إنّ العلة الرئيسة التي لأجلها كانت الشعائر الحسينيّة هي الممارسة الإعلاميّة الواضحة والمشيرة إلى الحق المسلوب ، وأنّ جميع الغايات والأهداف الاُخرى تتفرع منها .
ويمكن إجمال تلك الأهداف بالنقاط التالية :
1 ـ نشر تاريخ وعلوم أهل البيت (عليهم السّلام) وبيان فضلهم . ولا يخفى عظيم الحاجة إلى ذلك ؛ لما تعرّض له هذا التاريخ من تشويه ودس لا سيما في العصرين الاُموي والعباسي ، وما عملته وتعمله الأقلام المأجورة والضالة إلى يومنا .
2 ـ خلق الترابط العاطفي مع أهل بيت العصمة (عليهم السّلام) والذي هو نص صريح في القرآن الحكيم : {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23].
3 ـ تربية وتوعية الجيل الجديد ، وبناء أساس فطري عقائدي متين يستند إليه .
ونستطيع تلمّس الحاجة إلى ذلك من خلال مناهج الدراسة في المدارس الأكاديمية ووسائل الإعلام المرئية على وجه التحديد التي تفتقر إلى ذكر أهل البيت (عليهم السّلام) وما تخلفه من تأثيرات أساسية في التشكيل العقائدي للجيل الصاعد . ومن هذه النقطة ندرك مدى الحاجة للتمسّك الشديد بهذه الشعائر وتوجيه أجيال المستقبل نحوها .
4 ـ تربية النفوس وإعدادها لنصرة إمام العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه وسهّل مخرجه) من خلال ترسيخ القيم والمبادئ السامية ؛ مثل التضحية والمواساة ونصرة الحق وغيرها ، والتحقير والتنفير للصفات المذمومة ؛ مثل الطمع والظلم وقسوة القلب وغيرها .
5 ـ مخاطبة البشر كافة ، وبغض النظرعن الاختلاف والتباين الثقافي بينهم .
ومن المعلوم أنّ الاُمّة الإسلاميّة ـ على سبيل المثال ـ تضم العديد من القوميات والأعراق والجنسيات التي هي بدورها تختلف من حيث الموروث الحضاري والثقافي ، ومخاطبتهم بالإعلام المكتوب لا تتيسر للجميع حتّى في عصر العولمة . أمّا الشعائر فإنها أشبه ما تكون في خطابها إلى اللوحة الفنية التي يستطيع الجميع أن يدرك مدى روعتها وجمال تعبيراتها وإن كان هذا الإدراك يختلف بالدرجة وفقاً للوعي الثقافي .
6 ـ خلق عامل وحدوي من خلال المشاركة الجماهيرية في المواساة لأهل البيت (عليهم السّلام).
ولعل هذا العامل من أهم العوامل المستبطنة في أحاديث أهل البيت (عليهم السّلام) التي تحثّ على المواساة والحزن في مصابهم . فمن المعلوم في علم النفس أنّ الإنسان عندما يكون في حالة الحزن يصبح تأثره العاطفي سريعاً فيكون على سبيل المثال سريع الرضا والحب والانفعال ، وكذلك إنّ وجود شخص آخر يشاركه المصاب معه يؤدّي مع ما ذكرناه إلى زيادة الاُلفة والمحبة والتودد بين المشاركين في الشعائر الحسينيّة وتقوية أنفسهم على تحمّل أعباء الحياة ، وهذا ما يخلق جو الوحدة بين المشاركين ؛ الوحدة في المصاب والوحدة في الهدف والوحدة في التسابق لتحصيل الأجر والثواب في المواساة .
ومن هنا كانت هذه الشعائر تمثّل أحد الأعمدة التي يقوم عليها المذهب جنباً إلى جنب مع المرجعيّة التي تمثّل الإدارة والعقل الموجّه في حين أنّ الشعائر تمثّل العنصر الجامع والموحّد بين أبناء المذهب على اختلاف جنسياتهم وقومياتهم .
وعليه ندرك أن المحارب لهذه الشعائر لا يخلو من أحد أمرين : إمّا جاهل مغرور أو طامع معادي يهدف إلى تمزيق وحدة أبناء المذهب . قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) : )) قصم ظهري رجلان ؛ جاهل متنسك وعالم متهتّك.
اللطم (اللدم)
وهو من أقدم الشعائر التي مارستها الشيعة لإظهار حالة التفجّع والحزن لمصيبة سيد الشهداء الحسين ومصائب الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) .
إذ يجتمع حشد من الموالين في مكان مقدس ؛ كالمسجد أو الحسينيّة أو بعض الأوقاف فيجرّدون نصف أبدانهم ويبدؤون بلدم الصدور ولطم الخدود وضرب الرؤوس بأساليب منسقة حزينة .
