ثم ذهب الى قبر جدّه (صلى الله عليه واله)و امّه و أخيه فودّعهم، فلمّا عزم على الخروج جاء إليه أخوه محمد بن الحنفية و قال له:
يا أخي أنت أحبّ الناس إليّ و أعزّهم عليّ و لست أدخر النصيحة لأحد من الخلق الّا لك و أنت أحق بها، تنح ببيعتك عن زيد بن معاوية و عن الامصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك الى الناس فادعهم الى نفسك فان بايعك الناس و بايعوا لك حمدت اللّه على ذلك و ان اجتمع الناس على غيرك لم ينقص اللّه بذلك دينك و لا عقبك و لا تذهب به مروتك و لا فضلك، انّي أخاف أن تدخل مصرا من الامصار فيختلف الناس بينهم فمنهم طائفة معك و أخرى عليك فيقتتلون فتكون لأول الاسنة غرضا، فاذا خير هذه الامة كلها نفسا و أبا و أما أضيعها دما و أذلّها أهلا.
فقال له الحسين (عليه السلام): فأين أذهب يا أخي؟ قال: أنزل مكة، فان اطمأنت بك الدار فيها فهو الذي تحب و ان نبت بك لحقت باليمن فان اطمأنت بك الدار فيها فسبيل ذلك و ان نبت بك لحقت بالرمال و شعف الجبال و خرجت من بلد الى بلد حتى تنظر ما يصير أمر الناس إليه، فانّك أصوب ما تكون رأيا حين تستقبل الامر استقباله .
و وفقا لرواية أخرى انّه: قطع محمد بن الحنفية الكلام و بكى فبكى الحسين (عليه السلام) معه ساعة ثم قال: يا أخي جزاك اللّه خيرا فقد نصحت و أشرت بالصواب و أنا عازم على الخروج الى مكّة و قد تهيّأت لذلك أنا و اخوتي و بنو أخي و شيعتي و أمرهم أمري و رأيهم رأيي، و أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عينا عليهم لا تخفي عنّي شيئا من أمورهم.
ثم دعا الحسين (عليه السلام) بدوات و بياض و كتب وصيته الى اخيه محمد ، ثم طواها و ختمها بخاتمه و دفعها إليه، ثم ودّعه و خرج في جوف الليل .
و وفقا لرواية الشيخ المفيد انّه: سار الحسين (عليه السلام) الى مكة و هو يقرأ: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 21] .
و لزم الطريق الأعظم فقال له أهل بيته: لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقك الطلب، قال: لا و اللّه لا أفارقه حتى يقضي اللّه ما هو قاض .
و روي عن سكينة بنت الحسين (عليه السلام) انّها قالت: خرجنا من المدينة ما كان أحد أشد خوفا منّا أهل البيت .
و روي عن الامام الباقر (عليه السلام) انّه قال: لمّا همّ الحسين (عليه السلام) بالشخوص الى المدينة أقبلت نساء بني عبد المطلب، فاجتمعن للنياحة حتى مشى فيهنّ الحسين (عليه السلام) فقال: أنشدكنّ اللّه، ان تبدين هذا الامر معصية للّه و لرسوله.
قالت له نساء من بني عبد المطلب: فلمن نستبقي النياحة و البكاء فهو عندنا كيوم مات رسول اللّه (صلى الله عليه واله)و عليّ و فاطمة و رقية و زينب و أمّ كلثوم (بنات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله) فننشدك اللّه، جعلنا اللّه فداك من الموت، فيا حبيب الابرار من أهل القبور، و أقبلت بعض عمّاته تبكي و تقول:
أشهد يا حسين لقد سمعت الجنّ ناحت بنوحك و هم يقولون.
و انّ قتيل الطف من آل هاشم أذلّ رقابا من قريش فذلّت
و وفقا لرواية الراوندي و غيره انّه: لما عزم الحسين (عليه السلام) على الخروج من المدينة أتته أمّ سلمة زوجة النبي (صلى الله عليه واله)فقالت له: يا بني لا تحزنّي بخروجك الى العراق، فانّي سمعت جدّك يقول: يقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها كربلاء، فقال لها:
يا أمّاه و انا و اللّه أعلم ذلك و انّي مقتول لا محالة و ليس لي من هذا بد و انّي و اللّه لأعرف اليوم الذي اقتل فيه و أعرف من يقتلني و أعرف البقعة التي أدفن فيها و انّي أعرف من يقتل من أهل بيتي و قرابتي و شيعتي و ان أردت يا أمّاه أريك حفرتي و مضجعي.
ثم أشار الى جهة كربلاء فانخفضت الارض حتى اراها مضجعه و مدفنه و موضع عسكره و موقفه و مشهده، فعند ذلك بكت أم سلمة بكاء شديدا و سلمت أمره الى اللّه، فقال لها:
يا أمّاه قد شاء اللّه عز و جل أن يراني مقتولا مذبوحا ظلما و عدوانا، و قد شاء أن يرى حرمي و رهطي و نسائي مشردين و أطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيدين و هم يستغيثون فلا يجدون ناصرا و لا معينا.
فقالت أمّ سلمة (رضي اللّه عنها): و عندي تربة دفعها إليّ جدك في قارورة فقال: و اللّه انّي مقتول كذلك و ان لم أخرج الى العراق يقتلوني أيضا، ثم أخذ تربة فجعلها في قارورة و أعطاها ايّاها و قال: اجعليها مع قارورة جدّي فاذا فاضتا دما فاعلمي انّي قد قتلت .