فلا شك في حرمة استماعه مطلقا سواء في مجالس عزاء سيد الشهداء (عليه السلام) و ذكر مراثيه أم غيرها، و نكتفي هنا بنقل ما ذكره صاحب شفاء الصدور في شرح زيارة عاشوراء فانّه قال: قام الاجماع من علمائنا على حرمة الغناء، و روى في الكافي بسنده عن محمد بن مسلم انّ الامام الصادق (عليه السلام) قال: الغناء مما وعد اللّه عز و جل عليه النار و تلا هذه الآية: {مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6] و فسّر لهو الحديث بالغناء، و يمكن دعوى تواتر أخبار أهل البيت عليهم السّلام على هذا المعنى.
و تعريف الغناء (هو الصوت الذي يخرج لهوا سواء كان فيه ترجيع أم تقطيع للصوت أم موازنة) و صرح بهذا التعميم الشيخ الافقه الاكبر الشيخ جعفر في شرح القواعد، و لا فرق في حرمة الغناء بين ما لو كان رثاء لسيد الشهداء (عليه السلام) أو لا، على المشهور، و لا يشترط حسن الصوت و جودته بل الملاك هو الصوت الذي يلهو به أهل الطرب عند وجدهم، و يطلق عليه التغني عرفا، بايّ صورة كان و بأيّ شكل قرء، فكل هذه الوجوه حرام و مدخلة الى النار.
من المناسب هنا نقل كلام الشيخ الاجل الاعظم استاذ من تأخّر و تقدّم، حجة الفرقة الناجية، علامة الملّة الزاكية، شيخنا الاستاذ الاكبر نور اللّه ضريحه المطهر الشيخ مرتضى الانصاري، عن المكاسب في ردّ من زعم ان الغناء في المراثي يوجب كثرة البكاء و التفجع، فقال رحمه اللّه: «اما كون الغناء معينا على البكاء و التفجع فهو ممنوع، بناء على ما عرفت من كون الغناء هو الصوت اللهوي، بل و على ظاهر تعريف المشهور من الترجيع المطرب لانّ الطرب الحاصل منه ان كان سرورا فهو مناف للتفجيع لا معين له، و ان كان حزنا فهو على ما هو المركوز في النفس الحيوانية من فقد المشتهيات النفسانية لا على ما أصاب سادات الزمان مع انّه على تقدير الاعانة لا ينفع في جواز الشيء كونه مقدمة لمستحب أو مباح، بل لا بد من ملاحظة عموم دليل الحرمة له.
ثم انّه يظهر من هذا و ما ذكر اخيرا من أنّ المراثي ليس فيها طرب، انّ نظره الى المراثي المتعارفة لأهل الديانة التي لا يقصدونها الّا للتفجع، و كأنّه لم يحدث في عصره المراثي التي يكتفي بها أهل اللهو و المترفون من الرجال و النساء بها عن حضور مجالس اللهو و ضرب العود و الاوتاد و التغني بالقصب و المزمار كما هو الشائع في زماننا الذي قد أخبر النبي (صلى الله عليه واله)بنظيره في قوله «يتخذون القرآن مزامير».
كما انّ زيارة سيدنا و مولانا ابي عبد اللّه (عليه السلام) صار سفرها من أسفار اللهو و النزاهة لكثير من المترفين.
و قد أخبر النبي (صلى الله عليه واله)بنظيره في سفر الحج «و انّه يحج أغنياء امتي للنزهة و الاوسط للتجارة و الفقراء للسمعة» و كان كلامه (صلى الله عليه واله)كالكتاب العزيز واردا في مورده و جاريا في نظيره.
