الشعائر الحسينيه
الزيارة و فضلها

أمّا حُزن الأئمّة (عليهم السلام) من أولاد الحسين (عليه السلام) ـ وذرّيته وسائر العلَويين، ونياحتهم عليه في سرّهم وعَلنهم، وفي محافلهم الرسميّة ومجالسهم الخاصّة، وفي دورهم وأنديَتهم ودواوينهم ـ فحدِّث عنها ولا حرج، حيث إنّها لم تنقطع، بل استمرّت استمرار حياتهم.
ولقد تحدّثت الروايات وتناقلَت الأسفار والكتب ذلك بوفرة وكثرة، منها: ما ذكرتهُ عن بكاء وحزن الإمام الرابع علي بن الحسين زين العابدين وسيّد الساجدين، مدّة أربعين سنة عاشها بعد استشهاد والده المظلوم، وبكاء الإمام الصادق (عليه السلام) لمصيبة جدّه الشهيد واستنشاده الشعر في رثائه، وكذا الإمام الكاظم (عليه السلام) الذي كان لا يُرى ضاحكاً إذا أقبلَ شهر محرّم الحرام، وكان يُرى كئيباً حزيناً في العشرة أيّام الأولى من هذا الشهر، وهكذا الإمام الرضا (عليه السلام) وغيرهم من الأئمّة.
وها إنّي أنقل تالياً ما رويَ عن حزن الأئمّة ونياحهم وبكائهم على جدّهم الحسين الشهيد (عليه السلام)، وحثّهم أُسرَهم وشيعتهم المفجوعين بإحياء هذه الذكرى الأليمة والمأساة العظمى، باستشهاد الإمام الحسين وصحبه الميامين يوم العاشر من محرّم سنة (61 هـ):
قال السيّد محسن الأمين العاملي في الصفحة (93) من تأليفه (إقناع اللائم) عند بحثه عن نياحة الأئمّة (عليهم السلام) على جدّهم الشهيد ما نصّه:
(أمّا إنّهم ـ أي الأئمّة ـ بكوا على الحسين، وعدّوا مصيبته أعظم المصائب ـ وأمروا شيعتهم ومواليهم وأتباعهم بذلك، وحثّوا عليه، واستنشدوا الشعر في رثائه، وبكوا عند سماعه، وجَعلوا يوم قتله يوم حزن وبكاء، وذمّوا مَن اتّخذه عيداً وأمروا بترك السعي فيه في الحوائج، وعدم ادّخار شيء فيه ـ فالأخبار فيه مستفيضة عنهم، تكاد تبلغ حدّ التواتر، رواها عنهم ثقات شيعتهم ومحبّيهم بأسانيدها المتّصلة إليهم..).
أ ـ حزن الإمام الرابع زين العابدين (عليه السلام)
وقد شهدَ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين وسيّد الساجدين، مصرع أبيه وأخوته وبني عمّه وأصحاب أبيه وغيرهم، وتجرّع الغُصص والغم والألم من هذه المشاهد المُفجعة، ثُمّ قاسى مرارة الأسر ولم تنقطع عَبرته على ذلك ما دام حيّاً.
1 ـ جاء في الصفحة (82) من كتاب (زين العابدين) تأليف عبد العزيز سيّد الأهل ما عبارته عند ذكر ورع الإمام:
(بل كان علي كلّما جاء وقت الطعام وفُتحت مصاريع الأبواب للناس ووضِع طعامه بين يديه دَمعت عيناه، فقال له أحد مواليه ذات مرّة: يا بن رسول الله، أما آنَ لحُزنك أن ينقضي؟ فقال له زين العابدين: (ويحكَ، إنّ يعقوب (عليه السلام) كان له اثنا عشر ابناً فغيّبَ الله واحداً منهم فابيضّت عيناه من الحزن، وكان ابنه يوسف حيّاً في الدنيا، وأنا نظرتُ إلى أبي، وأخي وعمّي، وسبعة عشر من أهل بيتي، وقوماً من أنصار أبي مصرّعين حولي، فكيف ينقضي حزني؟..).
أقول: وقد نَقل هذا الحديث كلّ من: العاملي في (أعيان الشيعة)، وابن شهر آشوب في بعض مؤلّفاته .
2 ـ روى ابن قولويه في (الكامل) بسنده قال: أشرفَ مولىً لعلي بن الحسين وهو في سقيفة له ساجد يبكي فقال له: يا علي بن الحسين، أما آنَ لحزنك أن ينقضي؟ فرفعَ رأسه إليه، فقال: ويلكَ ـ أو ثكلتك أمك ـ أمَا والله لقد شكا يعقوب إلى ربّه في أقلّ ممّا رأيتُ، حتى قال: يا أسفى على يوسف، وإنّه فقد ابناً واحداً وأنا رأيتُ أبي وجماعة من أهل بيتي يُذبّحون حولي.
ولقد نقلَ هذه الروايات وأمثالها عن الإمام زين العابدين كثير من كتب الحديث وغيرها مع تغيير طفيف في العبارة.
3 ـ وروي أيضاً كما في (أعيان الشيعة): إنّ الإمام علي بن الحسين بكى حتى خيفَ على عينيه، وكان إذا أخذ ماءً بكى حتى يملأه دمعاً، فقيل له في ذلك، فقال: (كيف لا أبكي وقد مُنع أبي من الماء الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش؟ وقيل له: إنّك لتبكي دهرك، فلو قتلتَ نفسك لمَا زدتَ على هذا، فقال: نفسي قتلتها وعليها أبكي).
