حياة الامام الحسين قبل مقتله
مقتل الامام عليه السلام

لقد خرج من المدينة بأهله و إخوته و بني عمومته و بعض الخواص من شيعته و ترك أخاه محمد بن الحنفية فيها ليخبره بتحركات القوم بعد أن ذهب إلى قبر جده و أمه و أخيه فودعهم و شكا إليهم ما تلاقي الأمة من عسف و جور و استهتار بالقيم و المقدسات، و مضى في طريقه إلى مكة في الأشهر التي يلتقي فيها المسلمون لأداء العمرة و الحج فأقام فيها أربعة أشهر و أياما من ذي الحجة كان فيها مهوى القلوب و الأفئدة، فالتف حوله المسلمون يأخذون عنه الأحكام و يتعلمون منه الحلال و الحرام، و كان ابن الزبير يقصده مع الناس في أغلب الأوقات، و لم يتعرض له أمير مكة يحيى بن حكيم و لأنه ترك الحسين و شأنه عزله يزيد عنها و استعمل عليها عمرو بن سعيد بن العاص، و في رمضان من تلك السنة ضم إليه المدينة و عزل عنها الوليد بن عتبة لأنه كان معتدلا في موقفه من الحسين و لم يستجب لطلب مروان كما نص على ذلك ابن قتيبة.
و قد عرف الناس في مختلف الأقطار امتناع الحسين (عليه السلام) عن البيعة فاتجهت إليه الأنظار و بخاصة الكوفة و أهلها فقد كانوا يوم ذاك من أشد الناس نقمة على يزيد و أكثرهم ميلا إلى الحسين (عليه السلام) فاجتمعوا في دار سليمان بن صرد الخزاعي فقام فيهم خطيبا و قال: إنكم قد علمتم بموت معاوية و استيلاء ولده على الملك و قد خالفه الحسين بن علي و خرج في أهله من المدينة إلى مكة، و أنتم أنصاره و شيعته و هو اليوم أحوج إلى نصرتكم، فان كنتم تعلمون انكم ناصروه و مجاهدو عدوه فاكتبوا إليه، و ان خفتم الوهن و الفشل فلا تغروا الرجل من نفسه، فقالوا بأجمعهم: بل نقاتل عدوه و نقتل أنفسنا دونه. و بعد حوار و مشاورات استقر الرأي على أن يرسلوا وفدا من قبلهم إلى مكة لمقابلته و كتبوا إليه مع الوفد كتابا من وجوههم و أشرافهم جاء فيه: أما بعد فالحمد للّه انه ليس علينا إمام غيرك فأقبل إلينا لعل اللّه يجمعنا بك على الحق، و النعمان بن بشير في قصر الامارة و لسنا نجتمع معه في جمعة و لا جماعة و لا نخرج معه إلى عيد و عند ما يبلغنا قدومك نخرجه من الكوفة حتى يلحق بالشام. و راحت كتبهم تتوالى عليه من العشرة و العشرين و الخمسين، و في أكثرها يقولون: لقد اخضر الجناب و أينعت الثمار، و ليس علينا أمير غيرك فأقبل علينا فأنت أحق خلق اللّه بالإمرة و أولاهم بالخلافة و الإمامة، و ظلت كتبهم تتوالى عليه بين الحين و الآخر حتى بلغت من الكثرة حدا ملأ منها الحسين خرجين و حملهما معه إلى العراق ليحتج بها عليهم إذا وجد منهم فتورا و انحرافا.
