الآن وقد انتهيتُ من سرد حوادث تاريخ العزاء الحسيني والنياحة عليه، وإحياء ذكرى مجزرته في كربلاء منذ بدئها حتى العصور الأخيرة، وكذا الأدوار التي مرّت عليها في مختلف القرون والعصور، والمراحل التي اجتازتها من مدٍ وجزر على أيدي الحكّام وأصحاب السلطة، وتمسّك الموالين لآل بيت النبوّة بهذا التقليد، الذي أصبحَ لديهم من مستحبّات شؤونهم التي يتقيّدون بها في شهرَي محرّم وصفر من كلّ سنة، وفي العشرة الأولى من محرّم بالأخص، وكذا في بعض أيام الأسبوع على طول السنة، ممّا عوّدوا أنفسهم عليها، وتوارثها الخَلَف عن السَلف.
وحيث إنّ إحياء هذه الذكرى الحزينة وإقامة شعائرها التقليديّة، قد تعدّت المركز الرئيسي للحادث المحزن ـ أي العراق ـ إلى سائر البلدان الإسلامية، وحتى كثير من الأصقاع غير الإسلامية، فإنّي أُفضِّل أن أختم رسالتي هذه بسرد بعض ما يجري في هذه الأقطار خلال شهرَي محرّم وصفر من كل سنة، أو العشرة الأولى من محرّم، أو يوم عاشوراء فقط، من إحياء ذكرى هذا الحادث المحزن.
إنّ كلّ مَن جابَ عواصم وحواضر ومُدن الأقطار الإسلامية في أرجاء المعمورة ـ سيّما المجتمعات الشيعيّة في هذه الأقطار وبالأخص منها العراق، والبلاد العربيّة الأخرى، والهند، وإيران، وأفغانستان، وغيرها من الأقاليم الآسيويّة، وبعض بلدان افريقيّة ـ وجدَ المباني الفخمة، والعمارات الكبيرة مُقامة، وتُدعى عند العرب (الحسينيّة)، وعند الهنود (إمام بهره)، وعند الفرس (مأتم سرّاً أو حسينيّة أو تكية)، وسائر الأقطار تسميها باسمها العربي (الحسينية)، وفي هذه المباني التي يوقفها أصحابها على إقامة النياحات فيها على الإمام الحسين (عليه السلام)، ويوقِفون عليها أوقافاً كثيرة وصدقات جارية، تنفق إيراداتها وأرباحها على إدارة هذه الحسينيّة.
وفي هذه المباني تُقام مجالس العزاء والنياحة لذكرى الإمام الشهيد (عليه السلام)، وفي هذه المجالس ـ التي تغصّ بالمجتمعين والمستمعين من شتات المسلمين ـ يرقى الخطيب المنبر، فيفتتح كلامه بسَرد آي من الذكر الحكيم، وتفسير علومها من أحاديث الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة الطاهرين (عليهم السلام)، ثُمّ يتلو تاريخ مجزرة كربلاء، منذ البداية حتى النهاية ـ موجزاً أو تفصيلاً ـ حسب مقتضيات المجلس وظروفه.
وهذا الخطيب الذي يُطلق عليه في أكثر البلدان العربيّة والإسلاميّة اسم (خطيب المنبر الحسيني)، أو (روضة خوان) هو خطيب جرّد نفسه لخدمة النياحة على الحسين (عليه السلام) وآله، وأحياناً النوح على مصائب سائر الأئمّة (عليهم السلام) أيضاً وقد جعلَ مهنته في الحياة هذه الخدمة الشريفة.
أمّا كلمة (روضة خوان) فمشتقّة من لفظتين عربيّة وفارسيّة، فالروضة مأخوذة من اسم كتاب (روضة الشهداء) تأليف المولى الحسين بن علي الكاشفي، المعروف بالواعظ البيهقي، المتوفّى سنة (910 هـ)، و(خوان) فارسيّة بمعنى (القراءة) وتأتي جملة (روضة خوان) بمعنى (قارئ الروضة).
وقد جرت العادة أن توزّع في هذه المجالس النياحيّة في أوّلها أو في آخرها المبرّدات، أو الشاي أو القهوة، أو بعض المأكولات التي تتناسب وتلك المشروبات حسب فصول السنة من برد أو حر، ونَفَقات هذه المجالس تُبذل من موقوفات الواقفين أو من خيرات أصحاب البِر.
وقد ثبتَ ممّا أوردتهُ في الفصول السابقة، أنّ إقامة العزاء الحسيني والنياحة على الإمام الحسين (عليه السلام) وآله وصحبه ترقى بتأريخها إلى عهدٍ قديم، أي القرن الأول الهجري، وإلى زمن وقوع هذه الفجيعة العظمى، أي منذ استشهاد الإمام (عليه السلام) وما يقرب من عهد الصحابة والتابعين لهم.
وكما قلتُ في تلك الفصول: إنّ هذا العزاء كان في أول أمره محدوداً جدّاً وصغير الحجم، وكان يُقام تحت التستّر والخفاء والتقيّة، كما أنّ إقامة هذه النياحة على الإمام الشهيد لم تكن ـ كما يتصوّره البعض ـ من مستحدَثات القرون الوسطى والأخيرة، مدّعين أنّها تولّدت على عهد الملوك الصفويين، وإنّما هي قديمة ولكنّها على زمن الصفويين اتّسع نطاقها، واشتدّ إقبال الناس عليها.
وكما مرّ في تلك الفصول أيضاً: أنّه كلّما توسّع المذهب الشيعي في العراق أو سائر البلدان العربيّة والإسلاميّة، وخَفت وطأة السلطات المعادية له، كلّما اشتدّ الموالون لآل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بإقامة ذلك العزاء وتلك النياحة، تحت اسم الرثاء أو النياحة خاصّة في مشاهد الأئمّة الأطهار (عليهم السلام).
وكما أثبتَ التاريخ أنّ جذور هذه النياحات والمآتم كانت في العراق، ثُمّ اتّسع نطاقها وامتدّت إلى الشعوب والأُمم الأخرى: كمصر على عهد الفاطميين، وإيران على عهد الصفويين، وسوريا والموصل ولبنان على عهد الحمدانيين، والمغرب الأفريقي على عهد العلويين والإدريسيين، والهند على عهد كثير من راجات الشيعة وملوكهم.
ولذلك أبدأ بوصف موجَز جدّاً لمَا كان ولم يزل يجري في البلاد العربيّة، ثُمّ البلدان الإسلاميّة والأقطار العالميّة، من مراسم وشعارات مجالس الحزن، ومجتمعات النياحة على الحسين (عليه السلام) وبعض ما تَناقلَته المؤلّفات وأقلام الكتّاب من مَغزى هذه الفاجعة العظيمة:
1 ـ جاء في الصفحة (135) من كتاب (نهضة الحسين)، لمؤلِّفه السيّد هبة الدين الحسيني الشهرستاني، ما عبارته:
(وامتدّت جاذبية الحسين (عليه السلام) وصَحبه من حضرة الحائر إلى تُخوم الهند وأعماق العجم، وما وراء الترك والديلم وإلى أقصى من مصر، والجزيرة، والمغرب الأقصى يردّدون ذكرى فاجعته بممر الساعات والأيام، ويقيمون مأتمه في رثائه ومواكب عزائه، ويجدّون في إحياء قضيته في عامّة الأنام، ويمثّلون واقعته في ممرّ الأعوام...) الخ.
2 ـ قال جرجي زيدان في ختام روايته (غادة كربلاء) ما نصّه: (لا شكّ أنّ ابن زياد ارتكبَ بقتل الحسين جريمة كبرى لم يحدث أفظع منها في تاريخ العالم، ولا غرو إذا تظلّم الشيعة لقتل الحسين وبكوه في كلّ عام، ومزّقوا جيوبهم وقَرَعوا صدورهم أسَفاً عليه؛ لأنّه قُتلَ مظلوماً).
