علم الباحثون من مدقّقي الفلاسفة : أنّ في مآتمنا المختصّة بأهل البيت (عليهم السّلام) أسراراً شريفة وإليك ماذكره الدكتور جوزف تحت عنوان ( الشيعة وترقياتها المحيرة للعقول ) قال من جملة كلام له طويل : لَم تكن هذه الفرقة ( يعني الشيعة ) ظاهرة في القرون الاُولى الاسلاميّة كأختها ويمكن أنْ تنسَب قلّتهم إلى سببين ؛ أحدهما: أنّ الرئاسة والحكومة التي هي سبب ازدياد تابعي المذهب كانت بيد الفرقة الاُخرى . والسّبب الآخر : هو القتل والغارات التي كانت تتوالى عليهم .
ونظراً لحفظ نفوس الشيعة حكم أحد أئمّتهم في أوائل القرن الثاني عليهم بالتقيّة فزادت في قوّتهم ؛ لعدم تمكن العدوّ القوي الشكيمة من قتلهم والإغارة عليهم بعد أنْ لَم يكونوا ظاهرين وصاروا يعقدون المجالس سرّاً ويبكون على مصائب الحسين واستحكمت هذه العاطفة في قلوبهم على وجه لَم يمضِ زمان قليل إلاّ وارتقوا حتّى صار منهم الخلفاء والسّلاطين والوزراء وهؤلاء بين مَن أخفى مذهبه وتشيّعه وبين مَن أظهره .
وبعد أمير تيمور حيث رجعت السّلطنة في إيران إلى الصفويّة صارت إيران مركز فرقة الشيعة وبمقتضى تخمين بعض سوّاح فرنسا أنّ الشيعة فعلاً : سُدس المسلمين أو سُبعهم .
( الإحصائيّات الآن تنبئنا بأن الشيعة تتراوح نسبتهم بين الربع والثلث من عدد المسلمين ) ونظراً إلى هذا الترقّي الذي حازته فرقة الشيعة في زمان قليل من دون جبر وإكراه يمكن أن يقال : إنّهم سيفوقون سائر فرق الإسلام بعد قرن أو قرنين .
والسّبب في ذلك هو إقامة عزاء الحسين الذي قد جعله كلّ واحد منهم داعياً إلى مذهبه ولا يوجد اليوم مكان فيه الواحد أو الاثنان من الشيعة إلاّ ويقيمان فيه عزاء الحسين ويبذلان في هذا السبيل الآموال الكثيرة .
فقد رأيتُ في ( نزل ما رسل ) شيعياً عربياً من أهالي البحرين يقيم مأتم الحسين وهو منفرد ويرقى المنبر ويقرأ في كتاب ويبكي ثم يقسّم ما أحضره من الطعام على الفقراء .
هذه الطائفة تبذل الأموال في هذا السّبيل على وجهَين : فبعضهم يبذلها من خالص أمواله في كلّ سنة بقدر استطاعته وصرفيّات هذا القسم تزيد على ملايين فرنك .
وبعضهم يعيّن أوقافاً لهذا المشروع لخصوص هذه الطائفة وهذا القسم أضعاف الأوّل .
ويمكن أن يقال : إنّ جميع فرق الإسلام من حيث المجموع لا يبذلون في سبيل تأييد مذهبهم بمقدار ما تبذله هذه الفرقة في سبيل ترقيات مذهبها وموقوفات هذه الفرقة ضعفا أوقاف سائر المسلمين أو ثلاثة أضعافها .
كلّ واحد من هذه الفرقة هو في الحقيقة داع إلى مذهبه من حيث يخفى على سائر المسلمين بل إنّ الشيعة أنفسهم لا يدركون هذه الفائدة المترتبة على عملهم وليس في نظرهم إلاّ الثواب الاُخروي .
ولكن حيث أنّ كل من عمل في هذا العالم لابدّ وأن يكون له أثر طبيعي في العالم الاجتماعي قصده الفاعل أو لم يقصده لم تحرم هذه الفرقة فوائد هذا العمل الطبيعيّة في هذا العالم .