و تنص بعض المرويات أنه تلقى رسائل بهذا المضمون من أهل البصرة و المدائن و غيرهما، بالإضافة إلى الوفود التي كانت تأتيه من العراق و اليمن و سائر المناطق الإسلامية تعرض عليه ولاءها و بيعتها و تصف له تكتلهم ضد السلطة الحاكمة، و مع ذلك فلم يفكر في إجابة طلبهم حتى يرى حقيقة امرهم و يختبرهم بشكل ملموس واضح لا لبس فيه و لاخفاء، فكلف ابن عمه مسلم بن عقيل و كان من أفضل ثقاته عنده و ذوي الرأي و الخبرة و الشجاعة، بالذهاب الى الكوفة فإن رأى أهلها على مثل ما جاءت به كتبهم أخبره بحالهم ليكون في أثره.
Ùˆ يبدو من بعض المرويات أن مسلم بن عقيل لم يكن متفائلا في سفره لما يعرفه من تقلب أهل العراق Ùˆ مواقفهم الملتوية من عمه أمير المؤمنين الذي كان‏ يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، Ùˆ خيانتهم لابن عمه الحسن حتى اضطروه إلى ترك السلطة لمعاوية، Ùˆ قد صارح الحسين بذلك Ùˆ لكنه لم يعفه من تلك المهمة Ùˆ اتهمه بالجبن Ùˆ سوء الرأي، Ùˆ مضى Ùˆ هو متشائم من هذه المهمة، Ùˆ لما مات أحد دليليه في الطريق من العطش بعد أن ضلا عن الطريق، كتب إلى الحسين مرة أخرى يطلب منه إعفاءه Ùˆ لكن الحسين (عليه السلام) أصر عليه بالمضي في طريقه إلى الكوفة، فمضى يجد السير حتى دخلها Ùˆ استقبله أهلها بالترحاب فنزل ضيفا على المختار بن عبيد الثقفي، Ùˆ منها راح يستقبل الناس Ùˆ ينشر الدعوة إلى الحسين (عليه السلام) فبلغ عدد من بايعوه على الموت أربعين ألفا Ùˆ قيل أقل من ذلك، Ùˆ أمير الكوفة ليزيد يوم ذاك النعمان بن بشير، كان كما يصفه المؤرخون مسالما يكره الفرقة Ùˆ يؤثر العافية Ùˆ متهما بالضعف Ùˆ سوء التدبير Ùˆ حاول أنصاره من أتباع يزيد أن يجروه إلى معركة مع أنصار مسلم بن عقيل فأبى أن يعالج الأمور بالشدة Ùˆ القسوة.
Ùˆ مضت الدعوة إلى الحسين تتسع في الكوفة Ùˆ جوارها Ùˆ الناس يهتفون باسمه حتى ضاق الأمر على النعمان Ùˆ حاشيته، فكتب أحد انصار الأمويين كتابا ليزيد يخبره بما انتهى إليه مسلم Ùˆ ضعف النعمان بن بشير Ùˆ كان مما كتبه إليه: إذا كان لك في العراق حاجة فأرسل إليه من تثق بحزمه Ùˆ قوته Ùˆ صلابته، Ùˆ لما وصل كتابه إلى يزيد بن معاوية جمع انصاره Ùˆ استشارهم في الأمر، Ùˆ كان سرجون الرومي من المقربين إلى أبيه، فقال ليزيد: Ø£ رأيت لو نشر لك معاوية Ùˆ أشار عليك كنت تقبل قوله؟ فقال نعم، فأخرج كتابا كان قد كتبه معاوية قبيل وفاته Ùˆ سلمه لسرجون بولاية عبيد اللّه بن زياد على الكوفة عند ما تدعو الحاجة لذلك، فلم يتردد في العمل بمضمون الكتاب Ùˆ أرسل إلى ابن زياد من ساعته يأمره بالذهاب الى الكوفة للاشراف على السلطة فيها Ùˆ ادارة شئونها Ùˆ ترك له أن يستخلف مكانه على البصرة من يراه مناسبا لذلك، Ùˆ أمره بقتل مسلم بن عقيل ان أمكنه اللّه منه، Ùˆ أن يقاتل الحسين Ùˆ يقتله ان هو تمكن منه Ùˆ يبعث إليه برأسه، وفور وصول الكتاب إليه ترك البصرة لأحد اعوانه Ùˆ مضى‏ في طريقه إلى الكوفة في عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة Ùˆ دخلها ملثما متنكرا فظنه الناس الحسين بن علي (عليه السلام) فكان كلما مر على مجلس من مجالس أهل الكوفة قابلوه بالهتاف Ùˆ الترحيب Ùˆ تعالت الأصوات من كل جانب مرحبا Ùˆ ألف أهلا بك يا ابن رسول اللّه حللت أهلا Ùˆ نزلت سهلا، Ùˆ هو صامت لا يتكلم Ùˆ لا يسلم على أحد إلا بالإيماء Ùˆ قد امتلأ غيظا Ùˆ حقدا Ùˆ مضى يشتد حتى انتهى الى القصر Ùˆ كان قد أغلقه النعمان خوفا من الجماهير المتحمسة للحسين (عليه السلام)ØŒ فأبى أن يفتحه له Ùˆ قال: يا ابن رسول اللّه Ùˆ اللّه ما قاتلتك حتى تقاتلني Ùˆ لا يحل لي أن أفرط في أمانتي فاذهب عني Ùˆ تنقل حيث شئت في الكوفة فو اللّه لا أقاتلك ما كففت عني، Ùˆ لم يعد عبيد اللّه يملك نفسه من الغيظ، فقد رأى الجماهير في طريقه الى القصر تهتف مرحبة بالحسين، Ùˆ رأى الوالي معزولا عن الناس Ùˆ محاصرا في قصره لا يملك من الأمر شيئا Ùˆ قد استولى عليه الخوف Ùˆ القلق حتى لتكاد نفسه أن تذهب من جسده، فقال له: افتح لا فتحت، أنا عبيد اللّه بن زياد Ùˆ قد ولاني أميرك مقاليد هذا البلد.
الغدر بمسلم بن عقيل‏ :
و ما كاد الوالي الجديد يضع اقدامه في القصر و يتسلم مقاليد السلطة حتى اخذ يفكر في امر مسلم و يستعمل جميع الاسلحة لتشتيت امر الناس و تفريقهم عن مسلم و القبض عليه مهما كانت النتائج، و تسامع الناس بقدوم ابن زياد الى الكوفة و أهلها يعرفونه بالصرامة و الحزم و الشدة، فكان من الطبيعي ان يحدث قدومه هزة في اوساط المعارضين لسياسته بقيادة مسلم بن عقيل و ان يبحثوا عن وسيلة جديدة للسير في دعوتهم نحو الهدف المطلوب، فانتقل مسلم الى دار هانئ بن عروة و جعل يتستر في دعوته و تحركاته الا عن خلص اصحابه و أخذ ابن زياد يتحراه بوسائله الخاصة، و بحيلة احكم حبكها و صياغتها استطاع ان يكتشف مخبأ مسلم بن عقيل و ان يعلم بمقره و هانئ يوم ذاك سيد بني مراد و صاحب الكلمة المسموعة في الكوفة و الرأي المطاع، و جرت أحداث و أحداث مشهورة بين المؤرخين و محفوظة على ألسنة اكثر المتشيعين لصلتها بمأساة كربلاء التي ما زالت منذ حدوثها حديث الاجيال و من ابرز سمات التشيع لأهل البيت (عليه السلام)، و ستبقى ما دام على وجه الأرض اناس يقدسون البطولات و التضحيات الجسام و المثل العليا التي تجسدت في ثورة الحسين من ابرز الاحداث في تاريخ البشرية و اكثرها عطاء و نفعا، و حتى لا اطيل على القارئ سأكون سريعا الى ابعد الحدود في عرض تلك المرحلة التي ختم بها ابو الشهداء ثمانية و خمسين عاما من حياته كانت حافلة بالخير و الجهاد و الاحسان و بكل معاني النبل و الفضيلة و الخلق الكريم.
لقد استطاع الوالي الجديد ان يحكم الحيلة ليقبض على هانئ بن عروة الذي آوى رسول الحسين (عليه السلام) و أحسن ضيافته و اشترك معه في الرأي و التدبير، فقبض عليه و قتله بعد حوار طويل جرى بينهما و ألقى بجثمانه من أعلى القصر إلى الجماهير المحتشدة حوله، فاستولى الخوف و التخاذل على الناس و ذهب كل انسان إلى بيته و كأن الأمر لا يعنيه.
و لما علم مسلم بما جرى لهانئ و رأى تخاذل مذحج الغنية بعددها و عدتها، خرج في أصحابه و نادى مناديه في الناس و سار بهم لمحاصرة القصر و اشتد الحصار على ابن زياد و ضاق به امره، و لكنه استطاع بدهائه و مكره ان يتغلب على المحنة و يخذل الناس عن مسلم، فانصرفوا عنه، و بدخول الليل صلى بمن بقي معه و خرج من المسجد الجامع وحيدا لا ناصر له و لا مؤازر، و لا من يدله على الطريق و أقفل الناس ابوابهم في وجهه فمضى يبحث عن دار يأوي إليها في ليلته تلك، و فيما هو يسير في ظلمة الليل، وجد امرأة على باب دارها و كأنها تنتظر شيئا فعرفها بنفسه و سألها المبيت عندها الى الصباح فرحبت به و أدخلته بيتها و عرضت عليه العشاء فأبى ان يأكل شيئا، و عرف ولدها بمكانه و كان ابن زياد قد اعد جائزة لمن يخبره عنه، و ما كاد الصبح يتنفس حتى اسرع ولدها الى القصر و أخبر محمد بن الاشعث بمكان مسلم بن عقيل، وفور وصول النبأ الى ابن زياد ارسل قوة كبيرة من جنده بقيادة ابن الاشعث الى المكان الذي فيه مسلم، و ما ان سمع بالضجة حتى ادرك ان القوم يطلبونه فخرج إليهم بسيفه و كانوا قد طوقوا الدار من كل جهاتها فانهزموا بين يديه و هم اكثر من مائتي مقاتل، و لما اعياهم امره أمدهم ابن زياد بالخيل و الرجال، و بعد معارك ضارية بينه و بينهم في الشوارع استعملوا فيها النار و الحجارة من اعلى السطوح استسلم لهم مسلم بعد ان أمنه ابن الاشعث و أعطاه العهود و المواثيق بذلك.
و مضى معهم الى القصر فأدخل على ابن زياد و لم يسلم عليه و جرى بينهما حوار طويل كان فيه ابن عقيل رضوان اللّه عليه رابط الجأش منطلقا في بيانه قوي الحجة حتى اعياه امره و انتفخت اوداجه و جعل يشتم عليا و الحسن و الحسين، ثم امر اجهزته ان يصعدوا به الى اعلى القصر و يقتلوه و يرموا جسده الى الناس و يسحبوه في شوارع الكوفة ثم يصلبوه الى جانب هانئ بن عروة، هذا و أهل الكوفة وقوف في الشوارع و كأنهم لا يعرفون من امره شيئا و قد صور الفرزدق الشاعر هذه المأساة بقوله:
فان كنت لا تدرين ما الموت فانظري‏ الى هانئ في السوق Ùˆ ابن عقيل‏
الى بطل قد غيّر الموت لونه‏ Ùˆ آخر يهوي من طمار قتيل‏
فان انتم لم تثأروا لأخيكم‏ فكونوا نساء أرضيت بقليل‏
و كان مسلم قد طلب من ابن الاشعث ان يكتب الى الحسين يخبره بما جرى له في الكوفة وينصحه بعدم الشخوص إليهم فوعده ابن الاشعث بذلك، و لكنه لم يف بوعده.