3 ـ جاء في الصفحة (162) من كتاب (نهضة الحسين) في طبعته الخامسة، بقلم نجل المؤلِّف السيّد جواد هبة الدين الحسيني الشهرستاني، ما نصّه: (اهتمام الأقطار الإسلاميّة بعزاء الحسين: وهكذا أصبحَ المسلمون في اليوم العاشر من محرّم كلّ عام يحتفلون بذكرى عاشوراء، إحياء لذكرى شهيد الطف الإمام الحسين (عليه السلام) في جميع الأقطار الإسلاميّة.. ويعتبر هذا اليوم عطلة رسميّة لدى معظم هذه الدول، ويشترك كثير من روؤساء الدول الإسلاميّة في مراسيمه.
وحين تمرّ هذه الذكرى بالمسلمين في العشرة الأولى من محرّم أو في اليوم العاشر منه، فإنّه تَغمر غالبية العالَم الإسلامي موجة من الأسى، ويُخيّم عليه سحاب من الحزن كأنّ الإمام الحسين قد قُتل حديثاً، وكأنّ أشلاء آله وأنصاره لا تزال على منظرها المؤلم فوق تلك التُرب، وكأنّ دم أولئك الضحايا من الشهداء لم يزل يفور على تلك الأرض.. فيثير في نفوس المسلمين كلّ تلك المشاعر والأحزان، ممّا جَعلت معظم الحكومات العربيّة والإسلاميّة تحافظ على حرمة هذه المناسبة، وتلاحظ شعور المسلمين نحوها...
ومن أجل ذلك تصدر أوامرها بغلق دور اللهو واللعب، وحانات الخمور والشرب والمسارح، وأمثالها ممّا تحمل طابع اللهو والطرب، كما تقلّص على غرارها ما في برامج الإذاعة والتلفزيون ـ خلال العشرة الأولى من المحرّم ـ ببرامج تتّسم بالطابع الديني والروحي والعلمي، مجرّداً من كلّ أسباب اللهو والطرب... كلّ ذلك رعاية لشعور المسلمين، واحتراماً لمكانة هذه الذكرى، كما هو الحال في العراق، وإيران، وفي الهند، والباكستان وعديد من الدول الإسلاميّة الأخرى ...
والمسلمون إذ يحتفلون بهذه الذكرى الدامية ببالغ الأسى وعظيم الألم، إنّما يُشيدون فيها بموقف الإمام الحسين في ساحة الطف، ويمجِّدون مواقف آله وأصحابه وما قدّموه في ذلك الموقف، من جسيم التضحية، وعظيم البَسالة التي أدهَشت الأجيال، وأذهلَت التاريخ.
ثُمّ هم إذ يعبِّرون في إيحائهم لهذه الذكرى الدامية عن شعورهم نحو الإمام الشهيد، فإنّهم يختلفون في هذا التعبير حسب معتقداتهم فيه وفي حركته، واستشهاده، وباختلاف مداركهم وعاداتهم.
فمنهم مَن يعتبره عيداً مجيداً؛ لأنّ الفضيلة فيه قد انتصرت على الرذيلة، وإنّ الإمام بموقفه ذاك من يزيد قد أسندَ تعاليم جدّه سيّد الرُسل... وجدّد مجد شريعته السمحاء... كما هو الحال لدى المسلمين في بعض أنحاء المغرب العربي بشمال أفريقيّة، الذين يعتزّون بهذه الذكرى.
ومنهم مَن يندفع مع العاطفة إلى إيلام نفسه وإيذائها بمختلف الوسائل والأساليب، كضرب نفسه بالسلاسل أو بالتطبير، ظنّاً منه أنّ هذا النحو من الإيذاء من دلائل المواساة أو الاقتداء بأولئك الشهداء... كما هو الحال في بعض أنحاء العراق، وإيران، والهند، والباكستان).
