لمّا اختلفت الأقوال في كيفية وقوع هذه الواقعة العظيمة في كتب الفريقين، اكتفي هنا بذكر ما قاله أعاظم العلماء في الكتب المعتبرة و سوف نذكر بقدر الامكان ما رواه الشيخ المفيد و السيد ابن طاوس و ابن نما و الطبري و قد اخترت رواياتهم من بين سائر الروايات و سأشير في صدر المطلب الى الاختلاف الموجود و اذكر ناقله، فأقول:
اعلم انّه لمّا استشهد الحسن (عليه السلام) و ارتحل الى رياض القدس تحركت الشيعة بالعراق و كتبوا الى الحسين (عليه السلام) في خلع معاوية و البيعة له، فامتنع (عليه السلام) عليهم لعدم المصلحة و امرهم بالصبر حتى موت معاوية.
فلما مات معاوية عليه اللعنة في النصف من رجب سنة ستين من الهجرة، جلس يزيد عليه اللعنة مجلس ابيه و بدأ بتقوية سلطانه فكتب الى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان- و كان واليا على المدينة من قبل معاوية- فقال:
اما بعد فخذ حسينا و عبد اللّه بن عمرو ابن الزبير و عبد الرحمن بن ابي بكر ، بالبيعة أخذا ليس فيه رخصة حتى يبايعوا و من امتنع عليك فاضرب عنقه و ابعث برأسه إليّ.
فلمّا وصل الرسول الى الوليد دعا مروان و شاوره في هذا الامر، فقال مروان: أرى أن تدعوهم الساعة و تأمرهم بالبيعة فان فعلوا قبلت منهم و كففت عنهم و ان أبوا ضربت اعناقهم قبل ان يعلموا بموت معاوية.
فأرسل الوليد إليهم في تلك الليلة و دعاهم و كانوا آنذاك مجتمعين في المسجد النبوي فقال الحسين (عليه السلام): سوف أذهب إليه بعد ذهابي الى البيت، فرجع عمرو بن عثمان رسول الوليد.
فقال عبد اللّه بن الزبير: ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟
فقال الحسين (عليه السلام) أظنّ أنّ طاغيتهم قد هلك فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة ليزيد.
فلما علموا بمكنون خاطر الوليد قال عبد اللّه بن عمر و عبد الرحمن بن أبي بكر:
نذهب الى بيوتنا و لا نفعل شيئا، و قال ابن الزبير: انّي لا أبايع يزيد قط، فقال الحسين (عليه السلام): لا حيلة لنا الّا الذهاب.
فذهب (عليه السلام) الى داره و جمع ثلاثين من أهل بيته و مواليه و أمرهم بحمل السلاح و جاء بهم الى دار الامارة و قال لهم: ان سمعتم صوتي قد علا فادخلوا الدار.
فلما دخل الحسين (عليه السلام) على الوليد وجد عنده مروان بن الحكم، فجلس (عليه السلام) فنعى الوليد معاوية فاسترجع الحسين (عليه السلام) ثم قرأ عليه كتاب يزيد و ما أمره فيه من أخذ البيعة منه، فقال له الحسين (عليه السلام):
انّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّا حتى أبايعه جهرا فيعرف ذلك الناس، فقال له الوليد:
أجل، فقال الحسين (عليه السلام): فتصبح و ترى رأيك في ذلك، فقال الوليد: انصرف اذا شئت على اسم اللّه حتى تأتينا مع جماعة الناس.
فقال له مروان: و اللّه لئن فارقك الحسين (عليه السلام) و لم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم و بينه، احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه.
فوثب عند ذلك الحسين (عليه السلام) و قال: يا ابن الزرقاء ويل لك أ أنت تأمر بضرب عنقي و قتلي أم هو؟ كذبت و اللّه و لؤمت، ثم أقبل على الوليد، فقال: ايّها الامير انّا أهل بيت النبوة و معدن الرسالة و مختلف الملائكة و بنا فتح اللّه و بنا يختم، و يزيد رجل فاسق شارب الخمر
قاتل النفس المحرّمة معلن بالفسق و مثلي لا يبايع بمثله و لكن نصبح و تصبحون و ننظر و تنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة و البيعة، ثم خرج (عليه السلام) مع اصحابه و مواليه.
و كانت هذه الواقعة ليلة السبت قبل انتهاء شهر رجب بثلاثة ايام، فلمّا خرج (عليه السلام) قال مروان لوليد: عصيتني لا و اللّه لا يمكنك من نفسه أبدا، فقال: ويحك انّك أشرت إليّ بذهاب ديني و دنياي و اللّه ما أحبّ انّ ملك الدنيا بأسرها لي و انني قتلت حسينا، سبحان اللّه أقتل حسينا ان قال لا أبايع، و اللّه ما أظنّ أحدا يلقي اللّه بدم الحسين (عليه السلام) الّا و هو خفيف الميزان لا ينظر اللّه إليه و لا يزكيه و له عذاب أليم.
فقال له مروان: فاذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت، يقول هذا و هو غير حامد له على رأيه.
و بالغ الوليد تلك الليلة في أخذ البيعة من ابن الزبير، و كان يمتنع أشد الامتناع حتى هرب الى مكة تلك الليلة، فلما بلغ ذلك الوليد أرسل خلفه رجلا من بني أميّة في ثمانين رجل، فلم يجدوه لذهابه من الطريق غير المعهود.
و خرج الحسين صباحا من منزله يستمع الاخبار فلقيه مروان فقال له: يا أبا عبد اللّه انّي لك ناصح فاطعني ترشد، فقال الحسين (عليه السلام): و ما ذاك قل حتى اسمع، فقال مروان: انّي آمرك ببيعة يزيد بن معاوية فانّه خير لك في دينك و دنياك.
فقال الحسين (عليه السلام): انّا للّه و انّا إليه راجعون و على الاسلام السلام اذ قد بليت الامة براع مثل يزيد و لقد سمعت جدّي رسول اللّه (صلى الله عليه واله)يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان، و طال الحديث بينه و بين مروان حتى انصرف مروان و هو غضبان.
فلمّا كان آخر النهار بعث الوليد الرجال الى الحسين (عليه السلام) ليحضر فيبايع، فقال لهم الحسين (عليه السلام): أصبحوا ثم ترون و نرى، فكفوا تلك الليلة عنه و لم يلحوا عليه فخرج (عليه السلام) في ليلته و هي ليلة الاحد ليومين بقيا من رجب متوجها نحو مكة و معه بنوه و اخوته و بنو أخيه و جلّ أهل بيته الّا محمد بن الحنفية.