ذكرَ علماء الاجتماع بعض المميّزات والخصوصيات للشعائر منها:
تنوّع الشعائر
تنوّع الشعائر والرسوم بين المجتمعات المختلفة مثلاً : أسلوب التعظيم في بلدة معيّنة يختلف عن أسلوب التعظيم في بلدة أخرى بل قد يُعتبر ذلك التعظيم في بلاد أخرى مظهراً لعدم الاحترام مثلاً إذ إنّ مداليل العلامات تختلف بحسب التواضع والقرار بين أفراد المجموعات البشريّة وهذا ممّا لا بدّ من وضعه في الحسبان إذاً لا يمكن أن نَحمل حُكم الشعيرة في بلدٍ على حكم شعيرة في بلد آخر.
منشأ الشعيرة وأبعادها الخطيرة
الشعائر والعلامات لا تكون في الغالب مبتدئة ومبتكرة من رأس ؛ وإنّما تكون موروثاً حضاريّاً مكدَّساً بمعنى أنّ أيّ عُرف أو أيّ قوم أو أيّ مجموعة معيّنة من البشريّة تتوارث أساليب ووسائل معيّنة يعرض عليها شيء من التطوير والتغيير لكنّ أصل جذور تلك الشعيرة أو تلك الوسيلة هي موروث حضاري قديم يُنقل من الأجداد إلى الأبناء في إطار حضارات مختلفة من مؤثّرات وخصوصيّات معيّنة مثل : العِرق المعيّن أو القوميّة المعيّنة أو المنطقة الجغرافيّة ففي الواقع الشعيرة التي تتّخذ في مجال ديني ـ أو في مجال غير ديني أو مجال معاشي أو فني أو اجتماعي أو تاريخي أو قومي ـ تحمل هويّة وخصوصيّات ومميّزات تلك المنطقة أو تلك القوميّة ـ كما يعبّرون ـيعني أنّ الشعيرة ليست هي شعيرة فقط بل تستبطن الهويّة القوميّة والشخصيّة الاجتماعيّة والتاريخيّة بقدر ما تحتوي على معاني ومبادئ.
ومن ثُمّ ترى متخصّصي عِلم الحضارات أو علم التاريخ والاجتماع أو علم السيكولوجيا (علم النفس) يشيرون على أنّه من الخطورة بمكان تغيير الشعارات الوطنيّة والرموز الوطنيّة والعبث فيها ؛ لأنّ هذه الرموز والشعارات المعيّنة تحمل هويّة قرون لهذه المنطقة وتغييرها مقابل رموز وشعارات بديلة يعني ذوبان هذه القوميّة في مقابل ثقافات دخيلة فهذه الرموز والشعارات ليس من الهيّن والبسيط أن تُستبدل برموز تشكيليّة جديدة وتذوب أمام الغزو الفكري الجديد وليس من الهيّن أن تتلاشى العادات والتقاليد وتضعف الحصيلة التاريخيّة للمنطقة مقابل الفكر الجديد والثقافة البديلة التي يأتي بها الغُزاة والمستعمرون.
فنحن نرى مثلاً إصرار بعض الدول الغربيّة ـ كبريطانيا ـ في ترويج اللغة الإنجليزيّة مع أنّ بريطانيا قد انحسر امتداد نفوذها الرسمي الظاهري حاليّاً مع ذلك لديها إصرار في تعليم ونشر اللغة الإنجليزيّة السرّ يكمن في أنّ وراء تعليم اللغة تحميل تقاليد أصحاب اللغة أنفسهم وتحميل ثقافة وروحيات الإنجليز يعني تذويب القوميّات الأخرى مقابل قوميّتهم.
فالرموز والشعارات الإسلاميّة لا يصحّ الاستهانة بها واستصغارها ؛ فإنّ لها دوراً كبيراً في تحديد الهويّة الحضاريّة للأمّة الإسلاميّة.
فإذا كانت الشعيرة والشعائر بهذا الموقع من الأهميّة والحسّاسيّة فليس من الهيّن محاولة تغييرها من دون دراسة مختلفة الجوانب محيطة بالجهات العديدة ؛ لأنّ هذه الرموز والشعائر الدينيّة سواء شعائر الحجّ أو الشعائر الحسينيّة أو شعائر الصلاة أو شعائر المسجد أو شعائر قبور الأئمّة (عليهم السلام) هي تُعدّ بقاءً للمعالِم التاريخيّة والحضاريّة للمسلمين.
لذا نجد البشريّة الآن تحتفظ بالتراث وتهتمّ به وتحرسه بأخطر الأثمان وتصرف على ذلك من الثروات الطبيعيّة الهائلة للبلد ؛ لأنّ التراث ـ في الواقع ـ يحكي عن وجود حضارات استنزفت فيها الجهود والطاقات ثُمّ بعد ذلك وصلت إلى هذا العصر الحاضر فليس من اليسير التفريط بها.
فالخرافة قد تتصادق مع الشعيرة بلحاظ تأويل المعنى المدلول عليه لكنّه يجب الحذر والتفطّن من فقد هذه الرموز التي هي مخزون لمعانٍ سامية والضمان لأصالة المجتمع الإسلامي ولا يسوغ التفريط بها بدون تدبّر بل لا بدّ من دراستها بدقّة وتأنٍّ.
وإذا كانت هذه الشعيرة بالنسبة إلى الآخرين (خارج المجتمع الإسلامي) مثل : اليهود أو النصارى قد يكون لها مدلول معيّن فهذا لا ينتقص من شأن الشعيرة نفسها ؛ لأنّ المفروض أنّ مدلولها لدى المسلمين هو المؤدّى الرفيع والمعنى السامي فكيف يُنتظر منّا أن نتّخذ شعيرة ورمزاً يكون له مؤدّى مقبول عندهم وهم لا يذعنون بالمبادئ الإسلاميّة فلو اشترطنا في الشعيرة قبولهم لمعناها فهذا يعني فقد الشعيرة وظيفتها أو ضياع الدور المرجوّ منها أو الغرض المأمول منها وبعبارةٍ أخرى : إنّ التساهل والتهاون بذلك يُعتبر فقداناً لهويّتنا وأصالتنا.
وقد تمّ البيان بما لا مزيد عليه أنّ الشعيرة تحتوي على ركنين : ركن النشر والإعلام وركن الإعلاء والاعتزاز وحفظ الهويّة (ولَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا).
فوظيفة الشعائر حفظ الهويّة الإسلاميّة والدينيّة المبدئيّة وإعلائها فإذا فقدناها واستبدلناها بشعارات تروق للأعداء فعلى الإسلام السلام.
وهنا نقطة مهمّة ونكتة فقهيّة مرتبطة بقاعدة الشعائر الدينيّة وهي : أنّ هذه القاعدة تحمل في ماهيّتها ركن الإعلام والإنذار والبثّ والعلامة والمعلَم وركن آخر في ماهيّتها ـ كالجنس والفصل ـ هو الإعلاء والاعتزاز أي حفظ الهوية بل إعلائها والاعتزاز بها وتقديمها على بقيّة الهويّات البشريّة الأخرى وهي الهويّة السماويّة والشخصيّة الإلهيّة في الواقع.
دائرةُ الشعائر الدينيّة
ومن جهة أخرى فإنّ المطلوب من الشعائر الدينيّة ثلاثة أنماط من الوظائف: تارةً أن تؤدّي دورها في الوسط الديني المسلم وتكون فائدتها للمسلمين أنفسهم فقط.
وتارةً يكون تأثيرها ضمن أبناء الطائفة والوسط المؤمن.
وتارةً ثالثة أن تؤدّي دوراً لدعوة الآخرين من المِلل والنِحل البشريّة إلى الإسلام أو إلى الإيمان.
فهذه الشعائر التي أُمرنا بتحريمها وتعظيمها إمّا على نحو وجوب إقامتها بين المسلمين ثُمّ نشرها في الدار الإسلاميّة أو دار الإيمان أو أن تكون وسيلة إعلاميّة عامّة يُرجى لها الوجود ويكون الأمر بها بلحاظ الوسط غير المسلم ويُتوخّى أن تؤثّر في الأعم من الوسط المسلم وغير المسلم.
ولا يخفى أنّ المطلوب من الشعائر ـ بصورة عامّة ـ: هو إيجادها في الوسط المسلم أو المؤمن أوّلاً وبالذات والمحافظة على نفس الوسط المسلم وتوجيهه إلى الهدف والسمو به إلى القمّة في نفس الوسط الإسلامي نعم توجد بعض الشعائر المعيّنة قد اختصّها الفقه والدين الإسلامي لأجل التبليغ في ساحة الوسط غير المسلم.
مثل : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ونحوه من الأدلّة ممّا يجب أن تكون الدعوة بلغة يفهمها المدعوّ ويستأنس بها فليس من الحِكمة استخدام أسلوب صحيح في ذاته ولكن يستهجنه الناس ويُنفِّر عن الإسلام ولا شكّ أنّ هذا ليس من الحكمة بل هو نقض للحكمة.
تباين مِلاكات الأقسام في الشعائر
ولكنّ الكلام هو في التفرقة والتمييز بين الشعائر التي هي لأجل الوسط المسلم أو الوسط المؤمن وتلك التي هي للوسط غير المسلم بل اللازم أيضاً التفرقة بين الشعائر الإسلاميّة والشعائر الإيمانيّة فالأولى للوسط المسلم والثانية للوسط المؤمن ولا يطغى حساب وموازنة أحدها على الأخرى بل كلّ منها في مورده مطلوب ولازم إذ الغرض قائم من الأقسام الثلاثة من الشعائر من حفظ هويّة الإيمان وحفظ هويّة الإسلام والإعلام والدعوة لكلّ منهما.
نعم يجب أن يُختار فيها ما يلائم ويناسب المقام ولكن في حدود أن لا تذوب الشخصيّة الإسلاميّة ولا الشخصيّة الإيمانيّة وشريطة عدم تقديم التنازلات العقائديّة والسلوكيّة وإلاّ فسوف ينتقض غرض الدعوة ؛ لأنّ المفروض من ظاهر الآية (ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ) هو الدعوة إلى سبيل الله وليس الدعوة إلى سبيل النصارى أو اليهود أو سبيل أهل الضلال المفروض هو الدعوة إلى سبيل ربّك لكن بالحكمة والأسلوب المناسب الدعوة إلى سبيل الله مع حفظ الهويّة لكن بالأسلوب والكيفيّة والنمط الذي يستأنسون به وينجذبون إليه من سبيل الله فحينئذٍ تؤثّر الدعوة وتؤتي ثمارها.
غالب الشعائر هو التعظيم بلحاظ دار المسلمين ودار المؤمنين (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) ـ ولم يقل سبحانه : جعلناها لهم ـ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ...) وليس لمَن لا يحجّ البيت وصلاة الجماعة خاصّة بدار المسلمين الذين يحرصون على أداء الصلاة وهي تظاهرة عباديّة دينيّة وصلاة الجمعة كذلك.
وهناك طقوس دينيّة كثيرة قد يستخفّ ويستهزأ الآخرون بها ! فقد يقول مثلاً : ما هذا الانحناء ونكس الرأس ورفع العجيزة ؟! هذه مظاهر لا يفهمها غير المسلمين ؛ لأنّ هذه الطقوس المفروض فيها أن تُقام بنفسها لأجل الحفاظ على المجتمع المسلم في نفسه وكذلك الحال بالنسبة إلى طقوس الإيمان في وسط الطائفة فإنّه لا يعيها غير المؤمنين فمن الخبط بمكان تفسير الشعائر المأمور بها في وسط خاص والحكم عليها بموازين الوسط العام فضلاً عن الوسط الأعم وهذا البحث في الشعائر ليس فقط في الشعائر الدينيّة بل يجري في الشعائر الوطنيّة والقوميّة.
بعض الشعائر الوطنيّة والقوميّة تؤسَّس لأجل حفظ الفكر والهويّة وربط المُواطن بتربة وطنه أو بقوميّته وليس الغرض من تلك الشعيرة أو الرمز دعوة الأمم الأخرى كلاّ!
مثلاً لأجل ربط الجنود بالتربة والوطن أو من أجل تحقّق معاني الدفاع عن الوطن وحماية مقدّرات البلد وما شابه ذلك يُربط الجنود برمز معيّن وإن لم يفهمه الآخرون أو قد يسيء فهمه الآخرون إذ ليس الغرض من هذا الرمز العسكري أو الجهادي هو فهم الآخرين بل المطلوب فيه هو فهم أهل الوطن.
كذلك الحال في الشعائر الدينيّة التي يظهر غالب الخطاب فيها بل مدلول الأدلّة الكثيرة أنّها موجّهة لأجل نفس المجتمع المسلم أو المجتمع المؤمن ولأجل حفظ هويّتهما وحفظ مبادئهما ويتماسكا ويترابطا لا أنّه لأجل التبليغ لجهة أخرى أو لأمّة أخرى.
