كيف نكتب الخطبة
من أوّل الصعوبات التي تواجه الخطيب المبتدئ عدم معرفته للنحو الذي تكتب به الخطبة ، علاوة على عدم معرفته اختيار موضوع مناسب لها .
ولتسهيل هذه المهمّة نتّبع الخطوات التالية :
أولاً : الإيجاد
يراد من ذلك إعمال الفكر لاستنباط الموضوع والوسائل التي من شأنها تقوية مضمون الموضوع واجتذاب إقناع السامع ، وإثارة حماسه إلى ما يدعو إليه الخطيب .
إنّ عمل الخطيب أن يقدّم الحقائق ، فعليه أن يكون عند تقديمها بحالٍ لا تمنع من قبول كلامه ، بل يجب أن يكون بحالٍ تجذب الناس إليه ، وتدفعهم إلى الإنصاف له وتقبّله بقبول حسن(1) .
أمّا كيف يختار موضوعه عند جولان فكرهِ ؟!
ينبغي للخطيب أن يكون مثله مثل الطبيب بالنسبة إلى المريض ، يشخّص المرض الواقعي ، ويعالجه علاجاً واقعيّاً ، وخلاف ذلك يكون سبباً لانصراف المريض عنه .
الخطيب كذلك ، مهمّته إصلاح الفاسد من اُمور المسلمين ، وتقوية الخير وتثبيته في نفوسهم ، فينبغي أن يتوجّه في اختار موضوع خطبته إلى المشاكل الواقعيّة في حياة المسلمين المخاطبين ؛ المشاكل الاجتماعيّة ، العقائديّة ، الأخلاقيّة وغيرها ، يختار ذلك ويضع لها الحول الإسلاميّة ؛ فإنّه إن فعل هذا كان داعياً إلى إقبال المخاطبين عليه .
ثانياً : الأدلّة
بعد أن وضع الخطيب تفكيره على الموضوع الواقعي فإنّه يلجأ إلى تنسيقه وترتيبه بإيجاد الشواهد والأدلّة المقويّة له ، بحيث تكون هذه الوسائل باعثة على تقوية اعتقاد المخاطبين بالفكرة المطروحة في الخطبة ، وهذه الوسائل التي يعبّر عنها ( بالمواضيع ) هي المصادر التي يمكن للخطيب أن يتّخذ منها ما يستدلّ به على دعواه ، وتنقسم إلى قسمين :
أ ـ المواضع الذاتية
وهي الوسائل أو الأدلّة التي تكون من ذات الموضوع لا من شيء خارج عنه ، وهي على أنواع :
1 ـ التعريف
يلجأ الخطيب إلى التعريف في حالات :
أ ـ لتحرير محلّ النزاع بين فريقين مختلفين في معرفة مفهوم الشيء .
ب ـ عند مدح شيء ، أو ذمّه فيعرّفه بصفاته ؛ كقول أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ، ولن تقتلوه ))(2) .
ج ـ عندما يريد إيضاح أمر اُشكل فهمه على السامعين ، فيعمد إلى تعريفه لتجتذب القلوب إليه ، ويوضّح للسامعين ما أشكل عليهم أمره .
وطرق التعرف كثيرة ، منها بيان أهم خواصه ، كقول أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( والمتّقون هم أهل الفضائل ، منطقهم الصواب ، وملبسهم الاقتصاد ، ومشيهم التواضع ... )) .
أو بالاستعارات أو التشبيه ، أو بيان أنواعه وأقسامه ، كقول أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( الرزق رزقان ؛ رزق تطلبه ، ورزق يطلبك ، فإن لم تأته أتاك ... ))(3) .
2 ـ المقابلة
هو أن يعقد الخطيب المقابلة بين شيئين ليبيّن الحقّ فيهما ؛ فإنّ الأشياء تتميّز بأضدادها وتُعرف بنظائرها . فالمقابلة أمر معيّن للاستدلال الخطابي ، وتعطي الكلام حلاوة ورونقاً ، ويكون ذلك بأمرين :
أ ـ أن يذكر الخطيب الشيء ومقابله ، ويذكر صفاتهما ، ومن ذلك يتبيّن الحُسن منهما ، كما في قول أمير المؤمنين (عليه السّلام) للأشعث بن قيس في فضل الصبر : (( إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور ، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت موزور )) .
