لقد اختلفت مواقف الكتاب و المتحدثين عن صلح الحسن و ثورة الحسين (عليه السلام) فاستصوب صلح الحسن (عليه السلام) و خطأ الحسين في ثورته جماعة و وقف جماعة منهم موقفا معاكسا فخطئوا الحسن و صوبوا الحسين (عليه السلام) كما استصوب موقفهما فريق ثالث، و أكثر المستشرقين قد خطئوا الحسين في ثورته و وافقهم على ذلك جماعة من الكتّاب العرب القدامى و المحدثين، و قد ذكرنا في الفصول السابقة خلال حديثنا عن صلح الحسن بن علي (عليه السلام) و تسليمه السلطة لمعاوية بن هند، أنه كان حكيما في هذا الموقف إلى أبعد الحدود و قد أملته مصلحة الإسلام العليا عليه، و لو انه استمر في مناهضة معاوية في ذلك الجو المهيأ لانتصار معاوية عليه و بعد أن أعلن معاوية عن رغبته في الصلح و أن الحسن سيكون الآمر الناهي و ينحصر دور يزيد في التنفيذ لا غير، لو أنه استمر في مناهضته و الحال هذه مع تفكك جيشه و انحياز أكثره لجانب معاوية لكان استئصال الحسن و اخوته و أهل بيته و خلص شيعته و تحوير الإسلام كما يريد من أيسر الأمور على معاوية، و لو حدث ذلك و ليس لدى معاوية ما يمنعه من ذلك لحقق معاوية أحلام أسلافه الذين حاربوا الاسلام عشرين عاما أو تزيد و لم يعد يرهب أحدا من المسلمين في شرق الأرض و غربها كائنا من كان، و مع وجود الحسنين و البقية الباقية من أتقياء المسلمين و حرصهم على إحياء السنّة و محاربة الظلم و الطغيان فلقد أحدث أمورا تمس الشريعة و الإسلام في الصميم، و لها دلالتها الواضحة على تشويه الإسلام و استغلاله من أجل الملك و أهواء الحاكمين، و قد ذكرنا فيما مضى أنه لم يكن يستطيع أن يخفي عن خاصته ما في نفسه من حسد و حقد على محمد بن عبد اللّه (صلى الله عليه واله)؛ لأن اسمه يردد من على المآذن و المنابر في كل يوم مئات المرات الى غير ذلك مما ذكرناه في الفصول السابقة من الأرقام التي تؤكد أن موقف الحسن من معاوية بن أبي سفيان كانت تمليه مصحلة الإسلام العليا التي كانت تتحكم بتصرفات أهل البيت و تحركاتهم في جميع الحقول.
أما الذين تناولوا ثورة الحسين بالنقد و التجريح فهم بين من تناولها بدافع التعصب الأعمى و مشايعة الأمويين كأبي بكر بن العربي في كتابه العواصم من القواصم، حيث امتدح يزيد و رأى خروج الحسين عليه خطأ لا مبرر له و مضى يقول: و إذا كانت الخلافة قد خرجت من أخيه و معه جيوش الأرض و كبار الخلق يطلبونه فكيف ترجع إليه بأوباش الكوفة، و كبار الصحابة كانوا ينهونه و ينهون عنه، و أضاف إلى ذلك:
لقد كان أولى بالحسين أن يتبع حديث جده حيث قال: ستكون هنات و هنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة و هي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان، فكان أولى به أن يسعه بيته و يبايع، و لم يكن يزيد هو الذي قتله و لا واليه عبيد اللّه بن زياد، بل قتله من استدعاه ثم أسلمه من أوباش أهل الكوفة.
و قد حذا حذو ابن العربي ابن حزم الاندلسي و ابن تيمية و غيره من الظاهريين و السلفيين و أباضية الخوارج الذين بلغ بهم التطرف و الغلو أقصى حدودهما فقدسوا يزيد لأنه قتل الحسين و اتخذوا من يوم عاشوراء عيدا يباركونه لأن الحسين بن علي قد قتل فيه و لا يزالون يحتلفون بهذا اليوم حيث يوجدون في أطراف الجزائر و غيرها، و لعل اليوم العاشر من المحرم من أعظم الأعياد فيالجزائر حتى يومنا الحالي.
