في مكة كتب الحسين عليه السّلام نسخة واحدة إلى رؤوساء الأخماس بالبصرة و هم مالك بن مسمع البكري و الأحنف بن قيس و المنذر بن الجارود و مسعود بن عمرو و قيس بن الهيثم و عمرو بن عبيد بن معمر و أرسله مع مولى له يقال له سليمان و فيه : أما بعد فإنّ اللّه اصطفى محمدا صلى اللّه عليه و آله و سلم من خلقه و أكرمه بنبوته و اختاره لرسالته ثم قبضه إليه و قد نصح لعباده و بلغ ما ارسل به صلى اللّه عليه و آله و سلم و كنا أهله و أولياءه و أوصياءه و ورثته و أحق الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا و كرهنا الفرقة و أحببنا العافية، و نحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه، و قد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب و أنا أدعوكم إلى كتاب اللّه و سنة نبيه، فإن السنة قد أميتت و البدعة قد أحييت، فإن تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد.
فسلم المنذر بن الجارود العبدي رسول الحسين إلى ابن زياد فصلبه عشية الليلة التي خرج في صبيحتها إلى الكوفة ليسبق الحسين إليها «1» و كانت ابنة المنذر بحرية زوجة ابن زياد فزعم أن يكون الرسول دسيسا من ابن زياد. فأما الأحنف فإنه كتب إلى الحسين عليه السّلام: أما بعد فاصبر إن وعد اللّه حق و لا يستخفنك الذين لا يوقنون «2».
و أما يزيد بن مسعود «3» فإنه جمع بني تميم و بني حنظلة و بني سعد فلما حضروا قال: يا بني تميم كيف ترون موضعي فيكم و حسبي منكم؟ قالوا: بخ بخ أنت و اللّه فقرة الظهر و رأس الفخر حللت في الشرف وسطا و تقدمت فيه فرطا قال:
فإني قد جمعتكم لأمر أريد أن اشاوركم فيه و استعين بكم عليه فقالوا: إنا و اللّه نمنحك النصيحة و نجد لك الرأي فقل حتى نسمع.
فقال: إن معاوية مات فأهون به و اللّه هالكا و مفقودا ألا و إنه قد انكسر باب الجور و الإثم و تضعضعت اركان الظلم و كان قد أحدث بيعة عقد بها أمرا ظن أنه قد احكمه و هيهات الذي أراد اجتهد و اللّه ففشل و شاور فخذل و قد قام يزيد شارب الخمور و رأس الفجور يدعي الخلافة على المسلمين و يتأمر عليهم بغير رضى منهم مع قصر حلم و قلة علم لا يعرف من الحق موطىء قدميه فأقسم باللّه قسما مبرورا لجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين، و هذا الحسين بن علي و ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم ذو الشرف الأصيل و الرأي الأثيل له فضل لا يوصف و علم لا ينزف و هو أولى بهذا الأمر لسابقته و سنه و قدمه و قرابته يعطف على الصغير و يحسن إلى الكبير فأكرم به راعي رعية و إمام قوم وجبت للّه به الحجة و بلغت به الموعظة فلا تعشوا عن نور الحق و لا تسكعوا في وهد الباطل فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم و نصرته و اللّه لا يقصر أحدكم عن نصرته إلا أورثه اللّه تعالى الذل في ولده و القلة في عشيرته، و ها أنا ذا قد لبست للحرب لامتها و ادرعت لها بدرعها من لم يقتل يمت، و من يهرب لم يفت فأحسنوا رحمكم اللّه رد الجواب!
فقالت بنو حنظلة: يا أبا خالد نحن نبل كنانتك و فرسان عشيرتك، إن رميت بنا أصبت و إن غزوت بنا فتحت، لا تخوض و اللّه غمرة إلا خضناها، و لا تلقى و اللّه شدة إلا لقيناها، ننصرك بأسيافنا و نقيك بأبداننا إذا شئت.
و تكلمت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد نحن بنو أبيك و حلفاؤك لا نرضى إن غضبت و لا نبقى إن ظعنت و الأمر إليك فادعنا إذا شئت.
و قالت بنو سعد بن زيد: أبا خالد إن أبغض الأشياء إلينا خلافك و الخروج عن رأيك، و قد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال يوم الجمل فحمدنا ما أمرنا و بقي عزنا فينا فأمهلنا نراجع المشورة و نأتيك برأينا.
فقال لهم: لئن فعلتموها لا رفع اللّه السيف عنكم أبدا و لا زال سيفكم فيكم.
ثم كتب إلى الحسين عليه السّلام: أما بعد فقد وصل إلي كتابك و فهمت ما ندبتني إليه و دعوتني له من الأخذ بحظي من طاعتك و الفوز بنصيبي من نصرتك و إن اللّه لم يخل الأرض قط من عامل عليها بخير و دليل على سبيل نجاة، و أنتم حجة اللّه على خلقه و وديعته في أرضه، تفرعتم من زيتونة أحمدية هو أصلها و أنتم فرعها، فاقدم سعدت بأسعد طائر فقد ذللت لك أعناق بني تميم و تركتهم أشد تتابعا في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها و قد ذللت لك رقاب بني سعد و غسلت درن قلوبها بماء سحاب مزن حين استهل برقها فلمع.
فلما قرأ الحسين عليه السّلام كتابه قال: ما لك، آمنك اللّه من الخوف و أعزك و أرواك يوم العطش الأكبر.
و لما تجهز ابن مسعود إلى المسير بلغه قتل الحسين عليه السّلام فاشتد جزعه و كثر أسفه لفوات الأمنية من السعادة بالشهادة.
و كانت «مارية» ابنة سعد أو منقذ أيما و هي من الشيعة المخلصين و دارها مألف لهم يتحدثون فيه فضل أهل البيت، فقال يزيد بن نبيط و هو من عبد القيس لأولاده و هم عشرة: أيكم يخرج معي؟ فانتدب منهم اثنان عبد اللّه و عبيد اللّه، و قال له أصحابه في بيت تلك المرأة نخاف عليك أصحاب ابن زياد، قال: و اللّه لو استوت أخفافها بالجدد لهان علي طلب من طلبني و صحبه مولاه عامر و سيف بن مالك والادهم بن أمية فوافوا الحسين بمكة و ضموا رحالهم إلى رحله حتى وردوا كربلا و قتلوا معه.
______________
(1) تاريخ الطبري ج 6 ص 200.
(2) مثير الأحزان ص 13.
(3) هذا في مثير الأحزان و عند الطبري و ابن الأثير مسعود بن عمرو و قال ابن حزم في جمهرة أنساب العرب ص 218 كان عباد بن مسعود بن خالد بن مالك النهشلي سيدا و أخته ليلى بنت مسعود تحت علي بن أبي طالب ولدت له أبا بكر قتل مع الحسين و عبد اللّه كان مع مصعب بن الزبير في خروجه على المختار و قتل يوم هزيمة أصحاب المختار و ذكرنا في (زيد الشهيد) ص 101 الطبعة الثانية نصوص المؤرخين في قتله بالمذار من سواد البصرة و لم يعلم قاتله و في الخرائج للراوندي في معجزات علي عليه السّلام وجد مذبوحا في فسطاطه و لم يعلم ذابحه.