بدايات النهضة :
ذكرنا أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) وبالرغم من معارضته الشديدة لحكم معاوية بن أبي سفيان ـ والتي نقلنا صوراً عديدةً منها ـ رفض التحرّك لخلع معاوية; التزاماً منه بالعهد الذي وقّعه أخوه الإمام الحسن(عليه السلام) مع معاوية.
وقد سجّل المؤرّخون هذا الموقف المبدئي للإمام الحسين(عليه السلام) فقالوا:
لمّا مات الحسن(عليه السلام) تحرّكت الشيعة بالعراق، وكتبوا إلى الحسين(عليه السلام) في خلع معاوية والبيعة له فامتنع عليهم، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدّة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك.
من هنا كان معلوماً لشيعته وللجهاز الحاكم أيضاً أنّ موت معاوية يعني بالنسبة للإمام الحسين(عليه السلام)أنه في حلّ من أيّ التزام، ومن ثم فإنّه سيطلق ثورته على نظام الحكم الغاشم الذي استلمه يزيد الفاسق، لذلك كان الإمام الحسين(عليه السلام) يمثّل الهاجس الأكبر للطغمة الحاكمة.
رسالة يزيد إلى حاكم المدينة :
قال المؤرّخون : إنّ يزيد كتب فور موت أبيه إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ وكان والياً على المدينة من قِبَل معاوية ـ أن يأخذ على الحسين(عليه السلام) بالبيعة له ولا يرخّص له في التأخّر عن ذلك. وذكرت مصادر تأريخية أخرى أنّه جاء في الرسالة : إذا أتاك كتابي هذا فأحضر الحسين بن عليّ وعبد الله بن الزبير فخذهما بالبيعة، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما وابعث إليّ برأسيهما وخذ الناس بالبيعة، فمن امتنع فأنفذ فيه الحكم.
الوليد يستشير مروان بن الحكم :
حار الوليد في أمره ، إذ يعرف أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) لا يبايع ليزيد مهما كانت النتائج ، فرأى أنّه في حاجة إلى مشورة مروان بن الحكم عميد الأسرة الأُموية فبعث إليه فأشار مروان على الوليد قائلاً له : إبعث اليهم في هذه الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد، فإن فعلوا قبلت ذلك منهم، وإن أبوا قدّمهم واضرب أعناقهم قبل أن يدروا بموت معاوية ; فإنّهم إن علموا ذلك وثب كلّ رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه، فعند ذلك أخاف أن يأتيك من قبلهم ما لا قبل لك به، إلاّ عبد الله بن عمر فإنّه لا ينازعُ في هذا الأمر أحداً، مع أنّني أعلم أنّ الحسين بن علي لا يجيبك إلى بيعة يزيد ولا يرى له عليه طاعةً. و والله لو كنت في موضعك لم أراجع الحسين بكلمة واحدة حتى أضرب رقبته كائناً في ذلك ما كان.
وعظم ذلك على الوليد وهو أكثر بني أُمية حنكةً، فقال لمروان: ياليت الوليد لم يولد ولم يك شيئاً مذكوراً.
فسخر منه مروان وراح يندّد به قائلاً: لا تجزع ممّا قلتُ لك; فإنّ آل أبي تراب هم الأعداء من قديم الدهر ، ونهره الوليد فقال له: ويحك يا مروان إعزب عن كلامك هذا، وأحسن القول في ابن فاطمة فإنّه بقية النبوة.
واتّفق رأيهما على استدعاء الإمام(عليه السلام) وعرض الأمر عليه لمعرفة موقفه من السلطة.
الإمام (عليه السلام) في مجلس الوليد :
أرسل الوليد إلى الحسين(عليه السلام)يدعوه إليه ليلاً، فجاءه الرسول وهو في المسجد، ولم يكن قد شاع موت معاوية بين الناس، وجال في خاطر الحسين(عليه السلام) أنّ الوليد قد استدعاه ليخبره بذلك ويأخذ منه البيعة إلى الحاكم الجديد بناءً على الأوامر التي جاءته من الشام، فاستدعى الحسين مواليه وإخوته وبني عمومته وأخبرهم بأنّ الوالي قد استدعاه إليه وأضاف : إنّي لا آمن أن يكلّفني بأمر لا اُجيبه عليه.