ب ـ أن يبرهن على بطلان المقابل فيثبت الشيء المطلوب ، كما فعل أمير المؤمنين (عليه السّلام) عندما ناقشه الخوارج ، واعترضوا عليه بإباحة أموال أهل الجمل دون النساء والذريّة ، فقد قال : (( إنّما أبحت لكم أموالهم بدلاً عمّا كانوا أغاروا عليه من بيت مال البصرة قبل قدومي عليهم .
والنساء والذريّة لم يقاتلونا ، وكان لهم حكم الإسلام بحكم دار الإسلام ، ولم يكن منهم ردّة عن الإسلام ، ولا يجوز استرقاق من لم يكفر . وبعد , لو أبحت لكم النساء أيُّكم يأخذ عائشة في سهمه ؟! )) . فخجل القوم(4) .
3 ـ التشابه وضرب الأمثال
يعمد إليهما الخطيب لتقريب الاُمور التي يدعو إليها من نفوس المخاطبين ؛ ليأخذوها قضية مسلّمة لا يناقشون فيها ، ولا ينظرون إليها نظرة فاحصة كاشفة ؛ فيعقد صلة ومقارنة بين الفكرة الجديدة وبين الأمر المعروف عند المخاطبين والمقبول عندهم ، فيقبلوا الجديد بقبول القديم ، أو يلجأ إلى المقارنة بين الأمر الذي يدعو المخاطبين إليه والأمر الذي تسلّم به جماعات اُخرى(5) .
وينبغي الترفّع عن ضرب الأمثال العاميّة الساذجة .
4 ـ العلّة والمعلول
التعليل روح الاستدلال ، فالعلّة الباعثة على الفعل ، والغاية المنشودة منه طريق للحكم عليه بأنّه خير أو شرّ ، وبأنّه صحيح أو باطل ، وبأنّه سائغ أو غير سائغ ؛ لذلك يعمد الخطباء إلى ذكر الباعث على الأفعال ، والدوافع إليها ؛ ليتخذ منها سنداً في الحكم عليها(6) .
كقول أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( ... هَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الأَنْبَارَ , وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ , وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا .
وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ , وَالأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ ؛ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلُبَهَا , وَقَلائِدَهَا وَرُعُثَهَا , مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاّ بِالاسْتِرْجَاعِ وَالاسْتِرْحَامِ , ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ , وَلا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ .
فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً , بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً . فَيَا عَجَباً عَجَباً وَاللَّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَجْلِبُ الْهَمَّ مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ ! فَقُبْحاً لَكُمْ وَتَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى ؛ يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلا تُغِيرُونَ , وَتُغْزَوْنَ وَلا تَغْزُونَ , وَيُعْصَى اللَّهُ وَتَرْضَوْنَ ! ))(7) .
5 ـ التعميم ثمّ التخصيص
هو أن يبتدئ الخطيب بقضيّة مسلّم بها ، أو في منزلة المسلّم بها للتقرير ، ثمّ يذكر بعض الجزئيات .
مثال ذلك قول النبي (صلّى الله عليه وآله) في خطبة الوداع : (( ... وإنّ رِبا الجاهليّة موضوع ، وإنّ أوّل رِباً أبدأ به رِبا عمّي العباس بن عبد المطلب ، وإنّ دماء الجاهليّة موضوعة ، وإنّ أوّل دمٍ أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب )) .
فتراه (صلّى الله عليه وآله) يبتدئ بحكم عام ، فيسقط الربا كلّه ، ثمّ يخص رِبا العباس بالإسقاط ، ليبيّن للناس إنّه يبتدأ بتنفيذ الأحكام على أقرب الناس إليه فيكون ذلك أسوة حسنة ، وهكذا في الدماء(8) .
6 ـ التجزئة
وهذه مقابل للتعميم والتخصيص ، وهي منهج خطابي يعمد إليه الخطيب عندما يريد المبالغة في إثبات الحكم ، والحرص على تأكيده ، وتقريره في نفوس السامعين .
فالتجزئة لا يعمد إليها إلاّ في مقام الإطناب ، ولا يتّجه إليها الخطيب في مقام الإيجاز . ولها طريقان :
أ ـ أن تُتبع الجزئيات ليستنبط منها جميعاً حكماً واحداً .
ب ـ أن تُتبع الجزئيات ليخص واحداً من بينها بحكم ؛ لزيادة
التنبيه على خصائصه ، وللحث على الأخذ به ، أو التنفير منه(9) .
ب ـ المواضع العرضية
وهي مصادر خارجة عن ذات الموضوع ؛ وذلك لأنّ المخاطب أحياناً لا يدرك ما في ذات الموضوع من خصائص ومزايا وثمرات ، فيصعب عليه أن يقتنع بأدلّة تستمد قوّتها من تلك الخصائص ، فيستعان على إقناعه باُمور خارجة عن ذات الموضوع .
وهذه الاُمور هي عند المخاطب صادقة ، وهو لها مذعن ؛ فيبيّن الخطيب أنّ تلك الاُمور تؤيده ، وتحثّ على ما يدعو إليه ، فيسلّم المخاطَب بما قدّم له من غير جدل ، ويذعن لها من غير نقاش(10) .
وأكثر تلك المواضع قوةً وأثراً هي :
1 ـ الدين
وهو أكثر الاُمور سيطرة على القلوب ، خصوصاً قلوب العامّة ؛ فإنّه لهم المرشد الأمين ، والمربي للوجدان ، والموقظ للضمائر ، والمسلّي لمَنْ نزلت بهم الهموم ، والمتدينون لا يخضعون لشيء كما يخضعون لدينهم ، ولا يصدعون إلاّ بحكمه .
فإذا أيّد الخطيب في جماعة متدينة قضاياه بالدين ، وربط بينها وبين دينها بصلة أجابت الجماعة نداءه ، ولبته في حماسة وقوة(11) .
2 ـ العادات
لكلّ جماعة من الناس عادات تسودها ، وتسيطر عليها ، وهي متمكّنة من نفوسها ، ومستولية عليها . فإذا كان لعادات الجماعة هذه القوّة يجب على الخطيب أن يعتمد عليها في مقام التأثير ، بأن يقرّب ما يدعو إليه بما يألفون من عادات ، وما اصطلحوا عليه من عرف ؛ ليسكنوا إلى الأمر ، ويخضعوا له ، ويطمئنوا إليه ؛ لأنّ إقبال الناس يكون شديداً على الاُمور التي تكون من جنس ما يألفون(12) .
3 ـ أقوال النبي وأهل بيته (عليهم السّلام)
وذلك باب واسع له روعة وهزّة في النفوس ؛ فإنّ المخاطَب يقبل أقوالهم بقوّة ، مسلّماً لها من غير اعتراض . وهذه الأقوال تعطي للخطبة قوّة في تأييد المعنى المراد إيصاله إلى المخاطبين .
4 ـ حوادث التاريخ
تحتل الحوادث التاريخية مكاناً مهمّاً في قلوب المخاطبين ، فهي فرصة للخطيب أن يدفع عن نفوسهم الملل والتضجّر . إضافة إلى هذا ، فإنّها من المؤيّدات القويّة ، والشواهد المساعدة على تثبيت المدّعى في قلوب السامعين ؛ وذلك بتصوير المدّعى بأنّه أمرٌ واقعي ، وليس ضرباً من المثالية والخيال ، بأنّ له نظائرَ من الواقع بحدث تأريخي .
5 ـ المصادر والمواثيق
قد لا يكفي ذكر الشواهد والوسائل المؤيّدة فقط ، بل تحتاج إلى ذكر المصادر التي استمد منها الخطيب ما نقله من المؤيّدات ، ويكون ذلك خاصة إذا ما نقل من كتب ومصادر المخالفين ، أو عند ذكر أمر لم يسبق للمخاطبين التعرّف عليه ، وإنّه ممّا يثير في نفوسهم التساؤلات .
6 ـ الشعر
فهو علاوة على إمكانيّة الاستدلال به على تثبيت المدّعى وتقويته في نفوس السامعين ، إنّه يفتح باباً عظيماً لانشراح صدورهم ، ويزيل عنهم الملل والتعب ، وينشّطهم على المواصلة والمتابعة لما يلقيه الخطيب .
إثارة الأهواء والميول
مرمى الإقناع الخطابي ليس هو الإلزام والإفحام فقط ، بل مرماه حمل المخاطَب على الإذعان والتسليم ، وإثارة عاطفته ، وجعله يتعصّب للفكرة التي يدعو لها الخطيب ، ويتقدّم لفدائها بالنفس والنفيس عند الاقتضاء .
ولا يكون ذلك بالدلائل المنطقية لتساق جافة ، ولا بالبراهين العقلية تقدّم عارية ، بل بذلك وبإثارة العاطفة ، ومخاطبة الوجدان ، وإنّ الخطيب قد يستغني عن الدلائل العقلية ، ولا يمكنه في أية حال الاستغناء عن المثيرات العاطفية ، بل إنّ أكثر ما يعتمد عليه الخطيب في حمل السامعين على المراد منهم مخاطبة الوجدان ، والتأثير في عواطفهم .
وهناك جملة من القواعد التي توصل إلى المراد من الخطبة مباشرة من غير وساطة(13) :
1 ـ البغض والمحبّة
إذا كان غرض الخطيب تأليف القلوب وجمعها على محبّة شخص ، فيبيّن لهم :
أ ـ ما تحلّى به من السجايا ، وما امتاز به من المواهب .
ب ـ إخلاصه وتواضعه ، ولين جانبه في سلوكه مع الناس .
ج ـ بيان ما في الالتفاف حوله من خير .
أمّا إذا كان غرض الخطيب إثارة البغض على شخص ، وإبعاد القلوب عنه , فيبيّن لهم :
أ ـ ما طبع عليه من قبح الخصال , في لفظ نزيه وعبارات رفيعة لا تخدش الضمير الاجتماعي .
ب ـ بيان أعماله السيئة ، وماضيه السيّئ .
ج ـ خبث سريرته ، وعدم إخلاصه للجماعة .
د ـ بيان ما في الالتفاف حوله من عاقبة سيئة ، وإعزاز للباطل ، وإذلال للحقّ(14).
2 ـ الرغبة والنفور
إذا كان غرض الخطيب إثارة الرغبة في أمر من الاُمور :
أ ـ أن يبيّن منافعه وثمرته التي تعود على الجماعة عند الأخذ به .
ب ـ تصوير الشيء بصورة تأخذ بالقلوب ، وتستولي على الأفهام والعقول .
ج ـ كون الشيء قريب المتناول ، وفي قدرة الناس .
د ـ بيان أنّ الأخذ به هو الرفعة إلى أسمى مراتب الإنسانيّة .
أمّا إثارة النفور من أمر :
أ ـ بيان المضار الناجمة عن ملابسته .
ب ـ تصوير الأمر بصورة تنفر منه النفوس .
ج ـ تحقيره وتحقير الآخذين به ، وإنّهم من صغار الناس(15) .
3 ـ الفرح والحزن
ـ دواعي الفرح :
أ ـ كون الشيء له ثمرات عظيمة ، وعاقبة حسنة .
ب ـ إنّه بعيد المنال ، غير ميسور الحصول إلاّ بالجدّ والاجتهاد .
ج ـ الإشارة إلى شغف طائفة من الناس لطلبه ، وإنّه المحبوب عندهم ، والغاية المنشودة ، والأمل المطلوب .
ـ وأمّا دواعي الحزن :
أ ـ ذكر المحنة وأثارها في النفس ، وآلام وقعها .
ب ـ ذكر وقع المحنة في نفوس المؤمنين الصالحين والأولياء .
ج ـ بسط القول فيما أتى الله تعالى المفقود من مزايا وصفات أختص بها(16) .
4 ـ الأمل واليأس
الأمل : رغبة مستقبلية ولذّة مرجوّة ، فمَنْ أراد أن يثيرها فعليه أن يتبع هذه الخطوات :
أ ـ بيان المزايا والثمرات في تلك الرغبة المرجوّة ، وتصويرها بصورة كونها هي السعادة .
ب ـ إنّها سهلة التناول ، قريبة من ذي الهمة .
ج ـ العمل والجدّ يخفيان المستحيل ، ويكثران من الممكن ، ويجعلان كلّ شيء في قدرة الإنسان إلاّ ما اختصّت به الأقدار ، وعلا عن مغالبة الإنسان .
د ـ توجيه الناس إلى الاستعانة بالله تعالى ، والثقة به ، والاطمئنان إلى تأييده ونصرته .
أمّا في إثارة اليأس ، وهو إذا رأى الخطيب إنّ الناس تمضي إلى شيء أشبه بالوهم ، فهو مضطر أن يلقي في نفوسهم القنوط من هذه الناحية :
أ ـ أن يبيّن لهم إنّ سبيل المجد هو ما كان عمليّاً ، لا ما كان خيالياً ، وإنّ التمسك بما هم آخذون به أقرب إلى الخيال ، وليحذر أن يكون في ذلك مصادمة لإحساسهم ، بل يمهّد لهم بأنّ ما يعتقدون به إنّه مشاركهم في آمالهم ، وإنّ إحساسه من إحساسهم ، ثمّ يعقّب بعدة استثناءات حتّى يستدرجهم إلى ما يريد ، ويأخذهم إلى ما ينبغي .
ب ـ أن يبيّن لهم المخاطر والمشاقّ التي تكتنف مَنْ يبغي تلك المطالب ويسعى إليها .
ج ـ ضرب الأمثال بمَنْ جهدوا أنفسهم ولم يصلوا إلى مبتغاهم ، ولم ينالوا أملهم ، مع انصرافهم عن العمل المجدي النافع ؛ وعليه أن يوجّه الناس إلى العمل المنتج المثمر(17) .
5 ـ الغضب والخوف
إذا أراد الخطيب إثارة الحماسة والنخوة ، والإباء والحميّة وغيرها على الدين ، أو العرض أو غيره ؛ فهو يعمد إلى إثارة الغضب ليوقظ تلك السجايا من نومتها ، وينبهها من غفلتها .
والطريق لذلك :
أ ـ أن يذكر الإهانة ، ويعظمها ، ويصوّرها في صورة مذكية للحفائظ ، مثيرة للهمم.
ب ـ أن يذكر العار الذي يلحق الاُمّة إن لم تتحضّر لدفع تلك الإهانة بالذود عن حماها ، والذبّ عن حياضها .
ج ـ أن يذكر الأمثال بذكر الأشباه والنظائر ، ويجعل لهم الأحرار من الناس مثلاً يُحتذى به ، وذوي الهمم اُسوة يُقتدى بها(18) .
مثال ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( أَيُّهَا الْقَوْمُ الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ , الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ , الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ , الْمُبْتَلَى بِهِمْ أُمَرَاؤُهُمْ , صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللَّهَ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ , وَصَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِي اللَّهَ وَهُمْ يُطِيعُونَهُ ! لَوَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَنِي بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ ؛ فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةَ مِنْكُمْ وَأَعْطَانِي رَجُلاً مِنْهُمْ ))(19) .
أمّا الخوف ، وهو فيما إذا كانت الاُمّة في انحراف عن الجادّة فيلقي في نفوسهم الرعب ليستقيموا ، ويسلكوا سبيل الصواب .
أ ـ أن يبيّن لهم سوء العاقبة لما يفعلون ، وأنّ الطامة الكبرى في طريقهم غير القويم.
ب ـ أن يبيّن لهم بأنّ فوات كثير من رغباتهم وطلباتهم من استمرارهم على غيهم ، وأنّ الحرمان هو النتيجة الأولى لسلوكهم .
ج ـ أن ينيط عقاباً خاصاً يقع بالمستمر على غيّه الموغل في إثمه ، وقد يقع التخويف بسوء العاقبة يوم القيامة(20) .
6 ـ الرحمة
لغرض إثارة بواعث الرحمة في نفوس السامعين ، واستدرار عطفهم على طائفة من الطوائف أو شخص من الأشخاص ، أو تحريك هممهم لعمل إنساني جليل فيه المواساة للآخرين يتبع :
أ ـ أن يذكر بأنّ الجميع أفراداً وجماعات مُعرَّضة للمصاب .
ب ـ كون بني الإنسان كالجسد الواحد .
ج ـ مَنْ لا يَرحم لا يُرحم .
د ـ أن يصوّر الحادثة تصويراً يثير الرغبة في المعاونة .
ﻫ ـ تصوير الداعي للرحمة في قوله ، وعلامات وجهه ، ونفحات صوته ، وحركاته وإشاراته(21) .
التفنيد
يحتاج الخطيب في بعض الأحيان إلى تفنيد وإبطال ما يدّعيه المخالفون وأهل العناد والغي ؛ فالتفنيد مقام خطير لا يناله إلاّ مَنْ اُوتي حظّ عظيم من البديهية ، والعلم الغزير ، والاستيلاء على أساليب القول . فالتفنيد هو إزالة تأثير حجج الخصم من نفوس السامعين .
وللتفنيد طريقان :
أ ـ أن يتصدّى لنقض براهين الخصم قبل استعراضها ؛ وذلك بأن يفنّد كلّ ما يتصوّره دليلاً لخصمه ، ويفرض كلّ الفروض ثمّ يهدمها فرضاً فرضاً حتّى لا يبقى أمر ثابت سوى دعواه ، ويعمد إلى هذا بعد أن يشبع السامعين بدلائل إيجابيّة على صدق دعواه ؛ ليكون التعقيب قطعاً لطريق الإثبات على الخصم ، ومهاجمة له في صميم استدلاله .
ب ـ أن يعرض أدلّة الخصم ، ثمّ يبيّن ما فيها من غلط وتلبيس ، ويبطل ما يتّجه إليه من نظر(22) .
أوجه الردّ على الخصم :
أ ـ إبطال مقدّمة دليل خصمه .
ب ـ إقامة دليل على نقيض دعواه ، والموازنة بين الدليلين ، وإثبات أنّ دليله أقوم حجّة ، وأسدّ منهجاً .
ج ـ المنع وعدم التسليم ببيان أن لا دليل على ما يقول(23) .
فائدة
أ ـ إذا أراد الخطيب استخدام التفنيد فعليه ألاّ يفاجئ السامعين بالتصريح بما يعتقده كلّه ، بل يشككهم فيما يعتقدون وفيما يفعلون ، أو يصرّح لهم ببعض ما تتّجه براهينه حتّى إذا آنس منهم رشداً ، وأدرك منهم ميلاً خاطبهم بكلّ ما في نفسه ، وقد يكتفي ببيان ذلك القدر إن لم تكن النفوس قد تهيّأت ، والعقول قد استيقظت لإدراكه كلّه(24) .
ب ـ أن لا يصرّح الخطيب باسم صاحب الرأي المخالف ، خاصّة إذا كان له أتباع من الحاضرين والسامعين ؛ فإنّ التصريح به علاوة على أنّه يغلق كلّ سبيل يؤدّي إلى إقناعهم وكسب موقفهم ، فإنّه يهيّج روح التعصّب عندهم ، ويؤزّم موقفهم على الخطيب ، ويؤجّج روح العداوة في قلوبهم .
فالأفضل بالخطيب أن يقرع حجّة الخصم بالحجّة ، ويبيّن للمخالفين مواضع الضعف في معتقداتهم وأفعالهم من غير إثارة أسماء وألقاب تتفاعل معها نفوسهم .
_______________
(1) المصدر نفسه / 24 .
(2) نهج البلاغة / الخطبة 57 .
(3) الخطابة ـ اُصولها ، تاريخها / 27 .
(4) المصدر نفسه / 34 .
(5) المصدر نفسه / 35 .
(6) المصدر نفسه / 32 .
(7) نهج البلاغة / الخطبة 27 .
(8) المصدر نفسه / 31 .
(9) المصدر نفسه / 29 .
(10) المصدر نفسه / 39 .
(11) المصدر نفسه / 39 .
(12) المصدر نفسه / 40 .
(13) المصدر نفسه / 90 .
(14) المصدر نفسه / 90 .
(15) المصدر نفسه / 91 .
(16) المصدر نفسه / 92 .
(17) المصدر نفسه / 96 .
(18) المصدر نفسه / 100 .
(19) نهج البلاغة / الخطبة 95 .
(20) الخطابة ـ اُصولها ، تاريخها / 101 .
(21) المصدر نفسه / 103 .
(22) المصدر نفسه / 127 .
(23) المصدر نفسه / 129 .
(24) المصدر نفسه / 121 .