قال المؤرّخون : كان خروج مسلم بن عقيل رحمة الله عليه بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين، وقتلُه يوم الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة، وكان توجّه الحسين صلوات الله عليه من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة ـ وهو يوم التروية ـ بعد مُقامه بمكة بقية شعبان وشهر رمضان وشوّالاً وذا القعدة وثماني ليال خلون من ذي الحجة سنة ستين، وكان(عليه السلام) قد اجتمع إليه مدةَ مُقامه بمكة نَفَرٌ من أهل الحجاز ونفر من أهل البصرة انضمّوا إلى أهل بيته ومواليه.
ولمّا أراد الحسين(عليه السلام) التوجّه إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرةً، لأَنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يُقْبَضَ عليه بمكة فيُنْفَذ به إلى يزيد بن معاوية، فخرج(عليه السلام) مبادراً بأهله وولده ومن انضمّ إليه من شيعته، ولم يكن خبر مسلم قد بلغه.
لماذا اختار الإمام الحسين(عليه السلام) الهجرة إلى العراق؟
رغم كلّ ما قيل من تحليل ودراسة لوضع المجتمع الكوفي وما ينطوي عليه من إثارة سلبيات يتكهّن بأغلبها المحلّلون من دون جزم فإنّنا نرى أنّ اختيار الإمام الحسين(عليه السلام) الهجرة إلى العراق كان لأسباب منها :
1 ـ إنّ التكليف الإلهي برفع الظلم والفساد والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر يشمل جميع المسلمين بلا استثناء، إذ أنّنا لا نجد في النصوص التاريخية ما يدلّل على قيام قطر من الأقطار الإسلامية بمحاولة لمواجهة الحكم الأموي سوى العراق الذي وقف ضدّهم منذ أن ظهر الأمويون في الساحة السياسية وحتى سقوطهم.
2 ـ إنّ الإمام الحسين(عليه السلام) لم يعلن دعوته لمواجهة ظلم الأمويين وفسادهم والنهوض لإحياء الرسالة يوم طُلب منه مبايعة يزيد، بل كانت تمتدّ دعوته في العمق الزمني إلى أبعد من ذلك، ولكن لم نرَ نصوصاً تاريخية تدلّل على استجابة شعب من شعوب العالم الإسلامي لنداء الإمام الحسين(عليه السلام) ونهضته غير العراق، فكانت الدعوات الكثيرة والملحّة موجّهة إليه تعلن الولاء والاستعداد لتأييد النهضة ومواجهة الحكم الأموي الفاسد.
3 ـ لم يكن أمام الحسين (عليه السلام) من خيار لاختيار بلد آخر غير العراق، لأنّ بقية الأقطار إمّا أنها كانت مؤيّدة للأمويين في توجّهاتهم وسياساتهم، أو خاضعة مقهورة، أو أنّها كانت غير متحضّرة وغير مستعدّة للاستجابة للنهضة الحسينيّة. على أنّ كثيراً من شعوب العالم الإسلامي كانت في ذلك الحين إمّا كافرة أو حديثة عهد بالإسلام، أو غير عربية بحيث يصعب التعايش والتعامل معها; ممّا كان سبباً لتضييع ثورة الإمام وجهوده.
4 ـ كانت الكوفة تضمّ الجماعة الصالحة التي بناها الإمام علي (عليه السلام) والقاعدة الجماهيرية التي تتعاطف مع أهل البيت (عليهم السلام) فأراد الإمام الحسين (عليه السلام) أن لا يضيع دمه وهو مقتول لا محالة، كما أراد أن يعمّق لإيمان في النفوس ويجذّر الولاء لأهل البيت (عليهم السلام)، وكان العراق أخصب أرض تستجيب لذلك، وسرعان ما بدأت الثورات في العراق بعد استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام)، وأصبح العراق القاعدة العريضة لنشر مبادئ وفضائل أهل البيت(عليهم السلام) إلى العالم الإسلامي في السنين اللاحقة.