وقال الإمام(عليه السلام) لمواليه بعد أن أمرهم بحمل السلاح: (كونوا معي فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه).
ودخل الإمام(عليه السلام) على الوليد فرأى مروان عنده وكانت بينهما قطيعة، فقال(عليه السلام): (الصلةُ خير من القطيعة، والصلح خير من الفساد، وقد آن لكما أن تجتمعا، أصلح الله ذات بينكما) ثم نعى إليه الوليد معاوية، فاسترجع الإمام الحسين(عليه السلام)
ثم قرأ عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه له، فقال الحسين(عليه السلام): (إنّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً حتى اُبايعه جهراً).
فقال الوليد : أجل ، فقال الحسين(عليه السلام) : (فتصبح وترى رأيك في ذلك)، فقال له الوليد: انصرف على اسم الله تعالى حتى تأتينا مع جماعة الناس، فقال له مروان: والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، إحبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب الحسين(عليه السلام) عند ذلك وقال:(أنت يا ابن الزرقاء تقتلني أم هو؟! كذبت والله وأثمت). وخرج يمشي ومعه مواليه حتى أتى منزله.
فقال مروان للوليد : عصيتني. لا و الله لا يمكّنك مثلها من نفسه أبداً. فقال له الوليد : ويح غيرك يا مروان! إنّك اخترت لي التي فيها هلاك ديني. والله ما اُحب أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وإنّي قتلت حسيناً. سبحان الله! أقتل حسيناً لمّا أن قال : لا أبايع؟ والله إنّي لأظنّ امرءاً يحاسبُ بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة.
وثمّة روايات أفادت بأنّ النقاش قد احتدم بين الإمام (عليه السلام) وبين مروان ، حتى أعلن(عليه السلام) رأيه لمروان بصراحة قائلاً: (إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة).
الإمام (عليه السلام) مع مروان :
والتقى الإمام الحسين(عليه السلام) في أثناء الطريق بمروان بن الحكم في صبيحة تلك الليلة التي أعلن فيها رفضه لبيعة يزيد، فبادره مروان قائلاً: إنّي ناصح فأطعني ترشد وتسدّد. فقال الإمام(عليه السلام) : (وما ذاك يا مروان؟).
قال مروان: إنّي آمرك ببيعة أمير المؤمنين يزيد فإنّه خير لك في دينك ودنياك. فردّ عليه الإمام(عليه السلام) ببليغ منطقه قائلاً : (على الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد... سمعت جدّي رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان وعلى الطلقاء وأبناء الطلقاء فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه، فو الله لقد رآه أهل المدينة على منبر جدّي فلم يفعلوا ما اُمروا به).
حركة الإمام(عليه السلام) في الليلة الثانية :
ذكر المؤرّخون أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) أقام في منزله تلك الليلة وهي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستين من الهجرة , واشتغل الوليد بن عتبة بمراسلة ابن الزبير في البيعة ليزيد وامتناعه عليهم، وخرج ابن الزبير من ليلته عن المدينة متوجّهاً إلى مكة فلمّا أصبح الوليد سرح في أثره الرجال فبعث راكباً من موالي بني أُمية في ثمانين راكباً، فطلبوه ولم يدركوه فرجعوا ، فلمّا كان آخر نهار يوم السبت بعث الرجال إلى الحسين (عليه السلام) ليحضر فيبايع الوليد ليزيد بن معاوية ، فقال لهم الحسين(عليه السلام) : اصبحوا ثم ترون ونرى. فكَفّوا تلك الليلة عنه ولم يلحّوا عليه.
فخرج(عليه السلام) من تحت ليلته وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب متوجّهاً نحو مكة ومعه بنوه وبنو أخيه وإخوته وجَلَّ أهل بيته إلاّ محمد بن الحنفية ـ رحمة الله عليه ـ فإنّه لمّا علم عزمه على الخروج عن المدينة لم يدرِ أين يتوجّه، فقال له: يا أخي أنت أحبّ الناس إليَّ وأعزّهم عليّ ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق إلاّ لك وأنت أحقّ بها، تنحّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك فإن بايعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن اجتمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا تذهب به مروّتك ولا فضلك، إنّي أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم، فمنهم طائفة معك وأخرى عليك، فيقتتلوا فتكون لأوّل الأسنّة غرضاً، فإذا خير هذه الأمة كلّها نفساً وأباً واُمّاً، أضيعها دماً وأذلّها أهلاً.