ومن المعلوم أن مذهباً دعاته خمسون أو ستّون مليوناً لابدّ وأن يرتقي أربابه على وجه التدريج إلى ما يليق بشأنهم حتّى أنّ الرؤساء الروحانيين من هذه الفرقة وسلاطينها ووزرائها لم يخرجوا عن صفة كونهم دعاة وسعي الفقراء والضعفاء في محافظة إقامة عزاء الحسين من حيث انتفاعهم من هذا الباب أكثر من الأعيان والأكابر ؛ لأنّهم يرون في ذلك خير الدُّنيا والآخرة ؛ لهذا ترى جماعة كثيرين من عقلاء هذه الفرقة قد تركوا سائر أشغالهم المعاشيّة وتفرّغوا لهذا العمل وهم يكابدون المشاق في تحرّي العبارات الرائفة والجمل الواضحة عند إلقاء فضائل رؤساء دينهم ومصائب أهل البيت على المنابر في المجالس العموميّة ولأجل هذه المشقات التي اختارتها هذه الجماعة فاق خطباء هذه الفرقة على خطباء جميع فرق المسلمين . وحيث أنّ تكرار الأمر الواحد يوجب اشمئزاز القلوب ومللها وعدم التأثير تسعى هذه الجماعة في ذكر تمام المسائل الإسلامية الراجعة إلى مذهبهم بهذا العنوان على المنابر حتّى آل الامر إلى عوام الشيعة بفضل هؤلاء الخطباء أن أصبحوا أعرف بمسائل مذهبهم من معرفة كلّ فرقة من فرق المسلمين بمذهبها كما أنّ اكتساب الشيعة واحترافهم بهذه الوسيلة وسائر الوسائل الراجعة إليها أيضاً أكثر من سائر المسلمين .
ولَو نظرنا اليوم في أقطار العالم نرى أنّ الأفراد التّي هي أولى بالمعرفة والعلم والصنعة والثروة إنّما توجد بين الشيعة والدعوة التي قام بها الشيعة إلى مذهبهم أو سائر الفرق الإسلاميّة غير محدودة بل أنّ آحاد وأفراد الطائفة دعاة ما دخلوا بين اُمّة إلاّ وسرى هذا الأثر في قلوبها وليس العدد الذي نراه اليوم في الهند من الشيعة إلاّ هو أثر إقامة هذه المآتم . الشيعة لم تؤيّد دينها بقوّة ولا سيف حتّى في زمن الصفويّة بل أنّهم بلغوا هذه الدرجة من الترقّي المحيّر للعقول بقوة الكلام والدعوة التي أثرها أمضى من السّيف .
ولقد بلغ اهتمام هذه الفرقة في أداء مراسم مذهبها مبلغاً عظيماً حتّى جعلت ثلثي المسلمين من أتباع سيرتها بل اشترك معها كثير من الهنود والمجوس وسائر المذاهب .
ومن المعلوم أنّ بعد مُضيّ قرن ووصل هذه الأعمال بالإرث إلى أبناء اُولئك الطوائف يذعنون بها ويصدقون هذا المذهب .
وبما أنّ فرقة الشيعة تعتقد بأنّ جميع المطالب والمقاصد موكول نجاحها إلى أكابر مذهبهم وهم يفزعون إليهم في قضاء الحوائج ويستمدّون منهم عند الشدائد سرت هذه الروح أيضاً إلى سائر الفِرق التي اشتركت معهم في تلك الأعمال والأفعال ومن المعلوم أنّ بمجرّد قضاء حاجتهم وبلوغ آمالهم تزداد عقيدتهم بهذا المذهب رسوخاً .
من هذه القرائن والأسباب يمكننا أنْ نقول : لا يمضي على هذه الفرقة زمان قليل إلاّ وتفوق سائر المسلمين من حيث العدد وكانت هذه الفرقة قبل قرن أو قرنَين تلازم التقيّة ـ فيما عدا إيران ـ ؛ نظراً لقلّتهم وعدم قدرتهم على إظهار شعائر مذهبهم . ولكن من يوم استولت الدولة الغربية على الممالك الشرقيّة ومنحت جميع المذاهب الحريّة قامت هذه الفرقة تقيم شعائر مذهبها علناً في كلّ مكان واستفادوا من هذه الحريّة فائدة تامّة حتّى أنّهم تركوا التقيّة .
لهذه الأسباب المذكورة كانت هذه الفرقة أعرف من غيرها بمقتضيات العصر الحاضر وأكثر سعياً باكتساب المعاش وتحصيل المعارف لذلك ترى العمّال في هذه الفرقة أكثر ممّا تراه في سائر فرق المسلمين ؛ لاشتغال الغالب منهم المستلزم لمتابعة غير الغالب مضافاً إلى أنّ مثابرتهم على العمل ممّا توجب احتياج الغير إليهم كما أنّ اختلاطهم مع سائر الفِرق وصلاتهم الوداديّة مع غيرهم تلازم غالباً اشتراك الغير في مجالسهم ومحافلهم فيسمعون اُصول مذهبهم ويصغون إلى كلماتهم وعباراتهم وبتكرار ذلك يأنسون بطريقتهم ومذهبهم .
وهذا هو عمل الدعاة والأثر الذي يترتّب على هذه السيرة هو الأثر الذي يتطلّبه جميع ساسة الغرب في رقي دين المسيح مع تلك المصارف الباهظة .
ومن جملة الاُمور : السّياسة التي أظهرها أكابر فرقة الشيعة بصيغة مذهبيّة منذ قرون وأوجبت جلب قلب البعيد والقريب هو : قاعدة التمثيل باسم الشبيه في مآتم الحسين وقد قرّر حكماء الهند التمثيل لأغراض ليس هذا موضع ذكرها وجعلوه من أجزاء عباداتهم فأخذته أورپا وأخرجته بمقتضى السّياسة بصورة التفرّج وصارت تمثّل الاُمور المهمّة السّياسيّة في دور التمثيل الخاصّة والعامّة وجلبت القلوب بسببه وأصابت بسهم غرضَين : تفريج النّفوس وجلب القلوب في الاُمور السياسيّة والشيعة قد استفادت من ذلك فوائد كاملة وأظهرته بصيغة دينيّة ويمكن القول بأنّ الشيعة قد أخذت ذلك من الهنود .
وكيف كان فالأثر الذي ينبغي أنْ يعود من التمثيل إلى قلوب الخواص والعوام قد عاد ومن المعلوم أنّ تواتر إقامة المآتم وذكر المصائب الواردة على أكابر دينهم والمظالم التي وردت على الحسين مع تلك الأخبار الواردة في فضل البكاء على مصائب آل محمّد إذا انضمّت إلى تمثيل تلك المصائب تكون شديدة الأثر وتوجب رسوخ عقائد خواصّ هذه الفرقة وعوامها فوق ما يتصوّر .
وهذا هو السّبب الذي لَم يسمع من ابتداء ترقّي مذهب الشيعة إلى الآن أنْ ترك بعضهم دين الإسلام أو دخل في سائر الفرق الإسلاميّة .
هذه الفرقة تقيم التمثيل على أقسام مختلفة فتارة في مجالس خصوصيّة وأمكنة معيّنة وحيث أنّ الفرق الاُخرى قلّما تشترك معهم في المجالس اخترعوا تمثيلاً خاصّاً وصاروا يدورون به في الازقّة والطرقات وبين جميع الفرق فتتأثر قلوب جميع الفرق من القريب والبعيد عين الأثر الذي يحصل من التمثيل ولَم يزل هذا العمل يزداد إليه توجّه الأنظار من الخاصّ والعام حتّى قلّد الشيعة فيه بعض الفِرق الإسلاميّة والهنود واشتركوا معهم في ذلك وهو في الهند أكثر رواجاً من جميع الممالك الإسلاميّة كما أنّ سائر فِرق الإسلام هناك أكثر اشتراكاً مع الشيعة في هذا العمل من سائر البلاد .
ويغلب على الظن أنّ اُصول التمثيل بين الشيعة قد تداول في زمن الصفويّة الذين هم أوّل من نال السّلطنة بقوّة المذهب وأجاز العلماء والرؤساء الروحانيّون هذه الاُصول .
ومن جملة الاُمور التي أوجبت رقي هذه الفرقة وشهرتهم في كلّ مكان هو تعرّفهم بمعنى أنّ هذه الطائفة قد جلبت إليها قلوب سائر الفِرق من حيث الجاه والقوّة والشوكة والاعتبار بواسطة المجالس والمآتم والتشبيه واللطم والدوران وحمل الرايات والألوية في عزاء الحسين .
إنّ من المعلوم أنّ كل جمعيّة وجماعة تجلب إليها الأنظار والخواطر بدرجة ما مثلاً لو كان في بلد عشرة آلاف متفرقين وفي محل ألف نفس مجتمعة كانت شوكة الألف المجتمعين وأبّهتهم في أنظار الخاصّة والعامّة أكثر من العشرة آلاف المتفرّقين مضافاً إلى أنّهم لَو اجتمع ألف نفس انضمّ إليهم من غيرهم مثل عددهم إمّا للتفرّج أو لأجل صداقة ورفاقة أو لأغراض اُخرى وبهذا الانضمام تزيد شوكة الألف وقوّتهم في الأنظار وتتضاعف .
