مَنْ دفن الحسين (عليه السّلام) وأصحابه ؟ ومتى وكيف ؟
من القواعد العامّة والثابتة عند الشيعة هي أنّ المعصوم لا يجهّزه ولا يدفنه إلاّ معصوم مثله ؛ فرسول الله (صلّى الله عليه وآله) مثلاً جهّزه ودفنه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وكذلك سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) قام الإمام (عليه السّلام) بغسلها وتجهيزها ودفنها ليلاً وعفا موضع قبرها حسب وصيّتها (عليها السّلام) والإمام علي (عليه السّلام) جهّزه ودفنه ابنه الإمام الحسن (عليه السّلام) . . . وهكذا كلّ إمام أو معصوم قام بتجهيزه المعصوم الآخر .
والآن السؤال هو : مَنْ الذي دفن الحسين (عليه السّلام) مع العلم أنّ ابنه الإمام زين العابدين (عليه السّلام) كان أسيراً بأيدي الأعداء في الكوفة ؟
نقول : أجل كان علي بن الحسين زين العابدين (عليه السّلام) أسيراً بأيدي الأعداء ولكن تمكّن من الخروج من السجن ليلاً مساء الثاني عشر من المحرّم ووصل إلى كربلاء صبيحة الثالث عشر منه ودفن أباه الحسين (عليه السّلام) وصحبه بمعونة رهط من بني أسد كانوا هناك .
ولمّا فرغ من مواراتهم جميعاً وعرّفهم بمواقع قبور الأصحاب والهاشميِّين وأبي الفضل العباس وحبيب بن مظاهر عند ذلك عرّفهم بنفسه وطلب إليهم أن يقوموا بضيافة الزائرين ودلالتهم وتعريفهم ثمّ ودّعهم وعاد إلى سجن عبيد الله بن زياد ليلاً دون أن يشعر به الحرّاس .
وكانت عمته العقيلة زينب (عليها السّلام) قد افتقدته تلك الليلة ولمّا عاد أخبرها أنّه مضى لمواراة جثمان أبيه الحسين (عليه السّلام) وصحبه .
نعم لقد دُفن جسد الحسين (عليه السّلام) في الثالث عشر من المحرّم أي بعد مقتله بثلاثة أيّام ولكنّ رأس الحسين بقي على أطراف الرماح وبأيدي الأعداء وبين يدي ابن زياد ويزيد (لعنهما الله) حتّى أعاده الإمام زين العابدين (عليه السّلام) إلى كربلاء عندما رجع من الأسر وألحقه بالجسد الشريف وذلك بعد أربعين يوماً من مقتله أي في العشرين من شهر صفر .
هذا أصح الأقوال وأقربها إلى الاعتبار عند المحققين . وهناك أقوال مختلفة في تحديد مدفن رأس الحسين غير أنّ الذي عليه الشيعة هو القول الأول أعني أنّ الإمام السجّاد أعاده إلى كربلاء ودفنه مع الجسد .
وبهذه المناسبة تكوّنت زيارة الأربعين حيث تفد المواكب العزائيّة وآلاف الزائرين إلى كربلاء يوم العشرين من شهر صفر فكأنّهم يقومون بدور الاستقبال للإمام السجّاد وبنات الرسالة العائدين من الشام ومعهم رأس الحسين (عليه السّلام) وفي نفس الوقت يجدّدون الاحتفال بذكرى مرور أربعين يوماً على شهادة الحسين (عليه السّلام) .
وأوّل مَنْ قام بهذه الزيارة عفواً ومن غير قصد إلى المناسبة المذكورة هو الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمه الله) الذي عظم عليه نبأ قتل الحسين (عليه السّلام) وهو في المدينة فخرج منها متوجّهاً إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين (عليه السّلام) . واصطحب معه رجلاً يُقال له : ابن عطية وغلاماً له وصادف وصوله إلى كربلاء يوم التاسع عشر من صفر أي قبل ورود أهل البيت (عليهم السّلام) بيوم واحد .
فلمّا وصل جابر إلى كربلاء توجّه إلى شاطئ الفرات فاغتسل وغسل ثيابه ثمّ توجّه نحو القبور الطاهرة بهدوء وخشوع وكان يسبّح الله ويهلّله ويقول لصاحبه ابن عطية : قصّر الخُطا في زيارة الحسين (عليه السّلام) ؛ فإنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : إن لزائر الحسين (عليه السّلام) بكلّ خطوة حسنة عند الله تعالى .
