لما كثرت كتب و رسائل أهل الغدر و المكر من الكوفة و اجتمعت عنده نحو من اثني عشر الف رسالة و كتاب، كتب الحسين (عليه السلام) إليهم: «بسم اللّه الرحمن الرحيم» من الحسين بن عليّ الى الملأ من المسلمين و المؤمنين، امّا بعد فان هانيا و سعيدا قدما عليّ بكتبكم و كانا آخر من قدم عليّ من رسلكم و قد فهمت كل الذي اقتصصتم و ذكرتم و مقالة جلكم: انّه ليس علينا امام فأقبل لعلّ اللّه أن يجمعنا بك على الهدى و الحق.
و انّي باعث إليكم أخي و ابن عمي و ثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، (و أمرته أن يكتب إليّ بحالكم و رأيكم) فان كتب إليّ انّه قد اجتمع رأي ملأكم و ذوي الحجى و الفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم و قرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكا إن شاء اللّه، فلعمري ما الامام الّا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات اللّه، و السلام» .
فدعا ابن عمه مسلم بن عقيل (الذي يمتاز بالعقل و العلم و التدبير و الصلاح و السداد و الشجاعة)، و سرّحه (لأخذ البيعة من أهل الكوفة) مع قيس بن مسهر الصيداوي و عمارة بن عبد اللّه السلولي و عبد الرحمن بن عبد اللّه الأرحبي، و أمره بتقوى اللّه و كتمان أمره و اللطف فان رأى الناس مجتمعين مستوثقين عجل إليه بذلك ، فودع مسلم الحسين (عليه السلام) و خرج من مكة.
قال السيد ابن طاوس و ابن نما و غيرهما انّه: كتب الحسين (عليه السلام) الى جماعة من اشراف البصرة كتابا مع مولى له اسمه سليمان يكنّى أبا رزين يدعوهم فيه الى نصرته و لزوم طاعته، منهم أحنف بن قيس و منذر بن جارود و يزيد بن مسعود النهشلي و قيس بن الهيثم و قال فيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم «اما بعد، فان اللّه اصطفى محمدا (صلى الله عليه واله)على خلقه و اكرمه بنبوته و اختاره لرسالته ثم قبضه اللّه إليه و قد نصح لعباده و بلغ ما أرسل به (صلى الله عليه واله)و كنّا أهله و أولياءه و أوصياءه و ورثته و أحق الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا و كرهنا الفرقة و أحببنا العافية و نحن نعلم انّا أحق بذلك، المستحق علينا ممن تولاه، و قد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب و أنا أدعوكم الى كتاب اللّه و سنة نبيه (صلى الله عليه واله)فان السنة قد اميتت و انّ البدعة قد احييت، و ان تسمعوا قولي و تطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد، و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته» .
فأخذ سليمان الكتاب و ذهب الى البصرة مسرعا و أعطاه الى صناديد البصرة، ففرحوا به كثيرا، فجمع يزيد بن مسعود النهشلي بني تميم و بني حنظلة و بني سعد فلما حضروا قال:
يا بني تميم كيف ترون فيكم موضعي و حسبي منكم؟ فقالوا: بخ بخ أنت و اللّه فقرة الظهر و رأس الفخر حللت في الشرف وسطا و تقدمت فيه فرطا.
قال: فانّي قد جمعتكم لأمر اريد أن أشاوركم فيه و أستعين بكم عليه، فقالوا: انّا و اللّه نمنحك النصيحة و نجهد لك الرأي فقل حتى نسمع.
فقال: انّ معاوية مات، فأهون به و اللّه هالكا و مفقودا ألا و انّه قد انكسر باب الجور و الاثم و تضعضعت اركان الظلم و قد كان أحدث بيعة عقد بها أمرا، ظن انه قد أحكمه و هيهات و الذي أراد اجتهد و اللّه ففشل و شاور فخذل و قد قام ابنه زيد شارب الخمور و رأس الفجور يدّعي الخلافة على المسلمين و يتأمّر عليهم بغير رضى منهم مع قصر حلم، و قلّة علم، لا يعرف من الحق موطئ قدمه، فأقسم باللّه قسما مبرورا لجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين.
