يطرح البعض سؤالاً عن المبرِّر الشرعي والأهداف الدينيّة وراء تكرار العزاء وإقامة المأتم على سيّد الشهداء (عليه السلام) وعلى بضعة المصطفى (عليها السلام) كلّ عام مع تطاول المدّة بنحو دائم وندبة راتبة والحال أنّ الندبة والرثاء على السبط الشهيد (عليه السلام) قد ثبتَ أنّه سنّة إلهيّة تكوينيّة وقرآنيّة إضافة لكونها سنّة نبويّة وقد أوضحَت الكثير من الكتب والمراجع التاريخيّة والدراسات عدداً من هذه الوجوه .
فالوجهُ الأوّل : وهو السنّة التكوينيّة الإلهيّة فيشير إليه قوله تعالى في سورة الدخان {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29] تنفي هذه الآية السماء والأرض على هلاك قوم فرعون الظالمين ممّا يقضي بوجود شأن فعل البكاء من السماء والأرض كظاهرة كونيّة وإلاّ لمَا كان للنفي معنى محصّل وقد أشارت المصادر العديدة من كتب العامّة ـ فضلاً عن كتب الخاصّة ـ إلى وقوع هذه الظاهرة الكونيّة عند مقتل الحسين (عليه السلام) من مطر السماء دماً واحمرارها مدّة مديدة ورؤية لون الدم على الجدران وتحت الصخور والأحجار في المُدن والبلاد الإسلاميّة فلاحظ ما ذكرهُ ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة الحسين (عليه السلام) بأسانيد متعدّدة : بل قد طالعنا أخيراً كتاب باللغة الانجليزيّة اسمه : (ذي أنكلو ساكسون كرونكل) كتبه المؤلِّف سنة 1954 وهو يحوي الأحداث التاريخيّة التي مرّت بها الأمّة البريطانيّة منذ عهد المسيح (عليه السلام) فيذكر لكلّ سنة أحداثها حتى يأتي على ذِكر أحداث سنة (685) ميلاديّة وهي تُقابل سنة (61) هجريّة سنة شهادة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) فيذكر المؤلِّف أنّ في هذه السنة مطرت السماء دَماً أصبح الناس في بريطانيا فوجدوا أنّ ألبانهم وأزبادهم تحوّلت إلى دم هذا مع أنّ الكاتب لم يجد لهذه الظاهرة تفسيراً ولم يُشر من قريب ولا بعيد إلى مقارنة ذلك إلى سنة (61) هـ ق .
وأمّا الوجهُ الثاني : وهو كون ذلك سُنّة قرآنيّة فهو على نمطين :
الأوّل : إلزام الباري تعالى مودّة أهل البيت (عليهم السلام) على الناس بل وجَعل هذه الفريضة من عظائم الفرائض القرآنيّة في قوله تعالى : (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) حيث جَعل المودّة أجراً على مجموع الرسالة المشتملة على أصول الدين العظيمة ممّا يُدلّل على كون هذه الفريضة في مصاف أصول الديانة ثُمّ بيّن تعالى أنّ المودّة لها لوازم وأحكام .
منها : الاتّباع كما في قوله تعالى : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ومنها : الإخبات والإيمان بذلك كما في قوله تعالى : {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] .
ومنها : الحُزن لحزنهم والفرح لفرحهم كما في قوله : {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة: 50] فبيّن تعالى بدلالة المفهوم : أنّ العداوة مقتضاها الحُزن لفرح النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وأهل بيته (عليهم السلام) والفرح لمصيبة النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وأهل بيته (عليهم السلام) فالمحبّة تقتضي الحُزن لمصابهم والفرح لفرحهم ونظير هذه الدلالة قوله تعالى : {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} [آل عمران: 120] فعلى هذه الدلالة القرآنيّة يكون العزاء وإقامة المأتم والرثاء والندبة على مصاب السبط ـ بضعة المصطفى سيّد شباب أهل الجنة ريحانة الرسول الأمين ـ من مقتضيات الفريضة العظيمة الخالدة بخلود الدين وهي مودّة القربى .
