دراسات حول المنبر
بحوث و مناظرات

إنَّ جميع أعمال الإنسان تحتاج إلى عنصر نفسي نابع من ذات الإنسان ، به يؤدي تلك الأعمال بمستواها الطبيعي والمألوف ، وكلّما ازدادت الأعمال تعقيداً احتاجت إلى قوّة نفسية مقابلة لها . فالفوز والفشل ، والنصر والهزيمة منبعهم الأول هو ذات الإنسان نفسه .
فالجندي مثلاً إذا كان مهزوماً في أعماق نفسه فإنّه لا ينال النصر على أعدائه ، ولو كانت بين يديه الأسلحة الفتّاكة ؛ فالمنهزم في ذاته يعجز عن أداء أبسط الأعمال .
وإذا كان للعامل النفسي هذا الدور والتأثير العظيم في أعمال الإنسان ، فقد دأب أساتذة الفنّ على تصحيحه ، وتقويته في نفوس المتعلّمين .
ففي الفنون القتاليّة مثلاً يمارس المتعلّم الحركات القتاليّة أمام خصم مفترض ، وفي الوقت نفسه يخضع لعمليّة نفسيّة تزرع وتحفر في ذاته الثقة بقدراته وقابليّاته ، بحيث توثق أركان النصر على أعدائه في أعماق نفسه ، قبل المباراة معهم في الواقع .
ومن هذا نستطيع القول أنّ الخطابة شأنها في ذلك كشأن تلك الفنون ، تحتاج في تربية الخطيب المبتدئ إلى جانبين :
أ ـ تعليم اُصول وقواعد فن الخطابة الحسينيّة .
ب ـ تدريب العامل النفسي عند الخطيب .
الغالبيّة من المبتدئين يساورهم الخوف حينما يرتقي المنبر ، وتضطرب نفسه ، ويختلّ سلوكه ، ويتخبّط في أدائه .
فالبعض لا يقوي على التغلّب على هذه العقدة ، فينهزم عن هذا الميدان بانهزام ذاته ، أو إنّ البعض لا يتجرّأ منذ البدء على الممارسة العمليّة في الخطابة ؛ لتوغّل الخوف في أعماقه ، أمّا البعض الآخر يقاوم تلك المخاوف ويصارعها إلى أن ينال مراده .
ولمّا كانت لهذه المخاوف هذا التأثير العظيم على سير الخطيب ، ينبغي أن يقف الخطيب المبتدئ على أسباب وآثار تلك المخاوف ، وكيفية علاجها .
آثار الانفعال
عندما يتعرّض الخطيب لموقف فيه آثاره للمخاوف تحدث في جسمه عدّة تغيّرات فسيولوجية هامّة تؤثر على وضعه النفسي ؛ فيؤدّي به إلى اضطراب ملحوظ .
ومن هذه التغيّرات :
أ ـ التغيّرات الحاصلة في الدورة الدمويّة
عندما ينفعل الإنسان بنحو عام عند تعرّضه لموقف فيه إثارة للمخاوف ، يزداد سرعة خفقان القلب كما تزداد شدّته . وقد لوحظ أنّ سرعة النبض تزيد أثناء الانفعال من (72) إلى (150) نبضة في الدقيقة ، وينتج عن سرعة نبضات القلب وشدّتها زيادة في كمية الدم التي يرسلها القلب إلى أجزاء البدن المختلفة ؛ وهذا يؤدّي إلى ازدياد ضغط الدم .
ويحدث أثناء الانفعال انقباض الأوعية الدمويّة الموجودة في الأحشاء ، واتّساع في الأوعية الدمويّة الموجودة في الجلد وفي الأطراف ؛ ويؤدّي ذلك إلى اندفاع الدم الموجود من الأحشاء إلى الأجزاء الخارجية في البدن وإلى الأطراف ؛ ولذلك يحمر وجه الإنسان , ويشعر بالحرارة تتدفق في وجهه وفي بدنه(1) .
ب ـ التغيّرات التي تحصل في الغدد
يزداد نشاط العرق أثناء الانفعال ممّا يسبب تصبب العرق بشدّة ، وخاصة في الجبهة وفي اليدين ، ويقلّ نشاط الغدد اللعابية ممّا يسبب جفاف الحلق(2) .
