قال كمال الدين بن طلحة رحمه الله هذا فصل للقلم في أرجائه مجال واسع و مقال جامع و سمع كل مؤمن و قلبه إليه و له مصيخ و سامع لكن الرغبة في الاختصار تطوي أطراف بساطه و الرهبة من الإكثار تصدف عن تطويله و إفراطه و حين وقف على أصله و زائده خص الأصل بإثباته و الزائد بإسقاطه.
وذلك أن معاوية لما استخلف ولده يزيد ثم مات كتب يزيد كتابا إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وهو يومئذ والي المدينة يحثه فيه على أخذ البيعة من الحسين (عليه السلام) فرأى الحسين أمورا اقتضت أنه خرج من المدينة قاصدا إلى مكة و أقام بها و وصل الخبر إلى الكوفة بموت معاوية وولاية يزيد مكانه فاتفق منهم جمع جم و كتبوا كتابا إلى الحسين يدعونه إليهم و يبذلون له فيه القيام بين يديه بأنفسهم و أموالهم و بالغوا في ذلك و تتابعت إليه الكتب نحوا من مائة و خمسين كتابا من كل طائفة و جماعة كتاب يحثونه فيها على القدوم و آخر ما ورد عليه كتاب من جماعتهم على يد قاصدين من ثقاتهم و صورته :
بسم الله الرحمن الرحيم للحسين بن علي أمير المؤمنين من شيعته و شيعة أبيه علي أمير المؤمنين سلام الله عليك أما بعد فإن الناس منتظروك و لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل يا ابن رسول الله و السلام عليك و رحمه الله.
فكتب (عليه السلام) جوابهم و سير إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل فوصل إليهم و جرت له قضايا ووقائع لا حاجة إلى ذكرها و آل الأمر إلى أن الحسين توجه بنفسه و أهله و أولاده إلى الكوفة ليقضي الله أمرا كان مفعولا و كان عند وصول مسلم بن عقيل إلى الكوفة و اجتماع الشيعة إليه وأخذه البيعة للحسين بن علي (عليه السلام) كتب والي الكوفة و هو النعمان بن بشير إلى يزيد بذلك فجهز عبيد الله بن زياد إلى الكوفة فلما قرب منها تنكر و دخلها ليلا و أوهم أنه الحسين و دخلها من جهة البادية في زي أهل الحجاز فصار يجتاز بجماعة جماعة فيسلم عليهم و لا يشكون في أنه هو الحسين (عليه السلام) فيمشون بين يديه و يقولون مرحبا يا ابن رسول الله قدمت خير مقدم فرأى عبيد الله من تباشرهم بالحسين ما ساءه و كشف أحوالهم و هو ساكت لعنه الله.
فلما دخل قصر الإمارة و أصبح جمع الناس و قال و أرعد و أبرق و قتل و فتك و سفك و انتهك و عمله و ما اعتمده مشهور في تحيله حتى ظفر بمسلم بن عقيل و قتله.
وبلغ الحسين (عليه السلام) قتل مسلم و ما اعتمده عبيد الله بن زياد و هو متجهز للخروج إلى الكوفة فاجتمع به ذوو النصح له و التجربة للأمور و أهل الديانة و المعرفة كعبد الله بن عباس وعمر بن عبد الرحمن بن الحرث المخزومي و غيرهما و وردت عليه كتب أهل المدينة من عبد الله بن جعفر و سعيد بن العاص و جماعة كثيرين كلهم يشيرون عليه أن لا يتوجه إلى العراق و أن يقيم بمكة هذا كله و القضاء غالب على أمره و القدر آخذ بزمامه فلم يكترث بما قيل له و لا بما كتب إليه و تجهز و خرج من مكة يوم الثلاثاء و هو يوم التروية الثامن من ذي الحجة و معه اثنان و ثمانون رجلا من أهله و شيعته و مواليه فسار فلما وصل إلى الشقوق و إذا هو بالفرزدق الشاعر و قد وافاه هنالك فسلم عليه ثم دنا منه و قبل يده فقال له الحسين (عليه السلام) من أين أقبلت يا أبا فراس فقال من الكوفة فقال له كيف تركت أهل الكوفة فقال خلفت قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية عليك و قد قل الديانون و القضاء ينزل من السماء و الله يفعل ما يشاء و جرى بينهما كلام قد تقدم ذكره في آخر الفصل الثامن. ثم ودعه الفرزدق في نفر من أصحابه و مضى يريد مكة فقال له ابن عم له من بني مجاشع يا أبا فراس هذا الحسين بن علي قال له الفرزدق نعم هذا الحسين بن علي و ابن فاطمة الزهراء بنت محمد المصطفى ص هذا و الله ابن خيرة الله و أفضل من مشى على وجه الأرض الآن و قد كنت قلت فيه قبل اليوم أبياتا غير متعرض لمعروفه بل أردت بذلك وجه الله و الدار الآخرة فلا عليك أن تسمعها فقال ابن عمه إن رأيت أن تسمعنيها أبا فراس فقال قلت فيه و في أمه و أبيه و جده (عليه السلام) .
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه و الحل و الحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا حسين رسول الله والده أمست بنور هداه تهتدي الأمم
هذا ابن فاطمة الزهراء عترتها في جنة الخلد مجريا به القلم
إذا رأته قريش قال قائلها إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
بكفه خيزران ريحه عبق بكف أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء و يغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم
ينشق نور الدجى عن نور غرته كالشمس تنشق عن إشراقها الظلم
مشتقة من رسول الله نبعته طابت أرومته و الخيم و الشيم
من معشر حبهم دين و بغضهم كفر و قربهم منجى و معتصم
يستدفع الضر و البلوى بحبهم ويستقيم به الإحسان و النعم
إن عد أهل الندى كانوا أئمتهم أوقيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع مجار بعد غايتهم ولا يدانيهم قوم و إن كرموا
بيوتهم في قريش يستضاء بها في النائبات و عند الحكم إن حكموا
فجده من قريش في أرومتها محمد و علي بعده علم
بدر له شاهد و الشعب من أحد والخندقان و يوم الفتح قد علموا
و خيبر و حنين يشهدان له وفي قريظة يوم صيلم قتم
مواطن قد علت أقدارها ونمت آثارها لم تنلها العرب و العجم
آخر كلامه.
قلت وأظنه نقل هذا الكلام و القصيدة من كتاب الفتوح لابن أعثم فإني طالعته في زمان الحداثة ونسب هذه القصيدة إلى الفرزدق في الحسين (عليه السلام) و الذي عليه الرواة مع اختلاف كثير في شيء من أبياتها و أنها للحر بن الليثي قالها في قثم بن العباس رضي الله عنه و أن الفرزدق أنشدها لعلي بن الحسين و لها قصة تأتي في أخباره إن شاء الله تعالى و لو كان هذا و أمثاله من موضوع هذا الكتاب لذكرت القصيدة و نسبت كل بيت منها إلى قائله و لكنه وضع لغير هذا.
وفي مسير الحسين (عليه السلام) من المدينة إلى مكة ومنها إلى العراق أحوال و أمور اختصرها الشيخ كمال الدين و هي مشهورة معلومة منقولة لا يكاد يخلو مصنف في هذا الشأن منها و الله تعالى يعلم أني لا أحب الخوض في ذكر مصرعه (عليه السلام) و ما جرى عليه و على أهل بيته و تبعه فإن ذلك يفتت الأكباد و يفت في الأعضاد و يضرم في القلب نارا وارية الزناد فإنا لله و إنا إليه راجعون و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم .