العفو ؛ فقد جاء عن الإمام عليٍّ (عليه السّلام) أنّه قال : (( العفوُ زكاةُ القدرة ))(5) .
وقد قال رسولُ الله (صلّى الله عليهِ وآلِه) يوماً لأصحابه : (( أيعجزُ أحدُكم أن يكونَ كأبي ضمضم ؟ )) .
قيل : يا رسولَ الله , وما أبو ضمضم ؟
قال : (( رجلٌ ممّنْ قبلكم , كان إذا أصبح يقول : اللهمَّ إنّي تصدّقتُ بِعرضي على الناس عامّة ))(6) . فيكون عفوه عن إساءات الناس صدقةً له عليهم .
ومن هنا نفهم أنَّ القولَ هو من الفعل , وإلاّ لَمَا حرّمَ الله تعالى الغيبةَ والنميمة , والكذبَ والبذاء ... وهي أقوال , ولَما قال النبيُّ الهادي (صلّى الله عليهِ وآلِه) : (( إنَّ مَنْ حَسِبَ كلامَه مِن عمله قلَّ كلامُه إلاّ فيما يَعنيه ))(7) , ولَما قال أيضاً : (( مَن لم يحسب كلامَه مِن عملِه كثُرتْ خطاياه , وحضر عذابُه ))(8) .
إذَاً فإنَّ الكرمَ والغَيرةَ والعفوَ من الأخلاق ؛ إذ هي أفعال ومواقف , والدعوةُ إليها باللسان والتشويقُ لها والتشجيعُ عليها كذلك من الأخلاق .
ومن هنا رأينا أهلَ البيت (سلام الله عليهم) لم يكتفوا بدعوةِ الاُمّة إلى الأخلاق الفاضلة من خلال أفعالهم وسيرتهم , إنَّما واصلوا ذلك من خلال وصاياهم وحكمِهم وإرشاداتهم , وتوجيهاتهم ومواعظهم , وهذا أيضاً من الأخلاق الفاضلة ؛ لأنَّ الدعوةَ إلى الأخلاق هي من الأخلاق , بل هي كرم ؛ لقول الإمام عليّ (عليه السّلام) في غرر الحكم : (( النصيحة من أخلاق الكرام )) .
فالقول كالفعل تترتّبُ عليه الآثار ؛ طيّبةً حميدة , أو سيّئةً مذمومة ؛ كالسرقة والكذب كلاهُما مخرّبانِ للمجتمع وإن كانتِ السرقةُ عملاً والكذبُ قولاً , وكالصدقةِ والسّلام كلاهما ينشرانِ المحبّة في المجتمع وإن كانتِ الصدقةُ فِعْلاً والسلامُ كلاماً .
وهنا نسأل : أليستْ مواعظُ الإمامِ الحسين (سلام الله عليه) تنمّ عن شفقة الحسين (صلواتُ الله عليه) على الاُمّة , ورأفتِه بالمؤمنينِ , ورحمتِه بالناس , وحرصِه عليهم أن يسلكوا سبيلَ الهدايةِ والخير , والفضيلةِ والسّلام , ويتجنّبوا خطُواتِ الشيطان المُؤدّيةِ إلى الضلالِ والشرّ , والباطل والفساد ؟
أليستْ تدلُّ مواعظُ الإمام الحسين (عليه السّلام) على اهتمامه الغيور بأن يوفَّق الناسُ جميعاً إلى الفوز بالسعادتين ؛ الدنيويّة والاُخرويّة ؟
إذَاً كانت مواعظُه أخلاقاً ؛ حيث عبّرتْ عن حالاتٍ أخلاقيّة مِلْؤها الطيبةُ والإنسانيّةُ في أرقى آفاقها ؛ فقد نوى خيراً , وعمِلَ خيراً ؛ إذ نفع الناس أجيالاً متتابعةً متعاقبة , فكان خيرَ الناس , لا سيّما وقد خلُصتْ نيّتُه لله (عزَّ وجلَّ) , وبرِئتْ من كلّ شائبة وخاطرة , شاردة أو واردة تبتعد عن طلب مرضاةِ الله , أو تقصدُ غيرَ وجه الله .
ولكي نتعرّف على أخلاق الإمام الحسين (عليه أفضلُ الصلاة والسّلام) من خلال مواعظه , وحكمِه وبياناته , تعالوا نطالعْ بعقلٍ متبصّر , وقلبٍ نيّر , وروحٍ متفتّحة هذه الروايات الشريفة , وتلك الجُمَلَ المُنِيفة التي تُخبِرُنا عن مواقفَ متعاليةٍ سامقة في دنيا الأخلاق , معبِّرة عن طيبةِ الإمام الحسين (عليه السّلام) , إضافةً إلى تعبيرها عن علمِه الجمّ ومعرفته النورانيّة .
وهنا ـ وقبل عرض الأخلاق الحسينيّة ـ يحسُن بنا أن نعرف :
أوّلاً : أنَّ الإمام الحسين (عليه السّلام) كان سلوكُه كلُّه أخلاقاً قويمةً طيّبة , شَهِدَ بذلك العدوُّ والصديق , حتَّى إنَّ مُبغضيه لم يستطيعوا أن يظفروا بشيءٍ يعابُ فيه , بل لم يملكوا إلاّ أن يمدحوه ويُثنوا عليه ـ والفضلُ ما شهِدتْ به الأعداءُ ـ , وما كان منهم إلاّ التعبير عن حسدِهم له , وحسدُهم دالٌّ على فضلهِ عليهم .
وهذا التاريخ , رغم تسليطه لأضوائه على الإمام الحسين (عليه السّلام) باعتباره شخصيّةً كبيرة لم يدوّنْ عليه إلاّ الفضائلَ والمناقب والمكارم ؛ فالأخلاقُ الإلهيّةُ تجسّدتْ فيه فعبّر عنها بشخصه الشريف قبل منطقِه الحكيم ؛ لذا جاءت مواعظُه نافعةً أبلغَ النفع , مؤثّرةً أبلغَ التأثير , ليس في زمانه فحسب , بل تعدّتْ حدود القرون والعصور , ثمَّ إنَّها جاءت مفصحةً عن مطاليب الشريعة الإسلاميّة وغاياتها.
ثانياً : اتّسمت أخلاقُ الإمام الحسين (سلام الله عليه) بالحكمة والمُراعاة , فكانت موزونةً أدقَّ وزن ؛ تُراعي الظروفَ الموضوعيّة , وتراعي حالةَ السامع والناظر من حيث مستواه وطبيعته , ومدى استعداده وتقبّله ؛ لذا نجدُها أساليبَ مفيدةً في التربية والتوجيه , والإرشادِ والتعليم .
لنتأمّلْ مَثَلاً في هذه الرواية :
* عن الرُّويانيّ أنَّ الحسنَ والحسين (عليهما السّلام) مَرَّا على شيخٍ يتوضّأ ولا يُحسن , فأخذا في التنازع ؛ يقول كلُّ واحدٍ منهما : (( أنت لا تُحسن الوضوء )) , فقالا : (( أيُّها الشيخ , كُن حَكَماً بيننا , يتوضّأ كلُّ واحدٍ منّا )) . فتوضّأ ثمّ قالا : (( أيُّنا يُحسِن ؟ )) .
قال : كلاكُما تُحسنانِ الوضوء , ولكنَّ هذا الشيخَ الجاهلَ هو الذي لم يكن يُحسن , وقد تعلّمَ الآنَ منكما , وتابَ على يديكما ببركتكما وشفقتكما على اُمّةِ جدِّكما(9) .
