وفي القارّة الأوروبيّة ـ وخاصّة الأقطار القريبة من الصقع الآسيوي، وبالأخص بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، والممالك البلقانيّة التي كانت رَدحاً من الزمن تحت سيطرة الإمبراطوريّة العثمانيّة، والتي تَغلغلَ فيها المسلمون على مرّ الدهور والعصور منذ القرون الوسطى ـ فقد كانت النياحة على الإمام الشهيد الحسين (عليه السلام)، وإقامة شعائر العزاء والحزن عليه متداولة فيها إلى حدٍ ما، ثُمّ إنّ هذا التقليد الحزين قد تسرّبَ من هذه البلدان إلى سائر أقطار القارّة الأوربيّة، وخاصّة خلال القرن الأخير، وعقيب الحرب العالميّة الأولى التي ازداد تردّد المسلمين عليها، وأُقيمت فيها المساجد ودور الضيافات الإسلاميّة.
وتُحدّثنا أنباء هذه الأقطار عن إقامة هذه النياحة على الإمام الحسين، في عواصم ومُدن تلك البلدان في العشرة الأولى من محرّم.
وفيما يلي وصف بعض هذه الحفلات الحزينة:
أ ـ في انجلترا:
1ـ جاء في الصفحة ( 369 ) من الجزء الثامن، من السنة الرابعة، من مجلّة (المرشد) البغداديّة ضمن مقالٍ مترجَم عن الصحف الانجليزيّة ما عبارته:
(إنّ أوّل ذكرى لشهيد الطف أُقيمَ في لندن بمناسبة يوم عاشوراء، في 17 جون 1929 م، الموافق 9 محرّم 1348 هـ، فقد احتفلت بهذه الذكرى الجمعيّة الإسلاميّة الغربيّة في لندن، وكانت هذه أوّل مظاهرة إسلاميّة بهذا الشأن تُقام في بريطانيا اجتمعَ فيها كثير من الانجليز الذي اعتنقوا الدين الإسلامي، ومن المسلمين الهنود والعرب وغيرهم المقيمين في بريطانيا، وأُلقيت الخطب على المنابر بوصف مجزرة كربلاء واستشهاد الإمام (عليه السلام)، وإنّ شهادة الإمام كانت لأجل توحيد كلمة المسلمين والوئام بين أفرادهم، ثُمّ ذكرَ فيها نماذج من كارثة الطف وتضحية الإمام (عليه السلام) وكان احتفالاً حزيناً، جَرت فيه الدموع على مقتل الإمام (عليه السلام).
وأضافت هذه الصحف في وصف هذا الاحتفال الحزين وقالت: (ثُمّ قامَ الرئيس الدكتور عبد الله السهروردي، وذكرَ نماذجاً من كارثة الطف، ومثّل للحضور ما برزَ للحسين (عليه السلام) فيه من الشجاعة والإيثار وحبّ الحق والمثابرة، وذكرَ ما كان عليه أهل البيت على عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من العز، ثُمّ ذكّرهم (بذي الفقار) سيف الإمام علي (عليه السلام)، واستدعى من الزعيم (ذو الفقار علي خان) أن يفيد الجمع بخطابه، فنهضَ قائلاً: إنّ شهادة الحسين قد وحّدت كلمة الإسلام، وأحكمَت الرابطة بين المسلمين فانفضّ الجمع، وكان الاحتفال يضمّ كثيراً من المسيحيين أيضاً).
2 ـ وقد علمتُ من بعض الثقات الذين يتردّدون على انجلترا، أنّه خلال بعض سنوات الستينات من القرن العشرين الميلادي، قامَ المسلمون المقيمون في لندن وبعض مُدن انجلترا الأخرى، بتسيير موكب للعزاء الحسيني في شوارعها في يوم عاشوراء، لطمَ فيه المشتركون في الموكب وناحوا فيه على الحسين (عليه السلام)، ولم تمنعهم الحكومة البريطانيّة من أداء هذه الشعائر، وقد خطبَ فيه بعض المسلمين من الانجليز عن هذه الفاجعة الأليمة.
3 ـ وفي محرّم سنة 1394 هـ، أفادت أنباء لندن بأنّ ذكرى العزاء الحسيني أُقيمَ أيضاً في بعض الدور التي يقيم فيها المسلمون في لندن خلال يومَي التاسع والعاشر من شهر محرّم ـ التاسوعاء والعاشوراء ـ، ومن بينها دار العلاّمة السيّد محمّد المشكاة أُستاذ جامعة طهران سابقاً الذي اختار الإقامة في لندن في الآونة الأخيرة.
ولقد اشتركَ في هذه المجالس النياحيّة والحفلات الحزينة، كثير من المسلمين الانجليز والجاليّات الإسلاميّة في لندن من: عرب، وإيرانيين، وباكستانيين، وهنود، وسائر القوميات وفي مقدّمتهم رجال السلك الدبلوماسي الإسلامي والعربي المعتَمَدين لدى البلاط البريطاني (1).
ب ـ في الأندلس (أسبانيا):
1 ـ جاء في مقالٍ نشرتهُ مجلّة الهادي الصادرة في قم بإيران باللغة العربيّة، في عددها الثاني لسنتها الأولى المؤرّخ ذي القعدة 1391 هـ، بقلم الدكتور عبد اللطيف السعداني، بفاس (المغرب) تحت عنوان: (حَركات التشيّع في المغرب ومظاهره) مشيراً إلى أثر التشيّع في الأندلس، وإقامة المأتم على الإمام الحسين الشهيد (عليه السلام) فيما نصّه: (ومن حسن حظّنا هذه المرّة أنّ أحد أعلام المفكرين في القرن الثامن الهجري، لسان الدين بن الخطيب، أسعَفَنا بإشارة ذات أهميّة كبرى، والفضل في ذلك يعود إلى إحدى النسخ الخطيّة الفريدة من مؤلّفه التاريخي (إعلام الأعلام فيمن بويعَ بالخلافة قبل الاحتلام) التي حَفَظتها لنا خزانة جامعة القرويين بمدينة (فاس) من عاديات الزمن، وبهذه الإشارة تنحل العُقدة المستعصية، وينكشف لنا ما كان غامضاً من قبل، مِمّا أغفلَ الحديث عنه المؤرّخون ممّا كان يجري في الأندلس من أثر التشيّع؛ ذلك أنّ ابن الخطيب عند حديثه عن دولة يزيد بن معاوية، انتقلَ به الحديث إلى ذِكر عادات الأندلسيين خاصّةً في ذكرى مقتل سيّدنا الحسين من التمثيل بإقامة الجنائز، وإنشاد المراثي، وقد أفادنا عظيم الفائدة حيث وصفَ إحدى هذه المراسيم وصفاً حيّاً شيّقاً، حتى ليُخيّل أنّنا نرى إحياء هذه الذكرى في بلدٍ شيعي، وذكرَ أنّ هذه المراثي تسمّى الحسينيّة، وإنّ المحافظة عليها بَقيت من قبل تاريخ ابن الخطيب إلى أيّامه، ونُبادر الآن إلى نقل هذا الوصف على لسان صاحبه: (ولم يزل الحزن متصلاً على الحسين، والمآتم قائمة في البلاد، يجتمع لها الناس ويحتفلون لذلك ليلة يوم قُتل فيه، بعد الأمان من نكير دولٍ قَتلَته، ولا سيّما بشرق الأندلس، فكانوا على ما حَدّثنا به شيوخنا من أهل المشرق ـ يعني مشرق الأندلس ـ يقيمون رسم الجنازة حتى في شكلٍ من الثياب، يُستجنى خلف سترة في بعض البيت، ويُحتفل بالأطعمة، ويجلب القرّاء المُحسنون، ويوقَد البخور، ويتغنّى بالمراثي الحسنة).
وفي عهد ابن الخطيب كان ما يزال لهذه المراثي شأن أيضاً، فإنّه في سياق حديثه السابق زادنا تفصيلاً وبياناً عن الحسينيّة وطقوسها، فقال: (والحسينيّة التي يستعملها إلى اليوم المسمعون، فيلوون لها العمائم الملوّنة، ويبدّلون الأثواب، كأنّهم يشقّون الأعلى عن الأسفل بقيّة من هذا لم تنقطع بعد، وإن ضعفت، ومهما قيل الحسينيّة أو الصفة لم يُدرَ اليوم أصلها.
وفي المغرب اليوم ما لا يزال أولئك المسمعون ـ الذين أشارَ إليهم ابن الخطيب ـ يُعرفون بهذا الاسم، وينشدون، وكثُرت في إنشادهم عل الأخص المدائح النبويّة، كما أنّ الأغنية الأندلسيّة الشائعة اليوم في بلاد المغرب تشتمل في أكثرها على المدائح النبويّة أيضاً) انتهى كلام السعداني.
أقول: ويظهر من هذا الوصف أنّ النياحة على الإمام الحسين وإقامة شعائر الحزن والأسى عليه، قد تداولهُ المسلمون في الأندلس منذ أن وَطئت أقدام المسلمين أرض الأندلس، وبقيت هذه التقاليد في هذه البلاد الإسلاميّة النائية حتى القرن الثامن الهجري ـ كما يُستبان من كلام ابن الخطيب ـ ويُستنتج من استعمال كلمة الحسينيّة ـ التي استعملها المسلمون هناك لإقامة العزاء الحسيني وإنشاد المراثي فيها ـ أنّه كان للشيعة شأن يُذكر في الأندلس.
