أصبح الحسين (عليه السلام) فصلّى بأصحابه الفجر ثم عبّأ أصحابه، و على رواية قال: ستستشهدون كلكم سوى عليّ بن الحسين، و كان معه اثنان و ثلاثون فارسا و أربعون راجلا، و في رواية اثنان و مائة راجل، و نقل سبط ابن الجوزي في تذكرته: اثنين و عشرين و كان جيش عمر بن سعد ستة آلاف نفر و في بعض المقاتل ألف نفرا و على رواية ثلاثين ألف نفر.
و قد اضطربت آراء ارباب السير و المقاتل في عدد جنود الحسين (عليه السلام) و عمر بن سعد.
و جعل (عليه السلام) زهير بن القين في الميمنة و حبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه و أعطى رايته أخاه، و في رواية انّه ارسل مع زهير عشرين نفرا الى الميمنة و مع حبيب عشرين نفرا الى الميسرة و وقف هو و باقي الاصحاب في القلب و جعلوا البيوت في ظهورهم و أمر بحطب و قصب كان من وراء البيوت أن يترك في خندق كان قد حفر هناك و أن يحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم.
و عبأ عمر بن سعد أصحابه أيضا فجعل عمرو بن الحجاج على الميمنة و شمر بن ذي الجوشن على الميسرة و جعل عروة بن قيس على الخيالة، و جعل شبث بن ربعي على الرجالة و أعطى الراية دريدا مولاه .
و روي انّ الحسين (عليه السلام) رفع يديه للدعاء فقال: «اللهم أنت ثقتي في كل كرب و أنت رجائي في كل شدة، و أنت لي في كل أمر نزل بي ثقة و عدة، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد و ثقّل فيه الحلية، و يخذل فيه الصديق، و يشمت فيه العدو، أنزلته بك و شكوته إليك رغبة مني إليك عمن سواك، ففرجته عنّي و كشفته فأنت وليّ كل نعمة، و صاحب كل حسنة، و منتهى كل رغبة» .
و أقبل القوم يجولون حول بيوت الحسين (عليه السلام) فيرون الخندق في ظهورهم و النار تضطرم في الحطب و القصب الذي كان القي فيه، فنادى شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته: يا حسين أ تعجلت النار قبل يوم القيامة؟
فقال الحسين (عليه السلام): من هذا؟ كأنّه شمر بن ذي الجوشن فقالوا له: نعم، فقال له: يا ابن راعية المعزى أنت أول بها صليّا، و رام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين (عليه السلام) من ذلك فقال له: دعني حتى ارميه فانّه الفاسق من اعداء اللّه و عظماء الجبارين و قد امكن اللّه منه، فقال له الحسين (عليه السلام): لا ترمه فانّي أكره أن أبدأهم.
ثم دعا الحسين (عليه السلام) براحلته فركبها و نادى بأعلى صوته يا أهل العراق، فقال: أيها الناس اسمعوا قولي و لا تعجلوا حتى أعظكم بما يحق لكم عليّ و حتى اعذر إليكم فان أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد و ان لم تعطوني النصف من انفسكم فاجمعوا رأيكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إليّ و لا تنظرون {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } [الأعراف: 196].
قال الراوي: فلما سمع اخواته كلامه هذا صحن و بكين و بكى بناته فارتفعت أصواتهن فأرسل إليهنّ أخاه العباس بن عليّ عليهما السّلام و عليا ابنه و قال لهما: اسكتاهنّ فلعمري ليكثرنّ بكاؤهنّ .
فلما سكتن حمد اللّه و أثنى عليه و ذكر اللّه بما هو أهله و صلى على نبيه (صلى الله عليه واله)و على ملائكة اللّه و انبيائه فلم يسمع متكلم قط قبله و لا بعده أبلغ في منطق منه، ثم قال:
اما بعد فانسبوني و انظروا من أنا ثم ارجعوا الى أنفسكم و عاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي و انتهاك حرمتي؟ أ لست ابن بنت نبيكم و ابن وصيه و ابن عمه و أول المؤمنين المصدّق لرسول اللّه بما جاء به من عند ربه؟ أ و ليس حمزة سيد الشهداء عمّي؟
أ و ليس جعفر الطيار في الجنة بجناحين عمّي؟ أ و لم يبلغكم ما قال رسول اللّه (صلى الله عليه واله)لي و لأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة، فان صدّقتموني بما أقول و هو الحق، و اللّه و ما تعمدت كذبا منذ علمت أنّ اللّه يمقت عليه أهله، و ان كذبتموني فانّ فيكم من ان سألتموه عن ذلك أخبركم.
سلوا جابر بن عبد اللّه الانصاري، و أبا سعيد الخدري و سهل بن سعد الساعدي، و زيد بن أرقم، و أنس بن مالك، يخبروكم انهم سمعوا هذه المقالة من رسول اللّه لي و لأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟
فقال له شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد اللّه على حرف ان كان يدري ما تقول، فقال له حبيب بن مظاهر: و اللّه انّي لأراك تعبد اللّه على سبعين حرفا و أنا أشهد انّك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع اللّه على قلبك.
ثم قال لهم الحسين (عليه السلام): فان كنتم في شك من هذا أ فتشكون انّي ابن بنت نبيكم، فو اللّه ما بين المشرق و المغرب ابن بنت نبي غيري فيكم و لا في غيركم، و يحكم أ تطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مال استهلكته، أو بقصاص جراحة؟
فأخذوا لا يكلمونه فنادى: يا شبث بن ربعي، و يا حجّار بن أبجر، و يا قيس بن الاشعث و يا زيد بن الحارث، أ لم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار و اخضر الجناب و انما تقدم على جند لك مجند فأقبل، فقال له قيس بن الاشعث: ما ندري ما تقول و لكن انزل على حكم بني عمك (يزيد و عبيد اللّه) فانّهم لن يروك الّا ما تحب.
فقال له الحسين (عليه السلام): لا و اللّه لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل و لا أفر فرار العبيد، ثم نادى: يا عباد اللّه انّي عذت بربي و ربكم أن ترجمون، انّي أعوذ بربي و ربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب، ثم انّه أناخ راحلته و أمر عقبة بن سمعان فعقلها .