ولمّا أتمّ جابر زيارة قبر الحسين (عليه السّلام) توجّه إلى قبور الشهداء حوله وسلّم عليهم وحيّاهم أحسن تحيّة ثمّ قال لهم : أشهد أننا قد شاركناكم فيما أنتم فيه من الأجر الجزيل عند الله سبحانه .
فقال له ابن عطية : وكيف نكون شركاءهم في أجرهم وثوابهم مع أننا لم نضرب بسيف ولم نطعن برمح والقوم كما ترى قد بذلوا أنفسهم وضحّوا بكلّ ما لديهم فكيف نكون شركاءهم ؟!
فقال جابر : نعم يابن عطية لقد سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : مَنْ أحبّ عمل قوم أُشرك معهم في عملهم . وإنّ نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه .
والخلاصة : لقد التقى جابر بن عبد الله الأنصاري في اليوم الثاني بالإمام زين العابدين (عليه السّلام) عند قبر الحسين (عليه السّلام) واستمع منه إلى تفاصيل ما جرى هناك فكثر البكاء والعويل حول قبر الحسين (عليه السّلام) وأُقيمت المآتم من قبل أهل السواد والنواحي الذين كانوا قد توافدوا لزيارة قبر الحسين (عليه السّلام) وللسّلام على زين العابدين (عليه السّلام) وبنات الرسالة . واستمروا على تلك الحال ثلاثة أيّام ثمّ بعد ذلك ارتحل زين العابدين (عليه السّلام) بالعائلة من كربلاء مواصلاً سيره نحو المدينة المنوّرة .
شقيقات الحسين (عليه السّلام) كم عددهنَّ ؟ ومَنْ هنَّ ؟
المشهور بين المؤرّخين أنّ بنات فاطمة (عليها السّلام) اثنتان : زينب العقيلة واُختها اُمّ كلثوم . والمشهور بينهم أيضاً أنّ اُمّ كلثوم هذه تزوّجها عمر بن الخطاب غير أنّ بعض المحقّقين ينفي وجود اُمّ كلثوم بتاتاً ويرى أنّ زينب العقيلة كانت تُكنّى باُمّ كلثوم وأنّها هي البنت الوحيدة لفاطمة الزهراء (عليها السّلام) ؛ ويستند في رأيه هذا على ظواهر تاريخية :
منها : أنّه لم يرد لها ـ أي لاُمّ كلثوم ـ ذكر في حوادث وفاة فاطمة (عليها السّلام) حيث أوصت ببعض الأشياء التي تعود لها إلى زينب وأوصتها باُمور تتعلّق بالحسين (عليه السّلام) ولم يرد في وصاياها ذكر لاُمّ كلثوم .
ومنها أيضاً : أنّ كثيراً من قضايا كربلاء والسبي من خطب وكلمات وأعمال تُنسب تارة إلى زينب وتُنسب نفسها إلى اُمّ كلثوم تارة اُخرى ؛ الأمر الذي يدلّ على أنّ زينب واُمّ كلثوم واحدة يعبّر عنها تارة بالاسم وتارة بالكنية .
وهناك بعض الخبراء من علمائنا الأعلام يقرّ بوجود اُمّ كلثوم كبنت ثانية لفاطمة (عليها السّلام) ولكن ينفي تزويجها من عمر بن الخطاب نفياً قاطعاً ومنهم الحجّة الجليل الشيخ المفيد (قدس سرّه) في أجوبة المسائل السروية حيث يقول (رحمه الله) : والخبر الحاكي أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) زوّج اُمّ كلثوم من عمر بن الخطاب خبر لم تثبت صحته ؛ لأنّ مصدره الأول والوحيد هو الزبير بن بكار وهو غير مأمون ولا موثوق به ؛ لأنّه مشهور بالعداوة لعلي (عليه السّلام) وأهل بيته فهو متّهم فيما يروي عنهم لا يوثق بخبره .
هذا بالإضافة إلى أنّه مضطرب في نقله لهذا الخبر ومختلف في روايته ممّا يدلّ على كذب الخبر ووهن الرواية والله أعلم .
وأمّا زينب الكبرى فإنّها عقيلة آل أبي طالب وسيّدة النساء بعد اُمّها فاطمة ووصيّة أخيها الحسين (عليه السّلام) وكافلة الإمام زين العابدين (عليه السّلام) . وعلى العموم هي شريكة الحسين (عليه السّلام) في حركته المباركة وثورته المقدّسة وشقيقة الحسن والحسين (عليهما السّلام) في أشرف نسب ورضاع ونشأة .
