ذكر أهل التاريخ أن سيد الشهداء أفرد خيمة في حومة الميدان «1» و كان يأمر بحمل من قتل من صحبه و أهل بيته إليها، و كلما يؤتى بشهيد يقول عليه السّلام: قتلة مثل قتلة النبيين و آل النبيين «2».
إلا أخاه أبا الفضل العباس عليه السّلام تركه في محل سقوطه قريبا من شط الفرات «3».
و لما ارتحل عمر بن سعد بحرم الرسالة إلى الكوفة ترك أولئك الذين وصفهم أمير المؤمنين عليه السّلام بأنهم سادة الشهداء في الدنيا و الآخرة لم يسبقهم سابق و لا يلحقهم لاحق «4» على وجه الصعيد تصهرهم الشمس و يزورهم وحش الفلا.
قد غيّر الطعن منهم كل جارحة إلا المكارم في أمن من الغير
و بينهم سيد شباب أهل الجنة بحالة تفطر الصخر الأصم، غير أن الأنوار الإلهية تسطع من جوانبه و الأرواح العطرة تفوح من نواحيه.
و مجرح ما غيّرت منه القنا حسنا و لا أخلقن منه جديدا
قد كان بدرا فاغتدى شمس الضحى مذ ألبسته يد الدماء لبودا
تحمي أشعته العيون فكلما حاولن نهجا خلنه مسدودا
و تظله شجر القنا حتى أبت إرسال هاجرة إليه بريدا «5»
و حدّث رجل من بني أسد أنه أتى المعركة بعد ارتحال العسكر فشاهد من تلك الجسوم المضرجة أنوارا ساطعة و أرواحا طيبة و رأى أسدا هائل المنظر يتخطى تلك الأشلاء المقطعة حتى إذا وصل إلى هيكل القداسة و قربان الهداية تمرغ بدمه و لاذ بجسده و له همهمة و صياح فأدهشه الحال إذ لم يعهد مثل هذا الحيوان المفترس يترك ما هو طعمة أمثاله فاختفى في بعض الأكم لينظر ما يصنع فلم يظهر له غير ذلك الحال.
و مما زاد في بعض تحيره و تعجبه أنّه عند انتصاف الليل رأى شموعا مسرجة ملأت الأرض بكاءا و عويلا مفجعا «6».
و في اليوم الثالث عشر من المحرم أقبل زين العابدين لدفن أبيه الشهيد عليه السّلام لأنّ الإمام لا يلي أمره إلّا إمام مثله «7».
يشهد له مناظرة الإمام الرضا مع علي بن أبي حمزة فإنّ أبا الحسن عليه السّلام قال له: أخبرني عن الحسين بن علي كان إماما؟ قال: بلى، فقال الرضا: فمن ولي أمره؟ قال ابن أبي حمزة: تولاه علي بن الحسين السجّاد فقال الرضا: فأين كان علي بن الحسين؟ قال ابن أبي حمزة: كان محبوسا بالكوفة عند ابن زياد و لكنّه خرج و هم لا يعلمون به حتى ولي أمر أبيه ثم انصرف إلى السجن.
فقال الرضا: إن من مكّن علي بن الحسين أن يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه ثم ينصرف يمكّن صاحب هذا الأمر أن يأتي بغداد فيلي أمر أبيه و ليس هو في حبس و لا إسار.
و لما أقبل السجّاد عليه السّلام وجد بني أسد مجتمعين عند القتلى متحيرين لا يدرون ما يصنعون و لم يهتدوا إلى معرفتهم و قد فرّق القوم بين رؤوسهم و أبدانهم و ربما يسألون من أهلهم و عشيرتهم!!
فأخبرهم عليه السّلام عما جاء إليه من مواراة هذه الجسوم الطاهرة و أوقفهم على أسمائهم كما عرفهم بالهاشميين من الأصحاب فارتفع البكاء و العويل، و سالت الدموع منهم كل مسيل و نشرت الأسديات الشعور و لطمن الخدود.
ثم مشى الإمام زين العابدين إلى جسد أبيه و اعتنقه و بكى بكاءا عاليا و أتى إلى موضع القبر و رفع قليلا من التراب فبان قبر محفور و ضريح مشقوق فبسط كفّيه تحت ظهره و قال : «بسم اللّه و في سبيل اللّه و على ملّة رسول اللّه صدق اللّه و رسوله ما شاء اللّه لا حول و لا قوّة إلا باللّه العظيم».
و أنزله وحده لم يشاركه بنو أسد فيه و قال لهم : إن معي من يعينني. و لما أقره في لحده وضع خده على منحره الشريف قائلا :
«طوبى لأرض تضمنت جسدك الطاهر، فإن الدنيا بعدك مظلمة و الآخرة بنورك مشرقة، أما الليل فمسهد و الحزن سرمد أو يختار اللّه لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم و عليك مني السلام يا ابن رسول اللّه و رحمة اللّه و بركاته».
و كتب على القبر: «هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتلوه عطشانا غريبا».
ثم مشى إلى عمّه العبّاس عليه السّلام فرآه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين أطباق السماء و أبكت الحور في غرف الجنان و وقع عليه يلثم نحره المقدّس قائلا:
على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم و عليك مني السلام من شهيد محتسب و رحمة اللّه و بركاته.
و شق له ضريحا و أنزله وحده كما فعل بأبيه الشهيد و قال لبني أسد إنّ معي من يعينني!
نعم ترك مساغا لبني أسد بمشاركته في مواراة الشهداء و عيّن لهم موضعين و أمرهم أن يحفروا حفرتين و وضع في الأولى بني هاشم و في الثانية الأصحاب «8».
و أما الحر الرياحي فأبعدته عشيرته إلى حيث مرقده الآن و قيل إنّ أمّه كانت حاضرة فلما رأت ما يصنع بالأجساد حملت الحر إلى هذا المكان «9».
و كان أقرب الشهداء إلى الحسين ولده «الأكبر» عليه السّلام و في ذلك يقول الإمام الصادق لحماد البصري: قتل أبو عبد اللّه غريبا بأرض غربة يبكيه من زاره و يحزن له من لم يزره و يحترق له من لم يشهده و يرحمه من نظر إلى قبر ابنه عند رجليه في أرض فلاة و لا حميم قربه ثم منع الحق و توازر عليه أهل الردة حتى قتلوه و ضيّعوه و عرضوه للسباع و منعوه شرب ماء الفرات الذي يشربه الكلاب و ضيّعوا حق رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم و وصيّته به و بأهل بيته فأمسى مجفوا في حفرته صريعا بين قرابته و شيعته قد أوحش قربه في الوحدة و البعد عن جدّه و المنزل الذي لا يأتيه إلا من امتحن اللّه قلبه للإيمان و عرف حقّنا.
و لقد حدّثني أبي أنه لم يخل مكانه منذ قتل من مصلّ عليه من الملائكة أو من الجن و الإنس أو من الوحش و ما من أحد إلّا و يغبط زائره و يتمسّح به و يرجو في النظر إليه الخير لنظره إلى قبره.
و إنّ اللّه تعالى ليباهي الملائكة بزائريه.
و أمّا ما له عندنا فالترحم عليه كلّ صباح و مساء.
و لقد بلغني أنّ قوما من أهل الكوفة و ناسا من نواحيها يأتونه في النصف من شعبان فبين قارىء يقرأ وقاص يقص و نادب يندب و نساء يندبنه و قائل يقول المراثي!
فقال حماد: قد شهدت بعض ما تصف.
قال عليه السّلام: «الحمد للّه الذي جعل في الناس من يفد إلينا و يمدحنا و يرثي لنا و جعل عدوّنا من يطعن عليهم و يهددونهم و يقبح ما يصنعون» «10».
ثوى اليوم أحماها عن الضيم جانبا و أصدقها عند الحفيظة مخبرا
و أطعمها للوحش من جثث العدى و أخضبها للطير ظفرا و منسرا
قضى بعد ما رد السيوف على القنا و مرهفة فيها و في الموت أثّرا
و مات كريم العهد عند شبا القنا يواريه منها ما عليه تكسرا
فان يمس مغبر الجبين فطالما ضحى الحرب في وجه الكتيبة غبرا
و إن يقض ظمآنا تفطر قلبه فقد راع قلب الموت حتى تفطرا
و ألحقها شعواء تشقى بها العدى و لود المنايا ترضع الحتف ممقرا
فظاهر فيها بين درعين نثرة و صبر، و درع الصبر أقواهما عرى
سطا و هو أحمى من يصون كريمة و أشجع من يقتاد للحرب عسكرا
فرافده في حومة الضرب مرهف على قلة الأنصار فيه تكثرا
تعثر حتى مات في الهام حده و قائمه في كفه ما تعثرا
كأن أخاه السيف أعطي صبره فلم يبرح الهيجاء حتى تكسرا
له اللّه مفطورا من الصبر قلبه و لو كان من صم الصفا لتفطرا
و منعطف أهوى لتقبيل طفله فقبّل منه قبله السهم منحرا
لقد ولدا في ساعة هو و الردى و من قبله في نحره السهم كبّرا
و في السبي مما يصطفي الخدر نسوة يعز على فتيانها أن تسيّرا
حمت خدرها تقضي وودت بنومها ترد عليها جفنها لا على الكرى
مشى الدهر يوم الطف أعمى فلم يدع عمادا لها إلّا و فيه تعثّرا
و جشمها المسرى ببيداء قفرة و لم تدر قبل الطف ما البيد و السرى
و لم تر حتى عينها ظل شخصها إلى أن بدت في الغاضرية حسّرا «11»
________________________
(1) تاريخ الطبري ج 6 ص 256، و كامل ابن الأثير ج 4 ص 30 و إرشاد الشيخ المفيد.
