انّ الاشادة بذكر عظماء الرجال مما جرى عليه العقلاء شكرا لجميلهم الذي أسدوه الى الأمة وتنشيطا لمن بعدهم وتشويقا لهم على أن ينهضوا بمثل أعمالهم ، وحتى يكون ذلك فاتحة لنشر تعاليمهم ، وتلقي علومهم ، واقتفاء آثارهم في الأخلاق والحكمة والتذكير بمبادئهم الملائمة للإصلاح ، وتوطيد السلام والوئام ، وما فيه جمام النفس وهدوء المجتمع ، وسعادة البشر دنيا وآخرة.
ولو علم الناس ما في الأخذ بالتعاليم الأحمدية ، وأن الاحتذاء على أثر آل محمد يعود عليهم بالزلفى المباركة لسروا اليهم ، وانسابوا الى ساحتهم ولو حبواً على الركب فإن عندهم المثل العليا ، والحكم البالغة ، والغرائز الكريمة والتعاليم الكافلة لرقي الجامعة الإسلامية ، وتهذيب أفراد المجتمع الحافظ لها عن الملاشاة والتقهقر ، ولعادت أمة الإسلام أرقى الأمم ، وأطولها باعا ، وأبسطها يدا ، غير أن خسة الطباع ، وقصر النظر وضؤولة التفكير وقفت بهم عن السعادة في الحياة.
وغير خفيّ أن داعية الحسين مسلم بن عقيل من أولئك الرجال الذين يجيب أن يخلّد ذكرهم ويقتصّ أثرهم فهو صريخة هاشم ، وسريّ من سروات المجد من آل محمد ، وقد استصلحه سيد الشهداء للنيابة عنه في الكوفة ثقة منه بعلمه وتقواه وعقله وبسالته وكرمه ، فأقبل (عليه السلام) ناشرا لواء العدل ليكتسح الجور ويكبح جماح الضلال بيد أن نزعات الباطل حالت دون إقامته الأمت وتثقيفه الإود ، فاستشهد دون إكمال رسالته ، ولكنه خلف من بعده هتافا عاليا يسمع الصخر الأصم وعقيرته مرتفعة بين لابتي العالم تعيها إذن واعية بأن الحق في دعوة سيد الشهداء ، وأن الباطل فيمن ناوأه ، وانّ مبدأ صحيحا كهذا يجب أن يضحى دونه النفس والنفيس ، ويرخص في سبيله ذلك الدم الغالي الزاكي « دم مسلم بن عقيل » ومن يحذو حذوه من المجاهدين أعضاد الحفاظ الديني وراود الصالح المدني.
المأتم :
فمن الاحتفال بأمره الكاشف عن الخضوع لخطّته والمصافقة على ارتياد مبدئه عقد المأتم له ، وتذكار ما تلفع به من مكارم الأخلاق ، وما جرى عليه من الكوارث على حد فضله الكثار ، وقد قابل تلكم المحن بالصبر والثبات فلم يعط سرىّ هاشم وليث أبي طالب المقادة عن ذلة ، ولا نكص على عقبه فرقا ، ولم يفتأ مكافحا كما شاء له الحفاظ حتى أمسى رافلا بحلة الشهادة بين ذلك الجيل القدسي الزاهر.
فعلى مثل مسلم فليبك الباكون ، وليضجّ الضاجون ، كيف لا وقد بكى عليه الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله) قبل أن يُقتل وعد البكاء عليه من علائم الإيمان كما في حديث ابن عباس :
انّ أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) قال لرسول الله : « أتحب عقيلا؟ » قال :
« اي والله أحبه حبين حبا له وحبا لحب أبي طالب له ، وإن ولده لمقتول في محبة ولدك تدمع عليه عيون المؤمنين وتصلي عليه الملائكة المقربون » ثم بكى رسول الله وقال : « الى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي (1) ».
وهذا النص كاف في رجحان البكاء عليه لمن يتطلبه بالخصوص فإن إخبار النبي عن بكاء المؤمنين عليه وارد لبيان كونه محبوبا له لأنه رتّبه على شهادة مسلم المسببة عن محبة الحسين ، ثم قرن البكاء بصلاة الملائكة المقربين ، وهل يصح القول بأن صلاة الملائكة عليه غير محبوبة لله سبحانه؟ فإذا بكاء المؤمنين وصلاة الملائكة على مسلم المترتّان على شهادته مما يرغب فيه الرسول وهو محبوب لله سبحانه.
ولفظ الحديث وان لم يذكر فيه مسلم صريحا لكنا نعلمه من أفراد لفظ القتل في قوله « وان ولده لمقتول » ولو كان يريد أولاد أجمع لقال : « وان ولده لمقتولون » ثم تعقيبه بالضمائر المفردة شاهد آخر.
على أن النبي بكى عليه قبل شهادته وبكاؤه حجة في الرجحان ولو لم يقترن براجح آخر ، فكيف وقد قرنه بالشكوى الى الله تعالى مما تلقاه عترته من بعده.
ثم أن الأحاديث العامة في البكاء لمن تذكّر مصابهم وما جرى عليهم من الظلم كافية في رجحان البكاء عليه ؛ ففي بعضها عن الصادق (عليه السلام) :
« من دمعت عينه فينا دمعة لدم سُفك لنا أو حق لنا نقصناه ، أو عرض انتهك منا أو لأحد من شيعتنا بوّأه الله بها في الجنة حقبا. »
ويقول لفضيل :
« من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له »
وفي حديث الأربعمائة أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال :
« إن الله تعالى اطلع الى الأرض فاختارنا واختار لنا شيعة ينصروننا ، ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ، يبذلون أموالهم وأنفسهم فينا أولئك منا والينا. »
ومن هذا العموم نستفيد رجحان البكاء على أولاد المعصومين أيضا ممن كانت نهضته وهتافه بين الأمة لإحياء أمر الأئمة والدعوة اليهم حتى جرى عليهم من الظلم بإزهاق النفوس والتنكيل بالحبوس ما تسيخ له الجبال. فاستدرار الدموع لمظلومية هؤلاء المتسببة عن مظلومية أهل البيت يكون مشمولا لهذه الأحاديث قطعا.
الزيارة :
ومن الاحتفال بأمر مسلم (عليه السلام) قصد مشهده بالزيارة خصوصا يوم مقتله وهو التاسع من ذي الحجة وتلاوة ألفاظ الزيارة المأثورة التي نص عليها العلماء الثقات كابن المشهدي الذي هو من أعيان القرن السادس ، والشريف النقيب رضي الدين ابن طاووس الذي هو من أعيان القرن السابع. فقد ذكر الأول في « المزار الكبير » والثاني في « مصباح الزائر » اذنا للدخول في الحرم المطهر وأوله :
« الحمد لله الملك الحق المبين ، المتصاغر لعظمته
جبابرة الطاغين ، المعترف بربوبيته جميع أهل السموات والأرضين ، المقر بتوحيده سائر
الخلق أجمعين ، وصلى الله على سيد الأنام وأهل بيته الكرام صلاة تقرّبها أعينهم ، ويرغم بها أنف شانئهم من الإنس والجن أجمعين.
سلام الله العلي العظيم ، وسلام ملائكته المقربين ، وأنبيائه المرسلين ، وأئمته المنتجبين ، وعباده الصالحين ، وجميع الشهداء والصديقين والزاكيات الطيبات فيما تغتدي وتروح عليك يا مسلم بن عقيل بن أبي طالب ، ـ الى قوله ـ : قتل الله أمة قتلتكم بالأيدي والألسن.
وأما الزيارة في داخل الحرم فأولها :
السلام عليك أيها العبد الصالح ، المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين : ، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله ، ـ الى قوله ـ : فجمع الله بيننا وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين فإنه أرحم الراحمين.
وبعد الفراغ من الزيارة يصلي ركعتين ويهديهما له. ويقول بعد الفراغ منهما :
اللهم صل على محمد وآل محمد ، ولا تدع لي ذنبا إلا غفرته ـ الى قوله ـ : إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.
وعند وداعه يقف على القبر ويقول :
أستودعك الله وأسترعيك ، وأقرأ عليك السلام ـ الى قوله ـ : فإني قد رضيت بذلك يا رب العالمين.
وقد اتفق هذان العالمان على هذه الآداب والسنن في مزاريهما اللذين لم يزالا مخطوطين حتى اليوم ، إلا في إبتداء سلام الإذن فقد ابتدأ ابن المشهدي من قوله : سلام الله العلي العظيم وسلام ملائكته المقربين.
ومن أراد الوقوف عليهما فلينظر مزار البحار للمجلسي ـ أعلا الله مقامه ـ فقد طابقنا « المزارين » مع ما نقله عنهما فلم يكن فيه تغيير (2).
وإن في ذلك من التّنوية بمقامه الرفيع وموقفه الشامخ وفضله الجم ، ومصائبه المؤلمة ما يلين الأفئدة ويستدرّ الدموع ، ويوصل إلى ما وصفناه من الغايات الكريمة ، وظاهر تلكم الآداب والسنن كونها مأثورة لأن سردها مرتّبة كما في زيارات المعصومين : لا يمكن صدوره من علماء الدين بلا تخريج عن الأئمة بحيث يكون
الداعي الى ترتيب تلك الآداب محض الإستحسان والمناسبة ، لأن في الإقدام على هذا بعنوان أنه من الشريعة يستلزم الوقوع في ورطة البدعة التي لا تقال عثرتها ، وحاشا علماء المذهب الصحيح ارتكاب ما لم يرد من الشرع ؛ كيف وهم يقرؤون ليلهم ونهارهم قول الرسول (صلى الله عليه واله) :
« كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. »
ومما يشهد لذلك أن الشيخ الكليني يقول في خطبة كتاب « الكافي » : وقلت أنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع جميع فنون الدين بالآثار الصحيحة عن الصادقين : ، والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدّي فرض الله وسنة نبيه ، وقد يسر الله وله الحمد تأليف ما سألت.
وقال الشيخ الصدوق في أول « من لا يحصره الفقيه » : إني لم أقصد قصد المصنفين في ايراد جميع ما رووه بل قصدت الى ايراد ما أفتى به ، وأحكم بصحته ، وأعتقد أنه حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع.
وقال ابن الشمهديّ في أول « المزار الكبير » : إني جمعت في كتابي هذا من فنون الزيارات للمشاهدة ، وما ورد من الترغيب في المساجد المباركة والأدعية المختارة ، وما يدعى به عقيب الصلوات ، وما يناجى به القديم تعالى من لذيذ الدعوات ، وما يلجأ اليه من الأدعية عند المهمات مما اتصلت به من ثقات الرواة الى السادات الأطهار.
وقال الشريف النقيب ابن طاووس في آخر « مصباح الزائر » : ان ما وقع اختياره عليه في الكتاب وصل على الوجه الذي استحسنته وأعتمد عليه من جهة الرواية.
وان ما ذكرناه في ترجمة الشريف المطبوعة في كتابه « الملاحم » تفيد القارئ معرفة بجلالته وسعة اطلاعه ومقامه عند العلماء ، واما ابن المشهدي فهو أبو عبدالله محمد ابن جعفر بن جعفر المشهدي الحائري ، ووصفه بهما صاحب المعالم في إجازته الكبيرة ، كان ـ أعلا الله مقامه ـ جليلا في الطائفة ، متبحّزا في أخبار أهل البيت ، واسع الرواية ، عظيم المنزلة بين العلماء ، متكرر الذكر في الإجازات.
روى عن جماعة يزيدون على اثنين وعشرين منهم يحيى بن البطريق ، والشيخ ورّام صاخب « تنبيه الخاطر » ، وهبة الله بن نما الحلي ، والسيد عز الدين ابن زهرة ، وشاذان بن جبرئيل القمي الى غيرهم.
وروى عنه محمد بن جعفر بن هبة الله بن نما بن علي بن حمدون الحلي المعروف بابن نما على الإطلاق ، وذكر أن والده أجاز له أن يروي كتاب المقنعة للشيخ المفيد عنه ، عن محمد بن جعفر بن المشهدي ، وكان ابن المشهدي يقول : قرأتها ولم أبلغ العشرين على الشيخ ابي منصور محمد بن الحسن بن منصور النقاش الموصلي ، وهو طاعن في السن وأخبره : أنه قرأها في أول عمره على الشريف النقيب المحمدي الموصلي وهو طاعن في السن ، وأخبره : أنه قرأها في أول عمره على المصنف الشيخ المفيد ـ أعلا الله مقامه ـ.
ولم نقف على تحديد عمر ابن المشهديّ بالتحقيق غير أنه أرّخ سماعه في مجلس عماد الدين الطبري بسنة ثلاث وخمسين وخمسمائة في مشهد أمير المؤمنين وإجازته من ابن الحمد النحوي في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة ، وقراءته على الشيخ عربي بن مسافر ، وهبة الله بن نما بن علي بن حمد في سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة في ربيع الأول فهو من علماء القرن السادس.
له كتاب المصباح وايضاح المناسك والمزار الكبير الذي ينقل عنه السيد ابن طاووس في كتبه ، والسيد عبدالكريم في « فرحة الغريّ » ، وصاحب المزار القديم وهو من مصادر « بحار الأنوار » لشيخنا المجلسي ـ أعلا الله مقامه ـ. (3)
الشعر :
ومن الاحتفال بأمر مسلم (عليه السلام) تأبينه بسرد مآثره وبث فوادحه لتكون خالدة مع الدهر يرتل سطور نهضته الجديدان ، وتسير بها الركبان وتضمها طيّات الكتب وصحائف المجاميع ، وتشدو بها خطباء المنابر ، وتصيخ إليها الأسماع ، وتعيها إذن واعية ، فتتأثر بها النفوس ، وترقّ لها القلوب ، وبها يكون الولاء لمسلم (عليه السلام) مزيج روحية الملأ المستتبع لتحرّي مبادئه الصحيحة التي ضحّى نفسه لانتشارها ، وتمهيد الطريق اليها ، وأول من وقفنا عليه مما رُثي به قول شاعره :
فإن كن تَ لا تدرين ما الموت فانظري
إلى هانىء في السوقَ وابن عقيلَ
إلى بطل قد هشّم السيف أنفهُ
وآخر يهوي من طمار قتيل
أصابهما أمر الأمير فأصبحا
أحاديث من يسري بكل سبيل
ترى جسدا قد غيّر الموت لونه
ونضح دم قد سال كل مسيل
فتى هو أحيا من فتاة حييّة
وأقطع من ذي شفرتين قتيل
أيركب أسماء الهماليج آمنا
وقد طلبته مذحج بذحول
تطوف حواليه مراد وكلهم
على رقبة من سائل ومسولِ
فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم
فكونوا بغايا أرضيت بقليل
وهذه الأبيات نسبها في رياض المصائب ص268 الى الفرزدق ، وفي اللهوف ص32 صيدا ، وكامل ابن الاثير ج4 ص15 قيل : أنها للفرزدق ، وزاد في اللهوف : أن بعضهم يراها لسليمان الحنفي ، ونسبها الدينوري في الأخبار الطوال ص242 الى عبدالرحمن بن عبدالله الأسدي ، وفي البداية والنهاية لابن كثير ج8 ص157 نسبها إلى الشاعر ، وفي نقله أنها قصيدة ولكنه ذكر منها خمسة أبيات ، وعند ابن الأثير في الكامل ، وأبي الفرج في المقاتل ، والشيخ المفيد ، وابن نما : أنها لعبد الله بن الزبير الأسدي (4).
ولكن في نص الأغاني ج13 ص31 : أن عبدالله بن الزبير من شيعة بني أمية وذي الهوى فيهم والتعصب والنصرة على عدوهم ،وأنه لا يمالئ أحدا عليهم ولا على عمالهم ، وكان عبيد الله بن زياد يصله ويكرمه ويقضي ديونه وله فيه مدائح منها :
اليك عبيد الله تهوى ركابنا
تعسّف مجهول الفلاة وتدأب
وقد ضمرت حتى كأن عيونها
نطاف فلاة ماؤها متصبّب
فقلت لها لا تشتكي الأين أنه
أمامك قرم من أمية مصعب
إذا ذكروا فضل امرئ كان قبله
ففضل عبيدالله أثرى وأطيب
وإنك لو نشفي بك القرح لم يعد
وأنت على الأعداء ناب ومخلب
تصافى عبيدالله والمجد صفوة
الحليفين ما أرسى ثبير ويثرب
وأنت إلى الخيرات أول سابق
فأبشر فقد أدركت ما كنت تطلب
ويقول في مدح اسماء بن خارجة وكان يكرمه ويصله :
فمن مثل أسماء بن حصن اذا عدتْ
شآبيبه أم أي شيء يعادله
وكنت إذا لاقيت منهم حطيطة
لقيت ابا حسان تندى أصائله
تضيّفه غسان يرجون سيبه
وذو يمن اجيوشهُ ومقاوله
فتى لا يزال الدهر ما عاش مخضبا
ولو كان بالموتان يجدي رواحله
فأصبح ما في الأرضِ خلق علمتِه
من الناسِ إلا باعُ أسماء طائُله
تراهُ اذا ماجئتَه متهلّلاً
كأنّك تعطيهِ الذي أنتَ نائلُه
ولوْ لمْ يكنْ في كفّهِ غيرُ روحهِ
لجادَ بها فَلْيتّقِ الله سائله
ترى الجندَ والأعرابَ يغشونَ بابَهُ
كما وردتْ ماء الكلاب نواهلهُ
اذا ما أتوا أبوابَهُ قالَ مرحباً
لجوا البابَ حتّى يقتلَ الجوعَ قاتلُه
ترىَ البازلَ البختى فوقَ خوانِه
مقطّعةً أعضاؤهُ ومفاصلُه
إذا ما أتوا أسماءَ كان هوَ الذي
تحلّبُ كفاهُ الندَى وأناملُه (6)
وهل يستطيع أحد بعد مدائحه وعقيدته ونزعته الأموية أن ينسب الأبيات إليه خصوصا ، وقد ذكر أبو الفرج أن أسماء بن خارجة له ذكر قبيح عند الشيعة يعدّونه في قتلة الحسين ، ومعاوناً لعبيد الله بن زياد على هاني بن عروة حتى قتله ، ونصره على مسلم بن عقيل وذكر ذلك شاعرهم فقال (7) :
أيركب أسماء الهماليج آمنا
وقد طلبته مذحج بقتيل
فنسب هذا البيت وهو في جملة تلك الأبيات الى شاعر الشيعة وقد عرفت أن عبد الله بن الزبير أموي الرأي ومادحا ليزيد بن معاوية وليس من شيعة آل علي.
نعم ، نسبة تلك الأبيات الى الفرزدق قريبة جدا لتشيّعه وموالاته الأكيدة لآل علي (عليه السلام) والذّب عنهم وهجاء من عاداهم ، وكونه حاجّا بأمه سنة ستين لا يدفع نسبتها إليه ؛ إذ من القريب أنه أنشأها بعد رجوعه من الحج وقد بلغه فعل الدعي ابن مرجانة بعترة الرسول ومن آواهم ولبّى دعوتهم.
وقد أكثر العلماء والأدباء باللغة الفصحى والعامية في التعريف بما لابن عقيل من نفسية قدسية ، وما حواه من فضائل وفواضل أهلته للنيابة الخاصة عن خليفة الله في أرضه ، وما أبداه من بسالة حينما كشفت الحرب عن ساقها وكشرت عن نابها فقابل بمفرده أولئك الجماهير من أعدائه « في موقف لو به أرسي سهلان لزالا » حتى أكثر القتلى وضجّت الكوفة بأهلها ، وكان لهتافه المعرب عن ثباته وإيمانه دويٌّ في أرجائها.
وممن بادر للفوز بالرضوان الأكبر سيد العلماء المحققين وقدوة الفقهاء الراسخين الآية الكبرى السيد محمد مهدي بحر العلوم الطباطبائي أعلا الله درجته ونوّر ضريحه ، فقال (8) :
عين جودي لمسلم بن عقيل
لرسول الحسين سبط الرسول
لشهيد بين الأعادي وحيد
وقتيل لنصر خير قتيل
جاد بالنفس للحسين فجودي
لجواد بنفسه مقتول
فقليل من مسلم طلُّ دمع
لدم بعد مسلم مطلول
أخبر الطهر أنه لقتيل
في وداد الحسين خير سليل
وعليه العيون تسبل دمعا
هو للمؤمنين قصد السبيل
وبكاه النبي شجوا بفيض
من جوى صدره عليه هطول
قائلاً : إنني إلى الله أشكو
ما ترى عترتي عقيب رحيلي
فابك من قد بكاه أحمد شجوا
قبل ميلاده بعهد طويل
وبكاه الحسين والآل لما
جاءَهُم نعيُهُ بدمعٍ همولِ
كان يوما على الحسين عظيما
وعلى الآل أي يوم مهول
منذرا بالذي يحل بيوم
بعده في الطفوف قبل الحلول
ويح ناعيه قد أتى حيث يرجى
أن يجيء البشير بالمأمول
أبدل الدهر بالبشير نعيا
هكذا الدهر آفة من خليل
فأحثّوا الركاب للثأر لكن
ثأروه بكل ثأر قتيل
فيهم ولْدُه وولْد أبيه
كم لهم في الطفوف من مقتول
خصّه المصطفى بحبّين حبٍّ
من أبيه له وحب أصيل
قال فيه الحسين أي مقال
كشف الستر عن مقام جليل
ابن عمي أخي ومن أهل بيتي
ثقتي قد أتاكم ورسولي
فأتاهم وقد أتى أهل غدر
بايعوه وأسرعوا في النكول
تركوه لدى الهياج وحيدا
لعدو مطالب بذحول
لست أنساه اذ تسارع قوم
نحوه من طغاة كل قبيل
وأحاطوا به فكان نذيرا
باقتحام الرجال وقع الخيول
صال كالليث ضاربا كل جمع
بشبا حد سيفه المسلول
واذا اشتد جمعهم شد فيهم
بحسام بقرعهم مفلول
فنرأى القوم منه كر عليّ
عمه في النزال عند النزول
وقال في الإعتذار عن أداء الحق :
يابن بنت النبي ان فات نصري
يوم طعن القنا ووقع النصول
فولائى دليل إني قتيل
فيك لو كنت بدء كل قتيل
باذلا مهجتي وذاك قليل
في وداد البتول وابن البتول
مقولي صارم وليس كليلا
وهو في ذا المصاب جد كليل
وقصارى فيه جهد مقل
منك يرجو قبول ذاك القليل
ما إلى رزئك الجليل سبيل
فإلى « مسلم » جعلت سبيل
إن يكن لي بكل عضو لسان
ما وفى لي « بمسلم بن عقيل »
ولحجة الإسلام آية الله الشيخ عبدالحسين صادق العاملي المتوفى سنة 1361هـ بالنبطيّة :
سل كوفة الجند مُذ ماجت قبائلها
تسد ثغر الفضا في سيلها العرم
غداة زلّت عن الإسلام فاتكة
« بمسلم » حين أضحى ثابت القدم
فقام وهو بليغ الوعظ ينذرهم
بالمرهفين غراري صارم « وفم »
لم أنسه وهو نائي الهم حين سرى
من يثرب يملأ البيداء بالهمم
عجلان اقلقل أحشاه البسيطة في
إرقالة من بنات الأينق الرسم
طوع « ابن فاطمة » أم العراق على
علم بأن أمام السير سفك دم
جذلان نفس سرى والموت غايته
أفديه من قادم للموت مبتسم
يرى المنية من دون ابن حيدرة
أشتهى له من ورود الماء وهو ظمي
هامت به البيض تقبيلا وهام بها
ضربا وكل بغير المثل لم يهم
فكم تحلب من أخلاف صارمه
موت زؤام وحتف غير منخرم
وكم تلمظ بالأبطال أسمره
غداة أطعمه أحشاء كل كمي
كبا به القدر الجاري وحان له
من الشهادة ما قد خُطّ بالقلم
فراح ملتئما بالسيف مبسمه
أفديه من مبسم بالسيف ملتئم
وحلقت نفسه للخلد صاعدة
غداة في جسمه وجه الصعيد رمي
لله من مفرد أمست توزّعه
جموعهم بشبا الهندية الخذم
أضحى تريب المحيا الطلق ما مسحت
عنه غبار النفا كف لذي رحم
ما الشمس في بهجة الإشراق ناصعة
تحكي محيّاه مخضوبا بفيض دم
ما شد لحييه من عمرو العلى أحد
كلا ولا ندبته الأهل من أمم
نائي العشيرة منبوذ بمصرعه
مترّب الجسم من قرن إلى قدم
من مبلغ السبط أن الدهر فلّ له
من الصوارم أمضى مرهف خذم
لا البيض من بعده حمر مناصلها
ولا القنا بعده خفاقة العلم
لآية الله الحجة الشيخ محمد حسين الاصفهاني المتوفي سنة1361 بالنجف:
يا ربي المحمود في فعاله
صل على محمد وآله
وصل بالإشراق والأصيل
على الإمام من بني عقيل
أول فاد فاز بالشهادة
وحاز أقصى رتب الشهادة
أول رافع لراية الهدى
خص بفضل السبق بين الشهدا
درة تاج الفضل والكرامة
قرة عين المجد والشهامة
غرة وجه الدهر في السعادة
فإنه فاتحة السعادة
كفاه فخرا منصب السفارة
وهو دليل القدس والطهارة
كفاه فخرا شرف الرسالة
عن معدة العزة والجلالة
وهو أخ ابن عمه المظلوم
نائبه الخاص على العموم
وعينه كانت به قريرة
حيث رآه نافذ البصيرة
لسانه الداعي الى الصواب
بمحكم السنة والكتاب
منطقه الناطق بالحقائق
فهو ممثل الكتاب الناطق
له من العلوم ما يليق به
بمقتضى رتبته ومنصبه
يمينه في القبض والبسط معا
فما أجل شأنه وأرفعا
فارس عدنان وليث غابها
وسيفها الصقيل في حرابها
بل هو سيف السبط سيف الباري
وليثُُ غاب عترة المختار
أشرق كوفان بنور ربها
مذحل فيها رب أرباب النهى
بايعه من أهلها ألوف
والغدر منهم شائع معروف
ثباته من بعد غدر الغدرة
ثبات عمه أمير البررة
بل هو في وحدته وغربته
كعمه في بأسه وسطوته
له من الشهامة الشماء
ما جاز حد المدح والثناء
أيامه مشهودة معروفة
يعرفها أبطال أهل الكوفة
كم فارس غدا فريسة الأسد
كم بطل فارق روح الجسد
وكم كمي حد سيفه قضى
على حياته كمحتوم القضا
وكم شجاع ذهبت قواه
وذاب قلبه إذا رآه
شد عليهم شدة الليث الحرب
قرت عيون آل عبدالمطلب
بل عين عمه العلي قدرا
إذ هو بالبارق أحيى « بدرا »
ذكر يوم « خيبر وخندق »
بصولة تبيد كل فيلق
تكاثروا عليه وهو واحد
لا ناصر له ولا مساعد
رموه بالنار من السطوح
لروحه الفداء كل روح
حتى إذا أثخن بالجراح
واشتد ضعفه عن الكفاح
لم يظفروا عليه بالقتال
فاتخذوا طريق الإحتيال
فساقه القضا إلى « الحفيرة »
أو ذروة القدس من الحظيرة
أصبح « مسلم » أسير الكفرة
تعسا وبؤسا للئام الغدرة
كان أميرا فغدا اسيرا
كذاك شأن الدهر أن يجورا
أدخل مكتوفا علي ابن العاهرة
عذّبه الله بنار الآخرة
أسمعه سبا وشتما فاحشا
رماه باطلا بما يدمي الحشا
وما اشتفى من مسلم بما لقي
حتى اشتفى منه بضرب العنق
وبعده رماه من أعلا البنا
فانكسرت عظامه وأحزنا
وشد رجلاه ورجلا هاني
بالحبل يا للذل والهوان
فأصبحا ملعبة الأطفال
بالسحب في الأسواق بالحبال
فلْتبكه عين السما دما فما
أجل رزء « مسلم » وأعظما
وقد بكاه السبط حينما نعي
إليه « مسلـم » بقلب موجـع
فارتجت الأرجـاء بالبكاء
على عميد الملـة البيضاء
واهتزّ عرش الملك الجليل
على فقيد الشرف الأصيل
وناحـت العقول والأرواح
لما استحلّـوا منه واستباحـوا
صُبّت دموع خاتـم النبوة
على فقيد المجد والفتوة
بكاه عمه علـى مصابـه
وحق أن يبكي دماً لما به
بكـى على غربته آل العبا
وكيـف لا وهو غريب الغربا
ناحت عليه أهل بيت العصمة
فيا لهـا من ثلمة ملمة
للعلامة الحجة السيد رضا الهندي المتوفى سنة 1362 (9) :
لو أن دموعي استهلّت دما
لما أنصفت بالبكا « مسلما »
قتيـل أذاب الصفا رزؤه
وأحـزن تذكاره « زمزما »
وأورى الحجون بنار الشجون
وأبكى المقام وأشجى الحمىَ
أتى أرضَ كوفـانَ في دعوةٍ
لها الأرضُ خاضعـةٌ و السما
فلبوا دعاهُ وأمّوا هداه
لينقذهم من عشاء العمي
وأعطوه من عهدهم ما يكـادُ
إلى السهل يستدرجُ الأعصما
وما كان يحسب وهو الوفـيُّ
أن ينقضوا عهده المبرمَا
فديتُكَ من مفـرد أسلموه
لحكم الدّعيِّ فما استسلما
وألجأه غدرهـم أن يحلّ
في دار « طوعة » مستسلمَا
فمذ أقحموا منه في دارها
عريناً أبى الليث أن يقحمـا
أبان لهم كيف يضرى الشجاع
ويشتد بأسا إذا أسلما
وكيف تهبّ أسود الشرى
إذا رأت الوحوش حول الحِمى
وكيف تفرّق شهـب البزاة
بغاثا تطيـف بها حوّما
ولما رأوا بأسه لايطاق
وماضيه لايرتوي بالدما
أطلّوا على شرفـات السطوح
يرمونه الحطب المضـرما
ولولا خديعتُهم بالأمان
لما أوثقـوا ذلـك الضيغما
وكيف يحس بمكر الأثيـم
من ليس يقترف المأثما
لئن ينسني الدهر كل الخطوب
لم ينسني يومك الأيوما
أتوقف بيـن يـدي فاجر
دعي إلى شرهم منتمى
ويشتـم اسرتك الطاهرين
وقد كان أولى بأن يشتمـا
وتقتل صبرا ولا طالب
بثأرك يسقيهم العلقما
وترمى إلى الأرض من شاهق
ولم تـرم أعداك شهب السمـا
فإن يحطموا منك ركن الحطيم
وهدوا من البيت ما استحكمـا
فلست سوى المسك يذكو شذاه
ويـزداد طيبا إذا حطما
فإن تخل كوفـان من نادب
عليـك يقيم لك المأتما
فإن ضبا الطالبيين قـد
غدت لك بالطّف تبكي دما
زهى منهم النقـع في أنجم
أعادت صباح العدى مظلما
وللعلامة السيد باقر نجل آية الله الحجة السيد محمد الهندي ـ قدس الله تربتهما ـ أبياتا سبعة ، وصدرها الخطيب الفاضل الشيخ قاسم الملا الحلي بثلاثة عشر بيتا وذيّلها بأربعة أبيات ، وأتمها العالم الشيخ محمد رضا الخزاعي بتسعة أبيات.
الشيخ قاسم الملآ :
لحيّكم مهجتـي جانحـهْ
ونحوكم مقلتي طامحـهْ
واستنشق الريح إن نسّمـت
فبالأنف من نشركم نافحـهْ
وكم لي على حيّكـم وقفـةً
وعيني في دمعها سـابحـهْ
تعاين أشباح تلك الـوجـوه
فلا برحت نحوكم شابحـهْ
وكم ظبياتٍ بها قـد رعـتْ
بقيصوم قلبي غدت سارحهْ
تقصت ومن لي بها لو تعودُ
فكيف وقد ذهبت رائحهْ
وعدّت غريبا بتلك الديار
أرى صفقتي لم تكن رابحهْ
كما عاد « مسلم » بين العدى
غربيا وكابدهـا جائحهْ
رسـول حسين ونعم الرسول
إليهـم من العترة الصالحهْ
لقد بايعوا رغبة منهمُ
فيا بؤس للبيعة الكاشحهْ
وقد خذلـوه وقد أسلموه
وغدرتهـم لم تزل واضحة
فيا ابن عقيـل فدتك النفوس
لعظم رزيتـك الفادحة
لنبك لها بمـذاب القلوب
فما قـدر أدمعنا المالحة
السيد باقر الهندي ; :
بكتك دمـا يا ابن عم الحسين
مدامع شيعتـك السافحـه
ولا برحت ها طلات العيون
تحييـك غادية رائحه
لأنك لم ترو مـن شربة
ثناياك فيها غـدت طائحه
رموك من القصر إذ أوثقوك
فهل سلمت فيك من جارحـه
وسحبا تجرّ بأسواقهم
ألست أميرهم البارحه
أتقضي ولم تبكك الباكيات
أما لك في المصر من نائحـه
لئن تقضي نحبا فكم في زرود
عليك العشية من صائحة
الشيخ قاسم الملآ :
وكم طفلة لك قد أعولـتْ
وجمرتها في الحشا قادحهْ
يعززها السبط في حجره
لتغدو في قربه فارحهْ
فأوجعها قلبهـا لوعةً
وحسّتْ بنكبَتِها القارحـهْ
تقول مضى عم منّي أبي
فمن ليتيمتهِ النائحهْ (10)
الشيخ محمد رضا الخزاعي (11) :
ثكول تبيـت بليل اللّسيع
تعج وعن دارهـا نازحهْ
وكم من كميّ بأحشائه
تُركت زناد الأسى قادحَهْ
دريت ابن عمك يوم الطفوف
نعـاك باسرته الناصحهْ
تحفُّ بـه منهم فتيةٌ
صبـاحٌ وأحسابُهُـم واضحَهْ
بكاكَ بماضـي الشّبا والوغَى
وجوهُ المنايا بهـا كالحهْ
أقامَ بضـرب الطلى مأتماً
عليكَ وبيض الضبـا نائحهْ
ونادى عشيرتَكَ الأقربين
خذ الثأرَ يا أسرةَ الفاتحَهْ
وخاضَ بهم في غمار الحتوفِ
ولكنهما بالضّبـا طائحهْ
وقالَ لها : يا نزارُ النّزالِ
فحربُك في جدها مارحَهْ
وقال العلامة الحجة ميرزا محمد علي الأوردباديّ الغرويّ :
وافى بمنقطـع البيـان ثناؤه
بطل على الجـوزاء رفّ لـواؤهُ
وعلى السماك محلهُ شرفاً وإنْ
يكُ فـي الصعيدِ يلفّهُ بوغاؤهُ
الباسـط العدل المهيب جـوارهُ
والواسع الوفر الرحيب فناؤهُ
قد أخضل الوادي بمـرزم سيبـهِ
وأضاء في النادي الرهيب بهـاؤهُ
لم تدر يوم تبلّجتْ أنوارهُ
أذكاً تضيءُ الأفقُ أم سيمـاؤهُ
هو نقطة المجد الأثيل تألّفتْ
منها غدات تكثّـرتْ أجزاؤهُ
ولـه بأعلام النبوة مفخرٌ
قد نيطَ بالإيمان فيه بكاؤهُ
وبعين جبّار السّماء شهادةٌ
خصتْ به وعليه حق جزاؤُهُ
ونيابة عن سبط أحمد حازها
فتقاعستْ عن حملهـا قرناؤهُ
وأخوة قـد شرّفتْهُ بموقف
قد كان مشكورا لديـه إخاؤُهُ
لم يبغِ غيرَ هوى الحسين ورهطهِ
وسواهُ قد شطـت به أهواؤهُ
هو ذاك موئا رأيه وعليه منْ
أمر الإمامةِ ألقيتْ أعباؤهُ
علم تدفّقَ جانباه فلـم يدع
إمّا تدفّـق سـاحلا دئماؤه
وندى به وجه البسيط تبلجـتْ
أرجـاؤه وتأرجت أجـواؤهُ
وبسالة موروثـة من حيدر
فكأن موقف زحفـه هيجاؤهُ
وضرائب قدسية ما إن تلحْ
إلاّ أطل على الوجـوه ذكـاؤهُ
وشذيُّ نجر من ذوأبة غالب
تسري على مر الصبـا فيحاؤهُ
ومآثر شعّت سنا تمتـد من
نسب قصير يستطـيـل سناؤهُ
وأمير مصر لم يخنه وإن يكـن
خانته عند الملتقـى أمراؤهُ
يزهو به دست الخلافة مثلـمـا
يزدان من صرح الهدى أبهاؤهُ
لله صفقة رابـح لمـا يبنْ
يوم التغابن بيعـه وشراؤهُ
هو مسلم الفضل الجميـع ومعقد
الشرف الرفيع تقدسـت أسماؤهُ
طابت أواصره فجـم مديحه
وزكت عناصره فجـل ثنـاؤهُ
قرت به عينا « عقيل » مثلمـا
سرت بموقف مجـده آباؤهُ
واحتلّ من كوفان صقع قداسـة
فيه تقدس أرضـه وسماؤهُ
كثرت مناقبه النجوم وكاثـرتْ
قطر الغمام بعدّهِ أرزاؤهُ
سيف لهاشم صاغهُ كـف القضا
فلنصرة الدين الحنيـف مضاؤهُ
شهدت له الهيجاء أن بيمينه
أمر المنايا حكمـه وقضاؤهُ
إذ غاص في أوساطهـا وأليفـه
ماضى الشبا وسميـره سمراؤهُ
في يوم حرب بالقتـام مجلل
أو ليل حرب قـد جـلاه رواؤهُ
وبمأزق فيه النفـوس تدكدكـتْ
من بعدما التقم الرؤوس فضاؤهُ
إن سل عضبا فالجبـال مهيلـة
أو هز رمحـا فالسمـا جرباؤهُ
وانصاع يزحف فيهم مستقصيـا
فأتى على بهم الوفى استقصاؤهُ
يحصي مصاليت الكماة بصارم
لم يبق منهـم مقبلا إحصاؤهُ
وارتجّ كوفان عليه بعاصف
من شره وتغلغلـت أرجاؤهُ
فرأوا هنا لك محمدا ضوضاءهمْ
بكمين بأس هدهمْ بأساؤهُ
ومبيدُ شوكتهم إذا حم الوغى
أضحى يدير الأمر كيـف يشاؤهُ
من فاتق رتق الصفوف وخارق
جمع الألوف غداة عز رفاؤهُ
لولا القضا عرفوه مطفأ عزمهمْ
بمهنـد لا ينطفي إيراؤهُ
لكنهم عرفوا الضبارهم خاضعاً
لولي أمر لا يرد قضاؤهُ
أمنوا الشقا فتواثبوا لقتاله
فارتثّ من بطـل الهدى أعضاؤهُ
حتى إذا غيل الهزبرُ بمستوىً
لابد أن ترد الـردى أسراؤهُ
بالأمس كان أميرهم واليـومَ
تسحبه إلى ابن سميـة زمـلاؤهُ
وهناك إد من مقالة فاجر
قد كان يسمعه التقيُّ رغـاؤهُ
إن كان أسمعه سبابـاً مقذْعا
فالنضحُ مما قد حواه إنـاؤهُ
ولدين أحمـد مدمع لفوأده
المفطور من ظمـأ ترقرق ماؤهُ
ولقد بكيتُ مقطّعا منهُ الحشا
قد وزّعت بشبا الظبا أشلاؤهُ
ومناولاً قدحا ليروي غلة
قد أجهدتـه فغيّرته دماؤهُ
طلاع كل ثنية طاحـت ثنـا
ياه فأجـج بالصـديّ ظماؤهُ
وأشد ما عاناه من أرزائهِ
إفك الدعـي عليه أو أرزاؤهُ
لم يصعدوهُ له وإن يك قدْ
إلا وثمّـت حلّقت علياؤهُ
قوس الصعود لـه وإن يك قد
هـوى متنازلا حوباؤهُ
يا هـل درى القصر المشيد بان
من ينقض عنه جماله وبهاؤهُ
هو للإمارة وهو مفخر دسته
والمكـرمـات إهابه ورداؤهُ
ألقوه من صعد فكان محطّمـاً
جثمانـه ومعظما برحاؤهُ
ويُجَر في الأسواق منه أخو هدىً
من حادثات الدهر طال عناؤهُ
فكأنه وسريَّ مذحج خدنهُ
في السحب من افق العلا جوزاؤُهُ
لفضيلة العلامة السيد محمد نجل حجة الإسلام آية الله السيد جمال الهاشمي أدام الله ظله :
سار يطوي القفار سهلا ونجدا
ويحث الركاب رملا ووخدا
بعثته رسالة الحـق وحياً
فيه ركب الحياة يحدى ويُهـدى
يتحدّى التاريـخ فردا بعزم
فار غيظا على الزمـان وحقدا
أيزيد يقود قافلة الدين
إلى أين أيها الركـب تُحدى؟!
أترى يترك الحميّا ، وقد شبّ
عليها وشـاب حبا ووجدا؟
عاشـر القرد في صباه إلى أنْ
عاد في الطبع والشمائـل قردا
وأراد « ابن هند » أن يمحق الدين
ويعـلى به يعوقا وودا
فارتضـاه للمسلمين إماما
مستجـاراً وحاكما مستبدا
وهنا ثارت العقيدة بركانا
وفارت حقـدا يصلصل وقدا
صهرتها روح الحسين نشيدا
ردّدته القورن فخـرا ومجدا
وتحلى بلحنه « ابن عقيل »
وتحدّى النظام هدما ونقدا
وسرى في القفار يهتف :
عاش الدين في موكب الحسين لنفدى
نثر اُلح في الرمال ففاضت
ربوات الصحراء وردا ورندا
كوفة الجند قابلته بروح
تتندى له ولاء وودا
وهي مهد الهوى لآل علي
فجدير بأن تجدد عهدا
أرسول الحبيب يأتي بشيرا
باللقا فلتذب هناء وسعدا
ولتبايع يد الحسين وتُعلي
ذكره في الجموع مدحا وحمدا
ولتعش جمرة العقيدة والروح
لتصفو لها الموارد وردا
ومشت في القلوب موجة إيمان
غدت تغمر الجماهير بمدا
رفعت للجهاد ألوية الموت
وسارت بها المواكب حشدا
قررت أن تلفّها الحرب أو تنشر
من حكمهـا علـى الدهر بندا
واغتـدى « مسلم » يعبّئ جيشا
علويّـا يفيض بأسا ونجدا
وأثارت « يزيد » احداث « كوفان »
وماجت « دمشـق » برقا ورعدا
وأشار الخنـا إلى « ابن زياد »
أن يدير الأمور حـلا وعقـدا
فسعى مفردا لكوفان لكن
كان من خبثه يساير جندا
أنكرتْـه العيون لما تـرآى
سيدا ، وهي فيـه تبصر عبدا
وكما رامه « يزيد » أدار
الوضع في حزمه وعيدا ووعدا
وتلاشى التيار ، فا « لمسجـد الأعظمُ »
قد بات فيه « مسلم » فردا
خانه الدهر ، فالجماهيـر راحت
تتنائى عنـه شيـوخا ومُـردا
ومشى يقطع الشـوارع حتى
كـل من سيره مراحا ومغـدى
وتسامت أمجاد « طوعـة » لما
ضافهـا « مسلـم » عياء وجهـدا
وأتته أنصاره وهـي أعداء
تـردّت من الخـزاية بردا
تبتغي منه أن يبـايـع نغلاً
أنكرتْـه الأصلاب رسمـا وحـدا
فطوى جيشهـا الكثيـف بسيف
يتلقـى الالوف نثرا وحصـدا
ذكرت فيه « عمه » ورأت في
يومه حلم أمسها قـد تبدّى
غدرت فيه « بالأمان » ولولاهُ
لما أطفأت له الحرب زندا
أدخلتْهُ « قصر الإمارة » ظمآناً
ولما يذق من الماء بـردا
حاول النغلُ عجمُـهُ فرآهُ
خشنا في فم الحـوادث صلدا
قطع البغي رأسه ورمـى الطغيان
جثمانه انتقاما وحقدا
رام إطفاء نوره ، وهو نور الله
هيهات خـاب فألا وقصدا
ها هي الذكريـات تطفح منها
ظلمات القـرون نورا ورشدا
الخطيب الفاضل السيد صالح الحلي ; :
لو كان ينقـع للعليـل غليل
فاض الفرات بمدمعي والنيل
كيف السلـو وليس بعد مصيبة
ابن عقيل لي جلد ولا معقول
خطب أصاب محمدا ووصيه
لله خطب قـد أطلّ جليل
أفديه من قاد شريعـة أحمد
بالنفس حيث الناصرون قليل
حكم الإله بما جرى في مسلمٍ
والله ليـس لحكمه تبديلُ
خذلوه وانقلبوا إلى ابن سميةٍ
وعن ابن فاطمة يزيـد بديل
آوتْه طوعـة مذ أتاه والعدى
من حوله عدوا عليـه تجول
فأحس منهـا إبنهـا بدخولها
في البيت أن البيت فيه دخيـل
فمضى إلى ابن زياد يسرع قائلا
بشرى الأمير فتى نماه عقيلُ
فدعا الدعي جيوشه فتحزّبتْ
يقفو على أثر القبيل قبيلُ
وأتت اليه فغاص في أوساطهـا
حتى تفلّت عرضُها والطول
فكأنّه أسـد لجوع شبوله
في الغيل أفلته عليهـا الغيلُ
يسطو بصارمه الصقيـل كأنـهُ
بطَلى الأعادي حدُّهُ مصقول
حتى هوى بحفيرة صنعت له
أهوتْ عليه أسنّـةٌ ونصولُ
فاستخرجوهُ مثخنـاً بجراحهِ
والجسم من نزف الدمـاء نحيلُ
سلْ ما جرى جملاً من أعلا البنا
فقليله لم يحصهِ التفصيلُ
قتلوه ثم رموه من أعلا البنا
وعلى الثرى سحبوه وهو قتيـلُ
ربطوا برجليه الحبال ومثّلوا
فيه فليت أصابني التمثيلُ
مذ فاجأ الناعي الحسين علتْ على
فقدان مسلـم رنّةٌ وعويلُ
وله ابنةٌ مسح الحسين برأسها
اليتمُ مسح الرأس فيه دليـلُ
لما أحسّتْ يتمها صرخت الايا
والدي حزني عليك طويلُ
قال الحسين : أنـا زعيم بعده
لا تحزني وأب لك وكفيل
قد مات والدها فأملت البقا
في العم لكـن فاتها المأمولُ (12)
للطبيب الحاذق الأديب الشيخ محد الخليلي :
إن كنت تحـزن لادكار قتيل
فاحزن لذكرى « مسلم بن عقيل »
واجزع لنازلـة بخـير مفضـل
أبكى عيون الفضـل والتنزيل
واندب قتيلا ما انجلى ليل الوغى
أبدا لـه عن مشبه وبديلِ
هو ليث غالب « مسلم » من أسلمت
مهج العـدى لفرنده المصقولِ
شهم تحـدّر من سلالة هاشم
خير البيوت علا وخير قبيـل
متفرّعا عـن دوحة مضريةٍ
تُنمى لأصلٍ في الفخار أصيلِ
* * *
أم العراق مبلغا برسالة
أكـرم بمرسله وبالمرسول
وأتى إلـى كوفان ينقذ أمة
طلبت اغاثتهم على تعجيل
فاكتضّ مسجدها بهم وعلت به
أصـواتهم بالحمد والتهليل
وتقاطروا مثل الفـراش تهافتاً
طلبا لبيعته علـى التنزيلِ
يفدونه بنفيسهم والنفس لا
يبغون دون رضاه أي بديل
باتوا وبـات مؤمّلا للنصر من
أشباحهم يـا خيبة المأمولِ
لكنهم ما أصبحوا حتى غدا
في مصرهم لا يهتـدي لسبيلِ
خذلوه إذ عدلوا إلى « ابن سمية »
واستبدلوا الإرشاد بالتضليلِ
وتجمّعوا لقتاله من بعد ما
عرفوه للإرشاد خير دليـل
وأتوه منفردا بمنزل « طوعـة »
وقلوبهم تغلـى بناد ذحول
فغدا يفرق جمعهـم ويجنـدلُ
الأبطال في عزم له مسلولِ
ورأوا به بطلا إذا نكل العدى
عنه فرارا فهو غيـر نكولِ
يلقى الكمـيّ بعزمةٍ مضريّةٍ
إجمالها يغني عـن التفصيل
إن صال أرجعهم على أعقابهـم
في بطش ليث في الرخام صئول
فغدت فلول الهاربين لخوفها
تطأ الشريد بأرجـل وخيولِ
* * *
حتى إذا كضّ الظما أحشاءهُ
وبدد دماء تسيل أي مسيلِ
وافوه غدرا بالأمان وخدعة
منهم فلم يخضع خضوع ذليلِ
لكنهم حفروا الحفيرة غيلةً
فهوى بها كالليث جنب الغيلِ
وتكاثروا فيها عليه فأفقدوا
يمناه خير مهنّد وصقيلِ
وأتوا به قصر الإمارة مثخناً
بجراحه ومقيدا بكبولِ
فغدا يقارعه الزنيم عداوةً
ويغيضه سبّا بأقبح قيل
ودعا ابن حمران به ولسانهُ
لهج بذكر الله والتهليلِ
ما بان رأسا كان يرفعه الابا
عن جسم خير مزمل مقتولِ
ورماه من أعلا البناء إلى الثرى
كالطود إذ يهوى لبطن رمولِ
فقضى شهيدا في مواطن غربةٍ
متضرّجاً بنجيعهِ المطلولِ
* * *
وأتى الحسين السبط مؤلم لغيه
فدهاه في خطب هناك جليل
فبكاه مفجوع الفؤاد بفقده
حزنا سليل المصطفى المرسلِ
وغدتْ تزيدُ النوح صفوةُ أحمد
لمصابهِ في رنّةٍ وعويلِ
للخطيب التقي السيد مهدي الأعرجيّ النجفيّ (13) :
هذى مرابعهم فحي وسلم
واعقل وقف فيها وقوف متيّمِ
وانشد فؤادا ضاع مني عندها
بين الدكاك فالربى فالعليمِ
أيام كان العيش حلو طعمه
والعيش في اللذات حلو المطعمِ
والراح يجلوها الهلال كأنها
شمل لندمان كمثلِ الأنجمِ
والشمل ملتئم بكل مهفهف
غنج غرير الطـرف حلو المبسمِ
والدهر بايعنا وأعطانـا على
أن لا يخون بنـا يد المستسلم
واليوم خان بنا فشتّتنا كما
خانت بنو صخر ببيعة « مسلم »
لم أنسه بين العـدى وجبينه
كالبدر في ليل العجاجِ المظلمِ
أفديهِ من بطلٍ مهيب إن سطا
لفّ الجموع مؤخرا بمقدّمِ
شهم نمته إلى البسالـة هاشمٌ
والشبل للأسدِ المجرب ينتمي
ولدته آباء ميامين ولا
تلدُ الأراقم قط غير الأرقمِ
حتى إذا ما أثخنوه بالضبا
ضربا وفي وسط الحفيرة قد رُمي
جاؤا إلى ابن زياد فيه فمـذْ رأى
للقصر قد وافه غير مسلم
قال اصعدوا للقصر وارموا جسمهُ
ومن الوريدين اخضبوه بالدم
صعدوا به للقصـر وهـو مكبّل
تجري دماه من الجـوارح والفـمِ
قتلوه ظام لم يبلّ فؤادَهُ
أفديه من ظام الحشـا متضرّمِ
دفعوه من أعلا الطمار إلى الثرى
فتكسرت منه حنايا الأعظـم
__________________
1) المجالس ، مجلس 77 ص27.
2) تقدم في العنوان المتعلق بهاني بن عروة ما ذكراه من الزيارة المتعلقة به والصلاة بعدها.
3) المستدرك للنوري ج3 ص365 وص477 وإجازة صاحب المعالم الكبيرة في البحار ج25 كتاب الإجازات.
4) في كامل ابن الأثير ج4 ص15 الزبير بفتح الزاء المعجمة وكسر الباء الموحدة.
5) الجيشان لقب عبدالرحمن بن حجر بن ذي رعين واليه ينسب الجيشانيون والمقاول جمع مقول كثير يقال لملك اليمين أو ملوك حمير خاصة : القاموس وتاج العروس.
6) الأغاني ج13 ص33 وص37.
7) الأغاني ج13 ص35.
8) القصيدة طويلة زادت على الثمانين بيتا تعرض فيها لمدح هاني بن عروة وشهداء الطف ، انتخب منها ما اثبتناه الفاضل السيد حسين ابن العلامة السيد محمد تقي آل بحر العلوم.
9) من مجموعة الخطيب الأستاذ الشيخ مسلم الجابري.
10) الى هنا من كتاب « سوانح الأفكار في منتخب الأشعار » للخطيب الأستاذ السيد محمد جواد شبّر.
11) من مجموعة الخطيب الأستاذ الشيخ مسلم الشيخ محمد علي الجابريّ.
12) من مجموعة الخطيب الأستاذ الشيخ مسلم الشيخ محمد علي الجابريّ.
13) نقلتها من كتاب « سوانح الأفكار في منتخب الأشعار » للخطيب الأستاذ السيد محمد جواد شبر.