5 ـ إنّ اختيار أيّ بلد غير العراق سيكون له أثره السلبي، إذ يتّخذه أعداء الإسلام وأهل البيت(عليهم السلام) أداة عار وشنار للنيل من مقام الإمام وأهدافه السامية، ويفسّر خروجه إليه على أنّه هروب من المواجهة الحتمية، في الوقت الذي كان يهدف الإمام (عليه السلام) إلى إحياء حركة الرسالة والمُثل الأخلاقية وتأجيج روح المواجهة والتصدّي للظلم والظالمين. وحتى على فرض اختياره (عليه السلام) بلداً آخر فإنّ سلطة الأمويين ستنال منه وتقضي عليه دون أن يحقّق أهداف رسالته التي جاء من أجلها.
6 ـ لمّا كان العراق يصارع الأمويين كانت أجواؤه مهيّئة لنشر الإعلام الثوري لنهضة الحسين(عليه السلام) وأفكاره، ومن ثمّ فضح بني أُمية وتستّرهم بالشرعية وغطاء الدين، وحتى النزعة العاطفية المزعومة في العراقيّين فقد كانت سبباً في ديمومة وهج الثورة وأفكارها كما نرى ذلك حتّى عصرنا هذا.
ولعلّ هناك أسباباً لا ندركها، لا سيَّما ونحن نرى أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) كان على بيّنة واطلاع من نتيجة الصراع، وكان على معرفة بالظروف الموضوعية المحيطة بمسيرته وعلى علم بطبيعة التكوين الاجتماعي والسياسي للمجتمع الذي كان يتوجّه إليه من خلال وعيه السياسي الحاذق، والنصائح التي قدّمها إليه عدد من الشخصيات فضلاً عن عصمته عن الزلل والأهواء، كما نعتقد; فلم يكن اختياره العراق منطلقاً لثورته العظيمة، إلاّ عن دراية وتخطيط رغم الجريمة النكراء التي نتجت عن تخاذل الناس وتركهم نصرة إمامهم ولحوق العار بهم في الدنيا والآخرة.
تصريحات الإمام(عليه السلام) عند وداعه مكة :
صدرت عن الإمام الحسين(عليه السلام) عدّة تصريحات عند ما كان يعتزم مغادرة مكة والتوجّه إلى العراق، وكانت بعض هذه التصريحات تمثّل أجوبته(عليه السلام) على من أشفق عليه أو مَنْ ندّد بخروجه، وقد تمثّل خطابه للناس بصورة عامة، فنذكرُ منها هنا:
1 ـ روى عبد الله بن عباس عن الإمام الحسين بشأن حركته نحو العراق قوله(عليه السلام): (والله لا يَدَعُونَنِي حتى يستخرجوا هذه العَلْقَةَ من جوفي، فإذا فعلوا سُلِّط عليهم مَنْ يذلّهم حتى يكونوا أذلَّ من فَرْم المرأة).
2 ـ كان محمد بن الحنفية في يثرب فلمّا علم بعزم الإمام(عليه السلام) على الخروج إلى العراق توجّه إلى مكة، وقد وصل إليها في الليلة التي أراد(عليه السلام) الخروج في صبيحتها إلى العراق، وقصده فور وصوله فبادره قائلا: (يا أخي إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، ويساورني خوف أن يكون حالك حال من مضى، فإن أردت أن تقيم في الحرم فإنّك أعز من بالحرم وأمنعهم).
فأجابه الإمام(عليه السلام): (خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية، فأكون الذي تستباح به حرمةُ هذا البيت) ، فقال محمد: (فإنْ خفت ذلك فسر إلى اليمن أو بعض نواحي البرّ فإنّك أمنع الناس به، ولا يقدر عليك أحد)، قال الحسين(عليه السلام): (أنظر فيما قلت).
ولمّا كان وقت السَحَر بلغه شخوصُه إلى العراق وكان يتوضّأ فبكى
وأسرع محمد إلى أخيه فأخذ بزمام ناقته وقال له: (يا أخي، ألم تعدني فيما سألتك؟) قال الإمام(عليه السلام): (بلى ولكنّي أتاني رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) بعد ما فارَقْتُك وقال لي: يا حسين، اُخرج فإنّ الله شاء أن يراك قتيلا)، فقال محمد: فما معنى حملِ هؤلاء النساء والأطفال، وأنت خارج على مثل هذا الحال؟ فأجابه الإمام(عليه السلام): (قد شاء الله أن يراهن سبايا).