4 ـ نقل كتاب (إقناع اللائم) رواية عن ابن قولويه في كامله، بسندٍ معتبر عن أبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (ما اختضَبت منّا امرأة، ولا ادّهنت، ولا اكتحَلت، ولا رجّلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد، وما زلنا في عبرة بعده. وكان جدّي علي بن الحسين (عليه السلام) إذا ذكره بكى حتى تملأ عيناه لحيته، وحتى يبكي لبكائه رحمةً له مَن رآه، وإنّ الملائكة الذين عند قبره ليبكون فيبكي لبكائهم كلّ مَن في الهواء والسماء من الملائكة...
إلى أن قال (عليه السلام): وما من عينٍ أحبُّ إلى الله ولا عَبرة من عينٍ بكت ودَمعت عليه، وما من باكٍ يبكيه إلاّ وقد وصلَ فاطمة وأسعدَها عليه، ووصلَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأدّى حقّنا، وما من عبدٍ يُحشر إلاّ وعيناه باكية إلاّ الباكي على جدّي، فإنّهُ يُحشر وعينه قريرة، والبشارة تلقاه والسرور بيّن على وجهه).
5 ـ وفي (إقناع اللائم) أيضاً برواية عن ابن شهر آشوب في مناقبه عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: عاش علي بن الحسين أربعين سنة وما وضِعَ طعام بين يديه إلاّ وبكى، حتى قال له مولى له: جُعلتُ فداك، يا بنَ رسول الله، إنّي أخافُ أن تكون من الهالكين قال (عليه السلام): (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خَنقتني العبرة.
6 ـ جاء في الجزء (1: 155) من كتاب (المجالس السَنيّة) ما عبارته: وعن الصادق (عليه السلام) أنّه: (بكى على أبيه الحسين أربعين سنة، صائماً نهاره، قائماً ليله، فإذا حضره الإفطار وجاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه، فيقول: كُل يا مولاي فيقول: قُتلَ ابن رسول الله جائعاً، قُتلَ ابن رسول الله عطشاناً، فلا يزال يكرِّر ذلك ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه، ثُمّ يمزج شرابه بدموعه، فلم يزل كذلك حتى لحقَ بالله عزّ وجل .
7 ـ جاء في الجزء (1 ـ 155) من الكتاب نفسه ما لفظه:
(قال الصادق (عليه السلام): البكّاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد، وعلي بن الحسين ـ إلى أن يقول (عليه السلام) ـ: وأمّا علي بن الحسين (عليهما السلام) فبكى على أبيه الحسين أربعين سنة، وما وضِع طعام بين يديه إلاّ بكى حتى قال له مولىً له: جُعلتُ فداك، يا بن رسول الله، إنّي أخافُ عليك أن تكون من الهالكين، قال: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)(يوسف: 86) إنّي لم أذكُر مصرع ابن فاطمة إلاّ خَنقَتني العبرة).
8 ـ وجاء في الجزء (1: 156) من نفس الكتاب ما عبارته: رويَ أنّه كان إذا حضرَ الطعام لإفطاره ذكرَ قتلاه وقال: (واكرباه ، يكرّر ذلك، ويقول: قُتلَ ابن رسول الله خائفاً، قُتل ابن رسول الله عطشاناً، حتى يبلّ بالدموع ثيابه.
وحدّثَ مولىً له، أنّه مرّ يوماً إلى الصحراء قال: فتعقّبته فوجدتهُ قد سجدَ على حجارة خشنة، وقفتُ وأنا أسمع شهيقه وبكاءه وأحصيتُ عليه ألف مرّة وهو يقول: لا إله إلاّ الله حقّاً حقّاً، لا إله إلاّ الله تعبّداً ورقّاً، لا إله إلاّ الله إيماناً وتصديقاً، ثُمّ رفعَ رأسه من سجوده وإذا لحيته ووجهه قد غُمرا بالماء من دموع عينه ، فقلتُ: يا سيّدي، أمَا آنَ لحزنكَ أن ينقضي، ولبكائك أن يقل؟ فقال لي: ويحكَ.. إلى آخر القصّة التي مرّ ذكرها.
9 ـ جاء في الصفحة (249) من موسوعة (أعيان الشيعة) المجلّد القسم الأول، عند ذكر شِعر الإمام زين العابدين هذه الأبيات:
نحنُ بنو المصطفى ذوو غُصصٍ يجرّعها في الأنام كاظمنا
عظيمة في الأنام محنتنا أوّلنا مُبتلى وآخرنا
يفرحُ هذا الورى بعيدهم ونحن أعيادنا مآتمنا
والناس في الأمن والسرور وما يأمن طول الزمان خائفنا
وما خصّصنا به من الشرف الطا ئل بين الأنام آفتنا
يحكمُ فينا والحكم فيه لنا جاحدنا حقّنا وغاصِبنا
10ـ وفي الصفحة (107) من كتاب (أقناع اللائم) ما عبارته: رويَ عن علي بن إبراهيم في (تفسيره)، وابن قولويه في (الكامل)، والصدوق في (ثواب الأعمال) بأسانيدهم: إنّ الإمام الخامس الباقر (عليه السلام) قال: (كان علي بن الحسين يقول: (أيّما مؤمن دَمعت عيناه لقتل الحسين بن علي (عليهما السلام) دمعة حتى تسيل على خدّه لأذىً مسّنا من عدوّنا في الدنيا بوّأهُ الله مبوّأ صدقٍ في الجنّة .
11ـ ورويَ في (الكامل) بسنده عن أبي جعفر الصادق (عليه السلام) قال: (كان علي بن الحسين يقول: مَن ذُكرَ الحسين عنده فخرجَ من عينه من الدمع مقدار جناح ذباب، كان ثوابه على الله عزّ وجل ولم يرضَ له بدون الجنّة).
12ـ جاء في الصفحة (645) من (موسوعة آل النبي) عند ذكر اسم الإمام زين العابدين في سلسلة أسماء البكّائين ما نصّه: ويُضاف اسمه ـ أي اسم زين العابدين ـ إلى أسماء البكّائين فيقال: وبكى زين العابدين أباه الحسين.. .
ب ـ بكاء الإمام الخامس محمّد الباقر (عليه السلام)
أمّا الإمام الخامس محمّد بن علي بن الحسين (عليه السلام) الباقر، فقد شحّت الروايات عن ذكر إقامة المآتم والنياحات العَلنيّة على عهده، وسبب ذلك: هو شدّة ضغط الأمويين عليه وعلى آله وصحبه، الأمرُ الذي كان يدعو الإمام (عليه السلام) وآله إلى اتّخاذ جانب الحيطة والحذر والتقيّة، وإقامة مثل هذه المآتم في بيوتهم الخاصّة وراء الأستار الكثيفة ولم يحضرها سوى خاصّتهم، وفيما يلي بعض الروايات عن ذلك:
1ـ جاء في الصفحة (152) من كتاب (نهضة الحسين) ما نصّه: يُحدِّثنا التاريخ الإسلامي عن أعلام أهل البيت النبوي أنّهم كانوا يستشعرون الحزن كلّما هلّ هلال المحرّم، وتفد عليهم وفود من الشعراء العرب لتجديد ذكرى الحسين لدى أبنائه الأماجد، وقد ألقوا روائع في فن الرثاء والتسلية والتذكير بأسلوبٍ ساحر أخّاذ، وظلّ شِعرهم خالداً رغمَ كرّ العصور.
فقد كان الشاعر العربي الكميت بن زيد الأسدي من شعراء العصر الأموي، والمتوفّى في سنة (126هـ)، قد جعلَ معظم قصائده في مدح بني هاشم وذكر مصائب آل الرسول (عليهم السلام) حتى سُمّيت قصائده بالهاشميات، وكان ينشد معظمها في مجالس الإمام الصادق، وأبيه محمد الباقر، وجدّه علي بن الحسين (عليهم السلام).
2ـ جاء في (كامل الزيارات) لابن قولويه صفحة (175) عن مالك الجهني قال: إنّ الباقر قال في يوم عاشوراء: (وليُندب الحسين ويبكه ويأمر مَن في داره بالبكاء عليه، ويقيم في داره مصيبة بإظهار الجزع عليه، ويتلاقون بالبكاء عليه، بعضهم في البيوت، وليعزِّ بعضهم بعضاً بمصاب الحسين، فأنا ضامن على الله لهم إذا فعلوا ذلك أن يعطيهم ثواب ألفَي حجّة وعمرة وغزوة مع رسول الله والأئمّة الراشدين .
3ـ جاء في الصفحة (126) من كتاب (الشيعة والحاكمون)، عند ذكر شاعر آل البيت الكميت الأسدي صاحب (الهاشميات) قوله:
(فحينئذٍ قَدِم الكميت المدينة وأنشدَ الإمام محمّد الباقر بن علي بن الحسين (عليه السلام)، فلمّا بلغَ من الميميّة قوله:
وقتيــلٌ بالطف غودِر منهــم بين غوغــاء أمــة وطغــام
بكى الإمام، ثُمّ قال: (يا كميت، لو كان عندنا مال لأعطيناك، ولكن لك ما قال الرسول لحسّان بن ثابت: لا زلتَ مؤيّداً بروح القُدس ما ذَبَبت عنّا أهل البيت... .
4ـ جاء في الصفحة (106) من كتاب (إقناع اللائم) ما عبارته: وروى الشيخ الطوسي في (مصباح المتهجّد)، بسنده عن أبن جعفر الباقر (عليه السلام) أنّه قال: وذكرَ ثواب زيارة الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء حتى يظلّ عنده باكياً وقال: إنّ البعيد يومَئ إليه بالسلام ، ويجتهد في الدعاء على قاتله، ويصلّي من بعده ركعتين. قال: وليكن ذلك في صدر النهار قبل أن تزول الشمس، ثُمّ ليندُب الحسين وليبكه، ويأمر مَن في داره مِمّن لا يتعبه بالبكاء عليه، ويُقيم في داره المصيبة بإظهار الجزَع عليه....
5ـ وجاء في الصفحة (105) من الكتاب نفسه ما نصّه: روى ابن قولويه في كامله بسنده عن الباقر (عليه السلام) أنّه قال: أيّما مؤمن دَمعت عيناه لقتل الحسين دمعة حتى تسيل على خدّه، بوّأه الله بها في الجنة غُرفاً يسكنها أحقاباً.
6ـ في الصفحة (33) من كتاب (ثورة الحسين)، لمؤلِّفه الشيخ محمّد مهدي شمس الدين، المطبوع في النجف سنة 1390هـ قوله: لقد بَدأت تظهر آثار ثورة الحسين في الوجدان الشعبي من شِعر الرثاء لشهداء الثورة، وفي شِعر النوح والتوبة من أولئك الذين قعدوا عن مناصرة الثورة، أو ساهموا في الحرب ضدّها... .
ثُمّ يستطرد المؤلِّف ويقول: ولكنّ نشوب الثورة في الحجاز ضدّ الحكم الأموي ـ وامتدادها إلى العراق وغيره، وانطلاق الأعمال الانتقاميّة ضدّ الأمويين وأعوانهم ـ أطلقَ فيضاً من الشِعر الرثائي لثوّار كربلاء.
ويبدو لي أنّه في هذه المرحلة بالذات بدأت المآتم الحسينيّة بشكلٍ بسيط، ولابدّ أنّها بَدَأت على شكل اجتماعات صغيرة، يعقدها نفرٌ من المسلمين الناقمين من أتباع أهل البيت، وغيرهم في بيت أحدهم، فيتحدّثون عن الحسين وعمّا جَرى عليه، وينتقدون السلطة التي حارَبته وامتدادها القانوني المتمثّل في السلطة المعاصرة له ويتبرأون منها.
وربّما تناشدوا شيئاً من شِعر الرثاء الذي قيل في الثورة، وفي بطلها وقتلاها، وقد تطوّرت هذه المآتم عبر العصور، فمرّت في أدوار متميزة حتى انتهت إلى أيامنا هذه إلى الشكل الذي تقام به الآن...). ثُمّ يواصل الكاتب كلامه ببيان العوامل التي أنشأت هذه المآتم ويقول ما عبارته:
(الرابع: تشجيع أئمّة أهل البيت على إحياء هذه الذكرى، وحثّهم على نظم الشعر وإنشاده في شأنها، وعقدهم لمجالس الذكرى في بيوتهم، واستقبالهم للشعراء وسماعهم لهم.
وقد تعاظمَ تركيز الأئمّة على هذا، منذ عهد الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام)، ومن الأسماء البارزة في هذه المجالس: الكميت بن زيد الأسدي، والسيّد الحِميري، وجعفر بن عفّان، ودِعبل الخزاعي، وغيرهم.. .
ج ـ بكاء الإمام السادس جعفر الصادق (عليه السلام)
أمّا الإمام السادس جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، فإنّه كان من أكثر الأئمّة (عليهم السلام) حُزناً وبكاء ونياحة على جدّه الإمام الشهيد (عليه السلام)، والروايات في وصف بكائه ونحيبه كثيرة ومتواترة، وقد مَلأت بطون كتب التاريخ وأسفار الحديث والمرويات، وأنقل تالياً بعض هذه الروايات:
1 ـ روى كتاب (إقناع اللائم) صفحة (97)، عن ابن قولويه في (الكامل) بسنده عن ابن بصير، قال: (كنتُ عند أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) فدخلَ عليه ابنه، فقال له: (مرحباً، وضمّه وقبّله، وقال: حقّر الله مَن حقّركم، وانتقمَ مِمّن وَتَركم، وخذلَ الله مَن خذلكم، ولعنَ الله من قتلكم، وكان الله لكم ولياً وحافظاً وناصراً، فقد طال بكاء السماء وبكاء الأنبياء والصدّيقين والشهداء وملائكة السماء، ثُمّ بكى وقال: يا أبا بصير، إذا نظرتُ إلى وِلد الحُسين أتاني ما لا أملكهُ بما أوتيَ إلى أبيهم وإليهم، يا أبا بصير، إنّ فاطمة لتبكي....
ثُمّ يستطرد الإمام فيقول:
أمَا تُحب أن تكون فيمَن يسعد فاطمة)، فبكيتُ حين قالها فما قدرتُ على النطق من البكاء).
2 ـ وفي (إقناع اللائم) أيضاً ما نصّه:
عن معاوية بن وهب قال: دخلتُ يوم عاشوراء إلى دار مولاي جعفر الصادق (عليه السلام) فرأيته ساجداً في محرابه، فجلست من ورائه حتى فَرغ، فأطالَ في سجوده وبكائه، فسمعته وهو ساجد يناجي ربّه، ويدعو بالغفران لنفسه، ولإخوته، ولزوّار أبي عبد الله الحسين ويكرِّر ذلك..
ثُمّ يستطرد معاوية فيقول: فلمّا رفعَ مولاي رأسه أتيتُ إليه وسلّمت عليه وتأمّلت وجهه، فإذا هو كاسف اللون، متغير الحال، ظاهر الحُزن، ودموعه تنحدر على خدّيه كاللؤلؤ الرطب، فقلت: يا سيّدي مِمّن بكاؤك لا أبكى الله لك عيناً؟ وما الذي حلّ بك؟ فقال لي: (أوَ في غفلةٍ أنت عن هذا اليوم؟ فبكيتُ لبكائه، وحزنتُ لحزنه، فقلت: يا سيّدي فما الذي فُعل في مثل هذا اليوم؟ فقال: يا بن وهب، زُر الحسين (عليه السلام) من بعيد أقصى، ومن قريب أدنى، وجدِّد الحُزن عليه، وأكثِر البكاء عليه والشجو له... .
ثُمّ يواصل معاوية الكلام ويقول: فقلت: جُعلت فداك، لم أدرِ أنّ الأجر يبلُغ هذا كلّه حتى سمعتُ دعاءك لزوّاره، فقال لي: يا بن وهب، إنّ الذي يدعو لزوّاره في السماء أكثر مِمّن يدعون لهم في الأرض، فإيّاك أن تَدع زيارته لخوفٍ من أحد، فمَن تَرَكها لخوف أحد رأى الحسرة والندم.