(2) حكاه في البحار ج 10 ص 211 و ج 13 ص 125 عن غيبة النعماني.
(3) نص عليه جماعة من المؤرخين أنظر كتابنا «قمر بني هاشم» ص 115 ط المطبعة الحيدرية في النجف.
(4) كامل الزيارات ص 219.
(5) للحاج هاشم الكعبي.
(6) مدينة المعاجز ص 263 باب 127.
(7) إثبات الوصية للمسعودي ص 173، و قد ذكرنا في كتاب «زين العابدين» ص 402 الأحاديث الدالة على أن الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله.
لم تكشف الأحاديث هذا السر المصون، و لعل النكتة فيه أن جثمان المعصوم عند سيره إلى المبدأ الأعلى بانتهاء أمد الفيض الإلهي يختص بآثار منها: أن لا يقرب منه من لم يكن من أهل هذه المرتبة إذ هو مقام قاب قوسين أو أدنى، ذلك المقام تقهقر عنه الروح - الأمين و عام النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم وحده في سبحات الملكوت و ليست هذه الدعوى في الأئمة بغريبة بعد أن تكوّنوا من الحقيقة المحمدية و شاركوا جدهم في المآثر كلها إلا النبوة و الأزواج كما في المحتضر للحسن بن سليمان الحلي ص 22 طبع النجف و هذه أسرار لا تصل إليها أفكار البشر و لا سبيل لنا إلى الإنكار بمجرد بعدنا عن إدراكها ما لم تبلغ حد الاستحالة و قد نطقت الآثار الصحيحة بأن للأئمة أحوالا غريبة ليس لسائر الخلق الشركة معهم كإحيائهم الأموات بالأجساد الأصلية و رؤية بعضهم بعضا و صعود أجسادهم إلى السماء و سماعهم سلام الزائرين لهم و قد صادق على ذلك شيخنا المفيد في المقالات ص 84 ط طهران و الكراجكي في كنز الفوائد و المجلسي في مرآة العقول ج 1 ص 373 و كاشف الغطاء في منهج الرشاد ص 51، و النوري في دار السلام ج 1 ص 289.
(8) الكبريت الأحمر (و أسرار الشهادة) و (الإيقاد).
(9) الكبريت الأحمر و نقل السيد الجزائري في الأنوار النعمانية ص 344 ما يشهد بذلك، فإنه نقل أن إسماعيل الصفوي نبش الموضع فظهر له رجل كهيئته لما قتل و على رأسه عصابة فلما حلها انبعث الدم و لم ينقطع إلا بشدها فبنى على القبر قبة و عيّن له خادما؟
و عليه فإنكار النوري في اللؤلؤ و المرجان دفنه هنا لم يدعم بقرينة. و في تحفة العالم للسيد جعفر بحر العلوم ج 1 ص 37 أن حمد اللّه المستوفي ذكر في نزهة القلوب، أن في ظاهر كربلاء قبر الحر تزوره الناس و هو جده الثامن عشر، و كان أحدهم يقول:
أشر للحر من قرب و بعد فإن الحر تكفيه الإشاره
- فرد عليه الحجة السيد محمد القزويني :
زر الحر الشهيد و لا تؤخر زيارته على الشهداء قدم
و لا تسمع مقالة من ينادي أشر للحر من بعد و سلم
(10) كامل الزيارات ص 325 و عنه في مزار البحار ص 124.
(11) للسيد حيدر الحلي نور اللّه ضريحه.