و قد احتج أصحاب هذا الرأي على ما يبدو من مؤلفاتهم بما حاصله ان الحسين (عليه السلام) قد رفض بيعة يزيد و فرق الجماعة و أراد اشعال الفتنة بين المسلمين، و إن يزيد و واليه على الكوفة لم يبدأه بالشر و الفتنة بل هو الذي بدأهما و من فعل ذلك حل دمه حفظا لوحدة الأمة و ذودا عن سلطانها و كرامتها عملا بقول جده: من اراد ان يفرق أمر هذه الأمة و هي مجتمعة فاضربوه بالسيف كائنا من كان، و شاع عن هؤلاء المغالين في تعصبهم للبيت الأموي كابن تيمية و الغزالي و غيرهما أنهم يقولون: لقد قتل الحسين بسيف جده إلى غير ذلك من المقالات التي تنم عن حقدهم و عدائهم السافر لعلي و آل علي عليهم السلام.
و الشيء الغريب من هؤلاء الذين برروا جرائم يزيد بما نسبوه إلى الرسول (صلى الله عليه واله) و لم يطبقوا الحديث المزعوم على معاوية بن أبي سفيان، مع أنه خالف الأمة و فرق كلمتها و شق عصاها و هي مجتمعة على علي (عليه السلام) إمام المسلمين و سيدهم و قد بايعه من بايع ابا بكر و عمر و ابن عفان و باركت خلافته جميع الأقطار الإسلامية، كما خالف الأمة و الجماعة بعدوانه الأثيم على سبط الرسول و سيد شباب أهل الجنة الحسن بن علي (عليه السلام) بعد أن بايعه من بقي من المهاجرين و الأنصار و جميع الأقطار الاسلامية التي كانت مجتمعة على أبيه، و أغرى انصاره و جنده بالأموال و الوعود الكاذبة حتى اضطره الى ترك السلطة بشروط كان من أهمها و أبرزها أن يترك الأمر بعده له او للمسلمين ليختاروا من يرونه صالحا لدينهم و دنياهم، فنقض جميع شروطه و سعى في قتله ثم فرض ولده الخليع المستهتر على المسلمين و هم له كارهون و خائفون على شريعة محمد بن عبد اللّه اكثر من خوفهم على أنفسهم، و مع ذلك فقد بقي عند الجمهور الاعظم من أهل السنّة من صحابة الرسول الكرام و عدو لهم الاتقياء، في حين ان الحديث المزعوم يأمر بقتله، هذا بالإضافة الى أن حديث النبي لعمار المعترف به عندهم يدمغه بالبغي، و الباغي يجب قتاله و قتله بحكم القرآن.
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] , و هل رجع معاوية عن بغيه الى اللّه و قد نقض شروط الصلح و أمر بسب علي على منابر المسلمين إلى أن يشبّ على ذلك الصغير و يهرم عليه الكبير، و قتل المئات من الصلحاء و الأبرياء كحجر بن عدي و أمثاله، كما قتل إمام المسلمين الحسن بن علي (عليه السلام) بنص الرسول على إمامته، و ألحق زيادا بأبيه مخالفا بذلك حكم القرآن و سنّة الرسول (صلى الله عليه واله) و اجماع الأمة و بدد أموال المسلمين و وزعها على أنصاره و أتباعه، و لم يخرج من الدنيا إلا بعد أن سلط ولده على رقاب المسلمين و هم له كارهون.
و مجمل القول ان الحديث على تقدير صحته ناظر إلى من يحاول تفريق أمر الأمة المجتمعة على الإمام القائم بأمر اللّه العامل بشريعته الحريص على مصالح المسلمين و حقوقهم، اما إذا كان الحاكم ظالما متجاهرا بالفسق و الفجور يتحدى الشريعة و مبادئها كيزيد فعلى الأمة بحكم القرآن و الإسلام ان تقاتله و إلا كانت شريكة في كل اعماله و تصرفاته، و قد خرج الحسين (عليه السلام) على حكومة يزيد بهذا الواقع، مع علمه بأن المعركة العسكرية ليست لصالحه، و لكن نتائجها ستكون لصالح الإسلام و المسلمين كما سنثبت ذلك بالأرقام بعد هذا العرض السريع لآراء الناقدين و المخطئين.
لقد ذكرنا ان الذين تناولوا ثورة الحسين بالنقد و التجريح بين من تناولها بدافع العصبية للأمويين و التشيع لهم، و بين من تناولها من الناحية السياسية و العسكرية كأكثر المستشرقين و بعض العرب المحدثين من غير ان يقدروا الظروف التي كانت تحيط بالحسين (عليه السلام) و دوافعه الدينية و النتائج التي اسفر عنها مقتله، في حين ان التاريخ لا يعرف معركة لاقت هزيمة كمعركة الحسين مع اخصامه و تركت من الأثر في مجال السياسة و العقيدة ما تركته تلك المعركة ولا معركة اقضت مضاجع المنتصرين و نهشوا اصابعهم من الندم كما جرى للمنتصرين في معركة كربلاء.
و مع كل ما سجله التاريخ من المكاسب فقد نظر إليها هذا الفريق من الكتّاب تلك النظرة السطحية و اتهموه بالقصور و سوء التقدير لموقفه الذي حكم عليه ان يشهد مصرع اولاده و اخوته و أهله امام عينيه و سيلحقهم لا محالة على حد تعبير بعضهم.
و قال فلهوزن في كتابه الخوارج و الشيعة: لقد مد الحسين بن علي يده كالطفل ليأخذ القمر و ادعى اعرض الدعاوى و لكنه لم يبذل شيئا في سبيل تحقيق ادناها بل ترك للآخرين ان يعملوا من اجله كل شيء، و لم يكد يصطدم بأول مقاومة حتى انهار فأراد الانسحاب و لكن كان ذلك متأخرا فاكتفى بأن راح ينظر الى انصاره و هم يموتون في القتال من اجله و أبقى على نفسه حتى اللحظة الاخيرة، و مضى يقول: لقد كان مقتل عثمان بن عفان مأساة، اما مقتل الحسين فكان قطعة مسرحية انفعالية، و لكن عيوب الحسين الشخصية تختفي امام هذه الواقعة و هي ان دم النبي (صلى الله عليه واله) يجري في عروقه و انه من اهل البيت (عليه السلام).
و يرى المستشرق جولدتسيهر في كتابه العقيدة و الشريعة، ان الحسين في ثورته على حكومة يزيد قد انساق لطيش الشيعة و قصر نظرهم حتى اشركوه في تلك المعارك الدامية مع البيت الأموي.
و أما سير وليم مور، فقد نظر إليها نظر من بيده النفوذ و السلطان فكل حركة ثورية في نظره تعد فتنة، و مضى يقول: ان الحسين بانسياقه الى تدبير الخيانة سعيا وراء العرش قد ارتكب جريمة هددت كيان المجتمع و تطلبت من اولي الأمر في الدولة الاموية التعجيل بقمعها.
و سلك لامنس نفس المسلك فانتقد خروج الحسين بلهجته التي اعتاد عليها في معالجة بحوثه الاسلامية المليئة بالدس و الكذب و الافتراء على الاسلام و رجالاته و أهل بيت النبي (صلى الله عليه واله).
و قد نظر هؤلاء الى الحسين (عليه السلام) كرجل يطلب الملك بتلك الحفنة من اهله و أنصاره كما هي عادتهم في معالجة المسائل بطريقة بعيدة عن الواقع و منطق الاحداث التي ترافقها في حين ان الباحث باستطاعته ان يعثر على اكثر من شاهد على ان الحسين (عليه السلام) في خروجه و موقفه العسكري من اخصامه لم يكن يقصد ان يحقق نصرا عسكريا و لا ان يستولي على السلطة، ذلك لأنه على ما يبدو من تصريحاته و مواقفه كان يعلم بأنه سيقتل في طريقه هذا، و لم يخرج على يزيد بن معاوية الا بعد ان ادرك ما يحيط بالأمة الاسلامية من اخطار لا يمكن تلافيها الا بتلك التضحية التي عزم عليها و نفذها، و بإمكان الباحث ان يجد عددا من الشواهد على انه كان يعلم بالمصير الذي انتهى إليه قبل خروجه من مكة.
فمن ذلك انه رفض كل مشورة وجهت إليه بعدم الخروج الى العراق في حين ان الذين اشاروا عليه اكثرهم من محبيه كعبد اللّه بن عباس و ابن جعفر و ابن الحنفية و عبد اللّه بن مطيع الذي اشار عليه مرتين بأن لا يفكر في الخروج الى العراق، مرة و هو بطريقه الى مكة، و الاخرى حيث التقى به و هو في طريقه الى العراق، و أبا هرة الاسدي و عبد اللّه بن سليم، و ابن المشمعل و الفرزدق و غيرهم ممن صوروا له موقف اهل الكوفة على واقعه و حذروه من المصير الذي لاقاه، و في ذلك ما يكفيه لأن يعيد النظر في أمر الكوفة لو كان طامعا في الخلافة.
