لقد اتّفقت كتب الحديث والرواية ـ سواء كانت من مؤلّفات الشيعة، أو من مصنّفات إخواننا السنّةـ على أنّ جبرائيل قد أوحى إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بنبأ مقتل الإمام الشهيد الحسين (عليه السلام)، ومكان استشهاده، وفيما يلي بعض هذه الروايات في ذلك:
1 ـ قال العلاّمة السيّد محسن الأمين العاملي في الصفحة (30) من مصنّفه: (إقناع اللائم على إقامة المآتم) ما نصّه: ذكرَ الشيخ أبو الحسن علي بن محمّد الماوردي الشافعي في كتابه (أعلام النبوة)، صفحة (83) طبعُ مصر فقال: ومن إنذاره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما رواه عروة عن عائشة قالت: (دخلَ الحسين بن علي (عليه السلام) على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يوحى إليه، فبَركَ على ظهره وهو مُنكب، ولعبَ على ظهره، فقال جبرائيل: (يا محمّد، إنّ أُمتك ستُفتن بعدك وتقتل ابنك هذا من بعدك، ومدّ يده فأتاه بتربة بيضاء وقال: في هذه الأرض يُقتل ابنك اسمها الطف، فلمّا ذهبَ جبرائيل، خرجَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى أصحابه والتربة في يده، وفيهم: أبو بكر، وعمر، وعلي، وحُذيفة، وعمّار، وأبو ذر وهو يبكي، فقالوا: ما يُبكيك يا رسول الله؟ فقال: أخبَرَني جبرائيل أنّ ابني الحسين يُقتل بعدي بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة فأخبَرني أنّ فيها مضجعه) انتهى.
ثُمّ يُضيف السيّد محسن العاملي على ذلك بقوله:
أقول: ولابدّ أن يكون الصحابة ـ لمّا رأوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يبكي لقتل ولَده وتربته بيده، وأخبَرهم بما أخبره جبرائيل من قتله، وأراهم تربته التي جاء بها جبرائيل ـ أخذَتهم الرقّة الشديدة، فبَكوا لبكائه وواسوه في الحزن على ولَده؛ فإنّ ذلك مِمّا يبعث على أشدّ الحزن والبكاء لو كانت هذه الواقعة مع غير النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والصحابة، فكيف بهم معه؟! فهذا أوّل مأتم أُقيمَ على الحسين (عليه السلام) يشبه مآتمنا التي تُقام عليه، وكان الذاكر فيه للمصيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمستمِعون أصحابه.
2 ـ جاء في الصفحة (31) من الكتاب نفسه: وفي (منتخب كنز العمّال صفحة (112) الجزء الخامس)، للشيخ علاء الدين علي بن حسام الدين، الشهير بالمتقي الهندي من علماء أهل السنّة، قال: أخرجَ الطبَراني في الكبير: عن المطّلب بن عبد الله بن حنطب، عن أم سلمة قالت: كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جالساً ذات يوم في بيتي فقال: (لا يدخلنّ عليّ أحد، فانتظرتُ فدخلَ الحسين، فسمعتُ نشيج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يبكي، فاطّلعتُ فإذا الحسين في حجره أو إلى جنبه يمسح رأسه وهو يبكي، فقلتُ: والله، ما علمتُ به حتى دخلَ.
قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ جبرائيل كان معنا في البيت فقال: أتحبّهُ؟ فقلتُ: أمّا من حُب الدنيا نعم، فقال: إنّ أُمتك ستقتل هذا بأرضٍ يُقال لها كربلاء، فتناولَ من ترابها فأراه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلمّا أُحيطَ بالحسين حين قُتل قال: ما اسمُ هذه الأرض؟ قالوا: أرض كربلاء، قال: صَدقَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أرض كربٍ وبَلاء..).
أقول: وقد نَقلت هذه الرواية كثير من كتب أهل السنّة بنفس العبارة أو بتعديلٍ فيها: كصاحب العقد الفريد في الجزء الثاني، وأحمد بن حنبل، وأبي يعلى، وابن سعد، والطبراني، وأنس بن مالك، وابن عساكر، وغيرهم كثيرون.
ورواها أيضاً من الشيعة كثيرون من علمائها، منهم: الشيخ أبو جعفر محمّد بن علي المعروف بابن بابويه القمّي، عن الإمام الخامس محمّد الباقر (عليه السلام) بهذه العبارة:
(كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بيت أم سلمة فقال لها: لا يدخل عليّ أحد، فجاء الحسين وهو طفل فما ملكت معه شيئاً حتّى دخلَ على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فدخلَت أم سلمة على أثره، فإذا الحسين على صدره، وإذا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يبكي، وإذا في يده شيء يقبِّله، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يا أم سلمة، إنّ هذا جبرائيل يخبرني أنّ ابني هذا مقتول، وهذه التربة التي يُقتل عليها، فضعيها عندكِ فإذا صارت دَماً فقد قُتل حبيبي ...)، انتهى قول العلاّمة العاملي.