الاُمّة بصلاح آخرتها ودنياها اُنبّهك إليها بذكر بعضها واُوكل الباقي إلى فطنتك فمنها : إنّها جامعة إسلاميّة ورابطة إماميّة باسم النّبي وآله (صلّى الله عليه وآله) ينبعث عنها الاعتصام بحبل الله عزّ وجلّ والتمسك بثقلي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفيها من اجتماع القلوب على أداء أجر الرسالة بمودّة القربى وترادف العزائم على إحياء أمر أهل البيت (عليهم السّلام) ما ليس في غيرها .
وحسبك في رجحانها ما يتسنّى بها للحكيم من إلقاء المواعظ والنّصائح وإيقاف المجتمعين على الشؤون الإسلاميّة والاُمور الإماميّة ولو إجمالاً وبذلك يكون أمل العاملي نفس أمل إخوانه في العراق وفارس والبحرين والهند وغيرها من بلاد الاسلام .
ولا تنسَ ما يتهيّأ للمجتمعين فيها من الاطّلاع على شؤونهم والبحث عن شؤون إخوانهم النائبين عنهم وما يتيّسر لهم حينئذ من تبادل الآراء فيما يعود عليهم بالنّفع ويجعلهم كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً أو كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو أنَّت له سائر الأعضاء وبذلك يكونون مستقيمين في السّير على خطّة واحدة يسعون فيها وراء كلّ ما يرمون إليه .
ومنها : إنّ هذه المآتم دعوة إلى الدِّين بأحسن صورة وألطف اُسلوب بل هي أعلا صرخة للإسلام توقظ الغافل من سباته وتنبّه الجاهل من سكراته بما تشربه في قلوب المجتمعين وتنفّثه في آذان المستمعين وتبثّه في العالم وتصوّره قالباً لجميع بني آدم من أعلام الرسالة وآيات الإسلام وأدلّة الدِّين وحجج المسلمين والسّيرة النبويّة والخصائص العلويّة ومصائب أهل البيت في سبيل الله وصبرهم على الأذى في إعلاء كلمة الله .
فاُولوا النظر والتحقيق يعلمون أنّ خطباء هذه المآتم كلّهم دعاة إلى الدِّين من حيث لم يقصدوا ذلك بل لا مبشّر بالإسلام على التحقيق سواهم وأنت تعلم أنّ الموظّفين لهذا العمل الشريف لا يقصّرون في أنحاء البسيطة عن الاُلوف المؤلّفة فلَو بذل المسلمون شطر أموالهم ليوظفوا دعاة إلى دينهم بعدد أولئك الخطباء ما تيسّر ذلك لهم ولو تيسّر فلا يتيسّر من يستمع الدعوة على ممرّ الدهور استماع النّاس لما يتلى في هذه المآتم بكلّ رغبة وإقبال .
ومنها : ما قد أثبته العيان وشهد به الحس والوجدان من بثّ روح المعارف بسبب هذه المآتم ونشر أطراف من العلوم ببركتها إذ هي ـ بشرط كونها على اُصولها ـ أرقى مدرسة للعوام يستضيئون فيها بأنوار الحكم من جوامع الكلم ويلتقطون منها درر السّير ويقفون بها على أنواع العبر ويتلقّون فيها من الحديث والتفسير والفقه ما يلزمهم حمله ولا يسعهم جهله بل هي المدرسة الوحيدة للعوام في جميع بلاد الإسلام .
وقد تفنّن خطباؤها في ما يصدعون به أولاً على أعوادها ثمّ يتخلّصون منه إلى ذكر المصيبة وتلاوة الفاجعة .
فمنهم من يشنف المسامع ويشرف الجوامع بالحكم النبوية والمواعظ العلوية أو يتلو أولاً من كلام أئمة أهل البيت ما يقرب المستمعين إلى الله ويأخذ بأعناقهم إلى تقواه .
ومنهم من يتلو أولاً من سيرة النّبي (صلى الله عليه وآله) وتاريخ أوصيائه (عليهم السّلام) ما يبعث المستمعين على مودّتهم ويضطرّهم إلى بذل الجهد في طاعتهم .
ومنهم مَن ينبّه الأفكار أوّلاً إلى فضل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومقام أوصيائه (عليهم السّلام) بما يسرده من الأحاديث الصحيحة والآيات المحكمة الصريحة .
ومنهم مَن يتلو أوّلاً من الأحكام الشرعيّة والعقائد الدينيّة ما تعمّ به البلوى للمكلّفين ولا مندوحة عن معرفته لأحد من العالمين .