ولم يكن اصطحاب الحسين(عليه السلام) لعيالاته حالة غريبة على المجتمع العربي والإسلامي، فقد كان العرب يصطحبون نساءَهم في الحروب وكذا فعل النبي(صلَّى الله عليه وآله) في غزواته فقد كان يقرع بين نسائه، أمّا بالنسبة إلى الإمام الحسين(عليه السلام) فإنّ اصطحابه لعائلته في حركته إنّما كان لأجل أن يكون وجودها معه بمثابة حجّة قوية على المسلمين لنصرته، فمن تولّى الحسين(عليه السلام) ويسعى لنصرته والدفاع عنه فأولى له أن يدافع عنه وهو بين أهله. وإن اختلف مع الحسين(عليه السلام) فما ذنب عيالاته وهنّ بنات النبي(صلَّى الله عليه وآله) خاصة أنّ الخلاف بزعم الأمويين إنّما هو لأجل الخلافة.
3 ـ ذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) لمّا أراد الخروج من مكة ألقى خطاباً فيها، جاء فيه: (خُطَّ الْمَوْتُ على وُلْدِ آدم مَخَطّ الْقِلادة على جيدِ الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اِشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسْلانُ الفلواتِ بينَ النواويس وكربلاء، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أُجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله(عليهم السلام) لُحْمَتُه، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تَقِرُّ بهم عينُه، ويُنْجَزُ بهم وعدُه، مَنْ كان باذلا فينا مهجتَه وموطِّناً على لقاء الله نَفْسَه فَلْيَرْحَلْ معنا , فإنّي راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى).
يُبَيِّنُ الإمام الحسين(عليه السلام) في هذه التصريحات أنّه مصمّم على عدم مبايعة يزيد; قياماً بتكليفه الإلهي، موضحاً سبب خروجِه من مكة ، مخبراً عن المصير الذي ينتظره وأهل بيته جميعاً، داعياً إلى الالتحاق به من كان مُوَطِّناً على لقاء الله نفسه، معلِناً أنّ الله تعالى قرن رضاه برضا أهلِ البيت(عليهم السلام).
خلاصة الثورة في رسالة :
بوعي القائد الرسالي والفدائي العظيم والثائر من أجل العقيدة صمّم الإمام الحسين (عليه السلام) بحنكة ودراية المسير من مكة إلى العراق، بعد أن أوضح جانباً كبيراً من أهدافه وأسباب نهضته ، وقد تطايرت أخباره إلى أرجاء العالم الإسلامي.
وكتب الإمام(عليه السلام) إلى بني هاشم في يثرب رسالةً يدعوهم فيها إلى الفرصة الأخيرة لنصرة الإسلام والمبادئ والقيم الإلهية والتألّق في سماء التضحية في الدنيا، وخلود الذكر الطيّب والبقاء عنواناً للحقّ والعدل والإباء والفوز في أعلى درجات الجنّة في الآخرة، فقد جاء فيها بعد البسملة :
(من الحسين بن عليّ إلى أخيه محمد ومن قبله من بني هاشم : أمّا بعد، فإنّه من لحق بي منكم استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام).
ولمّا وردت رسالة الإمام(عليه السلام) إلى بني هاشم في يثرب، بادرت طائفة منهم إلى الالتحاق به ليفوزوا بالفتح والشهادة بين يدي ريحانة رسول الله(صلَّى الله عليه وآله).
ملاحقة السلطة للإمام (عليه السلام) :
ولم يبعُد الإمام(عليه السلام) كثيراً عن مكة حتى لاحقته مفرزة من الشرطة بقيادة يحيى بن سعيد، فقد بعثها والي مكة عمرو بن سعيد لصدّ الإمام(عليه السلام) عن السفر، وجرت بينهما مناوشات حتى تدافع الفريقان واضطربوا بالسياط وامتنع الحسين وأصحابه منهم امتناعاً قوياً.
في التنعيم :
ومضى ركب الإمام الحسين(عليه السلام) لا يلوي على شيء، وفي طريقهم بمنطقة التنعيم صادفوا إبلا قد يَمَّمت وَجْهَها شطرَ الشام وهي تحمل الهدايا ليزيد بن معاوية قادمةً من اليمن، فاستأجر من أهلها جِمالا لرحله وأصحابه وقال لأصحابها: مَنْ أحبّ أن ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كِراءه وأحسنّا صحبته، وَمَنْ أحبّ أن يفارقنا في بعض الطريق أعطيناه كراءه على ما قطع من الطريق، فمضى معه قوم وامتنع آخرون.