كما و أن خطبته في مكة قبيل خروجه تكاد تكون صريحة في انه كان على صلة بكل ما جرى، و قد افتتحها بقوله: خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، و قال فيها: الا و من كان باذلا فينا مهجته موطنا على لقاء اللّه نفسه فليرحل معنا فاني راحل مصبحا إن شاء اللّه.
و قال لأخيه محمد بن الحنفية في المرة الثانية التي راجعه فيها بخصوص عدم الذهاب إلى الكوفة، فقال له: أتاني رسول اللّه بعد ما فارقتك و قال يا حسين اخرج فإن اللّه شاء أن يراك قتيلا، فقال له محمد أخوه: اذا كنت تخرج للقتل فما معنى حملك هذه النسوة؟ فقال: لقد شاء اللّه ان يراهن سبايا، كما قال لابن عباس و هو يتململ بين يديه ليثنيه عن عزمه: ان رسول اللّه أمرني بأمر و أنا ماض إليه.
و قال لشخص التقى فيه بالطريق و أخبره بحال الكوفة و حذره من المضي في طريقه: ليس يخفى علي الرأي و لكن اللّه لا يغلب على أمره.
و قال في بعض المناسبات: و اللّه لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، و لو كنت في جحر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني و قتلوني، و قوله في كتاب كتبه لمن تخلف عنه من الهاشميين: أما بعد فإن من لحق بي استشهد و من تخلف عني لم يدرك الفتح الى غير ذلك من كلماته و مواقفه التي لا تترك مجالا للشك في أنه كان يعلم بالمصير الذي انتهى إليه و لم يكن يطلب السلطة أو يحلم بالانتصار على القوم، و إنما خرج لأمر يتصل بالإسلام مباشرة و تلافيا للأخطار الجسيمة التي احاطت به خلال حكم معاوية و ما سيحيط به من استهتار يزيد و سوء نواياه، لأن أطماع معاوية كانت تتسع لأكثر من الملك، و كان يحاول مع الاستيلاء على السلطة تضليل الجماهير و تشويه وجه الإسلام و معتقداته، فأعلن اكثر من مرة على جماهير الناس أن الخلافة بينه و بين علي (عليه السلام) قد احتكما فيها إلى اللّه و قضى له فيها عليه.
و حينما أراد البيعة لولده يزيد من أهل الحجاز أعلن أن اختيار يزيد للخلافة كان قضاء لا مرد له و ليس للعباد خيرة من أمرهم فيها، كما كان يحاول في كل مناسبة أن يقر في أذهان المسلمين ان كل ما يصدر عن الخليفة و لو كان معصية للّه هو من القضاء المبرم المكتوب على العباد، ليبعث اليأس و التخاذل في النفوس و الاستسلام للحاكمين مهما اسرفوا في المعاصي و المنكرات و الظلم و العدوان، و حتى لا يكون مسئولا تجاه الرأي العام عن سوء تصرفاته، لأن تصرفاتهم إذا كانت بحكم القضاء المبرم و لا شأن لهم بها فلم يعد ما يوجب ادانتهم عليها و اعطاءهم صفة العصاة المتمردين على اللّه.
و كان ولده يزيد اكثر استهتارا منه، و لعله اخبث نية و عقيدة كما يبدو مما وصفه به عبد اللّه بن حنظلة المعروف والده بغسيل الملائكة حيث قال كما يروي الرواة عنه: و اللّه ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء ان رجلا ينكح الامهات و البنات و الاخوات و يشرب الخمور و يتجاهر بترك الصلاة و الصيام و اللّه لو لم يكن معي احد من الناس لأبليت اللّه فيه بلاء حسنا.