ولتنسيق الضربات التي ينهالون بها على صدورهم يصعد شاعر أو حافظ للشعر وينشد قصائد منظمة باُسلوب خاص تذكّر اللاطمين بمصائب أهل البيت (عليهم السّلام) وتحافظ نبراتها على وحدة الضرب وهم يتجاوبون مع الراثي في ترديد بعض الأبيات الشعرية والضرب باليد يكون على الجانب الأيسر من الصدر أي فوق منطقة القلب .
واللطم هو أحد أهم وسائل إظهار الجزع على المعصومين (عليهم السّلام) وأكثرها انتشاراً ؛ ولتوضيح ذلك يجب علينا أن نعرف أنّ من طبيعة الجسم البشري أنه عندما يتعرّض إلى الألم المعنوي ـ الظلم تحديداً ـ يفرز هرمونات تعمل على زيادة الطاقة لديه ؛ ليكون مستعداً للدفاع عن نفسه .
واللطم هو إحدى الوسائل للتنفيس عن هذه الطاقة والتي بدورها تشير إلى أن هناك ظلماً واقعاً وحقاً مسلوباً . وإنّ الذين يلطمون يشيرون من خلال اللطم إلى ذلك الظلم والحق .
وجُعل ليكون جزءاً مهماً من الشعائر الحسينيّة كونه يمثل مواساة للزهراء (عليها السّلام) ، كما أن فيه إشارة إلى أن أهم ما ينبض بالحياة ـ القلب ـ ليرخص ويحزن لما جرى على آل محمد (عليهم السّلام) ، وأنّ مصدر الحياة هذا أضربه بنفسي دون خوف أو وجل ؛ دلالة على عظيم المصاب أي عظيم الحق المسلوب والظلم الواقع .
ومن الأدلة على ذلك ما يشير إليه علم الأدلة الجنائية ، أنّ المجني عليه إذا كان مضروباً في قلبه أو في منطقة قريبة عليه يُعرف أنّ الجاني كان ينوي قتل المجني عليه ، بخلاف ما لو كانت الإصابة في البطن أو الأطراف .
كما وأنّ التركيبة الجماعية في اللطم تشير إلى الوحدة والاشتراك في الإشارة إلى الحقِّ والمطالبة به . هذا هو الجانب الفلسفي لللطم بأبسط صورة ممكنة أستطيع أن اُقدّمها لك أخي القارئ .
الزنجيل (ضرب السلاسل)
موكب يتكون بتجمّع عدد غفير من الناس في مركز معيّن يقيمون فيه مأتماً على الإمام الحسين (عليه السّلام) ثمّ يجردون ظهورهم ـ بلبس خاص من القماش الأسود الذي فُصّل خصيصاً لهذا الغرض ـ ويقبضون بأيديهم مقابض حزمة من السلاسل الرقيقة فيضربون أكتافهم بها باُسلوب رتيب ينظّمه قرع الطبول والصنوج بطور حربي عنيف وينطلقون من مركز تجمعهم ويسيرون عبر الشوارع إلى مكان مقدّس ينفضون فيه وهم يهزجون في كلِّ ذلك بأناشيد حزينة أو يهتفون : (مظلوم .. حسين .. شهيد .. عطشان .. يا حسين) .
والناظر لهذا الموكب يستشعر مدى قوة التحمّل لدى الضاربين وصبرهم .
والتحليل الفلسفي لهذا الموكب هو أنّ الزنجيل في كلِّ البلدان الحضارية يشير إلى الظلم والاضطهاد ويستطيع أي شخص أن يتلمس ذلك واضحاً وجلياً في معارض كبار الرسّامين وفي الاُطروحات الأدبيّة قديماً وحديثاً . فعندما يضرب به على الظهر يراد الإشارة إلى أنّ الظلم والاضطهاد الذي جرى على أهل البيت (عليهم السّلام) وعلى شيعتهم لن يحيدنا عن خطِّهم وعن طريقهم ، وأنّ اضطهادكم أيها الظالمون نجعله وراء ظهورنا ولا قيمة له ؛ ولذا كان الضرب بالزنجيل على الظهور وليس على الصدور .
كما أنه يبعث بالرسالة الآتية : أيها الظالمون إن كنتم تظنون أنكم تخيفوننا بالظلم والجور وكافة أنواع الاضطهاد ، فها نحن نضرب أنفسنا لكي نريكم أننا على استعداد لتحمّل ظلمكم واضطهادكم لنا في سبيل البقاء على العهد مع أهل البيت (عليهم السّلام) .
هذه هي الحكمة التي تستطيع أن تستشعرها بوضوح أيها الموالي لأهل البيت (عليهم السّلام) ، كما يستطيع ذلك المعادي لهم .