3 ـ ذكر الشيخ المفيد في إرشاده ما لفظه: رَوى الأوزاعي عن عبد الله بن شداد، عن أم الفضل بنت الحارث: أنّها دخلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالت: يا رسول الله، رأيتُ الليلة حلماً منكراً، قال: (وما هو؟ قالت: إنّه شديد، قال: ما هو؟ قلت: رأيتُ كأنّ قطعة من جسدك قُطعت ووضِعت في حجري، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): خيراً رأيتِ تلِد فاطمة غلاماً فيكون في حِجركِ، فولَدت فاطمة الحسين (عليهما السلام)، قالت: وكان في حِجري، كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فدخلتُ به يوماً على النبي ـ وأنا أحمل الحسين ـ فوضعتهٌ في حِجره، ثُمّ حانَت منّي التفاتة فإذا عَينا رسول الله تُهرقان بالدموع، فقلتُ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما لك؟ قال: أتاني جبرائيل فأخبَرَني أنّ طائفة من أُمتي ستَقتل ابني هذا، وقلتُ: هذا؟ قال: نعم) وأتاني بتربة من تربته حمراء الخ.
ورَوى سمّاك، عن ابن مخارق، عن أم سلمة (رضي الله عنها) قالت: بَينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذات يوم جالس والحسين جالس في حِجره، إذ هَملت عيناه بالدموع، فقلتُ له: يا رسول الله، مالي أراك تبكي، جُعلت فداك؟ فقال: (جاءني جبرائيل فَعزّاني بابني الحسين وأخبَرني أنّ طائفة من أُمتي تقتله، لا أنالَهم الله شفاعتي).
ورَوى بإسنادٍ آخر عن أم سلمة أنّها قالت: خرجَ رسول الله وهو أشعث أغبَر ويده مضمومة، فقلتُ له: يا رسول الله، مالي أراك شعثاً مُغبراً؟ فقال: أُسريَ بي في هذا الوقت إلى موضعٍ من العراق يقال له (كربلاء)، فأُريتُ فيه مصرع الحسين ابني وجماعة من وِلدي وأهل بيتي، فلم أزل ألقطُ دماءهم فها هي في يدي، وبَسطها إليّ فقال: خُذيها واحتفظي بها)، فأخذتُها فإذا هي شبه تراب أحمر، فوضعتهُ في قارورة وشددتُ رأسها واحتفظت بها، فلمّا خرجَ الحسين من مكّة متوجهاً نحو العراق، كنتُ أُخرِج تلك القارورة في كل يوم وليلة فأشمّها وأنظر إليها، ثُمّ أبكي لمصابه، فلمّا كان اليوم العاشر من محرّم ـ وهو اليوم الذي قُتلَ فيه الحسين ـ أخرجتُها في أول النهار وهي بحالها، ثُمّ عُدتُ إليها آخر النهار، فإذا هي دمٌ عبيط فضجَجت في بيتي وبكيت، وكظمتُ غيظي مخافة أن يسمع أعداؤهم بالمدينة فيسرعوا بالشماتة، فلم أزل حافظة للوقت واليوم حتى جاء الناعي بنعيه فحقّقَ ما رأيت.
4 ـ جاء في (مسند أحمد بن حنبل 1: 85): بسنده عن عبد الله بن نجي عن أبيه أنّه سارَ مع علي (عليه السلام) وكان صاحب مطهرته ـ أي الإناء الذي يتطهّر به ويتوضأ منه ـ فلمّا حاذَى نينوى، وهو منطلِق إلى صفّين، فنادى علي (عليه السلام): اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله بشط الفرات، قلتُ: وما ذاك؟ قال: دخلتُ على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذات يوم وعيناه تفيضان، قلتُ: يا نبيّ الله، أغضبكَ أحد، ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: بل قامَ من عندي جبرائيل قبلَ أمَد، فحدّثني أنّ الحسين يُقتل بشط الفرات، قال: فقال: هل لك إلى أن أُشِمّك من تربته؟ قال: قلت: نعم، فمدّ يده فقبضَ قبضة من ترابٍ فأعطانيها، فلم أملك عَيَنيّ أن فاضَتا ..).
ونَقلَ هذا الحديث ـ بنفس العبارة، أو مع إضافةٍ عليها ـ: كتاب (الصواعق المحرقة) لابن حجر، وكتاب (منتخب كنز العمّال)، وسبط ابن الجوزي الحنفي في (تذكرة الخواص)، والبغوي في معجمه، وغيرهم كثيرون من رواة السُنّة والشيعة.