ج ـ تغيّرات اُخرى
يلاحظ أثناء الانفعال أيضاً اضطراب في التنفّس ، واتّساع في شعبتي القصبة الهوائيّة ، كما يحدث اتّساع في بؤبؤ العين ، ويزداد التوتر العضلي(3) .
د ـ تغيّرات في نبرة الصوت
ويحدث الانفعال تغيّراً هاماً في نبرات الصوت ، ويعبّر عادة عن حالة الشعور بالفشل واليأس بخفوت الصوت وببطء الكلام , ويعبّر عن حالة التهيّج والتحمّس بارتفاع الصوت وحدّته .
إنّ الانفعال يحدث عادة حالة من التوتّر في البدن ، ويمتدّ هذا التوتّر إلى الأوتار الصوتيّة ، والحجاب الحاجز ، ويؤدّي ازدياد توتّر الأوتار الصوتيّة والحجاب الحاجز إلى ازدياد حدّة الصوت وعلوّه وارتفاعه ، كما يشاهد في حالات الخوف أو الغضب(4) .
ﻫ ـ تأثيرات الانفعال في العمليّات العقليّة
لا تسلم العمليّات العقليّة من أسباب الانفعال ؛ فهي تتأثّر كما يتأثّر أعضاء البدن ، ومن تأثيرات الانفعال :
أ ـ حصول النسيان : لا يتذكَّر أحياناً حتّى الأشياء التي انطباعها قويّ في ذاكرته .
ب ـ فقدان القدرة على تنظيم الفكر : تبدو أفكاره وحركاته غير مترابطة ، فترى مثلاً المناقش الهادئ الرزين يلجأ حين يفحم ويرتج عليه إلى الصياح ، أو اللحاح ، أو المكابرة ، وإذا به أضحى عاجزاً عن الفهم ، عاجزاً عن إخفاء ما تنطوي عليه نفسه من شكّ وارتياب ، أو خوف أو بغض(5) .
ج ـ الحبسة في اللسان : وهي ثقل النطق عليه ، وهي ناتجة من عدم وضوح ما يريد أن يقوله ، أو من الحياء والخجل(6) .
د ـ إدخال بعض الكلام في بعض : ومنشأ هذا العيب في بعض الأحوال إنّ الألفاظ بسبب سعة المخيّلة تسبق القصد ، فالمتكلّم يستعمل اللفظ ثمّ يتركه إلى سواه قبل أن يتمّ تكوّنه(7) .
تبين لنا في هذا الكلام أهم ما يعتري الخطيب المبتدئ ، الذي يعاني من الخجل والخوف والاضطراب ، ولكن المبتدئين يختلفون في نسبة تأثّرهم بذلك من جهة الشدّة ؛ لاختلاف طبائعهم .
رباطة الجأش
نستطيع القول الآن بعد بيان ما تقدّم بأنَّ الخطيب لا يكون خطيباً حقّاً إلاّ ببلوغ مرحلة الاستقرار النفسي ، والثقة بها ورباطة الجأش ، بحيث تزول عن نفسه المخاوف التي كانت تنتابه في مرحلة البدء أثناء مقابلة الناس وهو على المنبر .
فالخطيب المقتدر هو الذي لا يتعلّق في نفسه وجل ولا اضطراب ، إنّما يتلذّذ في أدائه حينما يكون على المنبر أكثر من بقيّة أحواله العاديّة .
فالخطيب الذي يُقال عنه خطيب هو الذي يقف أمام الجالسين مطمئن النفس ، غير مضطرب ولا وجل ، وإلاّ لم يستطع ملاحظة السامعين ، ولم يؤثّر كلامه فيهم . وهم إن أحسّوا بضعفه واضطرابه صغر في نظرهم ، وهان هو وكلامه في أعينهم ، فيذهب كلامه هباءً منثوراً .
ولا بدّ أن نلفت الانتباه [ إلى ] أنّ قولنا : ( الذي بلغ مرحلة الثبات والاستقرار النفسي ورباطة الجأش حقّ عليه القول بأنّه خطيب ) , قولنا هذا يتفق مع إتقان وأحكام الجانب الأول من علم قواعد فنّ الخطابة وأدائها بالنحو الصحيح ؛ وإلاّ فالكثير ممّنْ ارتقى المنبر ساعدته قواه النفسيّة وثقته بها على الظهور بالثبات ورباطة الجأش ، ولكنّه طبق المحاكمة مع قواعد فنّ الخطابة لم يكن خطيباً بالمعنى الذي يراد من فنّ الخطابة .
أسباب المخاوف وعلاجها
1 ـ إنّ السبب العميق الذي يبعث الفرد على الشعور بالنجاح أو الفشل هو ما يحمله من صورة ذهنيّة عن نفسه ، فالذي تمتلئ نفسه بالمخاوف إنّما تتمركز في ذهنه صورة الفشل والنقص ، فلن ينفع طبيب ولا دواء لمعالجة هذا الخوف المتمكّن في أعماق الذات إلاّ إذا تغلّب الفرد على شعوره بالنقص والفشل ؛ فإنّ سرّ النجاح عند اُولئك الذين ليسوا أكثر خبرة ومعرفة من غيرهم ، هو كامن في الصورة التي يحملونها في أذهانهم لأنفسهم ، لقد تمثّلوا في أنفسهم رجالاً ناجحين .
أمّا اُولئك الذين توفّرت لهم مؤهّلات النجاح ، ومع ذلك أخفقوا ، فالأغلب أنّ نفوسهم حافلة بالمخاوف والشكوك ، وأنّ أسباب تلك المخاوف إيحاءات وهميّة غير واقعيّة يتفاعل معها الفرد الخائف فتثبط عزيمته عن مواجهة المواقف(8) .
فخلع صورة الفشل من أعماق النفس واستبدالها بالثقة بالقدرات والطاقات ، وإحلال محلّها الثقة بالنجاح , خطوة أولى في معالجة تلك المخاوف .
حدِّث نفسك دائماً بأنّك تخطب أمام جمهور غفير ، وبخطاب بليغ ، حدِّث نفسك دائماً بأنّ التوفيق رفيق لك لا يفارقك ، ولا تدع غير هذا يتسرّب إلى ذهنك فيثبط عزيمتك ويخذلك .
2 ـ بعد التغلّب على المخاوف النفسيّة ، وخلع صورة الفشل أن يشخّص المبتدئ هدفه منذ البدء ـ هدفه في الخطابة ـ ، وأن يعتقد به اعتقاداً راسخاً .
3 ـ أن يجمع المبتدئ عزمه وإرادته ، ويحمل نفسه على الخوض في ميدان الممارسة العملية ؛ فإنّ أنفع طريق لقتل وخلع تلك المخاوف الكامنة في الذات هو اقتحام الأمر المخوف بعد القناعة بغلبته ، كما قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( إذا هبت أمراً فقع فيه ؛ فإنّ شدّة توقّيه أعظم ممّا تخاف منه ))(9) .
فالذي اعتقد بهدف وغاية الخطابة ما عليه إلاّ أن يمارس في الواقع ما يصبو إليه ، فقد اقترن مع النكوص الحرمان ، ومع الشجاعة والاقتحام التوفيق والنجاح ، كما قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( قُرنت الهيبة بالخيبة ، والحياء بالحرمان ))(10) .
وعليك أن تكون أصعب من الصعوبات التي تواجهك أثناء الممارسة العمليّة ؛ فإن كنت كذلك سهلت الاُمور ، وذلَّ لك كلّ شيء . أمّا لو كنت خلاف هذا ، صار كلّ شيء أقوى من قواك ، فيتعذّر عليك التغلّب عليه , وكان الفشل عاقبة أمرك .
4ـ جُبل الإنسان على حبّ ذاته ومتعلّقاتها ، ففي جانب من هذا الحبّ يحرص أن تظهر علاقاته الاجتماعيّة بصورة تتلاءم وتتناسب مع هذا الحبّ ؛ فهو يجلب لها كلّ ما يزين صورته ويحسّنها أمام الناس ، ويدفع عنها ما يسيء إليها ويخدشها .
وكلّما ارتفع شأن الفرد ومنزلته في اُمور الحياة الاجتماعيّة تكوّرت حوله هالة عظيمة من المخاوف ، فيراقب سلوكه ضمن المجتمع مراقبة شديدة يخاف أن تخدش هذه المنزلة ، فيشدّد العزم ويجتهد على الحفاظ عليها ، فيحذر ويتجنّب أصغر الاُمور التي لا تعدّ في الحياة العاديّة ما يسيء إليه ، ويرفض أيضاً من الآخرين أيّ سلوك يظنّ فيه ما يخدش تلك المنزلة .
البعض من الخطباء المبتدئين يأتي إلى الخطابة وهو يحمل هذه الصورة ، صورته ضمن المجتمع ، فتنشأ عنده مخاوف من هذا السبب حينما يرتقي المنبر تعتلج في صدره مخاوف الفشل ، وما يترتب على هذا الفشل من الظهور أمام الآخرين بصورة تقدح في منزلته بينهم ، فتأخذ هذه الصورة من ذاته مأخذاً عظيماً تسبب له الاضطراب والحيرة والقلق .
أمّا علاج هذا التوهّم : ينبغي للخطيب المبتدئ أن يقلع سبب هذا التوهّم ، فالمبتلي به عليه أن يصحح نظرته اتّجاه بعض أنماط السلوك الاجتماعي .
أولاً : أن لا يبالغ الفرد مهما كان شأنه بقيمته ومنزلته ؛ فهو في مجال تعلّم الخطابة ، فعليه أن يعرف أنّ شأنه في ذلك شأن المتعلّم الذي ليس له في البدء غير استعداد التعلّم ، وهذا لا يقدح أصلاً في مقامه ، ولا في شأنه ، أمّا أن يضع نفسه أعلى من ذلك فعليه أن يتحمّل أسباب الفشل .
ثانياً : الإنسان ما عدا مَنْ عصمهم الله تعالى ممزوج بالنقص والعيوب ، ولكنّها متفاوتة بين الأفراد نوعاً وشدّة ، فكما إنّ الإنسان فيه القابلية على النكوص فيه القابلية على التكامل والعلوّ , ولا يخرج ذلك إلاّ بالتجربة والعمل ؛ فبالعمل المناسب للنكوص يتراجع الفرد ، وبالعمل المناسب للنجاح يعلو الفرد ويسمو .
فالنقص والعيب في القابليات والقدرات ليست اُموراً قادحة في الفرد ، ولا مُحِطّة لقيمته ، فهي ليست ما يشكّل خطراً في الوضع الاجتماعي إذا نظر إليها الفرد نظرة واقعية .
ثالثاً : لا يحكم الخطيب المبتدئ على نفسه بالفشل القطعي إذا لم يوفّق في محاولة واحدة أو عدّة محاولات ؛ فإنّ الخطابة منهجها التكرار والمواصلة فلا تظهر الثمرة فيها دفعة واحدة .
ولنعلم أنّ كثيراً ممّن تفوّقوا في كثير من الاختصاصات العلميّة والفنيّة إنّما اتّخذوا من الفشل منطلقاً .
لم يقعد بهم الفشل إلى اليأس والقنوط والتراجع ، إنّما حفّز إرادتهم وشجَّعهم على المواصلة والجدّ والسعي والمثابرة ، فنالوا أهدافهم ، وتفوّقوا على أقرانهم ، ولعلَّ هذا هو المستفاد من قول أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( سيئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك ))(11) .
فقد يخرج الفشل كوامن الطاقات ، وقد يخلد الفوز والنجاح إلى الكسل والغرور والجمود ؛ فعليك أن تتقبّل الفشل كما تتقبّل النجاح ، كلاهما يدفعان بك إلى العمل والنشاط والمثابرة .
5 ـ من الأسباب المهمّة التي تنشأ الاضطراب في نفس الخطيب المبتدئ هو عدم إتقانه وإحكامه للجوانب الفنيّة في الخطابة ، فينشأ عنده شعور بالمخاوف من عدم أدائه بالنحو الصحيح حال ارتقائه المنبر ، وهذا أمر طبيعي في بداية الممارسة ، فلا يكون داعياً لتعظيمه حتّى لا يصير عقدة في النفس يصعب علاجها فيما بعد .
فعلى الخطيب المبتدئ أن يوطّد نفسه على الصبر ، ويعمل حتّى تزول منه الأخطاء ، وتثبت عنده القدرة على الأداء الصحيح .
6 ـ على الخطيب المبتدئ أن يراعي مراحل الممارسة العمليّة للخطابة ويتدرّج فيها ، فلا يتجاوز مرحلة إلاّ بعد إتقانها وإحكامها بنحو تام ؛ فإنّ عدم مراعاة ذلك لا يثمر إلاّ الفشل ، ويكون سبباً لتعظيم المخاوف عند البعض .
وإذا أردنا تميّز مراحل الخطابة فهي على النحو التالي :
أ ـ مرحلة أداء ( القريض ) بالنحو المتعارف عليه عند أهل الفن وذوق الناس .
ب ـ مرحلة الجمع بين ( القريض ) , وقليل من ذكر ( مصائب سيّد الشهداء ) .
ج ـ مرحلة أداء خطبة كاملة من ( قريض ـ موضوع ـ وخاتمة ) .
ولا بدّ أن نلفت الانتباه إلى الاُمور التالية :
أ ـ على الخطيب المبتدئ أن يتبنّى في البدء المحاضرات القصيرة ؛ فهي أيسر له من حيث الإعداد والأداء ، ويستمر على هذا النحو إلى أن تكتمل عنده ملكة الخطابة.
ب ـ أن يتتلمذ عند أهل الخبرة من أستاذ في الخطابة ، أو خطيب متكامل ، وأمام حضور محدود من المستمعين ؛ فإنّه أخفّ وطأة على النفس .
ج ـ يجب على الخطيب المبتدئ أن يمارس فعاليته في الخطابة في بدء الممارسة في محافل أعدّت للتدريب ، وأمام مجموعة من المستمعين الذين لديهم خبرة في فنّ الخطابة ؛ لغرض الانتفاع بتوجيهاتهم ، ولا يخرج من دائرة التدريب إلى الممارسة الفعلية في التبليغ إلاّ بعد إذن أستاذ الخطابة أو أهل الخبرة .
7 ـ وقد تعود أسباب الخوف والاضطراب إلى عوامل وراثية وتربوية نشأ الفرد عليها حتّى كبر ، فمرحلة الطفولة تلعب دوراً كبيراً في صياغة شخصيّة الفرد من حيث يشعر أو لا يشعر ، فعلاقة الطفل بوالديه وإخوته لها أثر بالغ في تكوين اتّجاهاته وانفعالاته النفسيّة ، وكذلك المجتمع الذي عاش فيه ، وما عند المجتمع من تقاليد وأعراف وقوانين وأحداث تؤثّر في تربية الفرد .
وخلاصة الكلام هنا : مَنْ شبَّ على الهرب من المشاكل والصعوبات , استقبل عهد الرجولة خائفاً خانعاً منطوياً(12) .
فعلى الفرد الذي يعاني من أزمة الخوف أن يراجع اتّجاهاته النفسيّة ، ويعيد بناء شخصيّته بما يتلاءم مع متطلبات الشخصيّة السويّة .
ما تقدّم كان توسلاً بالأسباب الطبيعيّة يلجأ إليها الخطيب لإصلاح شأنه ، وإنّماء قابلياته ورفع عيوبه ، ولا ينبغي له أن يعتمد عليها من غير أن يرجع إلى مسبب الأسباب ؛ فإنّ الاعتماد عليها فقط يعدّ من أوثق عرى الشيطان .
فعلى الخطيب أن يتوكّل على الله ( تعالى ) في جميع أموره ، ويتضرّع إليه بصدق النيّة ، وإخلاص العمل ، طالباً منه تعالى التوفيق والتسديد ، وإنزال السكينة على القلب ، وإلهام العلم ، وبلوغ المطالب السامية المقدّسة المطلوبة لوجهه تعالى وحده لا شريك له .
تأثير العادات على الخطيب
غالباً ما تنعكس على الخطيب المبتدئ ما اعتاد عليه من السلوك في أفعاله وأقواله وهو في حال أداء خطبة منبريّة ، فالذي اعتاد على سرعة الكلام في سلوكه العادي يبدو منه ذلك وهو على المنبر ، ومَنْ كان يغلب عليه الهدوء يظهر أيضاً منه ذلك ، وهكذا في الإشارات والحركات .
فعلى الخطيب هنا أن يلاحظ أنّ قواعد فنّ الخطابة تقتضي أن ينتزع من سلوكه ما تطبّع عليه من عادات تخالف هذا الفنّ ، ونحن نعلم أنّ العادات إذا انطبعت في شخصيّة الفرد تلبّست بها وملكته ، وظهرت في سلوكه شاء أم أبى . فترك العادة القبيحة ليس في متناول الفرد إلاّ إذا جدّ واجتهد في الخلاص منها .
وهناك طرق يمكن للخطيب الذي عنده عادات تخالف فنّ الخطابة التوسّل بها لاستبدالها بطبائع هذا الفنّ ، منها :
1 ـ تحويل العادة اللاإراديّة إلى عادة إراديّة :
إنّ العادات تصدر من الفرد من غير احتياج إلى توجيه شعوره ووعيه الكامل ؛ لأنّها تنساب منه لشدّة التصاقها بشخصيّته . فعلى الفرد هنا أن يقوم بنحو متعمد على ممارسة العادة السيّئة ، وتوجيه الشعور إليها بالتحكّم في الاستجابة لها ، وذلك بتغيّر نوع الاستجابة(13) .
2 ـ استبدال استجابة قديمة باستجابة جديدة :
أ ـ أفضل طريقة للتخلّص من العادات السيّئة هو استبدالها بعادة اُخرى جيدة .
ب ـ ممارسة العادة الجديدة بكلّ حماس .
ج ـ عدم السماح للعادة السيّئة بالعودة ، وذلك من خلال الإكثار من ممارسة العادة الجديدة ، وتكرارها بصفة دائمة ؛ لغرض تعزيزها بصفة منتظمة ودائمة ؛ فالعادات التي لا تعزز تنطفئ(14) .
أسباب الشرود الذهني عند السامع
مهمّة الخطيب أن يجذب ويحافظ على انتباه مستمعيه ـ الذي هو توجيه شعورهم وتركيزه ـ نحوه ؛ استعداداً للتفاعل معه . وليس ذلك أمراً سهلاً ؛ فإنّ الخطيب ليس كالمعلّم ، فالمعلّم بوسعه أن يقول لتلميذه عند شرود ذهنه ( انتبه ) أو غير ذلك , ولا يستطيع ذلك الخطيب ؛ لاختلاف الحال بين الخطابة والتدريس .
فيحتاج الخطيب التعرّف على العوامل التي تبعث على الشرود الذهني عند السامع ، وهي ما توجب الملل والسأم في نفسه والانصراف .
وهناك جملة من العوامل هي :
أ ـ عدم السير على اُصول وقواعد فنّ الخطابة باعث على انصراف السامعين عن الخطيب ، ومن ذلك كون الصوت على وتيرة واحدة ، أو السرعة الزائدة وغير ذلك .
فعلى الخطيب أن يتقن ويحكم هذه الاُصول ؛ لينال اهتمام الحاضرين وتفاعلهم معه .
واعلم أنّ مع إتقان هذه الاُصول يبقى التفاوت بين الخطباء ؛ لاختلاف قدراتهم وقابلياتهم في كيفية توظيف تلك القواعد على المصاديق ، والنماذج التي فيها التأثير على السامعين .
ب ـ ينبغي للخطيب الذي يريد إبقاء انتباه سامعيه أن لا يستطرد في موضوعه كثيراً ؛ فإنّ الاستطراد غالباً ما يكون مدعاة إلى حيود الانتباه عن الموضوع الأصلي .
مثال ذلك : الإتيان بشواهد كثيرة متعاقبة على محور واحد ، كما لو كان الحديث عن الصبر مثلاً وأتى بقصتين متتاليتين ، وأعقبهما بأحاديث شريفة ، أو الإتيان بتقسيمات أمر فتكثر تشعّباته ، أو مع كثرة هذه التشعّبات يدخل في إبطال بعض وتأييد البعض الآخر ؛ فإنّ ذلك ممّا يوجب ضياع المراد من ذهن السامع ، فيذهب عنه انتباهه وتشوّقه .
ج ـ بسبب الولاء لأهل البيت (عليهم السّلام) عمل محبّوهم على إبقاء جذوة ذكرهم خالدة على مرّ العصور ؛ ولأجل ذلك ضحّوا بالغالي والعزيز من الأرواح والأموال.
وممّا بقي خالداً بهذا الولاء العظيم مجالس ذكر مصاب سيّد الشهداء (عليه السّلام) ، حتّى صارت تلك المجالس أماكن شريفة للذكر يقصدها المؤمنون قاصدين القرب من الباري (عزّ وجلّ) ، فعلى الخطيب أن يستوعب ذلك جيّداً فيعمل على تقويته وتثبيته .
ففي جانب من هذه المهمّة الملقاة على عاتق الخطيب أن يعرف أحوال الحاضرين الروحية والبدنية ؛ ففي أيّام محرّم التي تحتلّ أهميّة خاصة في قلوب وعناية محبّي أبي عبد الله (عليه السّلام) تكثر المجالس , فيحضر العامل والفلاح والكاسب ، كما يحضرها الشيخ الكبير والشاب ، ويحضرها صحيح البدن وسقيمه ، فجميع هؤلاء على الرغم ما فيهم من عناء عملهم اليومي ، وما فيهم من وضع صحي , يأتون إلى المجالس ؛ لغرض الحفاظ على خلود ذكر سيّد الشهداء (عليه السّلام) ، ولغرض الانتفاع بما يقوله الخطيب في أمر دينهم ودنياهم .
فعلى الخطيب هنا أن يلاحظ ذلك فلا يطيل في مجلسه إلى الحد الذي يوجب نفورهم عن المجالس ؛ فإنّ الإطالة قد تعمل على إخماد تلك الروح الحسينيّة ، وهو خلاف مهمّة الخطيب ووظيفته .
فمراعاة الوقت مع أحوال الحاضرين وتلائمه وتناسبه معهم يجلب انتباههم ، ويكسب إقبالهم على الخطيب ، ويثبت النفوس على الولاء ، ويشجعهم على الحضور والمواصلة ، وخلاف ذلك التجربة والواقع شاهدان على فشله ، فقد يُسهب الخطيب في كلامه إلى الحد الذي ينفر منه الحاضرون .
وخلاصة ذلك : إنّ من العوامل المهمّة في جلب انتباه السامعين هو عدم الإطالة عن الحدّ المسموح به من رغبتهم ، والمطابقة بين المدّة الزمنية للمجلس مع أحوال الحاضرين الروحيّة والبدنيّة .
د ـ من العوامل الباعثة على انتباه السامع هو ما يحمله من تهيؤ ذهني للخطابة ، ويراد من ذلك بأنّ السامع يتمركز في بؤرة شعوره إحساس بأنّ الخطيب سيتناول في خطبته موضوعاً يشبع نفسه بالرضا والقبول ، فكلّ سامع يطلب في أعماقه أن يرضيه الخطيب بالحديث عن شيء يثير انتباهه واهتمامه وتفاعله .
فإذا فعل الخطيب ذلك فقد حاز على انتباه سامعيه ، وإلاّ فقد خسرهم وصار على طرف مخالف لتوجيههم وانتباههم .
فعلى الخطيب أن يختار الموضوعات التي تتضمّن احتمالاً قويّاً في جلب انتباه السامعين ، كما أن يكون دقيقاً في اختيار تفاصيل الموضوع .
ومن الجدير بالذكر أنّ الموضوعات المعقّدة ، والموضوعات الساذجة والمتكرّرة لا تثير انتباه السامعين ، بل هي من أقوى الأسباب الباعثة على انصرافهم وإعراضهم.
أخيراً نودّ أن نذكّر بأنّ بعض أبحاث علم النفس أشارت إلى أن الاستماع الطبيعي لكلّ سامع (10) دقائق ، وبعدها يحتاج المتكلّم إلى تزويد المخاطبين بالمثيرات التي تحافظ على انتباه السامع وتوجهه .
__________________
(1) علم النفس ـ الدكتور اُميمة علي خان / 124 .
(2) المصدر نفسه .
(3) المصدر نفسه / 125 .
(4) المصدر نفسه / 127 .
(5) اُصول علم النفس ـ أحمد عزّت / 166 .
(6) الخطابة ـ اُصولها ، تاريخها / 63 .
(7) المصدر نفسه .
(8) كيف تكسب الثروة والقيادة .
(9) نهج البلاغة 18 / 177 .
(10) نهج البلاغة 18 / 131 .
(11) نهج البلاغة 18 / 174 .
(12) علم النفس / 150 .
(13) بتصرف من كتاب علم النفس ومشكلات الفرد .
(14) المصدر نفسه .