و هذا الحسين بن عليّ (عليه السلام) ابن بنت رسول اللّه (صلى الله عليه واله)ذو الشرف الاصيل، و الرأي الأثيل، له فضل لا يوصف، و علم لا ينزف، و هو أولى بهذا الامر لسابقته، و سنّه، و قدمه، و قرابته، يعطف على الصغير، و يحنو على الكبير، فأكرم به راعي رعيّة، و امام قوم، وجبت للّه به الجنة، و بلغت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحق، و لا تسكعّوا في وهدة الباطل، فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل، فاغسلوها بخروجكم الى ابن رسول اللّه (صلى الله عليه واله)و نصرته، و اللّه لا يقصر أحد عن نصرته الّا أورثه اللّه الذلّ في ولده و القلّة في عشيرته ها أنا قد لبست للحرب لامتها، و ادرعت لها بدرعها من لم يقتل يمت، و من يهرب لم يفت، فأحسنوا رحمكم اللّه ردّ الجواب.
فتكلمت بنو حنظلة فقالوا: يا أبا خالد نحن نبل كنانتك و فرسان عشيرتك ان رميت بنا أصبت، و ان غزوت بنا فتحت، لا تخوض و اللّه غمرة الّا خضناها، و لا تلقي و اللّه شدّة الّا لقيناها، ننصرك و اللّه باسيافنا و نقيك بابداننا، اذا شئت فافعل و تكلّمت بنو سعيد بن يزيد، فقالوا: يا أبا خالد انّ ابغض الاشياء إلينا خلافك و الخروج من رأيك، و قد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتل فحمدنا أمرنا و بقى عزّنا فينا فأمهلنا نراجع المشورة و نأتيك برأينا.
و تكلّمت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد نحن بنو ابيك و خلفاؤك لا نرضى ان غضبت، و لا نوطن ان ظعنت ، و الامر إليك فادعنا نجبك، و امرنا نطعك، و الامر لك اذا شئت.
فلمّا علم أبو خالد مكنون ضميرهم كتب الى الحسين (عليه السلام): بسم اللّه الرحمن الرحيم اما بعد فقد وصل إليّ كتابك و فهمت ما ندبتني إليه و دعوتني له من الاخذ بحظّي من طاعتك و الفوز بنصيبي من نصرتك و انّ اللّه لا يخل الارض قط من عامل عليها بخير أو دليل على سبيل نجاة، و انتم حجة اللّه على خلقه و وديعته في أرضه، تفرّعتم من زيتونة أحمديّة هو أصلها و انتم فرعها، فأقدم سعدت بأسعد طائر فقد ذلّلت لك أعناق بني تميم و تركتهم أشدّ تتابعا في طاعتك من الابل الظماء لورود الماء يوم خمسها و كظّها و قد ذلّلت لك بني سعد و غسلت درن صدورها بماء سحابة مزن حين استهمل برقها فلمع».
فلمّا قرأ الحسين (عليه السلام) الكتاب قال: ما لك آمنك اللّه يوم الخوف و أعزّك و أرواك يوم العطش الاكبر .
و كتب أيضا الأحنف بن قيس:
اما بعد: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60].
و اشار في كتابه هذا الى غدر أهل الكوفة و عدم وفائهم.
و اما المنذر بن الجارود فانّه جاء بالكتاب و الرسول الى عبيد اللّه بن زياد، لانّ المنذر خاف أن يكون الكتاب دسيسا من عبيد اللّه و كانت ابنته بحريّة زوجة لعبيد اللّه بن زياد، فأخذ عبيد اللّه الرسول فضرب عنقه و قيل انّه صلبه.
و هذا الرسول هو أبو رزين مولى الحسين (عليه السلام) ذو الجلالة و الشأن الكبير بل رفع رتبته و مقامه شيخنا النوري في كتابه اللؤلؤ و المرجان على مقام هاني بن عروة و فضّله عليه.
على كل حال، فلما قتله عبيد اللّه بن زياد صعد المنبر فخطب و توعّد أهل البصرة على الخلاف و اثارة الارجاف تلك الليلة فلمّا أصبح استناب عليهم أخاه عثمان بن زياد و أسرع هو الى قصر الكوفة .
و تجهّز أهل البصرة للشخوص الى كربلاء لنصرة الامام الحسين (عليه السلام) و لكن بلغهم خبر استشهاده قبل خروجهم، فجزعوا و اقاموا مجالس العزاء و المأتم.