نعم قد يُفترض ذلك في بعض الشعائر مثل : باب الدعوة إلى الجهاد الفكري ولا ريب في كون الغرض منه دعوة الآخرين فيُفترض مثلاً من الكاتب أو المفكّر أو الخطيب أو المحاضرأو على صعيد منتدى عالَمي كمحطة فضائيّة أو مواقع الكترونيّة مثلاً أن يُختار الأسلوب المقبول والمؤثر والمفروض أن يركّز على النقاط المعيّنة في القانون الإسلامي ومعارف المذهب التي تجذب الآخرين مثل : موارد الوفاء بالعهد وأداء الأمانة لا سيّما في الأبواب التي لها صلة بالآخرين حتّى تتّخذ رموزاً وشعارات وقوانين ومعالِم تجذب الآخرين إلى الوسط الإسلامي والإيماني لا أن تُنفّر عنه عملاً بمقولة : (كونوا دُعاةً للناس بغير ألسِنتكم).
فالخُلق الإيماني الإسلامي ـ مثلاً ـ ينبغي الدعوة إليه كما أنّ هناك في المجتمعات العصريّة دعوة إلى المثال النموذجي : سواء المثال الاقتصادي أو المثال التربوي لابدّ أن ندعو إلى مثال خُلق معيّن يجذب الآخرين وهو المثال الذي يدعو له الإيمان والإسلام ؛ لأنّ الغرض منه هو الإعلان والتبليغ والدعوة لجذب الآخرين إلى حوزة الدين.
وأمّا غالب الشعائر التي يُفرض أنّها طقوس ورسوم تُتّخذ في دار الإسلام أو الإيمان فالمفروض فيها هو المحافظة على هويّتها الأصليّة الإيمانيّة والإسلاميّة والمنع من ضياعها.
والمتخصّصون من أصحاب الفنون والعلوم العديدة : كالشعراء والأدباء والخطباء والقرّاء وأصحاب المهارات في الأنشطة والمراسم الدينيّة المختلفة يلمسون ذلك مع التحصّن بالمعاني الإسلاميّة العالية وهضمها والإحاطة بها فيطمئنّ لهم بأن يبرزوا لنا تشكيلة شعاريّة معيّنة فنّيّة أدبيّة شعريّة قصصيّة وبلاغيّه تُناسب المعنى السامي القرآني وأمّا إذا كان المتخصّص متأثّراً بالمعاني والمبادئ الدخيلة على المذهب أو الدين الإسلامي فما ينتجه ويرسمه من شعار يشكّل خطورة على المعالِم الإيمانيّة والإسلاميّة.
فهذا البحث ينبغي أن يُلحظ كيفيّةً وحيثيّةً استعانةً بالأخصّائيّين إخلاصاً وخبرةً كما ينبغي دراسة هذه الشعيرة مع مقدار امتداد جذورها التاريخيّة ومدى ارتباطها بمسار الطائفة وبحضارة الأمّة الإسلاميّة حتّى يمكن البتّ في سلبيّة أو إيجابيّة هذه الشعيرة أو مؤدّاها الذي تدلّ عليه.
الشعائرُ والهَتك
يبقى الكلام ضمن هذه الجهة السابعة عن ممانعيّة الهتك أو الهوان الذي قد يعرض على ممارسة الشعائر الدينيّة المستحدَثة أو المستجدّة فيكون مانعاً خارجياً لعموم دليل قاعدة الشعائر الدينيّة.
في النظرة الأوّليّة البَدويّة يتبادر كونه مانعاً باعتبار استلزامه هوان الدين وهتك الدين.
وقد تمسّك البعض بهذا العنوان واستدلّ به على ممانعة كثير من الشعائر المستجدّة المتّخذة فلابدّ ـ من ثَمّ ـ من تحليل هذا العنوان ومعرفة ماهيّته العقليّة واللغويّة.
معنى الهَتك : كشف المستور وطبعاً ـ بالنسبة إلى حرمة الدين أو المسلمين ـ قد يُراد منه كشف نقاط الضعف (في المسلمين أو المؤمنين) وكشف الستر عن ذلك مثل : هتك حرمة المؤمنين والمسلمين وكشف النقص أو الضعف الموجود فيهم ممّا يؤثر في زوال قوّتهم وتضعيف شوكتهم.