في الصفاح :
وواصل الإمام مسيره حتى وصل الصفاح فالتقى الفرزدق الشاعر فسأله عن خبر الناس خلفه فقال الفرزدق: قلوبُهم معك والسيوف مع بني أُمية ، والقضاء ينزل من السماء. فقال أبو عبد الله(عليه السلام): صدقت، للهِ الأمر، واللهُ يفعل ما يشاء، وكلّ يوم ربّنا هو في شأن، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدَّ مَنْ كان الحقُّ نيّتَه والتقوى سريرَتَهُ.
ثمّ واصل الإمام(عليه السلام) مسيرته بعزم وثبات، ولم يثنه عن عزيمته قول الفرزدق في تخاذل الناس عنه وتجاوبهم مع الأمويين.
كتاب الإمام(عليه السلام) لأهل الكوفة :
ولمّا وافى الإمام الحسين(عليه السلام) الحاجر من بطن ذي الرُّمّة ـ وهو أحد منازل الحجّ من طريق البادية ـ كتب كتاباً لشيعته من أهل الكوفة يعلمهم بالقدوم إليهم، ولم يكن(عليه السلام) قد وصله خبر ابن عقيل، هذا نصّه :
(بسم الله الرحمن الرحيم , من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين :
سلام عليكم ، فإنّي أحْمَدُ إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد ، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يُخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع مَلَئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألت الله أن يُحسن لنا الصنيع، وأن يُثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شَخَصْتُ إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية،
فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجِدّوا، فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).
وقد بعث (عليه السلام) الكتاب بيد قيس بن مُسهر الصيداوي.
إجراءات الأمويين :
سرى نبأ مسير الإمام(عليه السلام) نحو الكوفة بين الناس فاضطرب الموقف الأموي، وشعرت السلطات بالخوف والحرج، وتحدّثت الركبان بأنباء الثائر العظيم، فتناهى الخبر إلى عبيد الله بن زياد ، فأعدّ رجاله وجنده ، ووضع خطّة لقطع الطريق أمام الحسين(عليه السلام) والحيلولة دون وصوله إلى الكوفة ، فبعث مدير شرطته الحصين بن نمير التميمي ، مكلّفاً إيّاه بتنفيذ المهمّة، فاختار الحصين موقعاً استراتيجياً يسيطر من خلاله على طريق مرور الإمام(عليه السلام)، فنزل بالقادسية واتّخذها مقرّاً لقيادته.
اعتقال الصيداوي وقتله :
انطلق قيس بن مُسهر الصيداوي برسالة الإمام نحو الكوفة، وحينما وصل القادسية اعتقله الحصين بن نمير، فبعث به إلى عبيد الله بن زياد، فقال له عبيد الله: إصعد فسبّ الكذّاب الحسين بن عليّ، فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيّها الناس، إنَّ هذا الحسين بن عليّ خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته في الحاجر فأجيبوه ، ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه ، واستغفر لعليّ بن أبي طالب وصلّى عليه ، فأمر عبيد الله أن يُرمى به من فوق القصر، فرموا به فتقطّع.
وروي : أنّه وقع على الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه وبقي به رمق، فجاء رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه، فقيل له في ذلك وعِيبَ عليه، فقال : أردتُ أن أريحه.
مع زهير بن القين :
وانتهت قافلة الإمام إلى (زرود) فأقام (عليه السلام) فيها بعض الوقت، وقد نزل بالقرب منه زهير بن القين البجلي وكان عثمانيّ الهوى، وقد حجّ بيت الله في تلك السنة، وكان يساير الإمام في طريقه ولا يحبّ أن ينزل معه مخافةَ الاجتماع به إلاّ أنّه اضطرّ إلى النزول قريباً منه، فبعث الإمام(عليه السلام) إليه رسولا يدعوه إليه، وكان زهير مع جماعته يتناولون الطعام، فأبلغه الرسول مقالة الحسين فذعر القوم وطرحوا ما في أيديهم من طعام، وكأنَّ على رؤوسهم الطير، فقالت له امرأته: سبحانَ الله! أيبعث إليك ابنُ بنت رسول الله ثم لا تأتيه؟ لو أتيته فسمعتَ من كلامه ثم انصرفتَ. فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهُه، فأمر بفسطاطه وثقله وراحلته ومتاعه ، فقُوِّضَ وحُمِل إلى الحسين(عليه السلام) ثم قال لامرأته : أنتِ طالق ، إلحقي بأهلك ، فإنّي لا أحب أن يُصيبَكِ بسببي إلاّ خير. وقال لأصحابه: من أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد إنّي سأحدثكم حديثاً : إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا وأصبنا غنايم، فقال لنا سلمان الفارسي رحمة الله عليه : أَفَرِحْتُم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ قلنا: نعم ، فقال : إذا أدركتم سيّد شباب آل محمد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه ممّا أصبتم اليوم من الغنائم. فأمّا أنا فأستودعكم الله. قالوا: ثم ـ والله ـ مازال في القوم مع الحسين(عليه السلام) حتى قتل رحمة الله عليه.
أنباء الانتكاسة تتوارد على الإمام(عليه السلام) :
ها هي الكوفة تضطرب وتموج، والانتكاسة الخطيرة قد لاحت ملامحها، وبدأ ميزان القوى يميل لصالح السلطة الأُموية، والوهن بدأ يدبّ والانحلال يسري في أوساط المعارضة، وبدأ الإرهاب والتجسس والرشوة تفعل فعلتها، فتلاشت المعارضة ونكص المبايعون، وقُتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وقيس بن مُسهر الصيداوي، وسُجِنَ المختار بن عبيدة الثقفي، وانقلبت أوضاع الكوفة على أعقابها.
وواصل الإمام الحسين(عليه السلام) المسير، وليس لديه معلومات جديدة عن تطور الأحداث، فأرسل عبد الله بن يقطر إلى مسلم بن عقيل ليستجلي الموقف، إلاّ أنّ الحسين اُخبرَ في الطريق في موضع يدعى (الثعلبية) بانتكاسة الثورة واستشهاد مسلم بن عقيل، أمّا رسوله الثاني هذا إلى مسلم فقد وقع أسيراً أيضاً بيد جنود الحصين فنقل إلى ابن زياد في الكوفة، وكان كرسول الحسين(عليه السلام) السابق مثالا للصلابة والجرأة والإخلاص.
ووصل خبر أسر الرسول واستشهاده إلى الإمام(عليه السلام) في موضع يدعى (زبالة) وهكذا راحت تتوارد على الإمام أنباء الانتكاسة، ولاحت له بوادر النكوص الخطير، وشعر بالخذلان ونقض العهد، فوقف في أصحابه وأهل بيته يبلغهم بما استجدّ من الحوادث، ويضع أمامهم الحقائق، ليكونوا على بصيرة من الأمر، فقال لهم: (بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإنَّه قد أتانا خبر فظيع قتلُ مسلم بن عقيل و هانيء بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتُنا، فمن أحبَّ منكم الانصراف فلينصرفْ في غير حرج ليس معه ذمام).
فتفرّق الناس عنه وأخذوا يميناً وشمالا، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير ممن انضموا إليه، وإنَّما فعل ذلك لأنّه(عليه السلام) علم أنّ الأعراب الذين اتّبعوه إنّما اتّبعوه وهم يظنّون أنَّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعةُ أهله، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون على ما يقدمون. فلمّا كان السَحَر أمر أصحابَه فاستقَوْا ماءً وأكثروا، ثم ساروا.
لقاء الإمام الحسين(عليه السلام) مع الحرّ :
وبينما كان الإمام(عليه السلام) يسير بمن بقي معه من أصحابه المخلصين وأهل بيته وبني عمومته; إذا بهم يرون أشباحاً مقبلة من مسافات بعيدة، وظنّها بعضهم أشباح نخيل، ولكن لم يكن الذي شاهدوه أشجار النخيل، ولكنّها جيوش زاحفة، فبعد قليل تبيّن لهم أنّ تلك الأشباح المقبلة عليهم هي ألف فارس من جند ابن زياد بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي، أرسلها ابن زياد لتقطع الطريق على الحسين(عليه السلام) وتسيّره كما يريد، ولمّا اقتربوا من ركب الحسين(عليه السلام) سألهم عن المهمّة التي جاءوا من أجلها، فقال لهم الحرّ: لقد أمرنا أن نلازمكم ونجعجع بكم حتى ننزلكم على غير ماء ولا حصن، أو تدخلوا في حكم يزيد وعبيد الله بن زياد.