أيُّ أخلاقٍ هي ! وهما صغيران لم يُحرِجا شيخاً يتوضّأ ولا يعرف كيف ينبغي أن يتوضّأ , فعلّماه دونَ أن يخدشا شعوره !
يقول العالِم الفاضل الشيخ جعفر التُّستَريّ (أعلا الله مَقامه) : رأى رجلاً لا يُحسن الوضوء , فأراد أن يُعلّمَه , فاستحى من ذُلِّه حين يتعلّم , فقال لأخيه : (( نحن نتوضّأ قُدّامَه , ثمّ نسألُه أيُّ الوُضوءينِ أحسن )) . ففعلا ذلك , فقال الأعرابيّ : كِلاكُما تُحسنانِ الوضوء , وأنا الجاهلُ الذي لا أعرف(10) .
وكأنّه (عليه السّلام) رأى الناسَ يملّون النثر , ويأنسون بالشعر , ويستعذبون الكلامَ المقفّى الموزون حتّى ليبقى في ذاكرتهم عقوداً من الزمن , فجاراهم وجاء لهم بالحكم والمواعظ في صيغٍ شعريّة جميلةٍ وواضحة .
فَمِمَّا نُسب إليه ودوّنه التأريخ , قولُه (سلام الله عليه) :
إذا جادتِ الدنيا عليكَ فَجُدْ بها على الناسِ طُّرَّاً قبلَ أن تتفلَّتِ
فلا الجُودُ يُفنيها إذا هي أقبلتْ ولا البُخلُ يبقيها إذا ما تولَّتِ(11)
هذا في الحثِّ على الجودِ , أمَّا في الاستغناءِ بالله تعالى عن الناس , فقد قال (عليه السّلام) :
اغْنَ عَنِ المخلوقِ بالخالقِ تُغْنَ عنِ الكاذبِ والصادقِ
واسترزقِ الرحمنَ مِن فضلِهِ فليس غيرُ الله من رازقِ
مَنْ ظنَّ أنَّ الناسَ يُغنونَهُ فليس بالرحمنِ بالواثقِ
أو ظنَّ أنَّ المالَ مِن كسبِهِ زلَّتْ به النعلانِ من حالقِ(12)
وقال (عليه السّلام) في اللجوءِ إلى الله تعالى :
إذا ما عضّكَ الدَّهرُ فلا تجنحْ إلى الخَلْقِ
ولا تسألْ سوىْ اللهِ تعالى قاسمِ الرزقِ
فلو عشتَ وطوّفتَ مِنََ الغربِ إلى الشرقِ
لما صادفتَ مَن يقْدِ رُ أن يُسعِدَ أو يُشقي(13)
ولمّا زار مقابرَ الشهداء بالبقيع قال (عليه السّلام) :
ناديتُ سكّانَ القبورِ فاُسكِتُوا فأجابني عن صمتِهمْ ندْبُ الحشا
قالتْ أتدري ما صنعتُ بساكني مزّقْتُ جثماناً وخرّقْتُ الكِسا
وحَشَوْتُ أعينَهم تراباً بعد ما كانتْ تَأذّى باليسير مِنَ القذا
أمّا العظامُ فإنّني مزّقْتُها حتّى تباينتِ المفاصلُ والشَّوىْ
قطّعتُ ذا مِن ذا ومِن هذا كذا فتركتُها ممّا يطولُ بها البِلى(14)
كلماتٌ رشيقة , وعباراتٌ عذبة , ومعانٍ عالية في صورٍ مُؤنسة أثمرتْ عن أبياتٍ واضحةٍ سهْلةِ الحفظ , من شأنها أن تبقى في خاطر السامع تتردّد على ذاكرته حتّى ترسخ قيمُها الأخلاقيّة والعقائديّة فتنعكس سلوكاً صحيحاً , وموقفاً مُحقّاً .
والآن نذهب إلى المنبر الحسينيّ الواعظ , حيث نستمعُ إلى ما يجودُ به علينا من كلماتٍ راشدة , وحِكَمٍ باصرة , ووصايا ذاتِ عبر ...
خطب الإمام الحسين (عليه السّلام) يوماً فقال : (( يا أيُّها الناس , نافسُوا في المكارم , وسارعوا في المغانم ... واعلموا أنَّ حوائجَ الناسِ إليكم من نِعَمِ الله عليكم , فلا تملّوا النِّعَمَ فتحور نِقَماً . واعلموا أنَّ المعروفَ مُكْسِبٌ حمْداً , ومعقبٌ أجراً , فلو رأيتُمُ المعروفَ رجلاً رأيتمُوه حسَناً جميلاً يسرُّ الناظرين , ولو رأيتُمُ اللُّؤمَ رأيتمُوهُ سمجاً(15) مشوَّهاً , تنفرُ منه القلوب , وتغضّ دونه الأبصار .
أيُّها الناس , مَن جادَ سادَ , ومَن بَخِلَ رذل . وإنَّ أجودَ الناسِ مَن أعطى مَن لا يرجوه , وإنَّ أعفى الناس مَن عفا عن قُدرة , وإنَّ أوصلَ الناسِ مَن وصلَ مَن قطعَه .
والاُصولُ على مغارسها بفروعها تسمو ؛ فمَن تعجّل لأخيه خيراً وجدَه إذا قدِم عليه غداً , ومَن أرادَ الله تبارك وتعالى بالصنيعةِ إلى أخيه كافاه بها في وقتِ حاجته , وصرفَ عنه من بلاءِ الدنيا ما هو أكثرُ منه , ومَن نفّسَ كُربةَ مؤمنٍ فرّج الله عنه كُرَبَ الدنيا والآخرة , ومَن أحسنَ أحسنَ الله إليه , والله يُحبُّ المحسنين ))(16) .
قال الإربليّ : هذا الفصلُ من كلامه وإن كان دالاّ على فصاحته , ومُبِيناً عن بلاغته , فإنَّه دالٌّ على كرمِه وسماحتِه وجُودِه , مُخْبِرٌ عن شرفِ أخلاقِه وسيرته , وحُسنِ نيّتِه وسريرتِه , شاهدٌ بعفوه وحلْمِه وطريقته ؛ فإنَّ هذا الفصلَ قد جمع مكارمَ الأخلاق , لكلّ صفةٍ من صفاتِ الخير فيها نصيب , واشتمل على مناقبَ عجيبةٍ , وما اجتماعُها في مثْلِه بعجيب .
وجاء في قصار الجمل هذه الحِكَمُ الجميلة :
ـ (( الصدقُ عزٌّ , والكذبُ عجز , والسرُّ أمانة , والجوارُ قرابة , والمعونةُ صدقة , والعملُ تجربة , والخُلقُ الحسَنُ عبادة , والصمتُ زين , والشُّحُّ فَقْر , والسخاءُ غِنى , والرفْقُ لُبّ ))(17) .
ـ (( شرُّ خصالِ الملوك الجُبنُ مِنَ الأعداء , والقسوةُ على الضعفاء , والبخلُ عند الإعطاء ))(18) .
ـ وقال (عليه السّلام) لرجلٍ اغتابَ عنده رجلاً : (( يا هذا , كُفَّ عنِ الغيبة ؛ فإنَّها أدامُ كلابِ النار ))(19) .
ـ (( إيّاك وما تعتذرُ منه ؛ فإنَّ المؤمنَ لا يُسيء ولا يعتذر , والمنافقُ كلَّ يومٍ يُسيءُ ويعتذر ))(20) .