والهوان أيضاً في ماهيّته ومعناه يتقارب من الهتك ويكون مسبَّباً عن الهتك مثلاً ومعلولاً عن كشف الستر.
فالهتك والهوان أمران متلازمان في الغالب وأحدهما مسبّب عن الآخر وإن كانت الماهيّة الحرفيّة وبالدقّة في الهتك هي كشف الستر لكنّ كشف الستر : إمّا عن معائب أو عَوار أو نقائص وكلّها بمعنى واحد ومن ثُمّ يستلزم الهوان من الطرف الآخر.
ولا ريبَ أنّ هذه الماهيّة هي مضادّة لأغراض الشارع ونقيض أهدافه في التشريع التي بُيّنت في آيات عديدة منها:
ـ {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40].
ـ {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } [النساء: 141].
ـ {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
ـ {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [الحج: 30].
إنّ الأغراض الأوّليّة الضروريّة من التشريع هي الرفعة والعلوّ وهي أغراض أوّليّة كبرى وأهداف فوقانيّة قصوى في التشريعات القرآنيّة والهتك بمعنى كشف نقاط الضعف أو عَوار المسلمين أو المتديّنين الذي يستلزم الهوان والنقص المعاكس والمناقض لأهداف الشارع ورغباته.
لكنّ الكلام : أنّ هذا الهتك والهوان هل هو مترتّب على صرف الاستهزاء من قِبل المذاهب الأخرى أو من قِبل المِلل الأخرى؟
أقسامُ الهتك والاستهزاء
والاستهزاء ـ سواء كان من الفِرق الإسلاميّة الأخرى أو من المِلل الأخرى ـ يكون على أقسام:
منه : الاستهزاء باطلاً وبما ليس بحق وهذا لا يؤثّر وليس بمانع ولا ريب أنّه لا يستلزم الهتك ؛ لأن هذا الاستهزاء غير كاشف عن عَوار ونقص ومعائب في المؤمنين أو في الدين.
ومنه : الاستهزاء نتيجة اختلاف الأعراف والبيئات والأعراق واختلاف الشعائر أو الطقوس حسب المِلل والبلدان المختلفة في شعيرة منصوبة لتدلّ على معنى سامٍ لكنّ الآخرين قد ينطبع بأذهانهم معنى آخر فهذا لا يستلزم ممانعة الشعائر ولا يُعرقل اتّخاذها وتعظيمها والسرّ في ذلك : أنّ هذا يرجع إلى حفظ الهويّة كما في حفظ الهويّة الوطنيّة أو التراثيّة وهنا يرجع إلى حفظ الهوية الدينيّة أو حفظ الهويّة الخاصّة بالطائفة وبهذه الملّة وهذه النِحلة.
فلو استُجيب لكلّ ما يروق للآخرين ممّا يكون مقبولاً عندهم لتبدّلت هويّتنا إلى هويّتهم وكان ذلك نوعاً من الانهزام والانزلاق تحت سيطرتهم ولأدّى إلى ذوبان شخصيّتنا في بوتقة الفكر الدخيل والأجنبي فهذا القسم أيضاً لا يستلزم الهتك أو الهوان.
ومنه : استهزاء لجهات واقعيّة فهذا يلزم منه هتك وهوان فعلى ضوء هذا التقسيم الثلاثي نخرج بهذه النتيجة : أنّ قِسمين من السخريّة أو الاستهزاء أو التعجّب من الآخرين لا يوجِب الهتك والهوان وإن تخيّله الباحث أو المتتبّع للشعائر الدينيّة كذلك.
والهتك أو الهوان أو الاستهزاء حيث إنّه من مصاديق وأصناف التحسين والتقبيح العقليّين وقد ذكرنا أنّ بعض مواردهما يكون مطابقاً للواقع فيكون صادقاً وبعض مواردها غير مطابق للواقع فلا يكون صادقاً بل كاذباً.
العقلُ العملي والعقلُ النظري : هذا التحسين والتقبيح العقليّان في قوّة العقل العملي في النفس التي تختلف وظيفتها عن قوّة العقل النظري الذي يُدرك وجود الأشياء وثبوتها أو عدمها ونفيها كما يقال : إنّ العقل النظري بنفسه لا يوجب تحريكاً في الإنسان ولا انبعاثاً ولا تربيةً ومن ثَمّ قالوا : إنّ الحكماء (الفلاسفة) لا يؤثّرون في المجتمعات مثل ما يؤثّر الأنبياء والرسل ؛ لأنّ الفلاسفة يعتمدون غالباً على العقل النظري وهو ينطوي على جنبة الإدراك فقط.