لقد نظر الناقدون للحسين (عليه السلام) لثورته من الناحية العسكرية التي يجب ان تتوفر لها مقومات الثورة و الظروف الملائمة كما هي عادتهم في احكامهم على جميع الانتفاضات العسكرية عند ما تفشل الثورة و لا تحقق الربح المطلوب فاعتبروه مغامرا من أجل الحكم و يتصرف في ضمن هذا الاطار الخاص من غير أن يعد العدة لذلك، في حين أنهم لو امعنوا في تفكيرهم و تجردوا في دراستهم لوجدوه من غير هؤلاء و لعلموا بأن تحركاته كانت منسجمة مع واقعه كمسئول عن الإسلام و ابن لصاحب الرسالة قد اتجهت إليه الأنظار وحده من كل الجهات و ربطت مصير الإسلام بموقفه في تلك الفترة العصيبة من التاريخ.
و لو بايع الحسين (عليه السلام) يزيد كما يطلب الناقدون لثورته و كما فعل ابن الزبير و ابن عمر و غيرهما من المتخاذلين لو فعل ذلك لكان من أيسر الأمور على يزيد ان يضفي على خلافته صفة الشرعية و يكمم الأفواه عن كل تصرفاته و أعماله المعادية للإسلام، و لكنه في امتناعه عن البيعة و خروجه بأهل بيته و بتلك الحفنة من انصاره و استشهاده بالنحو الذي جرى له بعد ان اقام الحجة عليهم و لم يترك لهم منفذا يبرر اقدامهم على قتله و قتل اولاده و أنصاره و سبي نسائه قد أفسد جميع تدابير معاوية و ولده من بعده و أدان الدولة الاموية بانتهاكها لقوانين الإسلام و شرائعه و امتهانها لمثله العليا و جميع مقدساته، و لم يجد وسيلة تفضح مخططاتهم و مواقفهم العدائية من الإسلام أجدى من بذل دمه و تعريض نسائه للسبي من بلد الى بلد، و أصبح الجمهور الأعظم من المسلمين الذي استسلم لخلافة معاوية بعد عام الجماعة اصبح بعد مقتل الحسين في صف المعارضين لحكم الأمويين يعبر عن معارضته لحكمهم الظالم بالسيف حينا و الانكار باللسان و القلب حينا آخر و اشتعل في نفوس الجماهير حزن عميق لم يخمد لهيبه طوال تلك القرون و حتى يومنا الحالي، و أحس المسلمون في مختلف مناطقهم بوقع تلك الصدمة و آثارها السيئة التي سوف لا ينجو منها احد اذا لم يثأر المسلمون لكرامة الإسلام و كرامتهم.
و قد عبر أهل الكوفة عن عميق شعورهم بالإثم بقولهم: دعونا ابن بنت نبينا و بخلنا عليه بأنفسنا حتى قتل الى جانبنا لا نحن نصرناه بأيدينا و لا جادلنا عنه بألسنتنا و لا واسيناه بمالنا فما عذرنا عند لقاء نبينا؟ و كانت انتفاضة التوابين و بعدها حركة المختار التي استطاع بها أن يستأصل جميع من اشتركوا في معركة الطف، كما خرج أهل الحجاز و فيهم البقية من اصحاب الرسول (صلى الله عليه واله) فخلعوا طاعة يزيد و أدانوا الأمويين بما ارتكبوه من الحسين و أنصاره و عياله، و توالت بعده الحركات و الثورات ضد الأمويين و أصبحت دماء الحسين امضى و أشد فتكا من جميع الأسلحة، و قام بها ملك العباسيين و الفاطميين، و تستر بها كل طامع في الحكم، و حتى ابن الزبير العدو اللدود لعلي و آل علي (عليه السلام) قد استغلها لصالحه.
و في رأيي ان مقتل الحسين (عليه السلام) كما أرسى دعائم الإسلام و فضح مخططات الأمويين و أيقظ المسلمين قد ادان اعداء أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) من أهل الشام و خاذليه من أهل العراق على السواء، حيث كاد أن يضيع المغزى من حروب علي و صلح الحسن (عليه السلام) بين كيد الأعداء و خيانة الأنصار و تضليل معاوية للجماهير بأساليبه المعروفة، فلما قتل الحسين و طاف بنو أمية برأسه و نسائه في البلدان ظهر لأكثر المسلمين أن الصراع بين العلويين و الأمويين هو امتداد للصراع الذي كان بين محمد بن عبد اللّه (صلى الله عليه واله) و أبي سفيان بن حرب و من على شاكلته من القرشيين و المشركين.
و مجمل القول أن نهضة الحسين (عليه السلام) كانت تخطيطا محكما في منتهى الدقة، لأنه لو اخذ برأي الناصحين له بالجلوس في بيته و الاستسلام لأعطى لحكومة يزيد صفة الشرعية و لو خرج إلى اليمن أو بلد آخر يطلب الأنصار و الأتباع لطالت الحرب بينه و بين الأمويين و اتهم بإثارة الفتنة و شق العصا و ضاعت عدالة قضيته، و قد رفض الا ان يحمل معه اهله و نساءه ليشهد العالم على ما سيقترفه بنو أمية مما لا يبرره دين و لا وازع من ضمير و انسانية و حتى لا تضيع قضيته مع دمه المراق في الصحراء حين يفقد الشاهد على كل ما جرى بينه و بين أخصامه.
و قالت الدكتورة بنت الشاطئ في كتابها بطلة كربلاء: لقد افسدت زينب اخت الحسين على ابن زياد و بني أمية لذة النصر و سكبت قطرات من السم الزعاف في كئوس الظافرين و ان كل الاحداث السياسية التي ترتبت بعد ذلك من خروج المختار و ابن الزبير و سقوط الدولة الأموية و قيام الدولة العباسية و تأصل مذهب الشيعة إنما كانت زينب بطلة كربلاء باعثة ذلك و مثيرته.
و قال الدكتور احمد محمود صبحي في كتابه نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية: و اذا كان قد هزم في معركة حربية أو خسر قضية سياسية، فلم يعرف التاريخ هزيمة كان لها من الأثر لصالح المهزومين كما كان لدم الحسين (عليه السلام) فقد أثار مقتله ثورة ابن الزبير و خروج المختار، و لم ينقض ذلك حتى انقضى الأمر الى ثورات أخرى الى أن زالت الدولة الأموية بعد ان اصبحت ثارات الحسين هي الصرخة المدوية لتدك العروش و تزيل الدول فقام بها ملك العباسيين ثم الفاطميين و استظل بها الملوك و الامراء بين العرب و الفرس و الروم.
و مضى يقول في كتابه المذكور: لقد استطاع الحسين (عليه السلام) ان يجعل اولئك الذين لم يأبهوا لمقتل أبيه، و لم يعبئوا للذل الذي تركه اخوه يذوقونه تحت رحمة الأمويين استطاع و ان كلفه ذلك حياته ان يجعل الذين خانوا أباه و غدروا بأخيه في حزن مقيم و عبرة لا تسكن و ندب لا يذهب مهما طالت السنون و انقضت القرون.
كما استطاع ان يركز حملة من السخط و الكراهية على الأمويين بعد ان كادت تضفي على خلافتهم صفة الشرعية بعد عام الجماعة، و أضاف الى ذلك: لقد أصبح الحسين عند المسلمين امام كل حركة قامت لدك العروش و خلع الملوك الذين تسنموا الحكم باسم الخلافة، و في مجال العقيدة فالتشيع حسيني اذ هو اعظم ائمة الشيعة على حد تعبيره على الاطلاق بعد والده، إذ كان لمقتله من الأثر في العقيدة ما لم يتركه أي إمام من أئمة الشيعة على الاطلاق بعد علي (عليه السلام).
و استطرد في حديثه عن نتائج نهضة الحسين و آثارها الخالدة يقول: من اجل هذا كله ادرك مستشرق ألماني لم ينظر إلى خروج الحسين نظرة عسكرية بحتة ادت الى الحكم السطحي عليها كما فعل غيره من المستشرقين، اذ اعتبرها المستشرق (ماريني) بتدبير من الحسين توخاه منذ اللحظة الاولى و علم موعد النصر فيه، فحركة خروجه على يزيد انما كانت عزمة قلب كبير عز عليه الاذعان و عز عليه النصر العاجل فخرج بأهله و ذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الأجل بعد موته و يحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة.
و قال الدكتور احمد صبحي: و لم يكن خروج الحسين بعد ذلك كله كمن يقوم بعمل انتحاري يحسب عليه من قبيل القاء نفسه في التهلكة، فقد قطع على اعدائه كل عذر، و لم يدع لهم حجة تبرر اقدامهم على قتله حين عرض عليهم شروطه و حين تحمل العطش هو و من معه و في معسكره من النسوة و الاطفال، و حين لم يبدأهم بقتال حتى اغلق عليهم باب كل عذر و حين وقف فيهم خطيبا قبل نشوب القتال و سألهم فيم يقتلونه و ليس لهم ثأر عنده و لم يغتصب منهم مالا و هم لا يشكون أنه ابن بنت نبيهم، و مع ذلك فهذه كتبهم التي تملأ خرجين كبيرين كلها تدعوه للخروج و قد نثرها بين ايديهم.