وجرى حوار طويل بين الطرفين وجدال لم يتوصّلا فيه إلى نتيجة حاسمة ترضي الطرفين، فلقد أبى الحرّ أن يمكِّنَ الحسينَ من الرجوع إلى الحجاز أو سلوك الطريق المؤدّية إلى الكوفة، وأبى الحسين(عليه السلام) أن يستسلم ليزيد وابن زياد ، وكان ممّا قاله الحسين وهو واقف بينهم خطيباً: (أيّها الناس! إنّي لم آتِكم حتى أتتني كتبُكم وقدمِتْ عليّ رُسُلُكُم، أنِ أقدم علينا، فإنه ليس لنا إمام، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهُدى والحقِّ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما أطمئنُ إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين اِنْصَرَفْتُ عنكم إلى المكانِ الذي جئتُ مِنه إليكم). فسكتوا عنه ولم يتكلّم أحد منهم بكلمة، فقال للحرّ : (أتريد أن تصلّيَ بأصحابك؟) قال: لا، بل تُصلّي أنت ونصلّي بصلاتك، فصلّى بهم الحسين(عليه السلام).
وبعد أن صلّى الإمام(عليه السلام) بهم العصر خاطبهم بقوله: (أمّا بعد، فإنّكم إنْ تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله تكونوا أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمّد وأولى بولاية هذا الأَمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرينَ فيكم بالجوْرِ والعدوانِ، وإنْ أبيتم إلاّ الكراهية لنا والجهل بحقّنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت به عليَّ رُسُلُكُم انصرفت عنكم) ، فقال له الحرّ: أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر، فقال الحسين(عليه السلام) لبعض أصحابه: (يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللّذين فيهما كتبهم إليَّ) فأخرجَ خرجين مملوءين صُحُفاً فنثرت بين يديه. فقال له الحرّ: إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك وقد أُمِرْنا إذا نحن لقيناك ألاّ نفارقك حتى نُقدِمَكَ الكوفة على عبيد الله.
فقال له الحسين(عليه السلام): (الموت أدنى إليك من ذلك) ثم قال لأَصحابه: (قوموا فاركبوا)، فركبوا وانتظروا حتى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: (انصرفوا)، فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين(عليه السلام) للحرّ: (ثَكَلَتْكَ أمك ما تريد؟)، قال له الحرّ: أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل كائناً مَنْ كان ، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه.
النزول في أرض الميعاد :
أقلقت الأخبار عن تقدّم الإمام الحسين(عليه السلام) نحو الكوفة ابن زياد وأعوان السلطة الأُموية، فأسرع بكتابه إلى الحرّ بن يزيد الرياحي يطلب فيه أن لا يسمح بتقدّم الإمام حتى تلتحق به جيوش بني أُمية وتلتقي به بعيداً عن الكوفة خشية أن يستنهض أهلها ثانية، وليستغل ابن زياد ظروف المنطقه الصعبة للضغط على الإمام(عليه السلام) واستسلامه.
وبغباء المنحرف الساذج وجهالته ردّ حامل كتاب ابن زياد على أحد أصحاب الحسين(عليه السلام) ـ يزيد بن مهاجر ـ مدافعاً عمّا جاء به قائلا: أطعت إمامي ووفيت ببيعتي، فقال له ابن مهاجر: بل عصيت ربّك وأطعت إمامك في هلاك نفسك وكسبت العار والنار، وبئس الإمام إمامك، قال الله تعالى : {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} [القصص: 41].
وحالت جنود ابن زياد قافلة الإمام الحسين(عليه السلام) دون الاستمرار في المسير، فقد منعهم جيش الحرّ بن يزيد وأصرّوا على أن يدفعوا الإمام(عليه السلام) نحو عراء لا خضرة فيها ولا ماء.