الثاني : وهو ما عَقدنا هذا المقال له وهو : أنّ القرآن قد تضمّن الرثاء والندبة على خريطة وقائمة المظلومين طوال سلسلة أجيال البشريّة وقد استعرضَ القرآن الكريم ظلاماتهم بدءاً من هابيل إلى بقيّة أدوار الأنبياء والرسل وروّاد الصلاح والعدالة والجماعات المصلحة المقاومة للفساد والظلم : كأصحاب الأخدود وقوافل الشهداء عبر تاريخ البشريّة وحتّى الأطفال المجنيّ عليهم نتيجة سُنن جاهليّة كالموؤدة بل قد رَثى وندبَ القرآن ناقة صالح لمكانتها ولم يقتصر القرآن على الرثاء والندبة لمَن وقعت عليهم الظلامات بل أخذ في التنديد بالظالم وبالعتاة الظلمة وتوعّدهم بالعذاب والنِقمة والبطش كما سنجده في جملة من الموارد الآتية التي نتعرّض لها في السور القرآنيّة وهي :
الأُولى : قصّة أصحاب الأخدود ففي سورة البروج تستهلّ السورة بالقسم الإلهي أربع مرّات : {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 1 - 3] وهذا الابتداء بمثابة توثيق للواقعة والحادثة التي يريد الإخبار عنها وفي هذا منهجاً ودرساً قرآنيّاً يحثّ على توثيق الحادثة أولاً ثُمّ الخوض في تفاصيلها ورسم أحداثها ثُمّ تَذكر السورة الخبر الذي وقعَ القَسَم الإلهي على وقوعه بابتداء لفظة (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ) وهو أسلوب رثاء وندبة وعزاء نظير قول الراثي : (قُتل الحسين عطشاناً) .
كما أنّ توصيفهم بأصحاب الأخدود بيان لكيفيّة القتل التي جرت عليهم فتواصِل السورة تصوير مسرح الحدث استثارة للعواطف وتهييجها بوصف الأخدود (النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ) وهو بيان لشدّة سعرة النار التي أُجّجت لإحراقهم وهو ترسيم لبشاعة الجناية وفظاعتها ثُمّ يُتابع القرآن الكريم (إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ) وهو بيان لقطة أخرى من مسرح عمليّات الحادثة التي أوقعها الظالمون على المؤمنين من إرعابهم وتهديدهم بإجلاسهم على شفير الأخدود المتأجّج أوّلاً لأجل ممارسة الضغط عليهم للتخلّي عن مبادئهم التي يتمسّكون بها وفيه بيان لشدّة صلابة المؤمنين مع هذا الإرعاب المتوجّه عليهم ثُمّ تُتابع السورة (وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) وهذا بيان يُجسّد فوران الشَفقة الإلهيّة على الظلامة والتلهّف على ما يُفعل بالمؤمنين .
ثُمّ تتلو السورة (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) لتبيّن براءة المؤمنين لتركيز شدّة الظلامة ومن جهةٍ أخرى : تبيّن شدّة صلابة المؤمنين وصمودهم وعلوّ مبدئهم ثُمّ يبدأ الباري تعالى بتهديد الظالمين والتنديد بهم من موقع المالك للسموات والأرض والشاهد المراقب لكلّ الأمور ثُمّ يقول تعالى :
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 10 - 14].
فيُسطّر تعالى قاعدة وسنّة إلهيّة عامّة وهي : الوقوف بصف المظلومين والموجهة قبال الظالمين وهو بذلك يُربّي المسلمين والمؤمنين ـ عبر القرآن الكريم ـ على التضامن مع المظلومين والنفرة والتنديد بالظالمين عبر التاريخ ويُعلّمهم أن لا يتخاذلوا باللامبالاة ولا يتقاعسوا بذريعة أنّ هذه الأحداث والوقائع غابرة في التاريخ بل يحثّ على التضامن والوقوف في صفّ كلّ مظلوم من أول تاريخ البشريّة إلى آخرها والتنديد بكلّ طاغوت وظالم .