ـ وقال لابنه عليّ بن الحسين (عليهما السّلام) : (( أيْ بُنيّ , إيّاكَ وظُلْمَ مَنْ لا يجدُ عليكَ ناصراً إلاّ الله (جَلَّ وعزَّ) ))(21) .
ـ وقال له رجلٌ ابتداءً : كيفَ أنتَ عافاكَ الله ؟
فقال (عليه السّلام) له : (( السّلام قبل الكلام عافاك الله )) .
ثمّ قال (عليه السّلام) : (( لا تأذنوا لأحدٍ حتّى يُسلِّم ))(22) .
وقال (سلام الله عليه) : (( البخيل مَنْ بخِلَ بالسّلام ))(23) .
وقال رجلٌ عنده : إنَّ المعروفَ إذا اُسديَ إلى غيرِ أهله ضاع .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( ليس كذلك , ولكنْ تكونُ الصنيعةُ مثْلَ وابلِ المطر , تُصيبُ البرَّ والفاجر ))(24) .
وقال (سلام الله عليه) : (( مَن قبِلَ عطاءَك فقد أعانَك على الكرم ))(25) .
وقال (صلواتُ الله عليه) : (( صاحبُ الحاجةِ لم يُكرمْ وجهَه عن سؤالك , فأكرِمْ وجهَكَ عن رَدِّه ))(26) .
كلمات تنسجم تمامَ الانسجام مع الفطرةِ الإنسانيّةِ السليمة , وتقع على القلب موقعَ الماءِ البارد في حرِّ الظماء , وعلى العين موقع النور في الليلة الظلماء , وعلى الاُذن موقعَ صوتِ الأب الحنون ينادي ولدَه التائه , أو الاُمّ الرؤوم تلاطف ابنتَها المنكسرة .
كلمات هي للضّالِّ هدايةٌ مُطَمْئِنة , وللحائرِ سبيلٌ سهلة , ولقدِ انتفع مَن أسلمَ قلبه , واعتبرَ مَن صدق عقلُه في البحثِ عن العبرة , واهتدى من رغِبَ حقّاً في الخيرِ وطلبِ الحقيقة .
* ولقد أوصى فامتزج العلم بالاُبوّةِ الحانية , فكان أن قال : (( لا تتكلّفْ ما لا تُطيق , ولا تتعرّض ما لا تُدرك , ولا تَعِدْ بما لا تقْدرُ عليه , ولا تُنفقْ إلاّ بقدْرِ ما تستفيد , ولا تطلبْ من الجزاءِ إلاّ بقدرِ ما صنعت , ولا تفرحْ إلاّ بما نلتَ مِن طاعةِ الله , ولا تتناولْ إلاّ ما رأيتَ نفسَكَ له أهلاً ))(27) .
وقال (صلواتُ الله عليه) : (( اُوصيكم بتقوى الله ؛ فإنَّ الله قد ضَمِن لِمَنِ اتّقاهُ أن يُحوّلَه عمّا يكره إلى ما يُحبّ , ويرزقَه مِن حيث لا يحتسب , فإيّاكَ أن تكونَ ممّن يخاف على العباد مِن ذنوبهم ويأمنُ العقوبةَ مِن ذنبهِ ؛ فإنَّ الله تباركَ وتعالى لا يُخدَع عن جنّتِه , ولا يُنال ما عنده إلاّ بطاعته إن شاءَ الله ))(28) .
لقد فاحتْ تلك الكلمات عن اُبوَّةٍ حانية , وقلبٍ رحيم , وفاضتْ عن صدرٍ مِلْؤه الإيمانُ والتقوى , والمعرفة وحبُّ الخير , وصدرتْ عن فمٍ طاهرٍ زاكٍ طالما قبّلَه رسولُ الله (صلّى الله عليهِ وآلِه) , ولكنَّ أعداءَ الله لم يتورّعوا في هتكِ حرُماتِ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في أهل بيته (عليهم السّلام) ؛ فقد جاء سنانُ بنُ أنس فرأى الإمامَ الحسين (عليه السّلام) مطروحاً على رمالِ كربلاء , يشخبُ دماً ممّا أصابه من السهام والأحجار والسيوف , فطعنه في بواني صدره الشريف(29) !
ودعا عمرُ بنُ سعدٍ : ألاَ مَن ينتدب إلى الحسين فيُوطئ الخيلَ صدرَه وظهرَه ؟ فقام عشرة(30) ... فداسوا بخيولهم جسَدَ ريحانة الرسول (صلّى الله عليه وآله) !
وقُطع الرأسُ الشريف قبل ذلك , ولم تُرعَ للنبيّ (صلّى الله عليهِ وآلهِ) حرمة .
أروحُكَ أم روحُ النبيِّ تَصَعَّدُ من الأرضِ للفردوسِ والحُورُ سُجَّدُ
ورأسُكَ أم رأسُ الرسولِ على القَنا بآيةِ (أهل الكهف) راح يُرَدِّدُ
وصدرُكَ أم مستودعُ العلمِ والحِجى لتحطيمِه جيشٌ من الجهلِ يَعمدُ
وأيُّ شهيدٍ أصلَتِ الشمسُ جسمَه ومشهدُها مِن أصلِه متولِّدُ
وأيُّ ذبيحٍ داستِ الخيلُ صدرَه وفرسانُها مِن ذكرِه تتجمّدُ
فلو علمتْ تلك الخيولُ كأهلها بأنَّ الذي تحت السنابكِ أحمدُ
لثارتْ على فرسانها وتمرّدتْ عليهم كما ثاروا بها وتمرّدوا(31)
وفي الشام دعا يزيد برأس الحسين (عليه السّلام) ووضعه أمامه في طستٍ من ذهب(32) , ثمّ أخذ القضيب وجعل ينكثُ ثغرَ الحسين (عليه السّلام)(33) ويقول :
يومٌ بيومِ بدرٍ(34) . وكان أبو برزةَ الأسلميّ واقفاً , فقال : أشهدُ لك رأيتُ النبيَّ يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن , ويقول : (( أنتما سيّدا شباب أهلِ الجنّة , قتلَ الله قاتلَكما , ولعنه , وأعدَّ له جهنَّمَ وساءتْ مصيراً ))) . فغضبَ يزيدُ منه وأمرَ به فاُخرِجَ سَحْباً(35) .
وكان من أخلاق الإمام الحسين (عليه السّلام) عطفُه على التائهين , وشفقتُه على الحائرين ؛ لذا أكثرَ من وصاياه ومواعظه , وحِكَمِه وعِبَرِه ؛ رجاءَ أن يتّجهُوا إلى الله سبحانه بالإخلاص , وإلى الناس بالأخلاق الطيّبة , فقال (سلام الله عليه) كلماتٍ امتزجتْ فيها المعارفُ الحقّةُ بالروحِ الأبويّة الحانية .
* قال (عليه السّلام) : (( مِن دلائلِ علاماتِ القبول الجلوسُ إلى أهل العقول ))(36) .
* وقال (سلام الله عليه) : (( إنَّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادةُ التجّار , وإنَّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادةُ العبيد , وإنَّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلكَ عبادةُ الأحرارِ وأهل الفضل ))(37) .
* وكتب إليه رجل : عِظْني بحرفين . فكتب (عليه السّلام) إليه : (( مَن حاول
أمراً بمعصية الله كان أفوتَ لما يرجو , وأسرعَ لما يحذر ))(38) .
* وسأله أحدُهم : لِمَ افترض الله على عبيده الصوم ؟ فقال (عليه السّلام) له : (( ليجدَ الغنيُّ مَسَّ الجوع فيعودَ بالفضل على المساكين ))(39) .
* وكتبَ إليه رجلٌ من الكوفة : يا سيّدي , أخبِرْني بخيرِ الدنيا والآخرة . فكتب الإمامُ الحسين (عليه السّلام) : (( بسم الله الرحمن الرحيم , أمّا بعد , فإنَّ مَن طَلَبَ رضا الله بسخطِ الناس كفاه الله اُمورَ الناس , ومَن طلبَ رضا الناس بسخَطِ الله وكَلَه الله إلى الناس . والسّلام ))(40) .
وسأله نافعُ بنُ الأزرق , وهو من رؤساء الخوارج , قال له : صِفْ لي إلهكَ الذي تعبد .
فقال الإمامُ (عليه السّلام) : (( يا نافع , إنَّ مَن وضعَ دينَه على القياس لم يَزَلِ الدهرَ في الارتماس , مائلاً عن المنهاج , ظاعناً في الاعوجاج , ضالاّ عنِ السبيل , قائلاً غيرَ الجميل .
يابنَ الأزرق , أصِفُ إلهي بما وصفَ به نفسَه , واُعرّفُه بما عرّفَ به نفسَه ؛ لا يُدرَك بالحواسّ , ولا يُقاسُ بالناس , قريبٌ غيرُ ملتصق , وبعيدٌ غيرُ متقصٍّ , يُوحَّد ولا يُبعّض , معروفٌ بالآيات , موصوفُ بالعلامات , لا إله إلاّ هو الكبيرُ المتعال )) .
فبكى ابن الأزرق وقال : ما أحسنَ كلامَكَ(41) !
وتمضي وصايا الإمام الحسين (عليه السّلام) ومواعظُه وحِكمُه عبراً خالدة في ضمير التأريخ , عليه أن يردّدَها على مسامع الأجيال ؛ فإنَّ فيها هدايتَها ونجاتها , ومعرفةَ السبيل إلى سعادتها وبيان اُمورها .
* قال الفرزدق (الشاعر) : لَقِيَني الحسينُ (عليه السّلام) في منصرفي من الكوفة , فقال : (( ما وراءَكَ يا أبا فراس ؟ )) .
قلت : أَصْدُقكَ ؟
قال : (( الصدق اُريد )) .
قلتُ : أمّا القلوبُ فمعَك , وأمّا السيوفُ فمعَ بني اُميّة , والنصرُ من عند الله .
قال : (( ما أراكَ إلاّ صدقت ؛ الناسُ عبيدُ المال , والدينُ لغْوٌ(42) على ألسنتهم , يَحُوطونه ما درّتْ به معايشُهم , فإذا مُحِّصُوا للابتلاء قلَّ الديّانون ))(43) .
وهذه علامةٌ تنذرُنا بالخطر على ديننا , فإن كنّا من عبّادِ الدنيا فإنّنا عمّا قريب ـ إذا كان الابتلاء ـ سنكتشف أنَّ دينَنا مستعار أو مُعار , فلا بدَّ لنا من الاستعداد للامتحان , وخلع حبِّ الدنيا من قلوبنا ؛ لننجوَ بديننا .
ويبلغُ الخلُق الحسينيّ مراقيهِ التي شاءَ الله له أن يبلغها ؛ فقد صارح أصحابَه أكثرَ من مرّة أنّه سيُقتل , وأنَّ كربلاءَ الطاهرةَ هي المثوى ؛ لكيلا يقولَ أحدٌ خُدعتُ وكنتُ أظنُّه النصر نُقْبل عليه . ثمَّ قدَّم لهم الفرصَ الوافرة , وعاملهم بالصراحةِ الطيّبة حتّى يكونوا على بيّنةٍ من أمرهم مختارين ؛ إمّا أن يرجعوا إلى أهليهم وديارهم , وإمَّا أن يتشرّفوا بالشهادةِ بين يدَيْ ولي الله , سيّدِ شباب أهل الجنّة (عليه السّلام) .
لقد تعامل الإمامُ الحسين (عليه السّلام) مع الناس بالصدق والصراحة والرفق , وأدلى بنصحه وموعظته ودعوته على وجهِ البساطة والوضوح . فحينما أراد أن يخرج إلى كربلاء وقف في مكّة وخطب الناسَ قائلاً : (( ... خُطَّ الموتُ على وُلْدِ آدمَ مخطَّ القلادةِ على جِيدِ الفتاة , وما أولَهني إلى أسلافي اشتياقَ يعقوبَ إلى يُوسُف . وخُيِّر لي مصرعٌ أنا لاقيه , كأنّي بأوصالي تُقطّعها عُسلانُ الفَلَوات بين النواويسِ وكربلاء , فيملأْنَ منّي أكراشاً جُوفا , وأجربةً سَغْبا , لا مَحيصَ عن يومٍ خُطَّ بالقلم ... ألاَ ومَن كان فينا باذلاً مهجتَه , مُوَطّناً على لقاءِ الله نفسَه , فلْيرحلْ معنا ؛ فإنّي راحلٌ مصبِحاً إن شاءَ الله ))(44) .
ومن قبل ذلك كانت له (عليه السّلام) جواباتٌ صريحة مع مَن خشيَ عليه القتل , فحينَ رجتْه اُمُّ المؤمنين اُمُّ سلمة (رضوانُ الله عليها) أن يَدَع السفر قائلةً له : لا تُحزنّي بخروجك إلى العراق .
أجابها (سلام الله عليه) قائلاً : (( يا اُمَّاه , وأنا أعلم أنّي مقتولٌ مذبوحٌ ظُلماً وعُدواناً , وقد شاء الله (عزَّ وجلَّ) أن يرى حرَمي ورهطي مشرَّدِين , وأطفالي مذبوحين مأسورينَ مُقيّدين , وهم يستغيثونَ فلا يجدونَ ناصراً ))(45) .
وكذلك أجاب أخاه محمّدَ بن الحنفيّة بقوله : (( شاءَ الله أن يراني قتيلاً , وأن يرى النساءَ سبايا ))(46) .
وفي بطن العقبة قال لمَن معه : (( ما أراني إلاّ مقتولاً ؛ فإنّي رأيت في
المنام كلاباً تنهشُني , وأشدُّها عَلَيَّ كلبٌ أبقع ))(47) .
ولمّا أشار عليه عمرو بنُ لوذان بالانصراف عن الكوفة إلى أن ينظرَ ما يكون عليه حال الناس , قال (عليه السّلام) : (( ليس يخفى عَلَيَّ الرأي , ولكن لا يُغلب على أمرِ الله , وإنّهم لا يدَعوني حتّى يستخرجوا هذه العَلَقةَ من جوفي ))(48) .
وكتب إلى بني هاشم : (( مَن لَحِقَ بنا منكمُ استُشهد , ومَن تخلّف لم يبلغِ الفتح ))(49) .
وفي الطريق إلى العراق , وإلى كربلاء خيّر أصحابه بين الاستمرار أو الرجوع , فقال لأصحاب الإبل حينما مرَّ بـ (التنعيم)(50) : (( مَن أحبَّ منكم أن ينصرف معنا إلى العراق أوفينا كراءَه , وأحسنّا صُحبتَه , ومَن أحبَّ المفارقةَ أعطيناه من الكراء على ما قطع من الأرض )) .