بينما إذا اتّصل العقل النظري ـ وهو إدراك الأشياء وثبوتها في العلوم المختلفة ـ بالعقل العملي أي أدرك حُسن وقُبح الأشياء وتحسينها وتقبيحها حتّى يكون محفزّاً ومحرّكاً أو زاجراً ومؤدّباً للنفس ففي الواقع فإنّ العقل العملي ليس صِرف إدراك فقط وليس صِرف حجّيّة وتنجيز وتعذير إدراكي فقط وإنّما هو نوع من الباعثيّة والتحريك والتكوين ؛ لأنّ التحسين نوع من المدح ونوع من إيجاد الجَذبة والمَغنطة بين النفس وذلك الفعل الحسن والتقبيح ـ في المقابل ـ نوع من إيجاد الشرارة والنفرة والبعد بين النفس وذلك الفعل القبيح فهذا الجذب والوصل من جهة والنفرة والانقطاع من جهة أخرى هما من خاصيّات العقل العملي.
فإذا كان التحسين والتقبيح كاذِبين فإنّ هذا بنفسه يكون عاملاً مُغرياً وخاطئاً ومزيّفاً للنفس ؛ لأن يُحسّن لها القبيح ويقبّح لها الحسن وسوف يؤدّي إلى تربية خاطئة للنفس وإلى نوع من الترويض السيئ في النفس.
الشعائرُ والآثار الاجتماعيّة
إذا اتّضح ذلك عَلمنا أنّه إذا حصلَ الاستهزاء والسخريّة ـ اللذَين هما من أصناف المدح والذمّ والتحسين والتقبيح بسلوكيّة خاطئة ومدلّسة ، سيّما إذا كان ذلك على نحو افتعال جوّ وزخم إعلامي شديد وبكثافة إعلاميّة عن طريق الجرائد أو الإذاعات أو النشريّات أو المحافل والأندية ـ فإنّه سيوجب قهراً وقوع المسلمين أو المؤمنين في جوّ خاطئ أو تربية خاطئة بأن يستقبحوا ما هو حسن ويستحسنوا ما هو قبيح.
مثلاً قد يَعتبر الشاب المتديّن في الجامعة أنّ الصلاة تُقلّل من شأنه في نظر زملائه وإنّها عار عليه ولا تليق به ثُمّ شيئاً فشيئاً يصبح القبيح حسناً وبالعكس ولا ريب في كون ذلك النوع من التفكير سلوكاً منحرفاً واستخداماً خاطئاً وخطيراً في العقل العملي وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (كم من عقلٍ أسير تحت هوى أمير).
سيّما إذا كان العقل الاجتماعي ـ أو العقل الأُممي أو العقل العَولمي الذين يحاولون ترويجه الآن ـ خاطئاً.
هذا العقل البشري المجموعي سوف يؤول بالبشريّة إلى القبائح باسم المحاسن أو يمنعها عن المحاسن والفضائل باسم أنّها قبائح ورذائل كما أخبر بذلك النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قبل أربعة عشر قرناً فكان إخباره (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من علامات آخر الزمان.
فقضيّة الإهانة والهتك والاستهزاء ترتبط ارتباطاً بنافذة عقلّية تربويّة واجتماعيّة وسلوكيّة وممارسة معيّنة وقد يحصل اللَبس أنّ مثل هذه الشعيرة أو الشعائر المتّخذة ربّما توجب الوهن في الدين بينما هي ليست بوهن لكن لشدّة علاقة الطرف الآخر ولشدّة نفوذ التبليغ والدعاية والطرق والقنوات المتوفّرة لدى الطرف الآخر يوجِب تأثّرنا بمدركات خاطئة تُملي علينا وتُهيمن على أفكارنا وتُزعزع المبادئ والعقائد.
في مثل هذه الموارد نقول : وإن كان على صعيد التنظير بأنّ هذا الاستهزاء وهذا الهتك باطل وليس بمانع للشعائر لكن شريطة أن يكون هناك نوع من الردع أمام التبليغ المضاد.