وهذا الجوّ القرآني نراه لا يكتفي من المسلم والقارئ للسورة بالتعاطف وإثارة الأحاسيس تجاه المظلوم بل يستحثّهما على النفور من الظالم والتنديد به وإن كان زمانه قد مضى في غابر التاريخ كلّ ذلك لتطهير الإنسان من الذوبان في مسيرة الظالمين وانجذاباً له مع مبادئ المظلومين فترى السورة تضمّ إلى إقامة الندبة والرثاء على أصحاب الأخدود والتنديد بقاتليهم {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 17 - 20] فتُذكّر قارئ السورة بمسيرة بقيّة ظلامات الظالمين من عصابة جنود فرعون وثمود الذين جَنوا على الأنبياء والصالحين .
فالسورة ابتدأت بالقَسَم على تأكيد وقوع الفادحة وتحسّر في ندبتهم ورثائهم وإظهار العزاء عليهم وبيان لعظم التنكيل بالمؤمنين وبراءة المؤمنين عن الجرم ثُمّ توعّد على الانتقام بتصوير مليء بالعبارات المتحرِّكة بُغية إثارة العواطف والأحاسيس الجيّاشة .
ثُمّ إنّ ههنا إلفاتة مهمّة إلى بعض الأمور :
الأوّل : وهي أنّ هذه السورة حيث كانت في أسلوب أدب الرثاء والندبة والعزاء وإقامة المأتم على أصحاب الأخدود فلابدّ أن يكون قراءة هذه السورة في كيفيّة التجويد بنحو من التصوير البياني والطور الإيقاعي المناسِب لجوّ معاني هذه السورة وهذه الكيفيّة هي المعروفة بطور الرثاء والنوح وقد تقرّر في علم التجويد أخيراً ضرورة التصوير والترسيم البياني لجوّ معاني الكلام فلا يصحّ قراءة القرآن على وتيرة واحدة بل آيات البشارة بالجنّة والثواب والنعيم تُقرأ بنحو الابتهاج والفرح وآيات الإنذار والوعيد تُقرأ بكيفيّة الخوف والقشعريرة وآيات التشريع والأحكام تُقرأ بكيفية التبيين والتعليم وآيات الحِكمة والمعارف والموعظة تُقرأ بنحو الطور الصوتي المناسِب لجوّ الموعظة والحكمة فمن ذلك نستخلص : أنّ النوح والترديد الرثائي من ألحان القراءة القرآنيّة لهذه السور المتضمّنة للمراثي .
الثاني : أشارَ الكثير من المفسّرين إلى أنّ القرآن قد نزلَ على : أمثال ومواعظ وحِكم وإنذار وبشارة وأحكام ومعارف وأخبار وأنباء و...ولم يشيروا إلى وجود أسلوب وأدب الرثاء والندبة في القرآن الكريم مع أنّه من الفصول المهمّة في الأدب والأسلوب القرآني حيث سنذكر نموذجاً من بعض قائمة المراثي والندبة في السور القرآنيّة .
الثالث : أنّ اشتمال الكتاب العزيز في العديد من السور القرآنيّة على المراثي والندبة والعزاء وهو قرآن يُتلى كلّ صباح ومساء وفي كلّ آن وزمان وهو عهد الله تعالى إلى خلقه اللازم عليهم أن يتعاهدوه بالقراءة والتدبّر كلّ يوم ولا سيّما في شهر رمضان الذي هو ربيع القرآن فيقضي ذلك دعوة القرآن لإقامة الرثاء والندبة والعزاء على ظلامات المظلومين وروّاد الإصلاح الإلهي في البشريّة في كلّ يوم فضلاً عن كلّ أسبوع وفضلاً عن كلّ شهر وكلّ موسم وكلّ سنة بنحو راتب ودائم في كلّ قراءة للقرآن وترتيل .
فإذا كانت سنّة القرآن ذلك في ظلامات المظلومين مثل : أصحاب الأخدود وأتباع الأنبياء فما ظنّك ببضعة المصطفى (عليها السلام) وريحانة خاتم الأنبياء وسيّد شباب أهل الجنة لا سيّما مع افتراض أمر القرآن بمودّتهم والحزن لمصابهم كما تقدّم في النمط السابق ؟
الثانية : قصّة يوسف (عليه السلام) ويعقوب (عليه السلام) ويستهلّ القرآن الكريم تفصيل أحداث المأساة التي جرت عليهما بقوله تعالى : {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7] كما يختم كلامه في السورة : {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف: 111] ؛ ليُبيّن أنّ ما قصّهُ و سَرَده من فعل يوسف ويعقوب (عليهما السلام) سُنّة تستنّ بها هذه الأمّة ويبدأ الحديث عن ظلامة يوسف (عليه السلام) وهو في سنٍّ يافع ناعم
بقوله : {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} [يوسف: 15] فيرسم للقارئ مسرح الحدث بتعصّبهم وتجمّعهم على الطفل الصغير ؛ ليلقوه في أعماق البئر (غَيَابَتِ الْجُبِّ) هذا كلّه لبيان فظاعة فعلهم وأنّهم ألقوه في أعماق الجُبّ وهذا نظير قوله تعالى : (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) .
وعلى غرار هذا التعبير الرثائي ما استعملهُ شاعر أهل البيت (عليهم السلام) دعبل الخزاعي بقوله : (أفاطمُ لو خِلتِ الحسين مُجدّلاً) وهو نحو من تهييج العاطفة ليعيش السامع والقارئ الحالة المأساويّة وكأنّها تتجسّد أمامه ثُمّ يقول تعالى في ذيل التصوير الأول : (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) حيث تُبيّن مدى شدّة القساوة الجارية على يوسف (عليه السلام) وهو في نعومة أظفاره وإنّ العناية الإلهيّة لا تتركه من دون لطفها وتُتابع السورة آثار المصيبة على يعقوب (عليه السلام) (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) فتُبيّن أنّ الجزع والندبة قد اشتدّا بالنبي يعقوب (عليه السلام) إلى حدّ إصابة عينيه بالعَمى وقد اشتدّ حزنه وشكواه إلى الله تعالى إلى درجة اتّهام أبنائه بالخلل في عقله أو بدنه وهو معنى الحرض والبثّ شدّة الحزن وهذا دليل على أنّ الجزع من فعل الظالمين ممدوح وإنّما الجزع من قضاء الله وقدره هو المذموم وأمّا اللواذ والالتجاء إلى الله تعالى في الجزع والشكوى والبثّ والحزن فهذا ممدوح وهو تنفّر من الظالمين .
الثالثة : قصّةُ قَتل الأنبياء وقد ندّد القرآن الكريم واستنكرَ قتلهم فيما يقرب من تسعة مواضع منها : {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91] وقال : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة: 61] كما في البقرة 61 ـ 91 وآل عمران 21 ـ 112 والمائدة 70 ـ 81 ـ 183 والنساء 155 وكذلك ندّد القرآن بقتل روّاد الإصلاح الإلهي في البشريّة : {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران: 21] .
الرابعة : ما في سورة التكوير : {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8، 9] وهذه ندبة قرآنيّة للمولودة التي تُقتل في زمن الجاهليّة نتيجة السُنن العرفيّة الجاهليّة الظالمة ويتبيّن في هذا الأسلوب الرثائي كيفيّة مسرح الجناية بدفن الوليدة وهي حيّة في التراب مع كمال براءتها .
الخامسة : عزاء الشهداء في سبيل الله تعالى : {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154] .
السادسة : قصّةُ هابيل وجريمة قتله من قِبل قابيل بقوله : {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 28 - 30] فيُبيّن البراءة في جانب هابيل والوحشيّة والقساوة في جانب قابيل فالبيان يُصوّر شدّة الأحاسيس من الطرفين أثناء التحام الطرفين في الحدث إلاّ أنّ التهاب أحاسيس هابيل مملوءة بالصفاء والإحسان وأحاسيس قابيل مشحونة بالعدوان والتجاوز لمقتضيات الفطرة.
