دعا [الامام الحسين (عليه السلام)] براحلته فركبها و نادى بصوت عال يسمعه جلهم :
أيها الناس اسمعوا قولي و لا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حق لكم علي، و حتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم فإن قبلتم عذري و صدقتم قولي و أعطيتموني النصف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد و لم يكن لكم علي سبيل و إن لم تقبلوا مني العذر و لم تعطوا النصف من أنفسكم فأجمعوا أمركم و شركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي و لا تنظرون إن وليي اللّه الذي نزل الكتاب و هو يتولى الصالحين.
فلما سمعن النساء هذا منه صحن و بكين و ارتفعت أصواتهن فأرسل إليهن أخاه العباس و ابنه عليا الأكبر و قال لهما: سكتاهن فلعمري ليكثر بكاؤهن.
و لما سكتن حمد اللّه و أثنى عليه و صلى على محمد و على الملائكة و الأنبياء و قال في ذلك ما لا يحصى ذكره و لم يسمع متكلم قبله و لا بعده ابلغ منه في منطقه «1» ثم قال : عباد اللّه اتقوا اللّه و كونوا من الدنيا على حذر فإن الدنيا لو بقيت على أحد أو بقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحق بالبقاء و أولى بالرضا و أرضى بالقضاء، غير أن اللّه خلق الدنيا للفناء فجديدها بال و نعيمها مضمحل و سرورها مكفهر و المنزل تلعة و الدار قلعة فتزودوا فإن خير الزاد التقوى، و اتقوا اللّه لعلكم تفلحون «2».
أيها الناس إن اللّه تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء و زوال متصرفة بأهلها حالا بعد حال، فالمغرور من غرته و الشقي من فتنته فلا تغرنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن إليها و تخيب طمع من طمع فيها و أراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم اللّه فيه عليكم و أعرض بوجهه الكريم عنكم و أحل بكم نقمته فنعم الرب ربنا و بئس العبيد أنتم أقررتم بالطاعة و آمنتم بالرسول محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم، ثم إنكم زحفتم إلى ذريته و عترته تريدون قتلهم لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر اللّه العظيم فتبا لكم و لما تريدون إنا للّه و إنا إليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعدا للقوم الظالمين «3».
أيها الناس انسبوني من أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم و عاتبوها و انظروا هل يحل لكم قتلي و انتهاك حرمتي ألست ابن بنت نبيكم و ابن وصيه و ابن عمه و أول المؤمنين باللّه و المصدق لرسوله بما جاء من عند ربه؟ أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أو ليس جعفر الطيار عمي، أو لم يبلغكم قول رسول اللّه لي و لأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟ فإن صدقتموني بما أقول و هو الحق و اللّه ما تعمدت الكذب منذ علمت أن اللّه يمقت عليه أهله و يضرّ به من اختلقه و إن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد اللّه الأنصاري و أبا سعيد الخدري و سهل بن سعد الساعدي و زيد بن أرقم و أنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول اللّه لي و لأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟!
فقال الشمر: هو يعبد اللّه على حرف إن كان يدري ما يقول!
فقال له حبيب بن مظاهر: و اللّه إني أراك تعبد اللّه على سبعين حرفا و أنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول قد طبع اللّه على قلبك!
ثم قال الحسين عليه السّلام: فإن كنتم في شك من هذا القول أفتشكون أني ابن بنت نبيكم، فو اللّه ما بين المشرق و المغرب ابن بنت نبي غيري فيكم و لا في غيركم، و يحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته! أو مال لكم استهلكته أو بقصاص جراحة، فأخذوا لا يكلمونه!
فنادى: يا شبث بن ربعي و يا حجار بن ابجر و يا قيس بن الأشعث و يا زيد بن الحارث ألم تكتبوا إلي أن أقدم قد اينعت الثمار و اخضر الجناب و إنما تقدم على جند لك مجندة؟
فقالوا: لم نفعل.
قال: سبحان اللّه بلى و اللّه لقد فعلتم. ثم قال: أيها الناس إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض، فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بني عمك؟ فإنهم لن يروك إلا ما تحب و لن يصل إليك منهم مكروه.
فقال الحسين عليه السّلام: أنت أخو أخيك؟ أ تريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا و اللّه لا أعطيهم بيدي اعطاء الذليل و لا أفر فرار «4» العبيد عباد اللّه إني عذت بربي و ربكم أن ترحمون، أعوذ بربي و ربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب.
ثم أناخ راحلته و أمر عقبة بن سمعان فعقلها «5».
و قام لسان اللّه يخطب واعظا فصموا لما عن قدس أنواره عموا
و قال انسبوني من أنا اليوم و انظروا حلال لكم مني دمي أم محرم
فما وجدوا إلا السهام بنحره تراش جوابا و العوالي تقوم
و مذ أيقن السبط انمحى دين جده و لم يبق بين الناس في الأرض مسلم
فدى نفسه في نصرة الدين خائضا عن المسلمين الغامرات ليسلموا
و قال خذيني يا حتوف و هاك يا سيوف فأوصالي لك اليوم مغنم
و هيهات أن أغدو على الضيم جاثما و لو لا على جمر الأسنة مجثم
و كر و قد ضاق الفضا و جرى القضا و سال بوادي الكفر سيل عرمرم
و مذخر بالتعظيم للّه ساجدا له كبروا بين السيوف و عظموا
و جاء إليه الشمر يرفع رأسه فقام به عنه السنان المقوم
و زعزع عرش اللّه و انحط نوره فأشرق وجه الأرض و الكون مظلم
و مذ مال قطب الكون مال و أوشك انقلابا يميل الكائنات و يعدم
و حين ثوى في الأرض قر قرارها و عادت و من أوج السما و هي أعظم
فلهفي له فردا عليه تزاحمت جموع العدى تزداد جهلا فيحلم
و لهفي له فردا عليه تزاحمت جموع العدى تزداد جهلا فيحلم
و لهفي له ظام يجود و حوله الفرات جرى طام و عنه يحرم
و لهفي له ملقى و للخيل حافر يجول على تلك الضلوع و ينسم
و لهفي على اعضاك يا ابن محمد توزع في أسيافهم و تسهم
فجسمك ما بين السيوف موزع و رحلك ما بين الأعادي مقسم
فلهفي على ريحانة الطهر جسمه لكل رجيم بالحجارة يرجم «6»
____________________
(1) تاريخ الطبري ج 6 ص 242.
(2) زهر الآداب للحصري ج 1 ص 62 طبع دار الكتب العربية سنة 1372.
(3) مقتل محمد بن أبي طالب الحايري.
(4) بالفاء الموحدة فيهما رواه ابن نما في مثير الأحزان ص 26 و هو أصح مما يمضي على الألسن و يوجد في بعض المقاتل بالقاف من الاقرار لأنه على هذا تكون الجملة الثانية غير مفيدة إلا ما أفادته التي قبلها بخلافه على قراءة «الفرار» فإن الجملة الثانية تفيد أنه لا يفر من الشدة و القتل كما يصنعه العبيد و هو معنى غير ما تؤدي إليه الجملة التي قبلها على أنه يوجد في كلام أمير المؤمنين ما يشهد له، ففي تاريخ الطبري ج 6 ص 76 طبع أول و كامل ابن الأثير ج 3 ص 148 و نهج البلاغة ج 1 ص 104 المطبعة الأميرية أن أمير المؤمنين قال في مصقلة بن هبيرة لما فر إلى معاوية: ما له فعل فعل السيد وفر فرار العبد و خان خيانة الفاجر؟ و قصته على ما ذكرها ابن حزم في جمهرة أنساب العرب ص 164 أن أصحاب الحريث بن راشد من بني عبد البيت بن الحارث ارتدوا أيام علي عليه السّلام فحاربهم و قتلهم و سبى نساءهم و أبناءهم فابتاعهم مصقلة الشيباني و اعتقهم- ثم هرب إلى معاوية فامضى علي عليه السّلام عتقه لهم.
(5) تاريخ الطبري ج 6 ص 243.
(6) من قصيدة لآية اللّه الحجة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء .