[قال جعفر سبحاني : ] حجّ الحسين قبل أن يموت معاوية بسنة أو سنتين في الفترة التي بلغ الكبت والاضطهاد من قبل حكمه ذروته على الشيعة، وقد دعا الإمام الحسين ومعه عبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن جعفر الصحابة والتابعين وأبرز شخصيات المجتمع الإسلامي آنذاك ممّن عرف بالنزاهة والصلاح وبني هاشم جميعاً أن جتمعوا في خيمته بمنى، فاجتمع سبعمائة من التابعين ومائتان من الصحابة فقام خطيباً بهم: «أمّا بعد فإنّ الطاغية قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتم ورأيتم وشهدتم وبلغكم، وإنّي أريد أن أسألكم عن أشياء فإن صدقت فصدّقوني وإن كذبت فكذّبوني، اسمعوا مقالتي واكتموا قولي، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم من أمنتموه ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون، فإنّي أخاف أن يندرس هذا الحق ويذهب، واللّه متم نوره ولو كره الكافرون».
ثمّ ذكر بعد ذلك مناقب أبيه أمير المؤمنين المتألّقة ومناقب أهل البيت، وأشار إلى بدع وجرائم معاوية وأعماله اللا إسلامية، وهكذا فجّر ثورة إعلامية ضخمة ضد السلطة الأموية الخبيثة وهيّأ الأرضية للثورة.
هذا وقد نقل الحسن بن علي بن شعبة وهو من العلماء الكبار في القرن الرابع خطبة الإمام في كتاب «تحف العقول» دون أن يتّضح محلّ إيرادها وزمانها، غير انّ القرائن ومضمون الخطبة يدلاّن على أنّها هي نفسها تلك الخطبة التي خطبها الإمام في منى، ولتناسبها مع موضوع البحث نورد هنا بعضاً منها: «...ثمّ أنتم أيّتها العصابة بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وباللّه في أنفس الناس مهابة، يهابكم الشريف، ويكرمكم الضعيف، ويؤثركم من لا فضل لكم عليه ولا يد لكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلاّبها، وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الأكابر، أليس كلّ ذلك إنّما نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحقّ اللّه وإن كنتم عن أكثر حقّه تقصّرون فاستخففتم بحقّ الأئمّة. فأمّا حقّ الضعفاء فضيّعتم، وأمّا حقّكم بزعمكم فطلبتم، فلا مالاً بذلتموه، ولا نفساً خاطرتم بها للّذي خلقها، ولا عشيرة عاديتموها في ذات اللّه، أنتم تتمنون على اللّه جنته ومجاورة رسله وأماناً من عذابه لقد خشيت عليكم أيّها المتمنّون على اللّه أن تحلّ بكم نقمة من نقماته، لأنّكم بلغتم من كرامة اللّه منزلة فضّلتم بها، ومن يعرف باللّه لا تكرمون وأنتم باللّه في عباده تكرمون، وقد ترون عهود اللّه منقوضة فلا تفزعون وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، وذمة رسول اللّه (صلى الله عليه واله) محقورة والعمى والبكم والزمن في المدائن مهملة لا ترحمون، ولا في منزلتكم تعملون، ولا من عمل فيها تعنون، وبالإدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون، كلّ ذلك ممّا أمركم اللّه به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون، وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء، لو كنتم تسعون ذلك بأنّ مجاري الأُمور والأحكام على أيدي العلماء باللّه الأُمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلاّ بتفرقكم عن الحقّ واختلافكم في السنّة بعد البيّنة الواضحة، ولو صبرتم على الأذى وتحمّلتم المؤونة في ذات اللّه كانت أُمور اللّه عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع، ولكنّكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم واستسلمتم أُمور اللّه في أيديهم يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات، سلّطهم على ذلك فراركم من الموت وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستبعد مقهور، و بين مستضعف على معيشته مغلوب، يتقلّبون في الملك بآرائهم ويستشعرون الخزي بأهوائهم اقتداءً بالأشرار وجرأة على الجبار، في كلّ بلد منهم على منبره خطيب يصقع، فالأرض لهم شاغرة، وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول، لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبار عنيد وذي سطوة على الضعفة شديد مطاع لا يعرف المبدئ المعيد، فيا عجباً ومالي لا أعجب والأرض من غاش غشوم ومتصدّق ظلوم وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم، فاللّه الحاكم فيما فيه تنازعنا والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنرى المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك، فإن لم تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيكم، وحسبنا اللّه وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير».