لقد كانت الأيام الأولى من شهر المحرم و لا تزال مأتما سنويا للأحزان و الآلام عند الشيعة منذ قتل الحسين (عليه السلام) في العاشر منه، و كان أئمة الشيعة يحرصون على بقاء تلك المأساة ماثلة في الأذهان بما لها من المعاني السامية، و تنص المرويات الشيعية على أن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) كان يرد تلك المأساة و يذكر ما صنع الأمويون بأبيه و يبكي لذلك حتى أصبح البكاء لقبا من ألقابه، و هكذا كان غيره من الأئمة فاتخذ الشيعة تلك الأيام من شهر المحرم أيام حزن و نياحة على الحسين يجتمعون و يذكرون ما جرى عليه و على أهل بيته من القتل و التنكيل و السبي و يذهب الكثيرون منهم إلى قبره لزيارته في كل عام، و لم تكن السلطات الحاكمة تمنع أحدا أو تعارضهم في ذلك، و لما جاء المتوكل العباسي المعروف بعدائه الشديد للعلويين هدم قبر الحسين و منع الناس من زيارته و هددهم بالقتل و مصادرة أموالهم و ممتلكاتهم إذا أقاموا مأتما أو ذهبوا لزيارته.
و جاء في تاريخ ابن الأثير و هو يستعرض حوادث سنة 236 ان المتوكل العباسي كان شديد البغض لعلي و أهل بيته و يقصد من يبلغه عنه أنه يتولى عليا و الحسين بمصادرة ماله و قتله. و أضاف إلى ذلك أنه كتب الى واليه على مصر يأمره بإخراج آل أبي طالب من مصر إلى العراق و كانوا في مصر يتظاهرون بالولاء لعلي (عليه السلام) و يذكرون ما صنع بالحسين في كربلاء، فأخرجهم أمير مصر إسحاق بن يحيى لعشر خلون من رجب سنة 236، و استتر من كان فيها على رأي أهل البيت و حلت بالشيعة و العلويين أزمة فائقة في عهده من الظلم و الجور الذي أحيط بهم من تعصب المتوكل و ولاته في مختلف الأمصار و الأقطار.
و انفرجت الأزمة التي اجتاحتهم بموت المتوكل و استيلاء ولده المنتصر على السلطة من بعده، كما ذهب إلى ذلك ابن الأثير و غيره من المؤرخين، فقد قال في حوادث سنة 248 ان المنتصر أمر بزيارة قبر الحسين و علي (عليه السلام) و آمن العلويين و أطلق سراحهم ورد عليهم فدكا، و كان أول ما أحدثه أن عزل عن المدينة صالح بن علي الذي كان يتتبعهم بكل انواع الأذى و الظلم و الجور و عين مكانه علي بن الحسن بن اسماعيل بن العباس بن محمد، و لما دخل عليه يودعه و هو في طريقه إلى المدينة قال له: يا علي إني موجهك إلى لحمي و دمي و ساعدي فانظر كيف تكون للقوم و كيف تعاملني فيهم.
و استمر أمر الشيعة أينما حلوا يحتفلون بذكرى الحسين الأليمة و بكل مظاهر التشيع عند ما يتاح لهم ذلك سواء في ذلك البلاد التي غلب عليها كالعراق و افريقيا في ظل الفاطميين و غيرهما من المقاطعات التي كان الشيعة فيها قلة بجانب غيرهم، كما كان حالهم في مصر يوم كانت في سلطة كافور الإخشيدي الذي كان كما كان يصفه بعض المؤرخين شديد التعصب على الشيعة، و مع ذلك فقد اظهروا من الصلابة و التماسك مع قلتهم بالنسبة إلى غيرهم مما اضطر كافور لمصانعتهم و التغاضي عما يقومون به من مظاهر الحزن و الجزع لما أصاب أهل البيت.
و لم تنفرج الأزمة في مصر إلا بعد أن تغلب عليها الفاطميون و حكمها المعز لدين اللّه الفاطمي فارتفعت معنويات الشيعة بوجوده بعد أن هيئوا لهم الأجواء المناسبة و اشتركوا معهم في إحياء تلك الذكرى و بذلوا في سبيلها الأموال بسخاء.
و قال المقريزي في خططه: كان الفاطميون في يوم عاشوراء ينحرون الابل و البقر و يكثرون النوح و البكاء و ما زالوا على ذلك حتى انقرضت دولتهم، و أضاف الى ذلك بروايته عن ابن زولاق في سيرة المعز لدين اللّه، أنه في يوم عاشوراء سنة 363 انصرف خلق من الشيعة إلى قبري أم كلثوم و نفيسة و معهم جماعة من فرسان المغاربة و رجالهم بالقيام و البكاء على الحسين و كسروا أواني السقائين، و في سنة 396 جرى الأمر على ما كان يجري في كل سنة من تعطيل الاسواق و خروج المنشدين الى جامع القاهرة و نزولهم مجتمعين بالنوح و البكاء و النشيد، و استطرد المقريزي في وصف ما كان عليه حال الفاطميين من مظاهر الحزن حكومة و شعبا في العاشر من المحرم إلى أن قال: إذا كان يوم العاشر احتجب الخليفة عن الناس فإذا ارتفع النهار ركب قاضي القضاة و الشهود و قد غيروا زيهم ثم صاروا إلى مشهد الحسين فإذا جلسوا فيه جعلوا ينشدون الشعر في رثاء أهل البيت و لا يزالون على ذلك إلى أن تمضي عليهم ثلاث ساعات، ثم يستدعيهم الخليفة إلى القصر فيدخل قاضي القضاة و الداعي و من معهما إلى باب الذهب فيجدون الدهاليز قد فرشت بالحصر فيجلس القاضي و الداعي إلى جانبه و سائر الناس على اختلاف طبقاتهم فيقرأ القرآن ثم ينشد المنشدون، و يتقدمون بعد ذلك للمائدة المؤلفة من الأجبان و الألبان و العسل و غير ذلك. و بعد الفراغ من الأكل انصرف النواح و طافوا بالقاهرة و قد اغلق البياعون محلاتهم و حوانيتهم ذلك النهار بكامله إلى غير ذلك من المظاهر التي دأبت عليها الدولة الفاطمية في مصر طيلة حكمها.
و لما جاء دور الأيوبيين حاربوا جميع تلك المظاهر و أصبح اليوم العاشر من المحرم يوم فرح و سرور يتباهون فيه بالملابس الفاخرة و أنواع الطعام و الحلوى و الأواني الجديدة ليرغموا بذلك أنوف الشيعة على حد تعبير المقريزي في خططه.
و في عهد بني بويه كان الشيعة و الحكام يمثلون دور الفاطميين في مصر، و جاء في تاريخ أبي الفداء خلال حديثه عن أحداث سنة 352 أن معز الدولة كان في اليوم العاشر من المحرم يعطل الأسواق و يأمر الناس أن يخرجوا بالنياحة و النساء ناشرات الشعور قد شققن ثيابهن و لطمن وجوههن على الحسين (عليه السلام)، و أيد ذلك ابن كثير في بدايته و هو يتحدث عن دولة بني بويه و ما كانت تصنعه في بغداد في اليوم العاشر من المحرم و الأيام الأولى منه في كل عام إلى غير ذلك مما رواه الرواة عن مظاهر الحزن التي كان الشيعة و حكامهم يظهرون بها، و كان السنّة و حكامهم يقابلون ذلك بالفرح و السرور تحديا للشيعة و عاداتهم، و منه سبحانه نستمد التوفيق و ان يلهمنا السداد في القول و الاخلاص في العمل و التوفيق لأن نستلهم من ثورة الحسين معاني التضحية في سبيل الحق و المظلومين و المعذبين انه قريب مجيب.