ممانعةُ بعض الشعائر تَبعاً للمصلحة
في بعض الحالات قد يرتأي الفقيه طبق الميزان الشرعي أن تُمانع تلك الشعيرة أو الشعائر لا لأجل أنّها ممانعة في واقع الأمر ولكن لأجل أنّ مثل هذا الجوّ الحالي قد يُضعِّف نفوس المؤمنين وإن كان هذا التضعيف ليس في محلّه ولكن لأجل فترة وقتيّة لشعيرة مستجدّة أو مُستحدَثة قد يرى من الصالح لأجل عدم إحداث الضعف والوهن في نفوس المسلمين والمؤمنين قد يكون من الصحيح الممانعة لا الممانعة من جهة الهتك أو الاستهزاء بل في الواقع ممانعة بسبب ضعف المسلمين نفسيّاً تجاه هذه الشعيرة فربّما عدم ممارسة هذه الشعيرة يكون أثره أفضل في النفوس وبعبارة أخرى : في هذه الموارد قد لا تسمّى ممانعة للشعائر بل عدم توفّر قيود وشرائط الشعائر فعدم إقامة الشعيرة يُنسب إلى فقد الشرط وليس إلى الممانعة عنها وقد يكون العكس أولى بالرعاية بأن يتشدّد الوسط الديني بالشعيرة المتّخذة ؛ كي لا يستسلموا ولا يعتادوا الانهزام أمام تهريج الخصوم وانتقاداتهم وتحديد ذلك يكون بيد الفقهاء الأُمناء على الدين والعقيدة.
دواعي أخرى لممانعة الشعيرة
وقد يكون التزاحم والدوران ناشئاً من جهات أُخرى ليس من جهة مراعاة الهتك والاستهزاء بغير حق من الفِرق أو المِلل الأخرى بل من جهة ضعف نفوس المسلمين أو من جهة ضعف شوكتهم نظير ما يذكره سبحانه وتعالى في قوله : {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 65، 66].
من جهة حفظ الشكيمة والحيثيّة يُخفَّف التشريع من باب إدراجه في باب التزاحم بين حُكمين شرعيّين وليس من باب ترتيب الأثر على الهتك والاستهزاء بغير حق.
ومع أنّه بحدّ ذاته غير ممانع لكنّه يولِّد جوّاً أو ظرفاً أو بيئة معيّنة وهذا الجو ينتج تصادماً بين حُكمين وآخرين ولابدّ أن يراعي الفقيه هذه الجهة.
أو قد تنشأ الممانعة للشعائر من عدم إدراك المؤمنين لها وعدم استيعابهم لأهميّتها قصوراً أو تقصيراً أو لعدم تحمّلهم درجة عالية من التفاعل والاندماج للشعيرة كمَن لا يتفاعل إلاّ بالبكاء مثلاً في الشعائر الحسينيّة فليس من المناسب زجّه في الشعائر الأخرى التي تكون أكثر تفاعلاً واندماجاً.
كما ذكرَ الفقهاء أنّ العُرف الخاطئ والفاسد قد يُلجئ المكلّف إلى ترك المستحبّ ؛ لأنّه ربّما يكون سبباً للتشهير به مع العلم أنّ المستحبّ مشروع في نفسه فالسبب في تركه : هو نشوء عرف غير مألوف في بيئة فاسدة وهذه البيئة الفاسدة من شأنها أن تجعل المكلّف والمتديّن يترك ذلك المستحب أو بالعكس قد يكون هناك شيئاً مكروهاً لكنّ ذلك المكروه يُرتكب وعدم ارتكابه قد يصبح منقصة أو عاراً فيُرتكب ذلك المكروه حفظاً لشخصيّة المؤمن أو المكلّف وقد خالفَ جماعة من الفقهاء منهم : الشهيد الثاني في كتابه الروضة البهيّة في أولويّة الترك ومراعاة العرف الفاسد وترك ما هو راجح أو ارتكاب ما هو مرجوح.
طبعاً هذا الاستثناء يجب أن لا يدوم ولا يطول زمناً والمفروض أنّ سياسة الفقيه في الفتوى ناظرة لتربية المجتمع ولمعالجة هذه الحالات والبيئات الفاسدة أو الممسوخة والمنكوسة والمقلوبة التي هي على خلاف الفطرة وهي سياسة حكيمة وميدانيّة أيضاً.