و هكذا فإن حركة الحسين السياسية و العقائدية تفصح عن بواعث خروجه التي لم يفصح عنها هو حين خالف الناصحين و المشيرين، فضلا عن أن خروجه على يزيد لم يكن هناك من محيص عنه لما يترتب على بيعته من الأخطاء الجسيمة التي لا تبررها تقية و لا تشفع لها الأعذار، و استطاع بحركته ان يسلط معاول الهدم على دولة بني أمية و أن يغير مجرى التاريخ الذي اراد الأمويون ان يخطوه بأيديهم.
لقد جاء في الاستيعاب لابن عبد البر عن الحسن البصري ان الذين قتلوا مع الحسين من أهل بيته رجال ما على وجه الأرض يومئذ لهم شبيه.
و جاء في شرح النهج لابن أبي الحديد أنه قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد: و يحكم أ قتلتم ذرية رسول اللّه (صلى الله عليه واله) فقال: عضضت بالجندل: انك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا، ثارت علينا عصابة ايديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية تحطم الفرسان يمينا و شمالا و تلقي أنفسها على الموت لا تقبل الامان و لا ترغب في المال و لا يحول حائل بينها و بين الورود على حياض الموت أو الاستيلاء على الملك فلو كففنا عنها رويدا لأتت على العسكر بكامله فما كنا فاعلين لا أم لك؟!
و ذكر منهم بعض المؤرخين و الاصفهاني في مقاتل الطالبيين علي بن الحسين الأكبر، و كان له من العمر تسع عشرة سنة، و في رواية ثانية ثلاث و عشرون سنة و أمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي و تؤكد المرويات الكثيرة انها كانت مع الحسين في كربلاء و شهدت مصرع ولدها.
و عبد اللّه بن الحسين و كان طفلا صغيرا و قد تناوله الحسين من اخته زينب ليودعه في آخر ساعة من حياته فأصيب بسهم في رقبته و هو في حضن أبيه، و جاء في أكثر المرويات أن الحسين أخرجه من الخيمة و طلب له من القوم ماء بعد أن اضر به العطش فرماه حرملة بن كاهل بسهم أصاب رقبته و مات من ساعته، و أمه الرباب بنت امرئ القيس بن عدي.
و في رواية حميد بن مسلم و هو الذي احصى اكثر حوادث الطف ان الحسين (عليه السلام) دعا بغلام صغير فأقعده في حجره فرماه عقبة بن بشير بسهم فذبحه فأخذ الحسين من دمه بكفيه و رمى به نحو السماء و قال: اللهم لا يكون اهون عليك من فصيل ناقة صالح.
العباس بن علي المعروف بأبي الفضل و يلقب بالسقا، و جاء في عمدة الطالب لابن مهنا: انه كان يأتي بالماء لأخيه و عائلته خلال الأيام الاخيرة التي اشتد فيها الحصار على الحسين و في المرة الاخيرة خرج في طلب الماء كعادته و لم يرجع و دفن في مكانه بالقرب من الشريعة و أمه أمّ البنين، و قتل قبله من اخوته لأمه و أبيه ثلاثة بين يدي الحسين، و كان و سيما جميلا يركب الفرس المطهم و رجلاه تخطان في الأرض كما وصفه المؤرخون، و يلقب بقمر بني هاشم و السقاء، و قد بكاه الحسين على صبره و جلده، و قال: الآن انكسر ظهري، و له من العمر حين قتل أربع و ثلاثون سنة.
عبد اللّه بن علي بن ابي طالب و أمه أم البنين، و قد قدمه العباس و قال له: تقدم بين يدي الحسين لأحتسبك عند اللّه فتقدم و قاتل قتال الابطال فتكاثروا عليه و قتلوه.