انتهى ما اردناه من مكاسب الشيخ قدس اللّه نفسه و روّح رمسه و لما كان الناس العالم متهم و الجاهل يجرون كلام هذا الشيخ المعظم مجرى النصوص، لا بأس ان يجعلوا كلامه نصب أعينهم و يعملوا به و لا يتركوه، و من اعظم المصائب على الاسلام التي لا يلام المؤمن الغيور لو مات أسفا بسببها، انّ أهل اللهو و الطرب يذكرون اسماء أهل البيت عليهم السّلام الذين ذكرهم اللّه تعالى في القرآن بالعظمة، مع آلات اللهو و اللعب كاسم زينب و سكينة عليهما السّلام و يجرون اسماءهم مجرى الاسماء التي تذكر في الاغاني و المثاني كسلمى و ليلى، فيقيمون بزعمهم مجلس عزاء لسيد الشهداء لكن بطريقة بني أميّة و بني مروان، مجالس محفوفة بالبهجة و الطرب و التنعم و التغنّي و لو تأمّل متأمل لرأى انّ هذا العمل فسق بل كفر و الحاد (نعوذ باللّه من الخذلان و غلبة الهوى و مكيدة الشيطان).
و ذكرت نصيحة بالغة و موعظة جامعة في مقدمة كتاب «الاربعين الحسينية» لا يخلو ايرادها عن فائدة، قال ما مضمونه: ليعلم الشيعة الاثنا عشرية انّه ليس لهم شعائر اكثر شيوعا من اقامة العزاء لسيد الشهداء (عليه السلام) و البكاء عليه بل قد اندرست اكثر الآثار و السنن و الآداب الشرعية و هجرت الّا التوسل بسيد الشهداء (عليه السلام) فهذه المجالس بحمد اللّه تترقى و تتكامل يوما فيوم.
فالجدير حفظ حدود و ضوابط هذا العمل المهم بحيث لا يخرج عن حد قواعد الشرع الاقدس و ضوابطه و لا يدع مجالا لاهل العناد و الخلاف للاعتراض و الطعن و لا سيما في زماننا هذا الذي اختلط فيه أهل المذاهب و تعاشر بعضهم ببعض و قد ذكرت وقعة الطف و مقتل سيد الشهداء (عليه السلام) في اكثر كتب التاريخ فلا بد من التحرز عن ذكر الامور المبتدعة في مجالس العزاء و ترك المنهيات الشرعية كالرثاء المطرب مع ضرب المزامير و الطبول و عسى ان يكون الطرب في هذه المجالس اكثر منه في مجالس اللهو و اللعب.
و قد ذكر وصف هؤلاء القوم في الحديث انّهم: يطلبون الدنيا بأعمال الآخرة، و من المعلوم انّ هذه الافعال تسبب الحرمان من عظيم الاجر و الثواب و الشيطان لا يغفل عن الاغواء في هذا المجال لانّه عدوّ الانسان و يريد افساد الاعمال التي تنفع الانسان اكثر من غيرها، كالتوسل بسيد الشهداء (عليه السلام) الذي يسبب الفوز و النجاة من النار بحسب الاخبار و الروايات..
و تتجه انظار الجهال و طلبة الدنيا الى كل ذي منفعة دنيوية فحتى ذكر مصائب أهل البيت عليهم السّلام أصبح اليوم وسيلة لتحصيل المعاش و التكسب، و لم تلحظ جهة العبودية فيه غالبا، و بلغ الامر الى حدّ بحيث تذكر الاكاذيب الصريحة في مجامع العلماء دون أن ينهى عن المنكر و يتجاوز البعض من الخطباء حدّه و يختلق الحكايات المبكية و يزعم دخوله في «من أبكى فله الجنة».
و يتداول هذا الكلام الكاذب و هذه الحكايات المختلقة لفترة زمينه حتى يشيع و يذكر في التأليف الجديدة و كلما منع من ذكر هذه الاكاذيب محدّث مطلع امين نسبوه الى كتاب مطبوع أو كلام مسموع أو تمسكا بقاعدة التسامح في أدلة السنن و ذلك يؤدي الى ذم و لوم الاقوام الاخرى من سائر المذاهب كالوقائع المعروفة المتداولة في الكتب الجديدة التي لا أثر لها لدى أهل العلم و الحديث كعرس القاسم في كربلاء الذي ذكر في كتاب روضة الشهداء للفاضل الكاشفي، و نقل عنه الشيخ الطريحي الذي هو من المعتمدين و العلماء، لكن توجد مسامحات كثيرة في كتابه المنتخب، كما لا يخفى على أهل البصيرة و الاطلاع، انتهى.