وكم من مستحب ربّما تُرك قروناً من السنين بحيث يكون الممارس له مورد استهزاء وبطبيعة الحال فإنّ ذلك يحصل في المجتمعات التي تكون المفاهيم الماديّة والموازين الفاسدة هي السائدة والرائجة فيها.
الشعائرُ والإصلاح الاجتماعي
وهذا هو أحد وظائف الشعائر الدينيّة حيث تؤدّي دور الإعلام والبثّ الديني والإعلاء ومن نتائجها الواضحة : المحافظة على الهويّة الدينيّة في بيئة المسلمين ؛ لأنّه لولا الشعائر فإنّ الدين سوف ينكفئ شيئاً فشيئاً وتتغيّر المفاهيم الدينيّة بل تنقلب رأساً على عقب وتصبح منكوسة الراية بدلاً من أن تكون مرفوعة عالية مُرفرفة.
فمن الوظائف المهمّة للشعائر الدينيّة : جانب المحافظة على الهويّة الدينيّة وإلاّ أُلغيت الشعائر الواحدة تلو الأُخرى وحدثَ نوع من المسخ التدريجي فقاعدة الشعائر الدينيّة هي قاعدة ممضاة من قِبَل الشارع ومُنظرّة في باب الفقه الاجتماعي وكما ذكرنا أنّ للشعائر الدينيّة ركنان : ركن الإعلام والبث وركن الإعلاء والاعتزاز.
والحوزات العلميّة الدينيّة تقوم بأداء أحد رُكني الشعائر الدينيّة : وهو إحياء الدين ونشره وحفظه عن الاندراس وما تقوم به في هذا الدور ـ وإن كان بشكل هادئ وبلا ضجيج ـ هو دور عظيم ؛ لأنّها تحافظ على أحد رُكني الشعائر أو أحد ركني الدين وهو جنبة الإعلام والتعلّم والتفقّه وحفظ الدين عن الانطماس والنسيان وصيانته عن التحريف والتغيير وحفظ الجانب التنظيري والبعد العقائدي للدين.
ومن الواضح أنّ التحريف والردّة عن الدين قد تكون بصورتين:
الصورةُ الأولى : في جانب العمل أي الانحراف في السلوك العملي فلا تُتّبع الأوامر الدينيّة ولا يُرتَدع عن النواهي.
الصورةُ الثانية : وهي الأخطر وهي الانحراف في التنظير فلا يُذعن المنحرف ولا يؤمن ولا يصدّق بل يحاول أن يبرِّر انحرافه وينظِّر تكذيبه وهو الانحراف في العقيدة وهذا أخطر من الأوّل بل ربّما يمارس ذلك المنحرف الأوامر الدينيّة ولكن لا يُقرّ بوجودها وإنّما يمارسها من باب فطرة الطبع أو من باب السُنن الاجتماعيّة لذا نجد في عدّة من الآيات : {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] و {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] و {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]وأمثالها تُلقي الضوء على جنبة التنظير أو الإعلام الديني والبث الديني أو إتمام النور.
وهذه جنبة مهمّة للغاية نعم الجنبة الثانية في الشعائر ـ وهي الإعلاء والاعتزاز في الممارسة العمليّة ـ تكون مطويّة ضمن السلوكيّة السابقة وتظهر بمظاهر ومؤشّرات عديدة.
فالظروف الاستثنائيّة يُشخصّها الفقيه في موارد مختلفة بحسب سياسة الفتوى عند الفقيه وهي : موازنة الملاكات في الأبواب مع الإحاطة بالظروف الموضوعيّة والفطنة في تدبير المعالجة للحالات المختلفة والفقيه يتضلّع لحفظ الدين بلحاظ درجات ملاكات الأحكام في الأبواب المختلفة فيفحص ويُجري البحث عن الأهمّ عند الشارع مضافاً إلى فراسته وفطنته في كيفيّة التوسّل في الوصول إلى الغرض الديني عن طريق الفتوى.
هذا تمام البحث في قاعدة الشعائر الدينيّة مع بيان الخطوط العامّة لها وهو المقام الأوّل من هذا الكتاب وبعد ذلك يقع البحث في المقام الثاني الذي يُلقي الضوء على الشعائر الحسينيّة ودراسة تماميّة أدلّتها الخاصّة والعامّة إن شاء الله تعالى.