إنّ ثورة أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) حقّاً لعطاء سخي للأُمّة من جميع جوانبها ؛ ففي عهدها الأوّل أفاضت على المسلمين خير الإصلاح والقوّة وأبادت الظلم عنهم ؛ فتمكّنوا من السير في الحياة آمنين وصار الحكم يترقّب رضاهم وارتقت ثقافتهم وصناعتهم وثروتهم إلى ما يحيّر العقول . كلّ ذلك من بركات تلك الثورة المقدّسة .
وأمّا في العهود المتأخّرة فخيرها أكثر ودرّها أوفر وذلك بـ (المآتم) التي كانت تُقام له وباسمه (عليه السّلام) ؛ فبمآتمه تمكّن التشيّع أن يترقّى ويتقدّم حتّى فاقت الشيعة الأُمم كلّها ثقافة وعزماً وقوّة وثباتاً وثروة . والمآتم الحسينيّة تعبير صادق عن شعور المسلمين في مبدئهم وقادتهم وهي قوّة لهم على محق الظلم ونصرة الحقّ .
وحديث (المآتم الحسينيّة وفائدتها) ممّا ملّته الأسماع والألسن والأقلام ؛ فما أكثر ما كتب أو قيل فيه حتّى إنّ المستشرقين من فلاسفة الغرب تعرّضوا له في مؤلّفاتهم وأفصحوا عن آرائهم المجيدة عنه وعن فائدته ؛ وعلى هذا فليس مجال للتساؤل لكثرة الباحثين عنه ومع ذلك فنحن نشير إلى مختصر البحث فنقول :
(المآتم الحسينيّة) أرض خصبة خلقها الله ومهّدها الرسول (صلّى الله عليه وآله) وحرثها الحسين (عليه السّلام) بسيفه وقوائم خيله وزرع فيها بذور الإيمان والنضال والعزم والقوّة ورواها بدمه الطاهر ودماء أصحابه وأهل بيته الأنجبين وأصلحها ذرّيّته (عليهم السّلام) من بعده ؛ فارتفعت بأغصانها المتشعّبة وأظلّت بأوراقها على الأُمّة بكلّ خير وأثمرت للمسلمين أغنى ثروة ممّا حصدته الأجيال الموالية له السائرة على نهجه وسيرته .
وللمآتم الحسينيّة منافع يسيح المسلمون فيها وخير يغورون في فيضه ونذكر المهمّ من فوائد تلك (المآتم) فيما يلي :
الأوّل : أنّها مدرسة قائمة مدى الدهر , تعلّم أبناءها كلّ علم وكلّ ثقافة ؛ فهي توضيح لأحكام الشريعة والقوانين الإسلامية للأُمّة وتبحث عن التأريخ بأهمّ أطواره وأبهى صوره ويبحث فيها عن الجغرافية بأوسع مناهجها وأضبط طرقها .
وفيها تحقيق عن الرجال ـ مسلمين وغيرهم ـ بأحسن الأُصول وبيان للعقائد الكلامية بالأدلّة الرصينة ؛ من توحيد ونبوّة وإمامة وعدل ومعاد .
وهكذا يدرس فيها كلّ ما ينشئ المجتمع ويرقي الإنسان ؛ فلهذا ترى الشيعي أكثر من أفراد كلّ أُمّة علماً وثقافة وفراسة ومهارة .
وحبّذا ما يقوله الفيلسوف المستشرق (جوزف) الفرنسي في كتابه (الإسلام والمسلمون) : ( ... ولو نظرنا اليوم في أقطار العالم نرى أنّ الأفراد التي هي أولى بالمعرفة والعلم والصنعة والثورة إنّما توجد بين الشيعة ... ) .
أقول : وذلك ببركة هذه المدرسة المجيدة .