يا بن وهب، أمَا تُحب أن يرى الله شخصك؟ أمَا تُحب أن تكون غداً مِمّن يُصافحه رسول الله (عليه السلام) يوم القيامة؟
قلت: يا سيّدي فما قولك في صومه من غير تبييت؟ فقال لي: لا تجعلهُ صوم يوم كامل، وليكن إفطارك بعد العصر بساعة، على شربة من ماء؛ فإنّه في ذلك الوقت انجلَت الهيجاء عن آل الرسول وانكشفت الغمّة عنهم، ومنهم في الأرض ثلاثون قتيلاً، يعزُّ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مصرعهم، ولو كان حيّاً لكان هو المعزّى بهم.
ثُمّ بكى الصادق (عليه السلام) حتى اخضلّت لحيته بدموعه، ولم يزل حزيناً كئيباً طول يومه ذلك: وأنا أبكي لبكائه وأحزنُ لحزنه... .
3 ـ روى الصدوق في (الأمالي)، وابن قولويه في (الكامل)، بسنديهما عن أبي عمارة المنشد، عن أبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام) قال لي: يا أبا عمارة، أنشِدني في الحسين بن علي، فأنشدتهُ فبكى، ثُمّ أنشدته فبكى قال: فو الله، ما زلتُ أنشده فيبكي حتى سمعتُ بكاء مَن في الدار، فقال: يا أبا عمارة، مَن أنشدَ في الحسين بن علي شعراً، فأبكى خمسين فله الجنّة، ومَن أنشدَ في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنّة، ومَن أنشدَ في الحسين شعراً فأبكى عشرة فله الجنّة، ومَن أنشدَ في الحسين شعراً فأبكى واحداً فله الجنّة، ومَن أنشدَ في الحسين شعراً فتباكى فله الجنّة....
4 ـ وروى الكشّي في كتاب (الرجال) عن زيد الشحّام قال: كنّا عند أبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام)، ونحن جماعة من الكوفيين، فدخلَ جعفر بن عفّان على أبي عبد الله، فقرّبه وأدناه، ثُمّ قال: (يا جعفر، قال: لبّيك، جَعلني الله فداك، قال: بَلَغني أنّك تقول الشعر في الحسين (عليه السلام) وتُجيد، فقال له: نعم، جَعلني الله فداك، قال: قل، فأنشدهُ، فبكى ومَن حوله حتى صارت الدموع على وجهه ولحيته.
ثُمّ قال: يا جعفر، والله لقد شهدَت ملائكة الله المقرّبين هاهنا يسمعون قولك في الحُسين، ولقد بكوا كما بكينا أو أكثر، ولقد أوجبَ الله تعالى لك يا جعفر في ساعتك الجنّة بأسرها، وغفرَ الله لك، فقال: يا جعفر، أولا أزيدك! قال: نعم يا سيدي، قال: ما من أحد قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى به، إلاّ أوجبَ الله له الجنّة وغفرَ له..).
5 ـ وروى أبو الفرج الأصفهاني في أغانيه، بسنده عن علي بن إسماعيل التميمي، عن أبيه قال: (كنتُ عند أبي عبد الله جعفر بن محمّد، فاستأذنَ آذنه للسيّد الحميري، فأمرَ بإيصاله، وأقعدَ حرمهُ خلف ستر، ودخلَ فسلّم وجلس، فاستنشده فأنشده قوله:
امرُر على جَدث الحسين فقل لأعظُمه الزكيّة
أأعظُماً لا زلتِ من وطفاء ساكبة رويّة
وإذا مررتَ بقبره فأطِل به وقف المطيّة
وابكِ المطهّر للمطهّر والمطهّرة النقيّة
كبكاء مُعوِلة أتت يوماً لواحدها المنيّة
قال: فرأيتُ دموع جعفر بن محمّد (عليه السلام) تتحدر على خدّيه، وارتفعَ الصُراخ من داره حتى أمره بالإمساك فأمسكَ...).
وروى أبو الفرج في أغانيه، عن التميمي، عن أبيه، عن فضيل الرسان، قال: أنشِد جعفر بن محمّد قصيدة السيّد:
لأم عمرو باللوى مربع دارسة أعلامه برقع
فسمعتُ النحيب من داره فسألني لمَن هي؟ فأخبرتهُ أنّها للسيّد، وسألَني عنه فعرفتهُ وَفَاته، فقال: رحمه الله.. .
6 ـ وروى الصدوق في (ثواب الأعمال) بالإسناد إلى أبي هارون المكفوف، قال: أُدخِلت على أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) فقال لي: (يا أبا هارون، أنشِدني في الحسين، فأنشدتهُ، فقال لي: أنشدني كما تنشدون ـ يعني بالرقّة ـ فأنشدتهُ.
امرُر على جَدث الحسين فقل لأعظمه الزكيّة.
قال: فبكى،.. ثُمّ قال: زدني، فأنشدته القصيدة الأخرى.
ما لذّ عيش بعد رضّك بالجياد الأعوجيه
فبكى، وسمعتُ البكاء من خلف الستر.
7 ـ وفي (إقناع اللائم) عن خالد بن سدير عن الصادق (عليه السلام) قال: (لقد شققَنَ الجيوب، ولطمنَ الخدود الفاطميات على الحسين بن علي (عليه السلام)، وعلى مثله تُلطم الخدود، وتُشق الجيوب...).
8 ـ وفي بعض الروايات: إنّ الصادق (عليه السلام) قال: (مَن قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى غفرَ الله له، ووجَبت له الجنّة).
9 ـ في الصفحة (159) من المجلّد الأول (المجالس السَنيّة) ما نصّه: رويَ عن الصادق أنّه قال: (ما اكتحَلت هاشميّة، ولا اختضَبت، ولا رُئي في دار هاشمي دخان خمس سنين حتى قُتل عُبيد الله بن زياد).
وعن فاطمة بنت علي بن أبي طالب أنّها قالت: ما تحنّأت امرأة منّا، ولا أجالَت في عينها مروداً، ولا امتَشطت حتى بعث المختار برأس عُبيد الله بن زياد.. .
10 ـ وفي صفحة (81) من كتاب (المجالس الحسينيّة) السالف الذكر، من دعاء للإمام الصادق (عليه السلام):
(اللهمّ ارحم تلك الأعين التي جرَت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي حَزنت واحترَقت لنا.. وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا...).
11 ـ جاء في الصفحة (108) من (إقناع اللائم) ما يلي: روى ابن قولويه في الكامل بأسانيده عن أبي عمارة المنشد قال: ما ذُكر الحسين بن علي عند أبي عبد الله جعفر الصادق في يومٍ قط، فرُئي مبتسماً ذلك اليوم إلى الليل، وكان أبو عبد الله يقول: الحسين عبرة كلّ مؤمن.
12 ـ وجاء في الصفحة (105) منه أيضاً ما يلي: (روى الشيخ الطوسي في الأمالي، عن المفيد، بسنده عن أبي عبد الله الصادق أنّه قال: (كلّ الجزَع والبكاء مكروه، سوى الجزَع والبكاء على الحسين...).
وروى ابن قولويه في الكامل بسنده عن الصادق أنّه قال: (إنّ البكاء والجزَع مكروه للعبد في كلّ ما جزَع، ما خلا البكاء على الحسين بن علي (عليه السلام)؛ فإنّه فيه مأجور).
ومِمّا يجدر الإشارة إليه هنا: أنّ النائحين على الحسين قد وجدوا متنفساً على أواخر عهد الإمام الباقر، وطوال عهد الإمام الصادق لبيان حزنهم، وإقامة مآتمهم، وإحياء ذكرى عزاء الحسين وآله وأصحابه.
إذ إنّ الفترة الواقعة في زمن هذين الإمامين بين عهد مروان الحمار ـ آخر الخلفاء الأمويين ـ وأبي العبّاس السفاح ـ أول الخلفاء العباسيين ـ كانت فرصة مؤآتية للإمام محمّد الباقر وابنه الإمام جعفر الصادق (عليهما السلام)، لبث علوم أهل البيت ونشرها على الناس، وإحياء ذكرى الإمام الحسين وإذاعتها، والنياحة عليه عَلَناً بعد أن كانت سرّاً.
د ـ بكاء الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)
والمرويات عن نياح وبكاء الإمام السابع موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) ضئيلة، وأنقل تالياً ما عثرتُ عليه من ذلك في بطون الكتب.
1 ـ نُقل عن الإمام الثامن علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، المدفون في مشهد طوس بخراسان في إيران أنّه قال: (كان أبي إذا دخلَ محرّم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي منه عشرة أيام، فإذا كان اليوم العاشر منه كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحُزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قُتل فيه جدّي الحسين).
أقول: أمّا سبب عدم تحرّك أهل البيت ونشاطهم ومواليهم في إحياء ذكرى مجزرة كربلاء، ومقتل الإمام الشهيد وأصحابه على عهد هذا الإمام، فهو: الضغط الشديد عليهم من جرّاء السياسة الخشنة التي كان يمارسها الخلفاء العبّاسيون، ولا سيّما هارون الرشيد ضدّ آل البيت والعلويين، وما كان يلاقيه الإمام موسى الكاظم من عَنَت ومعارضة وتحديد لحرّيته، وتقييد لحرَكاته وسَكنَاته من قِبَل السلطات الممثّلة للخلفاء العبّاسيين، وكانت نكبة آل البيت وشيعتهم على هذا العهد رهيبة للغاية، وأصبحت اجتماعاتهم ومجالسهم محدودة جداً، ومراقَبة مراقبة شديدة كما كانت تُحصى عليهم حركاتهم وسكناتهم وحتى أنفاسهم، خاصّة وإنّ إمامهم موسى بن جعفر (عليهما السلام)، قضى أكثر أيامه مطارَداً أو رهين سجن العبّاسيين، ذلك السجن الذي قضى فيه نحبهُ مسموماً.
هـ ـ بكاء الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام).
وقد امتلأت كتب التاريخ ومؤلّفات الرواة بأخبار حُزن ونياحة الإمام الثامن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام)، على جدّه الحسين (عليه السلام) وأنقل تالياً نبذاً منها:
1 ـ جاء في كتاب (إقناع اللائم) أنّه: روى الصدوق في الأمالي بسنده عن الرضا (عليه السلام) قال: (إنّ المحرّم شهرٌ كان أهل الجاهلية يحرِّمون فيه القتال، فاستُحلّت فيه دماؤنا، وهُتكت فه حُرمتنا، وسُبيَ فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرِمت النار في مضاربنا، وانتُهبت ما فيها من ثقلنا، ولم تُرعَ لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حُرمة في أمرنا، إنّ يوم الحسين أقرحَ جفوننا، وأسبلَ دموعنا، وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء، وأورَثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون؛ فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام .
2 ـ وروى الصدوق في (الأمالي والعيون)، بسنده عن الريّان بن شبيب قال: (دخلتُ على الرضا (عليه السلام) في أوّل يوم محرّم، قال: يا بن شبيب، إنّ المحرّم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية فيما مضى يحرِّمون فيه الظلم والقتل لحُرمته، فما عرَفت هذه الأمة حُرمة شهرها، ولا حرمة نبيها (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لقد قتلوا في هذا الشهر ذريته، وسَبوا نساءه، وانتهبوا ثقله، فلا غفرَ الله لهم ذلك أبداً.
يا بن شبيب، إن كنتَ باكياً لشيء فابكِ للحسين بن علي بن أبي طالب؛ فإنّه ذُبح كما يُذبح الكبش، وقُتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم في الأرض شبيه، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله، ولقد نزلَ إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره فوجدوه قد قُتل، فهم عند قبره شعث غُبّر إلى أن يقوم القائم فيكونون من أنصاره وشعارهم: (يا لثارت الحسين).
يا بن شبيب، لقد حدّثني أبي، عن أبيه عن جدّه أنّه لمّا قُتل جدّي الحسين (عليه السلام) أمطرَت السماء دَماً وتراباً أحمراً.
يا بن شبيب، إن بكيتَ على الحسين حتى تصير دموعك على خدّيك، غفرَ الله لك كلّ ذنب أذنبته، صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً كان أو كثيراً...) إلى آخر الحديث.
3 ـ وحُكي عن الشاعر الشهير دعبل الخزاعي أنّه قال: (دخلتُ على سيّدي ومولاي علي بن موسى (عليهما السلام) بمرو في أيام عشرة المحرّم، فرأيتهُ جالساً جِلسة الحزين الكئيب، وأصحابه جلوس حوله، فلمّا رآني مُقبلاً قال لي: مرحباً بك يا دعبل، مرحباً بناصرنا بيده ولسانه، ثُمّ إنّه وسّع لي في مجلسه، وأجلَسني إلى جانبه، ثُمّ قال: يا دعبل، أحبّ أن تنشدني شعراً؛ فإنّ هذه الأيام أيام حُزن كانت علينا أهل البيت، وأيام سرور كانت على أعدائنا، خصوصاً بني أُمية.
ثُمّ إنّه نهضَ وضربَ ستراً بيننا وبين حَرَمه وأجلسَ أهل بيته من وراء الستر؛ ليبكوا على مصاب جدّهم الحسين، ثُمّ التفتَ إليّ وقال: يا دعبل، ارثي الحسين، فأنتَ ناصرنا ومادحنا ما دمتَ حياً.
قال دعبل: فاستعبرتُ، وسالت دموعي وأنشأتُ:
أفاطمُ لو خلتِ الحُسين مجدّلاً وقد ماتَ عطشاناً بشط فراتِ
إذاً للطمتِ الخدّ فاطم عندهُ وأجريتِ دَمع العين في الوَجناتِ
إلى آخر القصيدة التائيّة التي تناقلتها جميع كتب التاريخ وأسفار الحديث، واعتبرَتها من أبلَغ القصائد رثاءً، وفجيعةً، وحُزناً.
4 ـ وفي (إقناع اللائم) ما نصّه: روى الصدوق في (عيون أخبار الرضا) بسنده عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: دخلَ دعبل بن علي الخزاعي (رحمه الله) على أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) بمرو فقال له: يا بن رسول الله، إنّي قد قلتُ فيكم قصيدة وآليتُ على نفسي أن لا أُنشدها أحداً قبلك، فقال (عليه السلام): هاتها فأنشدهُ:
مدارسُ آيات خَلت من تلاوة ومنزلُ وحي مُقفِر العَرَصاتِ
فلمّا بلغَ البيت:
أرى فَيئهم في غيرهم متقسِّماً وأيديهم من فَيئهم صفراتِ

بكى الإمام الرضا (عليه السلام) وقال له: (صدقتَ يا خزاعي).
5 ـ نَقلت كُتب الحديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن يوم عاشوراء ما يلي: مَن تركَ السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة، ومَن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحُزنه وبكائه، جعلَ الله عزّ وجل يوم القيامة يوم فرحه وسروره وقرّت في الجنان عينه، ومَن سمّى يوم عاشوراء يوم بركة وادخّرَ فيه لمنزله شيئاً، لم يُبارَك فيما ادخّر.
6 ـ وجاء في الروايات: إنّ الشاعر إبراهيم بن عبّاس دخلَ على الإمام الرضا (عليه السلام)، وأنشدَ قصيدته التي يقول في أوّلها:
أزَالَ عزاء القلب بعد التجلّد مصارع أولاد النبي محمّد
فبكى الإمام (عليه السلام)، وبكى مَن في مجلسه عند إنشاد هذه القصيدة.
7 ـ جاء في الصفحة (178) من كتاب (الشيعة والحاكمون)، عند ذكر قصيدة دعبل التائية وإنشادها أمام الإمام الرضا قوله:
وبكى الإمام الرضا حين أنشد دعبل القصيدة، وبكت معه النسوة والأطفال، وما زال الشيعة يتلونها إلى اليوم على المنابر ويبكون... .
أقول: إنّ قصيدة دعبل الخزاعي هذه بلغت (120) بيتاً، وكل أبياتها شجيّة، ومن أشجاها هذان البيتان:
سأبكيهم ما ذرّ في الأرض شارق ونادى مناد الخير للصلواتِ
وما طلعت شمس وحانَ غروبها وبالليل أبكيهم وبالغدواتِ
وقد عاش دعبل (98) سنة، وكان مجيئه إلى مرو لزيارة الإمام الرضا عن طريق البصرة سنة (198 هـ)، وبقى فيها عند الإمام إلى سنة (200 هـ)، وتوفي سنة (246 هـ) بالطيب، وهي بلدة بالقرب من الأهواز.