وكان زهير بن القين متحمّساً لقتال جيش الحرّ قبل أن يأتيهم المدد من قوات بني أُمية، فقال للحسين(عليه السلام): (إنّ قتالهم الآن أيسر علينا عن قتال غيرهم)، ولكنّ الإمام(عليه السلام) رفض هذا الرأي لأنّ القوم لم يعلنوا حرباً عليه بعد، وما كان ذلك الموقف النبيل إلاّ لما كان يحمله الإمام من روح تتسع للأمة جمعاء، وأيضاً لعظيم رسالته التي يدافع عنها وقِيَمهِ التي كان يسعى إلى بنائها في الأمة رغم أنّها بدت تظهر العداء سافراً ضدّه ، فقال (عليه السلام) : (ما كنت لأبدأهم بقتال).
وكان نزول الإمام في كربلاء في يوم الخميس الثاني من محرم سنة إحدى وستين ، ثم اقترح زهير على الإمام(عليه السلام) أن يلجأوا إلى منطقة قريبة يبدو فيها بعض ملامح التحصين لمواجهة الجيش الأموي لو نشبت المعركة.
وسأل الإمام(عليه السلام) عن اسم هذه المنطقة فقيل له: كربلاء، عندها دمعت عيناه وهو يقول: (اللهم أعوذ بك من الكرب والبلاء)، ثم قال: (ذات كرب وبلاء، ولقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفّين وأنا معه فوقف، فسأل عنه فاُخبر باسمه فقال: ها هنا محطّ ركابهم، وهاهنا مهراق دمائهم، فسئل عن ذلك فقال: ثقل لآل بيت محمد
ينزلون هاهنا).
قبض الإمام الحسين(عليه السلام) قبضةً من ترابها فشمّها وقال: (هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله أننّي اُقتل فيها ، أخبرتني أم سلمة).
فأمر الإمام(عليه السلام) بالنزول ونصب الخيام إلى حين يتّضح الأمر ويتّخذ القرار النهائي لمسيرته.
جيش الكوفة ينطلق بقيادة عمر بن سعد :
وفي تلك الأثناء خرج عمر بن سعد من الكوفة في جيش قدّرته بعض المصادر بثلاثين ألفاً، وبعضها بأكثر من ذلك، وفي رواية ثالثة: إنّ ابن زياد قد استنفر الكوفة وضواحيها لحرب الحسين و توعّد كلَّ مَنْ يقدر على حمل السلاح بالقتل والحبس إن لم يخرجْ لحرب الحسين.
وكان من نتائج ذلك أن امتلأت السجونُ بالشيعة واختفى منهم جماعة، وخرج مَنْ خرج لحرب الحسين من أنصار الأمويين وأهل الأطماع والمصالح الذين كانوا يشكّلون أكبر عدد في الكوفة، أمّا رواية الخمسة آلاف مقاتل التي تبنّاها بعض المؤرّخين فمع أنّها من المراسيل، لا تؤيّدها الظروف والملابسات التي تحيط بحادث من هذا النوع الذي لا يمكن لأحد أن يقدِمَ عليه إلاّ بعد أن يُعِدَّ العُدَّة لكلّ الاحتمالات، ويتّخذ جميع الاحتياطات، وبخاصة إذا كان خبيراً بأهل الكوفة وتقلّباتهم وعدم ثباتهم على أمر من الأُمور.
وتوالت قطعات الجيش الأموي بزعامة عمر بن سعد فأحاطت بالحسين(عليه السلام) وأهله وأصحابه، وحالت بينهم وبين ماء الفرات القريب منهم. وقد جرت مفاوضات محدودة بين عمر بن سعد والإمام الحسين(عليه السلام) أوضح فيها الإمام(عليه السلام) لهم عن موقفه وموقفهم ودعوتهم له، وألقى عليهم كل الحجج في سبيل إظهار الحق، وبيّن لهم سوء فعلهم هذا وغدرهم ونقضهم للوعود التي وعدوه بها من نصرته وتأييده، وضرورة القضاء على الفساد.
ولكن عمر بن سعد كان أداة الشرّ المنفّذة للفساد والظلم الأموي، فكانت غاية همّته هي تنفيذ أوامر ابن زياد بانتزاع البيعة من الإمام(عليه السلام) ليزيد أو قتله وأهل بيته وأصحابه ، متجاهلاً حرمة البيت النبوي بل وحاقداً عليه كما جاء في رسالته لعمر: أن حُلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فلا يذوقوا قطرة كما صُنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان.