الخطابة : مصدر خطب يخطب ، أي صار خطيباً ، وهي على هذه صفة راسخة في نفس المتكلّم ، يقتدر بها على التصرّف في فنون القول ؛ لمحاولة التأثير في نفوس السامعين ، وحملهم على ما يراد منهم بترغيبهم وإقناعهم .
فالخطابة : مرامها التأثير في نفس السامع ، وإثارة إحساسه للأمر الذي يراد منه ، ليذعن للحكم إذعاناً ، ويسلّم به تسليماً(1) .
الغاية من الخطابة
وقعت الكثير من الموجودات عنواناً لتوحيد الله تعالى وطاعته ، كجعل آدم (عليه السّلام) وهو بشر عنواناً لطاعته حينما أمر الباري الملائكة بالسجود له [ بقوله : ] {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [البقرة : 34] .
ووقوع الناقة ـ وهي حيوان ـ عنوان لتوحيده تعالى في آية نبي الله صالح (عليه السّلام) [ حيث قال تعالى : ] {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف : 73].
وتعظيم الكعبة وهي حجر ، ففي جميع ذلك لم يكن امتثال الأمر بقصد الخضوع للشيء المعنون في الأمر ، إنّما هو امتثال لإرادة الله تعالى .
فالإتيان بالعمل طبق تلك الإرادة هو عنوان للتوحيد ، والإعراض عنه هو عنوان للكفر والعصيان ، فكلّ شيء له نسبة إلى الباري (عزّ وجلّ) يعظّم ويمجّد باعتباره عنواناً لتوحيده تعالى .
والأمر كذلك في الدعوة إلى سيّد الشهداء ، فهو رمز للتوحيد وكلمة الله ؛ لنسبته إليه بإمامته المنصوص عليها في قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله) : (( هذا ـ يعني الحسين (عليه السّلام) ـ إمام ابن إمام ، أخو إمام ، أبو أئمّة تسعة ))(2) .
ولوظيفته الإلهية في هداية الناس إلى الحقّ المطلق في قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله ) : (( حسين منّي وأنا من حسين ، أحبّ الله مَنْ أحبّ حسيناً ، حسين سبط من الأسباط ))(3) .
فالمناداة باسمه , والدعوة له ، والتصريح بحقّه ، ونشر رسالته ، وبيان مظلوميّته إنّما هي دعوة للتوحيد . [ قال تعالى : ] {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت : 33] .
ولمّا كانت ثورة الإمام غير محصورة في زمن محدّد ، فالدعوة له خالدة ؛ لأنّ النصرة التي أرادها الإمام (( أما من مغيث يغيثنا لوجه الله ، أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله ))(4) ، في حاضره أن يجرّد السيف ويُقاتل معه في سبيله ، ونصرة فيما بعد أن تبيّن حقيقة ثورته الإلهية للأجيال في قبال مَنْ سعى لطمس حقيقة تلك الثورة .
فالنصرة باقية وخالدة ، وغايتها حثّ الناس على التوحيد عن طريق أهل البيت (عليهم السّلام) ، وتكفّلت الخطابة الحسينيّة جزءاً كبيراً من هذه المسؤوليّة المقدّسة .
كيف نحصل على الخطابة
لم تكن الخطابة سهلة المنال ، بل تحتاج إلى احتمال المشاق ، وإلى الجدّ والسعي الحثيث والمثابرة ، وبهذا يمكن بلوغ هذه النعمة العظيمة .
أمّا طريق تحصيلها تتلخّص في :
أ ـ قابلية تلائم الخطابة
أن يكون الخطيب خالياً من العيوب الكلاميّة ، من فأفأة ونحوها ، وأن يكون ثابت الجنان ، ذكيّ القلب ، طلق اللسان ، فإذا اجتمعت فيه القابلية فلا يحتاج إلاّ إلى التعلّم والممارسة(5) .
ب ـ دراسة اُصول الخطابة
للخطابة الحسينيّة اُصول وقواعد يجب على الذي يسير في طريقها أن يتعرّف عليها ؛ ليصل إلى غايته العظيمة . وقيل : مَنْ ترك الاُصول حُرم الوصول .
ج ـ الاطّلاع على الكثير من العلوم
ويتلخّص ذلك في جهتين :
الأولى : أن يكون الخطيب من طلبة العلوم الإسلاميّة الذين يتلقّون العلوم ـ علوم أهل البيت (عليهم السّلام) ـ في المدارس والحوزات الرسميّة ؛ ولاستقطاب قدراته وقابلياته ، ولحفظ وصيانة وقته أن يتلقّى الدروس من أساتذة يعدّون من أهل الاختصاص . فالخطيب عليه أن يواصل دراسته الحوزويّة ، وأن يتقن على نحو الاختصاص الفقه والعقائد .
الثانية : أن يوسّع الخطيب دائرة ثقافته واطلاعه على العلوم المختلفة ؛ كالتعرّف على بعض أساسيات العلوم الطبيعية ، وعلم النفس ، والاجتماع ، والتعرّف على الفرق والمذاهب الإسلاميّة ، والتاريخ الإسلامي ، والتعرّف أيضاً على بعض الحضارات العالميّة ، وأن يتابع الأحداث العالميّة ، كما عليه متابعة التطوّرات العلميّة في مختلف العلوم .
علاقة الخطابة بعلم النفس
تعلّم علوم العربية والمنطق ، والإحاطة بمسائل الفقه والعقائد ، وامتلاك بعض المؤهّلات لا تجدي نفعاً إذا لم يحسن الخطيب أساليب التعامل مع الفرد والمجتمع ؛ فإنّ غرض الخطيب منهم هو أن يؤسس فيهم موطن الولاء للدين والمذهب ، وهذا لا يأتي من مجموعة تصرّفات شخصيّة وارتجاليّة ، وإنّما تحتاج إلى خطوة علميّة دقيقة نابعة من منهج مخطّط له سلفاً .
فالخطيب وهو مقبل على المجتمع يواجه أشكالاً وأنماطاً متعدّدة من السلوك والآراء ، التي قد تخالف في البعض منها ما يحمله الخطيب من معتقدات ومبادئ سلوكيّة ، فالخطيب يجب أن يعدّ ويهيّأ لمواجهة جميع ذلك .
علم النفس الاجتماعي يزوّد الخطيب من جهته بقواعد مهمّة ، يمكنه منها تحليل سلوك الفرد وهو في المجتمع ؛ فإنّ سلوكه وهو مندمج في مجتمعه غير سلوكه وهو منفرد مع ذاته ، كما إنّه يقوم بدراسة السلوك الجماعي؛ فدراسة فروع علم النفس ، خاصة علم النفس الاجتماعي أمر لا بدّ منه ، ولا يمكن للخطيب أن يستغني عنه .
كيف يستغني عنه وهو الذي لا يستغني عنه كلّ مَنْ كان له وظيفة مباشرة مع المجتمع ، كالسياسي ، والمفكّر ، والعسكري ؟
لقد سجّل التاريخ الكثير من المواقف التي استفاد منها السياسيّون والقادة العسكريّون ، والمفكّرون من الدراسات النفسيّة للمجتمع ، الذي هم على مواجهة مباشرة معه ، وبلغوا أهدافهم بمساعدتها .
حينما أراد نابليون بونابرت احتلال مصر عام (1798) م ، وانتزاعها من سلطنة المماليك استغل التوجيهات النفسيّة والعقائديّة للمصريين ؛ فقد ادّعى إنّه قدم لينتشل المصريّين من ظلم المماليك ، وخلع على نفسه لقب حامي الإسلام ، بل تطرّف في تبجّحه ونفاقه فادّعى إنّه مسلم ، وإنّه يحارب النصرانيّة في روما التي أرادت أن تحارب المسلمين ، وحينما كان له ما أراد لم يمضِ وقت طويل حتّى كانت خيول الغزاة الأفاقين تدوس الجوامع ، وتضرب الثوار بكلّ قسوة وعنف(6) .
فيجب أن تكون لدى الخطيب معرفة وثيقة بأحوال المجتمع الذي قصده بالتبليغ ، المعرفة الوثيقة بعاداتهم ، تقاليدهم ، لغتهم ، أوضاعهم الاقتصاديّة ، ثقافتهم وغير ذلك .
وعلم النفس الاجتماعي يزوّده بالأصول والقواعد والأساليب التي لا بدّ أن يأتي الخطيب بها إلى المجتمع .
والجدير بالذكر أنّ مهمّة الخطيب لا تنحصر في حدود أهل المذهب ، كما إنّ وظيفة التبليغ أوسع من الخطابة .
د ـ التعرّف على أساليب الخطباء
ينبغي للخطيب المبتدئ الإكثار من الاستماع إلى أساليب الخطباء المتميّزين في نهجهم الخطابي ، وأن يكون في مراسه الخطابي محاكياً لأساليبهم ، أو مقتبساً منهم ، أو سائراً في مثل دربهم ؛ فهو إذا فعل ذلك ستجتمع عنده أساليب كثيرة متغايرة يستطيع الاستفادة منها عند الحاجة إليها .
ﻫ ـ المران والممارسة
إنّ الفطرة والاطّلاع ، والعلم باُصول الخطابة ، والتعرّف على أساليب الخطباء لا تكفي في تكوين الخطيب ؛ لأنّ الخطابة ملكة وعادة نفسيّة لا تتكّون دفعة واحدة ، بل لا بدّ لمريدها من المعاناة والممارسة والمران ؛ لكي ينمّي مواهبه إن كانت فيه فطرتها ، ولكي يطبّ لعيوبه إن كان فيه عيوبها(7) .
فعلى المريد للخطابة أن يروّض نفسه على الخطابة الجيّدة حتّى تصير له شأناً وطبيعة ، فإذا صار له ذلك فليحذر من إهمال المران ، والمواصلة ، والممارسة ؛ فإنّ ذلك آفة تستولي على الطبيعة ، وتخلّ في القابليّة .
أمّا ما يتعرّض له الخطيب المبتدئ من مكاره ؛ كمقابلة الناس له بالسخرية والاستهزاء ، أو يكون المخاطبون ممّنْ يتقصون عوراته ، ويتسقّطون هفواته ، فليست هذه أسباباً واقعيةً تصدّه عن المران والممارسة ؛ فما من خطيب إلاّ وكانت له البداية صعبة ، غير أنّ هذه الصعوبة تزول بالممارسة والتدريب .
وينبغي أن نلفت انتباه الخطيب المبتدئ إلى مراعاته مراحل المران ، والممارسة ؛ فإنّ لها مراحلَ سنتكلم عنها في أبحاث قادمة إن شاء الله تعالى .
____________
(1) الخطابة ـ اُصولها ، تأريخها / 12 .
(2) حياة الإمام الحسين بن علي 1 / 95 .
(3) المصدر نفسه 1 / 94 .
(4) الملهوف على قتلى الطفوف / 159 .
(5) الخطابة ـ اُصولها ، تاريخها ـ محمد أبو زهرة / 17 .
(6) الحرب النفسيّة معركة الرأي والمعتقد 1 / 75 .
(7) المصدر نفسه / 20 .