وأجد مناسباً هنا بأن أنقل بعض ما نَظَمه دعبل في رثاء الإمام الشهيد (عليه السلام) والنياحة عليه، فمن قصيدة له فيه:
زُر خير قبرٍ بالعراق يُزار واعصِ الحمار فمَن نهاكَ حمار
لمَ لا أزورك يا حسين لك الفدا قومي ومَن عَطفت عليه نزار
ولك المودّة من قلوب ذوي النهى وعلى عدوّك مقتة ودَمار
يا بن الشهيد ويا شهيداً iعمّه خير العمومة جعفر الطيار
ولدعبل أيضاً من قصيدة:

رأس ابن بنت محمّد ووصيه يا للرجال على قناة يُرفع
والمسلمون بمنظرٍ وبمسمع لا جازع من ذا ولا متخشع
أيقظتَ أجفاناً وكنتَ لها كرى وأنمتَ عيناً لم تكن بك تهجع
كحلَت بمنظرك العيون عماية وأصمّ نعيك كل أُذن تسمع
ما روضة إلاّ تمنّت أنّها لك مضجع ولحطّ قبرك موضع
و ـ بكاء بقيّة أئمّة الهدى (عليهم السلام) على جدّهم
أمّا شعائر النياحة والحُزن ـ وإقامة المآتم والعزاء على شهيد كربلاء وآله، بعد الإمام الثامن علي بن موسى الرضا وعلى عهد الأئمة الأربعة الآخرين: الإمام التاسع: محمّد بن علي التقي، والإمام العاشر: علي بن محمّد النقي، والإمام الحادي عشر: الحسن بن علي العسكري، والإمام الثاني عشر: القائم، محمّد بن الحسن (عليهم السلام) ـ فقد أخذَت تسير سيراً صعودياً أحياناً، وهبوطياً أحياناً أخرى، تَبعاً للساسة التي كان يمارسها الخلفاء العبّاسيون وسلطاتهم تجاه شيعة آل محمد (عليهم السلام)، وهؤلاء الأئمّة الأربعة الهداة.
وكانت الحريّة تُطلق بعض الوقت لهؤلاء الأئمّة ومواليهم وشيعتهم، بإقامة شعائرهم ومناحاتهم على الإمام الشهيد، فيقيمونها سرّاً أو عَلَناً كما كانت تُحدّد هذه الحريّة زمناً، ويُمنع إقامة هذه الشعائر الحزينة عَلناً، وحتى سرّاً أحياناً.
ففي عهد الإمام التاسع محمّد الجواد التقي، نالَت الشيعة بعض الحريّة في إقامة شعائرهم الكئيبة هذه؛ لأنّ الخليفة المأمون كان مُتساهلاً معهم خاصّة، وإنّ الإمام محمّد الجواد كان صهره على ابنته أُم الفضل، وكانت المآتم على الإمام الحسين تُقام في دور العلويين عَلَناً ودون أي ضغط، وليس مَن يُعارضهم في ذلك.
وقد استمرّت هذه الحالة على عهد المعتصم أيضاً، الذي كان يسعى لمراعاة شعور العلويين والموالين لآل البيت، ويمنع إدخال الضغط عليهم إلى حدٍّ ما، ويسمح لهم بإقامة المناحات على الحسين الشهيد في دُورهم وخارجها، سرّاً وعَلَناً.
أمّا بعد المعتصم ـ أي على عهد الأئمّة الثلاثة الآخرين ـ: فقد أخذَت السلطات الحاكمة ـ بإيعاز من الخلفاء العبّاسيين الذين خلفوا المعتصم ـ تُشدّد على هؤلاء الأئمّة (عليهم السلام) وشيعتهم ومواليهم، وتمنعهم من إقامة شعائر العزاء والحُزن على الحسين (عليه السلام)، وتحدّ من حريّاتهم في ذلك.
غير أنّ المقيمين لهذه المآتم لم يمتنعوا عن إقامتها سرّاً في دُورهم، وإن لم يستطيعوا إقامتها عَلَناً وجهاراً، وكانوا يستعملون التقية، ويُسدِلون الأستار على الأماكن التي كانوا يقيمون فيها هذه الشعائر الحزينة في دورهم، وخاصّة عند قبور الأئمّة: كقبر الإمام الحسين بكربلاء، وقبر الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في النجف، وقبرَي الإمامين الجوادين في الكاظمية ـ مقابر قريش ـ، ولذلك نجد أخبار وروايات إقامة هذه الشعائر المأتمية ـ على عهد هؤلاء الأئمّة الثلاثة ـ شحيحة جداً.
وهكذا كان شأن إقامة هذه النياحات والمآتم، وحفلات الحُزن وشعائر العزاء على الحسين الشهيد، على عهد الأئمّة الأطهار الاثني عشر (عليهم السلام) بين مدٍّ وجزر، ولكنّهم (عليهم السلام) كانوا لا يتركون أيّة فرصة في كل عصر وجيل، إلاّ حثّوا شيعتهم ومواليهم على البكاء على الحسين (عليه السلام)، والحُزن لقتله، ورثائه بالأشعار والقصائد، وإقامة العزاء والمآتم عليه، واتخاذ يوم عاشوراء خاصّة يوم حزن وبكاء ونياحة.