انتقلت من أصلاب طاهرة إلى أرحام مطهّرة ورضعت من ثدي الإيمان والعصمة ونشأت في حجر النبوّة والإمامة ودرجت في بيت الوحي والرسالة ؛ فكانت (عليها السّلام) نموذجاً صالحاً ومثالاً صادقاً لأهل ذلك البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً .
ومن ثمّ أفادت بعض الأخبار بأنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) كان ينظر إلى العقيلة زينب نظرته إلى اُمّها فاطمة من حيث الإجلال والاحترام وكان يحدّثها ويحدّث ثقات أصحابه بالمحن الجسام التي أمامها وبالدور البطولي الذي ينتظرها في أعظم صراع بين الخير والشرّ في التاريخ .
والواقع : إنّ الدور الذي قامت به العقيلة زينب في تلك الثورة لا يقل صعوبة ولا تأثيراً في نصرة الدين من دور الحسين (عليه السّلام) وأصحابه ؛ فهي بحقّ بطلة كربلاء ظهرت على مسرح تلك الحوادث المؤلمة والمواقف الرهيبة بأجلى مظاهر البطولة وأعلى مستويات الشجاعة ؛ من حيث الصبر والاستقامة ورباطة الجأش وامتلاك الأعصاب تماماً كما وصفها هذا السيّد الأديب [حيث] قال :
بـأبي التي ورثتْ مصائبَ اُمِّها فـغدتْ تـقابلُها بـصبرِ أبـيها
لمْ تلهو عن جمعِ العيالِ و حفظِهمْ بـفراقِ إخـوتِها وفـقدِ بـنيها
وقال الآخر :
قـد ورثتْ زينب عن اُمّها كلّ الذي جرى عليها وصار
وزادتِ الـبنتُ عـلى اُمّها من دارِها تُهدى إلى شرّ دار
وإنْ شئت هلمّ معي لنستعرض آيات باهرات عن بطولة العقيلة زينب (عليها السّلام) وشجاعتها : لمّا صرع الحسين (عليه السّلام) خرجت السيّدة زينب متوجّهة إليه تشقّ طريقها بين الجماهير وتتخطّى القتلى والجرحى حتّى وصلت إلى مصرع أخيها الحسين (عليه السّلام) فوجدته بحالة تفتت القلوب وتقطّع الأكباد وتجري الدموع دماً . فكان المتوقّع منها طبعاً وهي اُخته الثكلى وشقيقته المفجوعة به أقول كان المتوقّع منها أنْ تفقد كلّ تماسك وتوازن وتشقّ جيبها وتنشغل بالصراخ والعويل واللطم والبكاء وما شاكل ذلك .
ولكنّها لمْ تفعل شيئاً من هذا القبيل أبداً ؛ بل جلست عند رأس الحسين (عليه السّلام) بهدوء ووقار ومدّت يديها تحت ظهر الحسين (عليه السّلام) ورفعت رأسه عن الأرض وأسندته إلى صدرها ورفعت طرفها نحو السماء وقالت وهي خاشعة خاضعة بين يدي الله تعالى : اللّهمَّ تقبّل منّا هذا القربان . اللّهمَّ تقبّل منّا هذا الفداء .
يوم الحادي عشر :
الأسير عادة يظهر عليه آثار الذلّ والاستكانة أمام آسره وخاصّة المرأة مهما كانت عظيمة وقويّة ولكنّها [إذا] وقعت في أسر العدو تلين الكلام معه وتطلب عطفه وشفقته ؛ أمّا عقيلة آل أبي طالب وبنت أمير المؤمنين (عليه السّلام) فإنّها ما ذلّت ولا خضعت بالقول لأيّ من اُولئك الطغاة الغالبين .
تخاطب القائد الفاتح عمر بن سعد يوم الحادي عشر عندما قدّم النياق إلى النساء للركوب قالت : ويلك يابن سعد ! سوّد الله وجهك أتأمر الأجانب أن يركبونا ونحن بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟! قل لهم فليتباعدوا عنّا حتّى يركب بعضنا بعضاً .
وقالت لعبيد الله بن زياد ذلك الطاغي المتجبّر لمّا سألها قائلاً : كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهلك ؟ فأجابته قائلة : ما رأيت إلاّ جميلاً ؛ اُولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمَنْ الفلج يومئذ ثكلتك اُمّك يابن مرجانة !
وقالت ليزيد بن معاوية وهي أسيرة بين يديه وفي المجلس العام : أمن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سبايا ؟! ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك إنّي لأستصغر قدرك واستعظم تقريعك واستكبر توبيخك لكن العيون عبرى والصدور حرّى فاسعَ سعيك وكد كيدك وناصب جهدك ؛ فوالله لا تمحو ذكرنا ... .
والله يا يزيد ما فريت إلاّ جلدك ولا حززت إلاّ لحمك وهل رأيك إلاّ فند وجمعك إلاّ بدد وأيامك إلاّ عدد وسيعلم مَنْ سوّى لك ومكّنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلاً !
ألا فالعجب كلّ العجب من قتل حزب الله النجباء بأيدي حزب الشيطان الطلقاء ! وهذه الأيدي تنطف من دمائنا والأفواهُ تتحلّب من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفّرها اُمّهات الفراعل . . . اللّهمَّ خذ لنا بحقّنا وانتقم لنا ممّن ظلمنا واحلل غضبك على مَنْ سفك دماءنا وقتل حُماتنا .
والخلاصة : إنّها (سلام الله عليها) ما ظهر عليها ذلّ الأسر وضعف السبي أبداً ؛ لقد قابلت الحوادث الجسام والمصائب العظام بشجاعة فائقة ورباطة جأش .
ومن الجدير بالذكر إضافة إلى ما سبق : أنّ رجلاً من الشخصيات كان حاضراً في مجلس يزيد فنظر إلى فاطمة بنت الحسين (عليها السّلام) فالتفت إلى يزيد وقال : يا أمير أطلب منك أنْ تهب لي هذه الجارية تكون خادمة عندي .
وقبل أنْ يردّ عليه يزيد بشيء قامت إليه الحوراء زينب (عليها السّلام) وقالت له : صه يا لكع الرجال ! ما جعل الله ذلك لك ولا لأميرك .
فقال يزيد : إنّ ذلك لي ولو شئت أنْ أفعل لفعلت .
فقالت له العقيلة (عليها السّلام) : كلاّ إلاّ أنْ تخرج عن ملّتنا وتدين بدين غير ديننا .
فغضب يزيد وقال : إنّما خرج عن الدين أبوك وأخوك .
فردّت عليه السيّدة زينب (عليها السّلام) قائلة : بدين الله ودين جدّي وأبي وأخي اهتديت أنت وأبوك وأخوك إنْ كنت مسلماً .
ولمّا لم يجد يزيد جواباً قال لها : كذبت يا عدوة الله .
فقالت (عليها السّلام) : أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك .
فسكت يزيد وما ردّ عليها وسكتت زينب (عليها السّلام) .
فأعاد الرجل الشامي مقالته وقال : يا أمير هب لي هذه الجارية تكون خادمة لي .
فقال له يزيد : وهب الله لك حتفاً قاضياً ويلك ! أتعرفها والتي تنهاك عنها ؟
فقال الرجل : لا ولكنّك تقول هؤلاء خوارج خرجوا عليّ فقتلت الرجال وسبيت النساء .
فقال يزيد : ويلك ! أمّا التي تريدها خادمة في بيتك فهي فاطمة بنت الحسين بن علي ؛ وأمّا التي تمنعك عنها فهي عمّتها زينب بنت علي بن أبي طالب .
فلمّا سمع الرجل ذلك قال : ويلك يا يزيد ! أتقتل آل بيت رسول الله وتسبي نساءهم ؟!
وهكذا وبمثل هذه المواقف الرائعة أعطت السيّدة زينب (عليها السّلام) المثل الأعلى للمرأة المسلمة المثالية كيف تتغلّب على عواطفها في اللحظات الحرجة وكيف تسيطر على غرائزها بقوّة العقل والتفكير الواعي ؛ فتساهم بذلك في خدمة الدين والعدل والمصلحة العامّة مع الحفاظ على عزّتها وكرامتها .
وهذا ممّا يؤكّد لنا القول : بأنّ المرأة أنفع عنصر في الحياة إنْ أخضعت عواطفها لإرادة العقل والتفكير الواعي وجنّدت قواها لخدمة المصلحة الحقيقية وأنّها تكون أضرّ وأخطر عنصر في الحياة إذا جعلت من نفسها آلة طيّعة للشهوات والغرائز الحيوانية وسارت وراء عواطفها بدون قيد من عقل ولا رادع من ضمير ولا وازع من دين ؛ فتكون بذلك أقوى سلاح بيد الشيطان .