5 ـ وأخرجَ ابن سعد هذه الحكاية عن عائشة بإضافة: (إنّ جبرائيل أراني التربة التي يُقتل عليها الحسين، فاشتدّ غضب الله على مَن يسفك دمه، فيا عائشة ـ والذي نفسي بيده ـ إنّه ليحزُنني، فمَن هذا من أُمتي يقتل حسيناً بعدي؟).
6 ـ أخرجَ أحمد بن حنبل فيما أخرجهُ من مسند ابن عبّاس، قال: (رأيت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما يرى النائم بنصف النهار، وهو قائم أشعث أغبر، بيده قارورة فيها دم، فقلتُ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا؟ قال: هذا دم الحسين وأصحابه، لم أزل ألتقطه منذُ اليوم، فأحصينا ذلك فوجدوه قُتلَ في ذلك اليوم.
7 ـ جاء في الصفحة (39) من كتاب (إقناع اللائم) المارّ ذكره ما نصّه: (روى ابن شهر آشوب في المناقب عن جامع الترمذي، وكتاب السدي، وفضائل السمعاني، أنّ أم سلمة قالت: رأيتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المنام وعلى رأسه التراب، فقلت: مالَكَ يا رسول الله؟ فقال: شهدتُ قتلَ الحسين آنفاً..).
أقول: ومن روايات أصحابنا في ذلك ما رواه الصدوق في الأمالي، بسنده عن سلمى قالت: (دخلتُ على أم سلمة وهي تبكي فقلت لها: ما يبكيكِ؟ قالت: رأيتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المنام وعلى رأسه ولحيته أثر التراب فقلت: مالكَ يا رسول الله مُغبراً؟ قال: شهدتُ قتل الحسين آنفاً).
وروى المفيد في المجالس، والشيخ الطوسي في الأمالي بسندهما عن الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام) قال: (أصبَحَت يوماً أم سلمة تبكي، فقيل لها: مِمّ بكاؤكِ؟ فقالت: لقد قُتلَ ابني الحسين الليلة، وذلك أنّني ما رأيتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منذُ مضى إلاّ الليلة، فرأيته شاحِباً كئيباً، فقلتُ: مالي أراكَ يا رسول الله شاحباً كئيباً؟ فقال: لم أزل منذُ الليلة أحفر القبور للحسين وأصحابه).
هذا، وقد رويَت أمثال هذه الأحاديث بأسانيدها من مصادر شيعيّة وسنّية موثوق بها بكثرةٍ لا تُحصى.
8 ـ وقد أشار ابن نباتة في كتاب خطبه المشهور الذي وضعه ليُقرأ على منابر الإسلام في الجُمعات، ولا يزال يُقرأ على المنابر إلى اليوم، حيث قال في الخطبة الثانية للمحرّم ضمن ما قال:
(وكان عليه الصلاة والسلام ـ يعني الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـ من حبّه للحسين يُقبِّل شَفتيه، ويحمله كثيراً على كتفه، فكيف لو رآه مُلقى على جنبيه، شديد العطش والماء بين يديه، وأطفاله يضجّون بالبكاء عليه؟ لصاحَ (عليه الصلاة والسلام) وخرّ مغشيّاً عليه، فتأسّفوا (رحمكم الله) على هذا السبط السعيد الشهيد، وتسلّوا بما أصابه لكم من موت الأحرار والعبيد واتقوا الله حقّ تقواه ..).
9 ـ أمّا أم سلمة: فهي إحدى زوجات الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد تقدّم بها العمر إلى أواخر سنة (61) للهجرة التي توفيت فيها.
وتقول الدكتورة بنت الشاطئ في الصفحة (320) من كتابها (موسوعة آل النبي)، الذي تكرّر طبعه عدّة مرّات في القاهرة وبيروت، عن هذه السيّدة الجليلة ما نصّه:
(وتقدّم العمر بأم سلمة زوجة النبي، حتى امتُحِنت كما امتُحن الإسلام كلّه بمأساة كربلاء، ومذبحة أهل بيت الرسول هناك، وتقول الرواية: إنّها ماتت في آخر سنة (61) هجريّة، بعدَما جاءها نعي الحسين بن علي (عليه السلام) ـ إلى أن تقول بنت الشاطئ ـ: وأم سلمة آخر مَن مات من نساء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وصلّى عليها أبو هريرة الصحابي، و دُفِنت بالبقيع..).
10 ـ أقول: لقد وصلَ نبأ فاجعة كربلاء، واستشهاد سيّد الشهداء الحسين بن علي (عليه السلام) وأصحابه في الطف، في أواخر شهر محرّم سنة (61 هـ) إلى المدينة المنوّرة، ثُمّ كان ما كان من هياج أهل الحجاز ـ وخاصّة مكّة المكرّمة والمدينة ـ لهذا الحادث الجلَل والمصاب العظيم .