هذا، وقد نَشرت المجلّة السالفة الذكر ـ في عددها الثالث لسنتها الأولى المؤرّخ صفر 1392 هـ ـ تتمّة مقال الأستاذ السعداني، الذي نَقلَ فيه بعض المراثي على الإمام الشهيد، تلك المراثي التي إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على تَغلغل المذهب الشيعي في بعض طبقات الشعب في الأندلس والمغرب العربي، وعلى شدّة تعلّقهم بالحسين الشهيد، وقيامهم بمراسيم النوح عليه في ذكراه الأليمة.
إنّ ما قاله الأستاذ السعداني في ذلك هو ما يلي: كما أفادنا ابن الخطيب بنقله نموذجاً لهذه المراثي مدى عناية الشعراء بهذا الموضوع، وعرّفَنا بأحد شعراء الشيعة في الأندلس، الذي اشتهرَ برثاء سيّدنا الحسين، وهو أبو البحر صفوان بن إدريس بن إبراهيم النجيي المرسي ( 561 ـ 598 هـ) هذه القصيدة كانت مشهورة وينشدها المسمعون، وهي كما يلي:
سـلامٌ كـأزهار الـرُبى يـتنسّم *** عـلى مـنزل مـنه الهدى يتعلّم
عـلى مـصرعٍ للفاطميين غيّبت *** لأوجـهـهم فـيه بُـدورٍ وأنـجم
عـلى مشهدٍ لو كنت حاضر أهله *** لـعاينت أعـضاء الـنبي تـقسّم
على كربلاء لا أخلف الغيث كربلا *** وإلاّ فـإنّ الـدمع أنـدَى وأكـرم
مـصارع ضجّت يثرب لمصابها *** ونـاحَ عـليهنّ الـحطيم وزمزم
ومـكّة والأسـتار والركن والصفا *** ومـوقف حـج والـمقام المعظّم
ثُمّ يستطرد الشاعر بإسناد القصيدة على هذا الوتر، ويقول:
لو أنّ رسول الله يحيى بعيدهم *** رأى ابـن زياد أمه كيف تعقم
وأقـبلَت الزهراء قدّس تُربها *** تـنادي أباها والمدامع تُسجم
تقول: أبي هم غادروا ابني نهبة *** كـما صـاغه قيس وما مجّ أرقم
سَـقوا حَـسَناً لـلسم كأساً روية *** ولـم يـقرعوا سـنّاً ولم يتندّموا
وهم قطعوا رأس الحسين بكربلا *** كـأنّهم قـد أحسَنوا حين أجرموا
فـخُذ منهم ثاري وسكّن جوانحاً *** وأجـفان عـين تستطير وتسجم
أبي وانتصر للسبط واذكر مصابه *** وغـلّته والـنهر ريّـان مُـفعم
ويختم الشاعر قصيدته الطويلة تلك بهذه الأبيات:
فـيا أيّها المغرور والله غاضب *** لـبنت رسـول الله أيـن تيمم؟
ألا طربٌ يُقلى ألا حُزن يصطفى *** ألا أدمع تجرى ألا قلب يُضرم؟
قـفوا سـاعدونا بـالدموع فإنّها *** لـتصغر في حقّ الحسين ويعظم
ومهما سمعتهم في الحسين مراثياً *** تعبر عن محض الأسى وتترجم
فـمدّوا أكـفاً مُـسعدين بدعوة *** وصلّوا على جدّ الحسين وسلّموا
ثُمّ يواصل الأستاذ السعداني كلامه ويقول: (ونتلمّس هذه الحركة فيما بعد عصر مُبدع هذه القصيدة الحسينيّة، فنعثر على أثر آخر للفكر الشيعي، حيث نلتقي بأحد أُدباء الأندلس في النصف الأول من القرن السابع الهجري، هو القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله القضاعي البلنسي، المقتول في 20 محرّم سنة 658 هـ، ونقف على اسم كتابين من مؤلّفاته العديدة، موضوعها هو: رثاء سيّدنا الحسين.
أولهما: (اللجين في رثاء الحسين) ولا يُعرف اليوم أثر لهذا الكتاب غير اسمه.
وثانيهما: (دُرَر السمط في أخبار السبط) وكان كلّ ما بقيَ من هذا الكتاب هو ما نَقلهُ المقري في كتابه: (نَفح الطيب من غُصن أندلس الرطيب)، وقد اعترفَ المقري بأنّه أغفلَ نَقل بعض الفقرات من الكتاب ممّا يُشمّ منه رائحة التشيّع، ثُمّ إنّه اكتفى بنقل جزء من الباقي فقط...) الخ.