مشي أبو عبد اللّه الحسين ( عليه السّلام ) يوم الطف فلم يبدأ القوم بقتال مهما رأى من أعدائه التكاتف على الضلال و المقابلة له بكل ما لديهم من حول و طول حتى منعوه و عياله و صحبه من الماء الذي لم يزل صاحب الشريعة صلى اللّه عليه و آله و سلم يجاهر بأن الناس في الماء و الكلأ شرع سواء لأنه (عليه السّلام ) أراد اقامة الحجة عليهم فوقف في ذلك الملأ المغمور بالأضاليل و نادى بحيث يعي الجماهير حجته، فعرّفهم أولا خسارة هذه الدنيا الفانية لمن تقلب فيها فلا تعود عليهم إلا ثم تراجع ثانيا إلى التعريف بمنزلته من نبي الإسلام و شهادته له و لأخيه المجتبى بأنهما سيدا شباب أهل الجنة، و ناهيك بشهادة من لا ينطق عن الهوى و كان محبوا بالوحي الإلهي أن تؤخذ ميزانا للتمييز بين الحق و الباطل، و في الثالثة عرّفهم بأنه يؤدي كل ما لهم عنده من مال و حرمات، و في الرابعة نشر المصحف الكريم على رأسه و دعاهم إلى حكمه و حتى إذا لم تجد هذه النصائح القيمة فيهم و وضح لديه اصرارهم على الغي و العناد للّه تعالى و لرسوله صلى اللّه عليه و آله و سلم كشف الستار عن الإباء العلوي الذي انحنت عليه اضالعه و رفع الحجاب عن الأنفة التي كان أبناء علي ( عليه السّلام ) يتدارسونها ليلا و نهارا و تلهج بباب انديتهم فقال صلوات اللّه عليه:
«ألا و إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة و الذلة و هيهات منا الذلة يأبى اللّه لنا ذلك و رسوله و المؤمنون و حجور طابت و طهرت و انوف حمية و نفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ألا و إني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد و خذلان الناصر».
كيف يلوي على الدنية جيدا لسوى اللّه ما لواه الخضوع
و لديه جأش أرد من الدرع لظمأى القنا و هن شروع
و به يرجع الحفاظ لصدر ضاقت الأرض و هي فيه تضيع
فأبى أن يعيش إلا عزيزا أو تجلى الكفاح و هو صريع «1»
هذه وصايا الشريعة المطهرة و أحكامها الباتة في الدعوة إلى الحق و النهضة لسد باب الباطل و كما الزمت جهاد المضلين المشركين أباحت ترك الجهاد للصبي و المقعد و الأعمى و الشيخ الكبير و المرأة و البالغ الذي لم يأذن له أبواه، لكن مشهد «الطف» خرق ناموسها الأكبر و جاز تلك المقررات جريا على المصالح و الأسرار التي قصرت عنها احلام البشر و قد تلقاها (أبيّ الضيم) ( عليه السّلام )من جده المنقذ الأكبر و أبيه الوصي المقدم. فالحسين ( عليه السّلام ) لم يشرّع سنة أخرى في الجهاد، و إنما هو درس إلهي أثبته اللوح الأقدس في عالم الابداع محدد الظرف و المكان تلقاه الأمين جبرئيل و أفاضه على حبيب اللّه و صفيه «محمد» صلى اللّه عليه و آله و سلم فأودعه صاحب الدعوة الالهية عند ولده سيد الشهداء عليه السّلام.
فكل ما يشاهد في ذلك المشهد الدامي من الغرائب التي تنحسر عن الوصول إلى كنهها عقول الرجال فهو مما آثر المولى سبحانه به وليه و حجته أبا عبد اللّه الحسين عليه السّلام.
و على هذه السنن مشى شهيد الكوفة مسلم بن عقيل المميز في العلم و العمل و وفور العقل و الملكات القدسية كما يقتضيها تأهله للولاية و النيابة عن الإمام الحجة ( عليه السّلام )و قد كابد من شدة الظمأ ما يجوّز له شرب النجس و لكن ابن عقيل كقمر الهاشميين رضيعا لبن واحد و خريجا مدرسة الإمامة و العصمة فحازا أرقى شهادة في الاخلاص بالمفاداة دون الدين الحنيف من أئمة معصومين جعلتهما القدوة في الأعمال الصالحة، فكما أن مسلما لم يذق الماء حتى لفظ نفسه الأخير عطشا لم تسمح نفس أبي الفضل في الورود حين زلزل الصفوف عن مراكزها حتى ملك الماء وحده، و قد علم بعطش سيد الشهداء و حرائر المصطفى صلى اللّه عليه و آله و سلم و الصبية الفاطمية، فلم تجوز له الشريعة التي تلقاها من أبيه الوصي و أخويه الإمامين «إن قاما و إن قعدا» «2» على حد تعبير النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم الري من ذلك المعين تداركا لنفس حجة الوقت و لو في آن يسير، غير أن المحتوم عاقه عن بلوغ الأمنية:
لم يذق الفرات أسوة به ميمما بمائه نحو الخبا
لم ير في الدين يبل غلة وصنوه فيه الظما قد ألهبا
لذاك قد أسنده لدينه و عن يقين فيه لن يضطربا
هذا من الشرع يرى فعلته و من صراط أحمد ما ارتكبا
و مثله الحسين لما ملك ال ماء فقيل رحله قد نهبا
أمّ الخيام نافضا لمائه إذ عظم الأمر به و اعصوصبا
فكان للعباس فيه أسوة إذ فاض شهما غير مفلول الشبا «3»
لقد نهض أبو عبد اللّه الحسين ( عليه السّلام )بذلك الجمع النزر المؤلف من شيوخ و صبية و رضع و نساء مع العلم بأن مقابليه لا يرقبون فيه إلّا و لا ذمة قادمين على استئصال شأفة النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم في أهله و ذويه، لكن سياسة «شهيد الطف» التي لا يدرك مداها و تنحسر العقول عن تفسير مغزاها عرّفت الأجيال الواقفين على هذه الملحمة التي لم يأت الدهر بمثلها بأعمال هؤلاء الجبابرة الذين لم يسلم أسلافهم حين أظهروه إلا فرقا من سيف الإسلام، و قد أصاب أبو عبد اللّه ( عليه السّلام )شاكلة الغرض يوم تقشعت سحب الأوهام بأنوار نهضته الوضيئة و هتاف حرمه الذي بلبل الأفكار و أقلق الأدمغة حتى راحت الأندية تلهج بما احتقبه هؤلاء الطغاة و من قبلهم من الشنار و العار.
______________
(1) من قصيدة في الحسين للسيد حيدر الحلي رحمه اللّه.
(2) كشف الغمة للاربلي ص 159 في أحوال الحسين (عليه السّلام ).
(3) للحجة الميرزا محمد علي الغروي الأردوبادي.