هذه سيرتهم المستمرّة أيّام حياتهم فهل ترى بجدّك للعوام مدرسة تقوم مقامها في جسيم فوائدها وعظيم مقاصدها ؟ لا وسرّ الحكماء الذين بعثوا شيعتهم عليها وحكمة الأوصياء الذين أرشدوا أوليائهم إليها .
ومنها: الارتقاء في الخطابة والعروج إلى منتهى البراعة كما يشهد به الوجدان ولا نحتاج فيه إلى برهان .
ومنها : العزاء عن كلّ مصيبة والسلوة لكلّ فادحة إذ تهون الفجائع بذكر فجائعهم وتنسى القوارع بتلاوة قوارعهم كما قيل في رثائهم (عليه السّلام) :
أنست رزيّتكم رزايانا التي سلفت وهوّنت الرزايا الآتية
ومنها : إنعاش أهل الفاقة وإثلاج أكباد حرّا من أهل المسكنة على الدوام بما ينفق في هذه المآتم من الأموال في سبيل الله عزّ وجلّ وما يبذل فيها لأهل المسغبة وغيرهم وأنت تعلم أنّه لا وسيلة لقرّاء تلك المآتم في التعيّش غالباً إلاّ هذه الوظيفة وهم من الرجال والنّساء ـ بقطع النّظر عمّن يقومون بنفقته ـ اُلوف مؤلّفة يعيشون ببركة أهل البيت ويتنعّمون بيمن مآتمهم (عليهم السّلام) .
ومنها : إنّ المصلحة التي استشهد الحسين بأبي واُمّي ! في سبيلها وسفك دمه الزكي تلقاءها تستوجب استمرار هذه المآتم وتقتضي دوامها إلى يوم القيامة .
وبيان ذلك : إنّ المنافقين حيث دفعوا أهل البيت (عليهم السّلام) عن مقامهم وأزالوهم عن مراتبهم التي رتّبهم الله فيها ظهروا للنّاس بمظاهر النيابة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأظهروا التأييد لدينه والخدمة لشريعته فوقع الالتباس واغترّ بهم أكثر النّاس ولمّا ملكوا من الاُمّة أزمّتها واستسلمت لهم برمّتها حرّموا ـ والنّاس في سِنة عن سوء مقاصدهم ـ من حلال الله ما شاؤوا وحلّلوا من حرامه ما أرادوا وعاثوا في الدِّين وحكموا في القاسطين فسمّلوا أعين أولياء الله وقطّعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبوهم على جذوع النّخل ونفَوهم عن عقر ديارهم حتّى تفرّقوا أيدي سبا ولَعنوا أمير المؤمنين (عليه السّلام) وكنّوا به عن أخيه الصادق الأمين (صلّى الله عليه وآله) .
فلَو دامت تلك الأحوال وهم أولياء السّلطة المطلقة والرئاسة الروحانيّة لما أبقوا للإسلام عيناً ولا أثراً لكن ثأر الحسين (عليه السّلام) فادياً دين الله عزّ وجلّ بنفسه وأحبّائه حتّى وردوا حياض المنايا ولسان حاله يقول :
إن كان دين محمّد لم يستقم إلاّ بقتلي يا سيوف خذيني
فاستنقذ الدين من أيدي الظالمين وانكشف الغطاء بوقوع تلك الرزايا عن نفاق القوم حتى تجلت عداوتهم لله عز وجل وظهر انتقامهم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذ لم يكتفوا بقتل الرجال من بنيه عطاشاً والماء تعبث فيه خنازير البرّ وكلابه ولم يقنعوا بذبح الأطفال من أشباله أحياء وقد غارت أعينهم من شدّة العطش ولا اكتفوا باستئصال العترة الطاهرة ونجوم الأرض من شيبة الحمد حتّى وطأوا جثثهم بسنابك الخيل وحملوا رؤوسهم على أطراف الأسنّة وتركوا أشلاءهم الموزّعة عاريةً بالعراء مباحةً لوحوش الأرض وطير السّماء .
ثمّ أبرزوا ودائع الرسالة وحرائر الوحي مسلبات وطافوا البلاد بهنّ سبايا كأنّهن من كوافر البربر حتّى أدخلوهنّ تارة على ابن مرجانة واُخرى على ابن آكلة الأكباد وأوقفوهنّ على درج الجامع في دمشق حيث تباع جواري السبي .
فلم تبقَ بعدها وقفة من عداوتهم لله ولا ريبة بنفاقهم في دين الإسلام .