ففارقه بعضُهم , ومضى مَن أحبَّ صحبتَه(51) .
وعندما جاءَه خبرُ شهادة مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وهو في زَرود , أخرج كتاباً وقرأ على الناس : (( بسم الله الرحمن الرحيم , أمّا بعد , فإنَّه قد أتانا خبرٌ فظيعٌ ؛ قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر , وقد خذلنا شيعتُنا , فمَن أحبَّ منكمُ الانصرافَ فلينصرفْ في غيرِ حرَجٍ , وليس عليه ذمام ))(52) .
وفي خبرٍ آخر أنّه (عليه السّلام) قال : (( فمَن كان منكم يصبر على ضرب السيوف وطعنِ الأسنّة فليقم معنا , وإلاّ فلْينصرفْ عنّا )) . فجعل القومُ يتفرّقون ولم يبقَ معه إلاّ الذين خرجوا مِن مكّة .
* وصارح (عليه السّلام) ابنَ الحرّ في قصر بني مقاتل قائلاً له : (( يابنَ الحرِّ , إنَّ أهلَ مصرِكم كتبوا إليَّ أنّهم مجتمعونَ على نُصرتي , وسألوني القدوم عليهم , وليس الأمرُ على ما زعموا(53) , وإنَّ عليكَ ذنوباً كثيرة , فهل لكَ من توبةٍ تمحو بها ذنوبَك ؟ )) .
قال : وما هي يابن رسول الله ؟
فقال : (( تنصرُ ابنَ بنت نبيّك وتقاتل معه ))(54) .
وقرب المساء , قبلَ مقتله (عليه السّلام) بليلة , جمعَ الحسينُ أصحابه(55) فقال : (( اُثني على الله أحسنَ الثناء , وأَحمَدُه على السرّاءِ والضرَّاء , اللهمَّ إنّي أحمدُك على أن أكرمتَنا بالنبوّة , وعلّمتَنا القرآن , وفقّهتَنا في الدين , وجعلتَ لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً ولم تجعلْنا من المشركين . أمّا بعد , فإنّي لا أعلمُ أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي , ولا أهلَ بيتٍ أبَرَّ ولا أوصلَ من أهلِ بيتي , فجزاكمُ الله عنّي جميعاً(56) . وقد أخبرني جدّي رسولُ الله (صلّى الله عليهِ وآلِه) بأنّي ساُساق إلى العراق , فأنزل أرضاً يُقال لها : عَمُورا وكربلاء , وفيها اُستَشْهَد , وقد قرُب الموعد(57) .
ألاَ وإنّي أظنُّ يومَنا من هؤلاءِ الأعداء غداً , وإنّي قد أذِنْتُ لكم فانطلقُوا جميعاً في حِلٍّ ليس عليكم منّي ذمام . وهذا الليلُ قد غشِيَكم فاتَّخِذُوه جَمَلاً , ولْيأخذْ كلُّ رجلٍ منكم بيدِ رجلٍ من أهلِ بيتي , فجزاكمُ الله جميعاً خيراً , وتفرّقُوا في سوادِكم ومدائنكم ؛ فإنَّ القومَ إنَّما يطلبونني , ولو أصابوني لذهلوا عن طلبِ غيري )) .
فقال له إخوتُه وأبناؤُه , وبنو أخيه وأبناءُ عبد الله بن جعفر : لِمَ نفعلُ ذلك ؟! لنبقى بعدَك ! لا أرانا الله ذلكَ أبداً . بدأهم بهذا القولِ العبّاسُ بن عليّ وتابعه الهاشميّون .
والتفت الحسينُ (عليه السّلام) إلى بني عقيل وقال : (( حسبُكم من القتل بمسلم , اذهبوا قد أذِنتُ لكم )) .
فقالوا : إذاً ما يقول الناسُ , وما نقولُ لهم ؟! إنَّا تركنا شيخَنا وسيّدنا وبني عمومتِنا خير الأعمام , ولم نَرمِ معهم بسهم , ولم نطعنْ برمح , ولم نضربْ بسيف , ولا ندري ما صنعوا ! لا والله لا نفعل , ولكن نفديكَ بأنفسنا وأموالنا وأهلينا , نقاتل معك حتّى نرِدَ مَوردَك ؛ فقبّحَ الله العيشَ بعدَك(58) .
وقال مسلمُ بن عوسجة : أنحنُ نخلّي عنك ؟! وبماذا نعتذرُ إلى الله في أداءِ حقّك ؟! أمَا والله لا اُفارقك حتّى أَطعنَ في صدورهم برمحي , وأضربَ بسيفي ما ثبت قائمُه بيدي , ولو لم يكنْ معي سلاحٌ اُقاتلهم به لقذفتُهم بالحجارة حتّى أموت معك .
وقال سعيدُ بنُ عبد الله الحنفيّ : والله , لا نُخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظْنا غيبةَ رسولِه فيك . أما والله لو علمتُ أنّي اُقتلُ ثمَّ اُحيا , ثمَّ اُحرقُ حيّاً , ثمَّ اُذرّى , يُفعل بي ذلك سبعينَ مرّة لما فارقتُكَ حتّى ألقى حِمامي دونك , وكيف لا أفعل ذلك وإنَّما هي قتلةٌ واحدة , ثمَّ هي الكرامةُ التي لا انقضاءَ لها أبداً ؟!
وقال زهيرُ بنُ القين : والله , وددتُ أنّي قُتلتُ ثمَّ نُشرتُ ثمَّ قُتلتُ حتّى اُقتلَ كذا ألف مرّة , وأنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يدفع بذلك القتلِ عن نفسِك وعن أنفسِ هؤلاءِ الفتيان من أهل بيتك .
وتكلّم باقي الأصحاب بما يشبه بعضُه بعضاً , فجزّاهمُ الحسينُ (عليه السّلام) خيراً(59) .
وفي الحال قيل لمحمّد بنِ بشير الحضرميّ : قد اُسِر ابنُك بثغر الريّ . فقال : ما اُحبّ أن يُؤسَرَ وأنا أبقى بعده حيّاً . فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( أنت في حِلٍّ من بيعتي , فاعملْ في فَكاكِ ولدك )) .
قال : لا والله , لا أفعل ذلك , أكلتْني السباعُ حيّاً إن فارقْتُك .
فقال (عليه السّلام) : (( إذاً أعطِ ابنَكَ هذه الأثوابَ الخمسةَ ليعملَ في فكاكِ أخيه )) . وكان قيمتُها ألفَ دينار(60) .
لقد تعلّم هؤلاء من الحسين السبط (عليه السّلام) دروسَ الوفاءِ والتضحية , والإخلاص والإباء , فأبَوا أن يخذلوا إمامَهم , أو يخونوا رسول الله (صلّى الله عليهِ وآلِه) في ولده , أو يُخلّوا بينه وبين عدوِّه العازمِ على قتله وإن سلموا بالفرار .