نهاية المطاف :
وأخيراً عادت السيّدة زينب من الأسر إلى مدينة جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) وبدأت فيها حربها الدعائية ونضالها الإعلامي ضدّ الاُمويِّين ؛ وذلك بعقد المجالس والاجتماعات النسائية العامّة وسرد المصائب والمحن التي لاقاها أهل البيت (عليهم السّلام) من الاُمويِّين وأعوانهم حتّى تركت الرأي العام في المدينة المنوّرة كبركان يقذف اللعنات على يزيد وأتباعه واستشعر حكّام المدينة بالخطر ؛ فأرسلوا الرسل والرسائل إلى يزيد ينذرونه بخطر الثورة في المدينة إنْ بقيت السيّدة زينب فيها مستمرة على عملها هذا .
فلمّا وقف يزيد على حقائق الاُمور الجارية هناك بعث إلى حاكم المدينة يأمره بإبعاد زينب (عليها السّلام) منها إلى مصر أي إلى أيّ بلد آخر غير المدينة المنوّرة فظنّ الوالي أنّ يزيد يقصد إبعادها إلى بلاد مصر خاصة .
فخرجت زينب مع نساء قومها إلى مصر واستقبلها والي مصر بإجلال وإكرام وعاشت هناك مواصلة كفاحها الدعائي بجدّ ونشاط إلى أن فاجأها الأجل المحتوم في الخامس عشر من رجب المبارك سنة خمس وستين للهجرة عن عمر ناهز الستين عاماً ودُفنت هناك .
فصلوات الله وسلامه عليها واللعنة الدائمة على أعدائها وظالميها أبد الدهر .
هذا وهناك أقوال وأخبار اُخرى عن وفاتها ومدفنها (سلام الله عليها) منها الخبر القائل : بأنّها بقيت في المدينة المنوّرة حزينة نادبة باكية على أخيها الحسين (عليه السّلام) إلى أن ماتت فيها ودفنت في البقيع على الرغم من عدم وجود قبر معلوم لها هناك .
ومنها الخبر الذي مفاده : أنّها (عليها السّلام) هاجرت مع زوجها عبد الله بن جعفر الطيّار إلى الشام عام المجاعة وكان لعبد الله بن جعفر ضياع ومزارع حول دمشق فهاجر إليها مع عائلته وبقيت السيّدة زينب هناك إلى أن توفيت ودفنت حيث مكان قبرها المعروف اليوم في ضواحي دمشق .
وأخيراً الخبر الذي يقول : بأنّ السيّدة زينب (عليها السّلام) ماتت في الشام وهي في السبي ولم ترجع إلى المدينة ماتت أيّام السبي في الشام ودفنت هناك كما ماتت قبلها السيّدة رقية بنت الحسين (عليها السّلام) ودفنت في مرقدها المعروف داخل دمشق .
هذه مجموعة الأخبار والأقوال التي قيلت عن مكان وفاة السيّدة زينب بنت علي (عليها السّلام) ومرقدها الشريف ولكنّ القول الأول أشهرها بين المؤرّخين وأوثقها رأي الخبراء والله أعلم .
والظاهر الذي لا يبعد عن الاعتبار هو أنّ السيّدة زينب الكبرى بنت فاطمة الزهراء (عليها السّلام) هي التي مرقدها في مصر وأمّا التي في الشام فهي زينب الصغرى بنت الإمام أمير المؤمنين (عليها السّلام) من غير فاطمة الزهراء (عليها السّلام) ولم أقف على ترجمة وافية لحياتها وأسباب دفنها هناك .
وهذا من جنايات التاريخ على آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؛ حيث أهمل الكثير من أحوالهم وسيرتهم وكثيراً ما نسب الأكاذيب والافتراءات إلى بعضهم بغرض التشويه لسمعتهم والحطّ من كرامتهم ( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ ) .
وفي الختام نتساءل ونقول مع الأديب الفاضل السيّد جعفر الحلّي (رحمه الله) :
مـا ذنبُ أهل البيتِ حتى مـنـهـمُ أخـلَوا ربوعَهْ
تـركوهمُ شتّى مصارعهمْ وأجـمـعـهـا فـضيعَهْ
فـمكابد لـلسمّ قد سُقيتْ حـشـاشـتـهُ نـقـيعَهْ
ومـضـرّج بالسيفِ آثرَ عـزّه وأبـى خـضوعَهْ
و مـصـفّـد لله سلّمَ أم ر مـا قـاسـى جـميعَهْ
وسـبيّة بـاتت بأفعى ال هـمّ مـهـجـتها لسيعَهْ
حُـمـلتْ ودائـعُكمْ إلى مَنْ ليس يعرفُ ما الوديعَهْ
آل الـرسـالـةِ لم تزل كـبدي لـرزئكمُ صديعَهْ