الثاني : أنّها مؤتمر ديني يجتمع فيه المسلمون ويبحثون عن أحوالهم ويتداركون مواقع الضعف ويتبادلون الآراء في شؤونهم فيتمكّنون من التآزر والاتّحاد ليسيروا على النهج القويم ؛ وهذا ممّا لا يتمكّن عليه إلاّ بالجهد الكثير والمال الوافر والمشقّة العظيمة ولكن هذه الأُمّة لمّا اعتادت عقد هذا المؤتمر الذي وضع أساسه الإمام الحسين بن علي (عليهما السّلام) يحصل في كلّ آن بدون أيّ مشقّة وعناء .
الثالث : أنّها تثبيت لعقائد الأُمّة وردّ للشبه عن مبدئها وهذا هو أسمى الغايات ؛ فلذلك ترى العامي الشيعي قوي في عقيدته وإيمانه بأدلّة قاطعة وبراهين ساطعة , وهذا عطاء من الحسين (عليه السّلام) إلى هذه الأُمّة .
الرابع : أنّها محكمة سلميّة قائمة بين الحقّ والباطل وهي واسعة المجال للنقد والبحث في المسائل الدينيّة والسياسيّة والعلمية وغيرها من مختلف المسائل ؛ وبذلك تتوسّع دائرة التفكير وينبلج الحقّ لمريده وتزداد المعرفة والثقافة , وبحضورها يتّضح الواقع لمَنْ انحاز عنه ولم يتمكّن من طلبه بالسؤال .
وهذا ممّا اختّصت به هذه الأُمّة بـ (المآتم الحسينيّة) .
الخامس : أنّها بثّ للمبدأ ونشر للدعوة وهو الذي قام الحسين (عليه السّلام) لأجله وأُريق دمه في سبيله ؛ فكم من ضالّ اهتدى بحضور هذه المآتم وكم من مسيحي أو يهودي أو مجوسي استسلم فيها وكم من منحرف استقام .
وهذا كلّه بتوضيح الواقع والمناقشة مع الباطل في تلك المحافل .
السادس : أنّها جهاد متواصل ضدّ الظلم في جميع الأزمان وهذا شيء لا غبار عليه .
السابع : ذكر فضائل قادة الدين ورؤساء المسلمين ممّا يوجب ثبات العقيدة بهم واتّباع آثارهم الحكيمة وآرائهم الرصينة والاقتداء بهم في أخلاقهم الإسلامية السامية ؛ فإنّها هي التي توجب عزّ المسلمين وتقدّمهم في جميع مجالات الحياة وكذلك فضل الرجال الصلحاء والعلماء والزهّاد والحكّام العدول المؤمنين للاقتداء بهم في صفاتهم الحسنة ومآثرهم الحميدة .
الثامن : تأثّر النفوس بمصائب آل البيت ومظلوميتهم وهو الذي يكون حافزاً للتفاني في سبيل الحقّ وإعلاء كلمته والتشبّث به كما حدث ـ عياناً ـ في هدم كيان الظلم عندما انتشرت أخبار الحسين ومظلوميته ومصائبه إلى العالم وتبيّن مدى ظلم بني أُميّة وقساوتهم تجّاه أهل البيت (عليهم السّلام) .
وكثيراً ما سمعناه أنّ أفراداً لا يعتقدون بالإسلام أو أشخاصاً من غير الشيعة استسلموا وتشيّعوا ؛ لِما أثّر في قلوبهم من المصائب التي تحمّلها الحسين (عليه السّلام) بصبر كبير وفعلها يزيد بعنف كثير . تلك المصائب التي لا تتحمّل إلاّ في سبيل الحقّ وإعلاء كلمته .
هذه بعض تلك الفوائد الثمينة من المآتم الحسينيّة وما لم نذكره ضعف ما تلوناه .
وفي الواقع لو إنّا أقمنا المآتم الحسينيّة بنظامها وقانونها لفقنا جميع الأُمم عدّة وعدداً , كما قال المستشرق (جوزف) في (الإسلام والمسلمون) أيضاً : لا يمضي على هذه الفرقة زمان قليل إلاّ وتفوق سائر المسلمين من حيث العدد .
هذا إن سرنا على هذا النهج باعتقاد وعزم ثابتين .