أجل , فتقدّموا زرافاتٍ ووحداناً , وجاهدوا دونَ الحقّ باذلينَ المهجَ الشريفة بين يدي سيّدهم وإمامهم أبي عبد الله الحسين (صلواتُ الله عليه) حتّى استُشهدوا جميعاً , ولسانُ الواقع والحال منهم يقول : أَوفيتُ يابن رسول الله ؟
فقد قام الحسينُ (عليه السّلام) إلى الصلاة يوم العاشر من المحرّم , فوقف أمامه سعيدُ بنُ عبد الله يحفظه , فاستقبل السهامَ بجسمه , حتّى إذا اُثخن بالجراح سقط إلى الأرض وهو يقول : اللهمَّ العنْهم لعنَ عادٍ وثمود , وأبلغْ نبيَّك منّي السّلام , وأبلغْه ما لقيتُ من ألَمِ الجراح ؛ فإنّي أردتُ بذلك ثوابَك في نُصرةِ ذرّيّةِ نبيّك (صلّى الله عليهِ وآلهِ)(61) .
والتفتَ إلى الحسين (عليه السّلام) قائلاً : أَوفيتُ يابنَ رسولِ الله ؟
قال : (( نعم , أنتَ أمامي في الجنّة ))(62) . وقضى نحبه .
ولمّا عرف الحسينُ (عليه السّلام) منهم صدقَ النيّة والإخلاص في المفاداةِ دونه أوقفَهم على غامض القضاء , فقال : (( إنِّي غداً اُقتل , وكلُّكم تُقتلونَ معي , ولا
يبقى منكم أحد ))(63) .
وكانوا كلُّهم قد اُشربوا حُبَّ الحسين (عليه السّلام) , وأخلاقَ الحسين , فتقدّموا لا يطلبون إلاّ نُصرته ؛ يضربون بذلك الأمثالَ الرائعةَ في الإخلاص والتضحية والمُواساة . فحين قصد العبّاس (عليه السّلام) الفرات ضامّاً إليه عشرين راجلاً , تقدّم نافعُ بنُ هلال الجمليّ (رضوانُ الله عليه) باللواء , فصاح عمْرُو بنُ الحجّاج : مَنِ الرجل ؟
قال : جئنا لنشربَ من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه .
فقال عمرو : اشربْ هنيئاً , ولا تحملْ إلى الحسين منه .
قال نافع : لا والله , لا أشربُ منه قطرةً والحسينُ ومَنْ معه مِن آلِه وصحبِه عطاشى(64) .
ووقف عابسُ بن شبيب الشاكريّ (رضوانُ الله عليه) أمام الحسين (عليه السّلام) وقال : ما أمسى على ظهر الأرض قريبٌ ولا بعيدٌ أعزَّ عَلَيَّ منك , ولو قدرتُ أنْ أدفعَ الضيمَ عنك بشيءٍ أعزَّ عَلَيَّ من نفسي لفعلت . السلام عليك , أشهدُ أَنّي على هُداك وهُدى أبيك .
ومشى نحو القوم مُصْلِتاً سيفَه , وبه ضربةٌ على جبينه , فنادى : ألاَ رجل ؟ فأحجموا عنه ؛ لأنّهم عرفوه أشجعَ الناس , فصاح عمر بن سعد : ارضخوه بالحجارة . فرُمي بها , فلمّا رأى ذلك ألقى درعَه ومغفرَه وشدَّ على الناس , وإنَّه ليطردُ أكثرَ مِن مئتين , ثمّ تعطّفوا عليه من كلِّ جانبٍ فقُتل(65) .
ووقف جون مولى أبي ذرّ الغفاريّ أمامَ الحسين (عليه السّلام) يستأذنه , فقال (عليه السّلام) :
(( يا جون , إنَّما تبِعتَنا طلباً للعافية , فأنتَ في إذنٍ منّي )) .
أي انصرفْ عن ساحةِ المعركة , فوقع على قدميه يقبّلُهما ويقول : أنا في الرخاء ألحسُ قصاعَكم , وفي الشدّة أخذلُكم ! لا والله , لا اُفارقكم حتّى يختلطَ هذا الدمُ الأسود مع دمائكم .
فأذِنَ له الحسين (عليه السّلام) , فقَتل خمسةً وعشرين وقُتل(66) .
وقُتل جميعُ أصحابه , وهم متأثّرون بمواعظه الشريفة وصراحته الطيّبة .
فالأخلاقُ الحسينيّة أبتْ أيّةَ مخادعة , فلم يُمَنِّ (سلام الله عليه) أحداً بدُنيا , وإنَّما قال لأصحابه : (( إنّي راحلٌ إلى القتل , إلى الشهادة , فمَنْ أحبَّ أن يختار الرحيلَ معي فلْيوطِّنْ نفسَه على لقاءِ الله بين السيوف والأسنّة )) .
واختبر إخلاصَهم وصفّاهم حتّى اصطفاهمُ الله تعالى للشرف التأريخيّ الشامخ ؛ أن يُستشهَدوا مع سيّد الشهداء الإمامِ الحسين (صلوات الله عليه) , وهم اُباةٌ أوفياء , فزعوا إلى مضاجع العزّ , وختمُوا حياتَهم مرضيّين ؛ لأنّهم نصروا إمامهم وذبُّوا عنه .
وتنادبتْ للذبِِّ عنه عصبةٌ ورِثُوا المعالي أشيباً وشبابا
مَن ينتدبْهم للكريهةِ ينتدبْ منهم ضراغمةَ الاُسودِ غضابا
خفّوا لداعي الحرب حين دعاهمُ ورسَوْا بعرصةِ كربلاءَ هِضابا
اُسْدٌ قدِ اتَّخذوا الصوارمَ حِلْيةً وتسربلوا حلَقَ الدروعِ ثيابا
تخِذتْ عيونُهُمُ القساطلَ كُحلَه وأكفُّهم فيضَ النحورِ خضابا
يتمايلون كأنّما غنَّى لهم وقْعُ الظُّبا وسقاهُمُ أكوابا
برِقتْ سيوفهمُ فأمطرتِ الطلى بدمائه والنقعُ ثار سَحابا
وكأنّهم مستقبِلونَ كواعب مستقبلينَ أسنَّةً وكِعابا
وجدوا الردى مِن دونِ آلِ محمّدٍ عذْباً وبَعدَهمُ الحياةَ عذابا
ودعاهُمُ داعي القضاءِ وكلُّهم ندْبٌ إذا الداعي دعاهُ أجابا
فهَوَوْا على عفرِ التراب وإنَّم ضمّوا هناكَ الخُرَّدَ الأترابا
ونأَوا عن الأعداءِ وارتحلوا إلى دار النعيم وجاوروا الأحبابا (67)
* * * * *
وظلَّتِ المواعظُ الحسينيّة تأخذ مداها في الآفاق حتّى أثمرتْ عن فضحِ المتقمّصين لباسَ الخلافة الإسلاميّة , وكسرِ الإطار الدينيِّ المزيّف الذي ضربوه أمامَ حكومتهم , فعادَ الناسُ لا يُصدّقونَ أنَّ بني اُميّةَ لهم الحقّ في خلافةِ النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) .
وكذلك أثمرتْ عن شعورٍ بالإثم ؛ فقد تغافل الناسُ زمناً عن وصايا الإمامِ الحسين (عليه السّلام) , ثمّ ما لبثُوا أن أفاقوا على كلماتِه عن لسانِ اُسرته , ولم يصبر الكثيرُ منهم حتّى عزم على الثأر والتكفير عن الذنب , فكانتْ ثورةُ التوّابين , وثورة المدينة , وثورة المختار الثقفيّ , وثورة مطرف بن المغيرة , وثورة عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث , وثورة زيد بن عليِّ بن الحسين (عليهم السّلام) .