جعفر بن علي شقيق العباس أيضا و كان في مطلع شبابه لم يبلغ العشرين كما وصفه المؤلفون في أحداث كربلاء فقاتل القوم قتال الأبطال المستميتين و قتل بعد أن تكاثروا عليه، كما تقدم بعده اخوه عثمان بن علي و قتل أيضا و هؤلاء الثلاثة و العباس من أم فاطمة بنت حزام و بهم كانت تكنى و تعرف بأم البنين. و يروي الرواة أنها بعد قتلهم كانت تخرج الى البقيع و تندبهم فيجتمع عليها العدو و الصديق و يبكون لحالها و بكائها و كانت تقول في ندبتها:
لا تدعوني ويك أمّ البنين تذكريني بليوث العرين
كانت بنون لي ادعى بها و اليوم أصبحت و مالي بنون
محمد الأخضر بن علي بن أبي طالب و أمه اسماء بنت عميس كما في رواية الطبري و قيل انه لأم ولد و أبو بكر بن علي و أمه ليلى بنت مسعود و جاء في رواية المدائني انه وجد بين القتلى و لم يعرف قاتله و أبو بكر بن الحسن و كان غلاما لم يبلغ الحلم قتله كما يدعي ارباب المقاتل عقبة الغنوي، و القاسم بن الحسن شقيق أبي بكر بن الحسن، و جاء في رواية حميد بن مسلم أنه قال: خرج علينا غلام كأن وجهه شقة قمر و في يده سيف و عليه قميص و إزار و في رجليه نعلان قد انقطع شسع احدهما لا أنسى انها كانت اليسرى، فقال عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي: و اللّه لأشدن عليه و كان الى جانبي، فقلت يكفيه هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه من كل جانب، فما ولى وجهه حتى ضرب رأس الغلام بالسيف فوقع لوجهه و صاح يا عماه، فو اللّه لقد تجلى الحسين له كما تجلى الصقر، ثم شد شدة الليث فضرب عمرا بالسيف اتقاه بساعده فأطنها من لدن المرفق و تنحى عنه و حملت خيل بني سعد لتخلصه من الحسين فاستقبلته بصدورها و وطئته بأقدامها حتى مات، فلما انجلت الغبرة فإذا بالحسين على رأس الغلام و هو يفحص برجليه و الحسين يقول: بعد القوم قتلوك يا بني عز على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك فلا يغني عنك.
و منهم عبد اللّه بن الحسن، و عوف بن عبد اللّه بن جعفر و محمد بن عبد اللّه بن جعفر، و ثلاثة من أولاد عقيل و هم عبد اللّه و جعفر و عبد الرحمن، و في رواية ابن كثير في البداية و النهاية ان من بين القتلى ولد لجعفر بن عقيل يدعى خالد بن جعفر، كما قتل معه محمد بن أبي سعيد بن عقيل و عبد اللّه بن مسلم، و محمد بن مسلم، و عبيد اللّه بن جعفر بن أبي طالب، فيكون مجموع القتلى من العلويين كما احصاهم محمد فتح بدران و فؤاد علي وفا في كتابيهما غصن الرسول و الحسين بن علي واحدا و عشرين قتيلا.
و سلم من أولاد الحسين الإمام زين العابدين (عليه السلام) و كان مريضا كما تنص على ذلك اخبار معركة الطف و حاول ابن زياد بعد وصول السبايا الى الكوفة و دخولهم عليه ان يقتله، و لكن عمته زينب قد تعلقت به و ألقت بنفسها عليه و قالت: إذا اردت قتله فاقتلني قبله فتركه لها، و كان يوم ذاك متزوجا و له من اولاده محمد الباقر و هو طفل في حدود السنتين أو أكثر من ذلك بقليل.
و جاء في رواية ابن قتيبة في الإمامة و السياسة عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) انه قال: دخلنا على يزيد بن معاوية و نحن اثنا عشر غلاما مغللين في الحديد و علينا قمص فقال اخلصتم أنفسكم لعبيد أهل العراق و ما علمت بخروج أبي عبد اللّه حين خرج و لا بقتله حين قتل.
و قد ذكرنا سابقا انه كان يحاول بكلماته هذه و نحوها أن يتنصل من قتل الحسين بعد أن أمر به و خطط له، لانه احس بالنقمة عليه من كل الجهات و ان الاخطار قد احدقت به و بأسرته، و أدرك أن المسلمين مهما تحملوا منه و من أبيه من أنواع الظلم و الجور لا يتحملون قتل الحسين و سبي نسائه.