فقال له الحسين(عليه السلام) : فأين أذهب يا أخي؟ قال: انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار بها فسبيل ذلك، وإن (نَبَتَ بك) لحقت بالرمال وشعف الجبال وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس إليه; فإنّك أصوب ما تكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالاً.
فقال الإمام(عليه السلام) : (يا أخي، قد نصحتَ وأشفقتَ وأرجو أن يكون رأيك سديداً موفّقاً). فسار الحسين(عليه السلام) إلى مكة وهو يقرأ (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
وصايا الإمام الحسين(عليه السلام) :
لقد كتب الإمام(عليه السلام) قبل خروجه من المدينة عدّة وصايا :
منها : وصية لأخيه هذا نصّها: (هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ إلي أخيه محمد بن الحنفية، أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده، وأنّ الجنة حق والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين).
ومنها: وصيّته لأم المؤمنين أم سلمة حيث أوصاها بما يرتبط بإمامة الإمام من بعده. روي أنّه لمّا عزم على الخروج من المدينة أتته أم سلمة (رضي الله عنها) فقالت : يا بني لا تحزنّي بخروجك إلى العراق ، فإنّي سمعت جدّك يقول : يقتل ولدي الحسين(عليه السلام) بأرض العراق في أرض يقال لها: كربلا. فقال لها: (يا أماه وأنا والله أعلم ذلك، وأنّي مقتول لا محالة، وليس لي من هذا بدّ، وإنّي والله لأعرف اليوم الذي أقتل فيه، وأعرف من يقتلني، وأعرف البقعة التي أُدفن فيها، وإنّي أعرف من يقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردت يا أمه أُريك حفرتي ومضجعي).
ثم أشار إلى جهة كربلاء، فانخفضت الأرض حتى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره وموقفه ومشهده، فعند ذلك بكت أم سلمة بكاءً شديداً وسلّمت أمره إلى الله.
فقال لها: (يا أمه ، قد شاء الله عَزَّ وجَلَّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً).
وفي رواية أخرى : قالت أم سلمة : وعندي تربة دفعها إلي جدّك في قارورة ، فقال : (والله إنّي مقتول كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً) ثم أخذ تربةً فجعلها في قارورة وأعطاها إيّاها ، وقال : (اجعليها مع قارورة جدّي فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قتلت).
وروى الطوسي عن الحسين بن سعيد عن حمّاد بن عيسى عن ربعي بن عبد الله عن الفضيل بن يسار قال: قال أبو جعفر(عليه السلام): (لمّا توجه الحسين(عليه السلام) إلى العراق ودفع إلى أم سلمة زوجة النبي(صلَّى الله عليه وآله) الوصية والكتب وغير ذلك قال لها: (إذا أتاك أكبر ولدي فادفعي إليه ما قد دفعت إليك)، فلمّا قتل الحسين(عليه السلام) أتى عليّ بن الحسين(عليه السلام) أم سلمة فدفعت إليه كلّ شيء أعطاها الحسين(عليه السلام)).
وروى عليّ بن يونس العاملي في كتاب الصراط المستقيم النصّ على عليّ بن الحسين(عليه السلام)في حديث ثم قال: وكتب الحسين(عليه السلام) وصيّته وأودعها أم سلمة وجعل طلبها منها علامة على إمامة الطالب لها من الأنام فطلبها الإمام زين العابدين(عليه السلام).
توجّه الإمام إلى مكة :
قال المؤرّخون : إن الإمام الحسين(عليه السلام) عندما توجّه إلى مكة لزم الطريق الأعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير كي لا يلحقك الطلب، فقال: لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض. ولمّا دخل الإمام الحسين(عليه السلام) مكة كان دخوله إيّاها ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان دخلها وهو يقرأ : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ).
ثم نزلها فأقبل أهلها يختلفون إليه ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة وهو قائم يصلّي عندها ويطوف، ويأتي الحسين(عليه السلام) فيمن يأتيه ، فيأتيه اليومين المتواليين ويأتيه بين كلّ يومين مرة ، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين(عليه السلام) في البلد وأنّ الحسين(عليه السلام) أطوع في الناس منه وأجلّ.