كلّ ذلك في سنواتٍ قليلة بعد شهادة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ؛ حيث أثّرتْ وصايا الحسين في أهل بيته , فمضَوا يُبصّرون الناس فيحرّكون ضمائرَهم , ويهزّون مشاعرَهم .
وكان الإمامُ الحسين (عليه السّلام) قد شدّ على قلوب أهل بيته بالصبر والرضا بقضاء الله , فلمّا رأى النساءَ يبكينَ عليه ليلةَ عاشوراء , وسمع اُختَه اُمَّ كلثوم تنادي : واضيعتَنا بعدك يا أبا عبد الله ! عزّاها (عليه السّلام) , وقال لها : (( يا اُختاه , تَعَزَّيْ بعزاءِ الله ؛ فإنَّ سكَّان السماواتِ يفنَون , وأهل الأرض كلّهم يموتون , وجميع البريّة يهلكون )) .
ثمّ قال : (( يا اُختاه يا اُمَّ كلثوم , وأنتِ يا زينب , وأنتِ يا فاطمة (ابنته) , وأنتِ يا رباب (زوجته) , انظرْنَ إذا أنا قُتلتُ , فلا تشققْنَ عَلَيَّ جيباً , ولا تخمشْنَ عَلَيَّ وجهاً , ولا تقلْنَ هجراً ))(68) .
وكان درساً في الصبر , وفي العزّةِ والإباء أمامَ أعداءِ الله .
وفي الوداع الثاني لعياله أَمرهم بالصبر , وقال : (( استعدّوا للبلاء , واعلموا أنَّ الله تعالى حاميكم وحافظُكم , وسيُنجيكم من شرّ الأعداء , ويجعل عاقبةَ أمركم إلى خير , ويُعذّبُ عدوَّكم بأنواعِ العذاب , ويُعوّضُكم عن هذه البليّةِ بأنواعِ النِّعَمِ والكرامة . فلا تشكو , ولا تقولوا بألسنتكم ما يُنقصُ من قدْرِكم ))(69) .
وقد أخذتْ هذه الموعظةُ طريقَها إلى قلوبِ العيال , فكان منهمُ الثباتُ والصبر والإباء , والعزّةُ والشموخ . فهذه سكينةُ ابنتُه (لم يتضعضع صبرُها , ولا وهى تسليمُها للقضاءِ الجاري , ولم يتحدّثِ المؤرّخون عمّا ينافي ثباتَها على الخطوب في الكوفةِ والشام مع ما لاقتْه من شماتةِ ابنِ مرجانة وابنِ ميسون , ونكتِه بالعودِ رأسَ الحسين ...)(70) .
وهذه اُمُّ كلثوم تقف في الكوفة فتخطُبهم قائلة : يا أهل الكوفة , سَوْأةً لكم ! ما لكم خذلتُم حسيناً وقتلتموه , وانتهبْتُم أمواله وورثتموه , وسبيتُم نساءَه ونكبتموه ؟! فتبّاً لكم وسُحقاً !
ويلكم ! أتدرونَ أيّ دواهٍ دهتْكم , وأيّ وزْرٍ على ظهوركم حملتُم , وأيّ دماءٍ سفكتموها , وأيّ كريمةٍ أصبتموها , وأيّ صبيّةٍ سلبتموها , وأيّ أموالٍ انتهبتموها ؟! قتلتُم خيرَ رجالاتٍ بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) , ونُزعتِ الرحمةُ من قلوبكم , ألاَ إنَّ حزبَ الشيطان همُ الخاسرون .
فضجّ الناسُ بالبكاء , فلم يُرَ باكيةٌ وباكٍ أكثر من ذلك اليوم(71) .
وتلك فاطمة بنتُ الحسين تقف هي الاُخرى في الكوفة لتخطب قائلة : ... أمّا بعد يا أهلَ الكوفة , يا أهلَ المكرِ والغدرِ والخيلاء , فإنّا أهلُ بيت ابتلانا الله بكم وابتلاكم بنا , فجعل بلاءَنا حسَناً , وجعلَ علمَه عندنا , وفهمَه لدينا ؛ فنحنُ عيبةُ علمِه , ووعاءُ فهمه , وحكمته وحجّته على الأرض في بلاده لعباده . أكرمَنا الله بكرامته , وفضّلَنا بنبيّه محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) على كثيرٍ ممّن خلقَ تفضلاً بيّناً , فكذّبتمونا وكفّرتمونا , ورأيتُم قتالَنا حلالاً , وأموالَنا نهباً ...
ويلكم ! أتدرونَ أيَّة يدٍ طاعنتْنا منكم , وأيَّة نفْسٍ نزعتْ إلى قتالنا , أم بأيَّةِ رِجْلٍ مشيتُم إلينا تبغون محاربتَنا ؟! والله , قستْ قلوبُكم , وغلظتْ أكبادكم , وطُبِع على أفئدتكم , وخُتِم على سمعكم وبصركم , وسوّل لكمُ الشيطانُ وأملى لكم , وجعل على أبصاركم غشاوةً فأنتم لا تهتدون .
فتبّاً لكم يا أهلَ الكوفة ! أيّ تراث لرسولِ الله (صلّى الله عليه وآله) قِبَلَكم , وذحولٍ لديكم بما صنعتُم بأخيه عليِّ بنِ أبي طالب جدّي , وبنيه وعترته الطيّبين الأخيار ... ؟!
فارتفعتِ الأصواتُ بالبكاءِ والنحيب , وقالوا : حسبكِ يابنةَ الطيّبين ؛ فقد أحرقتِ قلوبنا , وأنضجتِ نحورَنا , وأضرمتِ أجوافنا . فسكتتْ(72) .
وأمّا العقيلةُ زينب (عليها السّلام) فقد أصغتْ بعقلها وقلبها إلى موعظة أخيها الحسين (سلام الله عليه) ليلة عاشوراء , حيث قال لها : (( ياُختاه , اتّقي الله , وتعزّيْ بعزاءِ الله , واعلمي أنَّ أهلَ الأرض يموتون , وأهل السماء لا يبقون , وأنَّ كلَّ شيءٍ هالكٌ إلاّ وجهَهُ تعالى الذي خلَقَ الخلْقَ بقدرته , ويبعثُ الخلْقَ ويعودون , وهو فردٌ وحدَه . جدّي خيرٌ منّي , وأبي خيرٌ منّي , واُمّي خيرٌ منّي , وأخي خيرٌ منّي , ولي ولكلِّ مسلمٍ برسول الله (صلّى الله عليه وآله) اُسوة .
يا اُختاه , أقسمتُ عليكِ فأَبرّي قسَمي ؛ لا تشقّي عَلَيَّ جيباً , ولا تخمشي عَلَيَّ وجهاً , ولا تدْعي عَلَيَّ بالويلِ والثبورِ إذا أنا هلكتُ ))(73) .
وكانت زينب (سلام الله عليها) عند وصيّةِ أخيها ؛ حيث لم يَرَ الأعداءُ منها وهْناً , بل وجدوها تلكَ الحرّةَ الأبيّة , واللبوةَ الطالبيّة , والمعجزةَ المحمّديّة , والذخيرةَ الحيدريّة , والوديعةَ الفاطميّة , تحدّتْ بمواقفها أهلَ النفاق والفتن , وأرهبتِ الطُّغاةَ في صلابتها , وأدهشتِ العقولَ برباطةِ جأشها , ومثّلتْ أباها عليّاً (عليه السّلام) بشجاعتها , وأشبهتْ اُمَّها الزهراءَ (عليها السّلام) في عظمتِها وبلاغتها .
فقد شاهدت إخوانَها , وبني إخوانِها , وبني عمومتها , وشيعةَ أخيها على الرمال مجزّرين , وشاهدت إحراقَ خيامها بعد قتل أخيها الحسين (عليه السّلام) , ومرّتْ على مصارع الشهداء , وعاشتْ محنةَ الأسر , والسفر المرير إلى الكوفة , ثمّ الشام , ثمّ من الشام إلى كربلاء , فالمدينة المنوّرة .
وقد كانتْ لها مواقفُ شجاعة وهي امرأةٌ مكسورة بفجيعة أهلها ؛ حيث خرجتْ إلى باب الفسطاط في ساحة الطفّ ونادت عمرَ بن سعد : ويلكَ يا عمر ! أيُقتل أبو عبد الله وأنتَ تنظرُ إليه ؟! فلم يُجبْها بشيء , فنادتْ : ويحكم ! أما فيكم مسلم ؟! فلم يُجبْها أحد(74) .
وبعد أن اُحرقتِ الخيام , وتفرّقتِ الأطفال , زينبُ هي التي تجمعُ النساءَ والأطفال ؛ تتفقّدهم , وتتفحّص عن الأيتام حتّى جمعتْهم في خيمةٍ وجلستْ عندها , وكأنّها لم تُصَبْ بتلك الفاجعة الأليمة ؛ فقد كان منها الحزم والصبرُ على البلاء حتّى جمعت المتشتّت , وعالجت المريض , وهدّأتِ اليتامى , وصبّرتِ الثواكلَ والأرامل .
لقد أخذتْ موعظةُ أخيها الحسين (عليه السّلام) طريقَها إلى قلب زينب , فتعزَّتْ بعزاءِ الله ؛ فوضعتْ يديها تحت جثمانه الموزّع بالسيوف رافعةً له , وهي تقول : اللهمَّ تقبّلْ منّا هذا القليلَ من القربان(75) .
وحينما أراد عبيد الله بنُ زياد قتلَ ابن أخيها عليِّ بن الحسين (عليه السّلام) صاحتْ به : يابنَ زياد , حسبُك من دمائنا . واعتنقتْ عليّاً (عليه السّلام) وقالت : والله لا اُفارقه , فإن قتلتَه فاقتلْني معه(76) .
وفي الكوفة خطبتْ تلكَ الخطبةَ المعروفة , والتي قال حذيمُ الأسديّ بعدها : لم أرَ والله خَفِرةً قطّ أنطقَ منها , كأنّها تنطقُ وتُفرغ عن لسان عليّ(77) !
وفي مجلس الطاغية عبيد الله بن زياد سألها : كيف رأيتِ فعلَ الله بأهلِ بيتك ؟
أجابته على الفور : ما رأيتُ إلاّ جميلاً , هؤلاءِ قوم كتب الله عليهمُ القتل فبرزوا إلى مضاجعهم , وسيجمع الله بينَك وبينهم فتُحاجّ وتخاصم , فانظرْ لِمَنِ الفلَجُ يومئذٍ , ثكلتْكَ اُمُّكَ يابنَ مرجانة !
فغضب ابن زيادٍ واستشاط من كلامها معه(78) .
هذا وهي سبيّة , حتّى إذا وصلتْ إلى قصر يزيد بن معاوية , وسمعتْه يقرأ أبيات الكفر :
ليت أشياخي ببدرٍ شهدو جزَعَ الخزرج من وقعِ الأسلْ
لأهلّوا واستهلُّوا فرح ثمّ قالوا يا يزيدُ لا تُشلْ
قد قتلنا القومَ من ساداتِهمْ وعدلناه ببدرٍ فاعتدلْ
لعبتْ هاشمُ بالمُلْكِ فل خبرٌ جاءَ ولا وحيٌ نزلْ
لستُ من خِندفَ إن لم أنتقمْ من بني أحمدَ ما كان فعلْ
خطبتْ زينبُ (عليها السّلام) خطبتَها المشهورة , وقد قالتْ فيها فيما قالتْ : ... أظننتَ يا يزيد حيث أخذتَ علينا أقطارَ الأرضِ وآفاقَ السماء , فأصبحنا نُساق كما تُساق الاُسارى , أنَّ بنا على الله هواناً , وبك عليه كرامة , وأنَّ ذلك لعِظَمِ خطرك عنده , فشمختَ بأنفك , ونظرتَ في عطفك جذلانَ مسروراً , حين رأيتَ الدنيا لك مستوسقة , والاُمورَ متّسقة , وحين صفا لمُلكُنا وسلطاننا ؟! فمهلاً مهلاً , أنسِيتَ قولَ الله تعالى : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران : 178] (79)؟!
أمِنَ العدل يابن الطلقاء , تخديرُك حرائرَك وإماءَك , وسوقُك بناتِ رسول الله سبايا ؟! ... ثمّ تقول غيرَ مستأثِم ولا مستعظِم :
لأهلّوا واستهلُّوا فرح ثمّ قالوا يا يزيدُ لا تُشلْ
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شبابِ أهلِ الجنّة تنكتُها بمخصرتك ! ... وتهتفُ بأشياخك زعمتَ أنّك تُناديهم ! فلترِدَنّ وشيكاً موردَهم , ولتودّنَّ أنّك شُللتَ وبُكمتَ ولم تكن قلتَ ما قلت , وفعلتَ ما فعلت .
فو الله , ما فريتَ إلاّ جلْدَك , ولا حززْتَ إلاّ لحمَك , ولتردنَّ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بما تحمّلت من سفكِ دماءِ ذرّيّته , وانتهكتَ من حُرمتِه في عترتِه ولحمتِه ... وحسبُك بالله حاكماً , وبمحمّد (صلّى الله عليه وآله) خصيماً , وبجبرئيل ظهيراً , وسيعلم مَن سوّلَ لك ومكّنَكَ من رقاب المسلمين بئسَ للظالمين بدلاً , وأيّكم شرٌّ مكاناً وأضعفُ جُنْداً !
ولئن جرّتْ عَلَيَّ الدواهي مخاطبتَك , إنّي لاَستصغرُ قَدْرَك , وأستعظمُ تقريعَك , وأستكثر توبيخَك ... ألاَ فالعجبُ كلُّ العجب لقتلِ حزب الله النجباء , بحزب الشيطانِ الطلقاء ! ... فكدْ كيدَك , واسعَ سعيَك , وناصبْ جهدَك , فو الله لا تمحو ذِكْرَنا , ولا تُمِيتُ وحيَنا , ولا ترخصُ عنك عارها , وهل رأيُك إلاّ فَنَد , وأيّامُك إلاّ عدد , وجمعُك إلاّ بدد , يومَ ينادي المنادي : ألاّ لعنةُ الله على الظالمين .
والحمد لله ربِّ العالمين , الذي ختم لأوّلنا بالسعادةِ والمغفرة , ولآخرنا بالشهادة والرحمة , ونسأل الله أن يُكْمِلَ لهمُ الثواب , ويُوجبَ لهمُ المزيد , ويُحسِنَ علينا الخلافة , إنَّه رحيمٌ ودود , وحسبُنا الله ونعمَ الوكيل .
فلم يملكْ يزيدُ إلاّ أن قال :
يا صيحةً تُحمدُ مِن صوائحْ ما أهونَ النوحَ على النوائحْ(80)
* * * * *
لقد أثمرت الموعظة الحسينيّة عزّةً وإبا