السابعة : ما ارتكبه فرعون وهامان من طغيان واستكبار في الأرض : {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4] وقوله سبحانه : {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49] .
الثامنة : ناقة صالح في سورة الشمس : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 11 - 15] فبيّن طغيان ثمود وإنّ الذي ارتكبَ الجريمة هو الأشقى من قوم ثمود وبيّن حُرمة الناقة بإضافتها إلى ذاته المقدّسة مع كونها ناقة صالح ثُمّ صوّر بإحساسٍ ملتهب عمليّة الجناية من المعتدي بأنّه قام بعمليّة العقر واللفظ يُبيّن قساوة الفعل والسورة تُسند الفعل إلى قوم ثمود كلِّهم لرضاهم بذلك كما سبقَ أن وصفَ المعتدي بالشقاء البالغ غايته ثُمّ بيّنَ بجانب وقوفه بصف المظلوم وتضامنه معه تنديده للظالم وانبعاث الغضب والنقمة الإلهيّة العاجلة وسخطهُ الشديد عليهم فلم يكتفِ برثاء المظلوم بل قَرنهُ بشجب الظالم والإنكار عليه بل وإدانة قوم ثمود لموقفهم المتفاعِل تأييداً للجريمة .
فإذا كان موقف القرآن من ناقة صالح يُبدي مثل هذا التضامن معها وهي دابّة وآية إلهيّة ويُدين ظلم قوم ثمود لها فبالله عليك ما هو موقف القرآن الكريم من سبط سيّد النبيّين وأشرف السفراء المقرّبين وسيّد شباب أهل الجنة ؟ وإذا كان القرآن يدعونا إلى تلاوة الندبة والرثاء على ناقة صالح والظلامة الحادثة بقرآن يُتلى إلى يوم القيامة تتلقّى منه البشريّة دروساً من التربية ويحثّنا على إقامة هذه الندبة وعلى التنديد بمرتَكبي تلك الظلامة فكيف بك بالظلامة المرتكبة ضدّ سيّد شباب أهل الجنة ريحانة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وما يُمثّله من مبادئ وأصول للدين الحنيف متجسّدة فيه .
وهذه نبذة من الندبة والمراثي التي تصدّى القرآن الكريم لاستعراضها وإقامتها في السور القرآنيّة بأسلوب وأدب الرثاء والعزاء ونحو ذلك من أساليب الندبة الهادفة المطلوبة لإحياء المبادئ المتمثّلة في الذين وقعت عليهم تلك الظلامات من أجل أنّهم يحملون تلك المبادئ ويسعون لإقامتها وبنائها .
فنستخلص : أنّ الندبة والرثاء الراتب سُنّة قرآنيّة يمارسها القارئ والتالي والمرتّل لكتاب الله العزيز وهي مجلس من المجالس المُقامة في أندية القرآن الكريم .
وأمّا الوجه الأخير : وهو كون العزاء والمأتم على سيّد الشهداء (عليه السلام) سُنّة نبويّة أيضاً فقد كُتب في بيانه جملة من الأعلام نذكر ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ ما أشار إليه العلاّمة الأميني (قدِّس سرّه) في كتابه (سيرتنا وسنّتنا) (سيرة النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وسنّته) في اثني عشر مأتماً ومجلساً عَقدهُ النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لندبة الحسين (عليه السلام) وهو يافع في نعومة أظفاره في مَلأ من المهاجرين والأنصار في المسجد تارةً وأخرى في بيته مع بعض زوجاته وثالثة مع بعض خواصّه وقد نَقل تلك الوقائع المتكرّرة من النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الكثير من الحفّاظ وأئمّة الحديث في مسانيدهم والمؤرّخين أصحاب السيَر في كُتبهم منهم : أحمد بن حنبل في مسنده والنسائي والترمذي في سُننهما وغيرهم وابن عساكر في تاريخه وغيرهم فلاحِظ ثمّة ما كتبهُ العلاّمة الأميني وكذلك ما كتبهُ العلاّمة السيّد عبد الحسين شرف الدين (المأتم الحسيني مشروعيّته وأسراره) .