كثر في الآونة الأخيرة الكلام حول الشعائر الحسينيّة ، ولسنا هنا في معرض دراسة ومناقشة الأسباب التي تخفّت وراء هذا الكلام ، بل نسعى إلى أن نميط اللثام عن بعض النقاط غير الواضحة لدى كثيرين ممّن يخوضون في هذه الاُمور الدقيقة ويثيرون حولها النقاشات والحوارات التي قد تزيد الطين بلة وتسدل على الحقائق أستاراً وحجباً لعدم استنادها إلى المنهج العلمي وانحدارها إلى التذوّق الحسّي والانفعال العاطفي ليس غير .
ومن [خلال] متابعة هذه الحوارات وتقصّي محاورها وجدناها على الأكثر تنصبّ في شقين :
الشق الأوّل :
حول الجانب الفقهي ومدى مشروعيّة هذه الشعائر ومن خلاله التعرض إلى الجانب التأريخي لها . والمفجع في الأمر تداول هذا الجانب لدى عامة الناس وإبداء الآراء الشخصية فيه ، وكأن لا وجود لأهل الاختصاص الذين يجب أن نرجع إليهم في مثل هذا النوع من الاُمور ، ونعلم من خلالهم مدى مشروعيّة هذه الشعائر وكيفية التعامل معها من جهة شرعيّة . وأهل الاختصاص هم مراجعنا في التقليد رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين ذخراً لهذه الاُمّة ولنصرة هذا الدين.
والمتتبع لآراء فقهائنا يستطيع أن يرى بوضوح وجلاء تام أنّ مراجعنا وعلى مدى التسلسل التاريخي لهم لم يظهر فيهم من يحرّم هذه الشعائر بل في أقل التقادير ذهبوا إلى إباحتها والكثير منهم ذهب إلى استحبابها شرعاً وأنها من الاُمور التي تبيّن مدى مظلومية أهل البيت (عليهم السّلام) .
كما إنها من مظاهر الجزع على أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ، هذا إلى جانب أنه لا يوجد دليل واحد على عدم مشروعيّة هذه الشعائر الحسينيّة ، وأعني دليلاً فقهياً يعتد به . أمّا الحديث عن أدلة من مثل أنّ هذه الشعائر غير إنسانية وما شابه فهو حديث خرافة ساقط عن الاعتبار وما هذه البالونات المثارة من حوله إلاّ تخرّصات لا يمكن اعتمادها كأدلةٍ فقهيةٍ وقد نوقشت وأمثالها من قبل فقهائنا الأجلاء بما يكفي الباحث مؤونة الرد عليها . كما أنّ هناك الكثير من المطبوعات التي تشير إلى الأدلة الشرعيّة التي اعتمدها فقهاؤنا في هذه المسألة .
والتكليف الشرعي أمام هذه الشعائر بتعدد أنواعها يرجع فيه الشخص إلى مرجع تقليده ، وليس إلى رأيه الشخصي وتشخيصه الموضوعي . فكما نعلم أنّ في جميع الرسائل العملية لمراجعنا (حفظهم الله) العبارة التالية : عمل العامي بلا تقليد باطل .
وهذه العبارة لا يذكرها فقهاؤنا إلاّ لأنها تبين أمراً واضحاً وصريحاً ورد في روايات أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ ولذا يجب على كلِّ مكلف الرجوع إلى مرجع تقليده في مسألة الشعائر الحسينيّة كما يرجع إليه في جميع العبادات والمعاملات .
ولا أظن ولم أسمع يوماً أنّ أحداً أجبر شخصاً آخر على ممارسة إحدى الشعائر وإنّما الأمر يرجع إلى نفس الشخص ومدى شعوره بالانتماء والولاء لأهل البيت (عليهم السّلام) ومدى تفاعله الشخصي معها . وهذا أمر واضح نستطيع أن نتلمسه من الواقع العملي لها ؛ فنجد شخصاً يشعر بالمواساة الحقيقية من خلال اللطم وآخر يشعر بها من خلال الزنجيل وغيرها من الشعائر الاُخرى .
ونحن هنا لسنا بصدد بيان الأدلّة الفقهية والتاريخيّة وسرد آراء المراجع (حفظهم الله ورعاهم) ؛ ففيهم الكفاية لمَن يطلب ذلك ويستطيع مراجعتهم أو وكلاءهم لتحصيل ذلك .
أما الشقّ الثاني :
فينحصر حول الجانب الفلسفي لهذه الشعائر وما هو الغرض منها وماذا تمثل هذه الشعائر ؟ وسيكون محور حديثنا حول هذا الجانب محاولين توضيحه بأبسط العبارة وأوضحها سائلين المولى الأجر والثواب في ذلك .
ولكي نبيّن هذا الجانب سنحاول أخذ بعض هذه الشعائر كاُنموذج ونشير إلى ما تمثّله وما تعنيه كلّ على حدة ؛ لكي يستطيع المتتبع أن يدرك من خلالها عمق وأبعاد المعاني التي تشير إليها .
اللطم (اللدم) ، الزنجيل ، التطبير
وقد اخترت هذه الثلاثة بناءً على أنّ اللطم هو أكثر الشعائر انتشاراً والزنجيل والتطبير الأكثر تداولاً في النقاش . ولم استطع أن اُبيّن جميع الشعائر ؛ كون تعدادها وبيان حكمتها يخرج هذا الكتيب عن الاختصار المنشود . على أمل التعرض لها في مؤلّفات اُخرى إن شاء المولى (عزّ وجلّ) .
وقبل بيان حكمة كلٍّ من هذه المفردات الثلاث ، لا بدّ لي من الإشارة إلى العلّة والغاية التي لاجلهما قامت هذه الشعائر مع أني مهما ذكرت من العلل والغايات فإنها لن تكون سوى قطرة من بحر خضم ؛ لما تحمله هذه الشعائر من أهداف نبيلة سامية ترمي إلى خدمة الاُمّة ورفعتها .