ويستطرد الكاتب كلامه في الصفحة (164) من كتابه فيقول:
(وإلى جانب ما تقدّم تلبَس مُدن العتبات المقدّسة في العراق وإيران ـ والمساجد المهمّة والأماكن المتبرّكة في الهند والباكستان وغيرها من الأقطار والمناطق التي يتعصّب أهلها في الحب والولاء لآل البيت النبوي ـ حُلّة من السواد، كشعار الحزن والحِداد... وتبتعد عن مظاهر الزينة والبهرَجة، ومباعث الأنس والانشراح.
هذه هي الحالة في العشرة الأولى من شهر محرّم الحرام عند المسلمين بالنسبة لهذه الذكرى، إن لم يكن الشهر كلّه من كلّ عام، وفي الأقطار الإسلاميّة: كالعراق، وإيران، والهند، والباكستان إلى ما بعد العشرين من صفر، حيث تستكمل هذه الذكرى يومها الأربعين، ولها زيارتها الخاصّة، ومراسيمها المختصّة في كربلاء بالعراق... حيث يؤمّها أكثر من مليون زائر في يوم واحد لزيارة قبر الحسين (عليه السلام)، والطواف حول ضريحه في ذكرى أربعينه.. وتطوف المواكب الزاخرة حول مشهده لليُمن والبركة).
4 ـ جاء في الصفحة (280) من (موسوعة العتبات المقدّسة) قسم كربلاء، ما نصّه: (إنّ الكاتبة الإنجليزيّة القديرة (فرايا ستارك)، كانت قد كتبت فصلاً صغيراً عن عاشوراء في كتابها المعروف باسم (صور بغداديّة)، وتبدأ هذا الفصل بقولها: إنّ الشيعة في جميع أنحاء العالم الإسلامي يحيون ذكرى الحسين ومقتله، ويُعلنون الحِداد عليه في عشرة محرّم الأولى كلّها، حتى يصل بهم مدّ الأحزان البطيء ـ الذي يستولي على أنفسهم ـ إلى أوجَه بمواكب العزاء التي تخرج في اليوم الأخير، حاملة النعش بجثته المذبوحة).
ثُمّ تشير الكاتبة إلى مواكب العزاء والسبايا التي تمثّل فيها وقائع معركة كربلاء كلّها، وهي تقول:
(إنّ هذه المواكب التي تقام في بغداد والمُدن المقدّسة، يُعرف مجيئها من بعيد بصوت اللطم على الصدور العارية).
5 ـ جاء في الصفحة (297) من الموسوعة سالفة الذكر قسم كربلاء، نقلاً عن رحلة (جون أشر) الإنجليزي منقولاً عن المؤرِّخ (غيبون) بعد سرد مجزرة كربلاء، فيقول: (إنّ الشيعة من المسلمين في العالَم يقيمون في كلّ سنة مراسيم العزاء الأليمة؛ تخليداً لبطولة الحسين واستشهاده، فينسون أرواحهم فيها من شدّة ما ينتابهم من الحزن والأسى).
6 ـ نقلت مجلّة (العلم) النجفيّة عن جريدة (حبل المتين) الفارسيّة ـ التي كانت تصدر في الهند ـ مقالاً كتبه الدكتور جوزف الفرنسي، عن المسلمين في أنحاء العالَم وتقسيمهم إلى فرقتين: شيعيّة وسنّية، وما اتّصف به الشيعة من التقيّة، قال فيه: (ويقيم الشيعة المآتم تحت الستار، يبكون فيها على الحسين، فأثّرت هذه المآتم في قلوب هذه الطائفة إلى حدٍ أنّه لم يمرّ عليها زمن طويل حتى بَلَغت الأوج في الشرق، ودخلَ في هذه الطائفة بعض الوزراء وكثير من الملوك والخلفاء، فبعضهم أخفى ذلك تقيّة، وبعضهم أظهره جهاراً).
ويستطرد الكاتب الفرنسي فيقول: (ويمكن القول بأنّه لا يمضي قرن أو قرنان حتى يزيد عدد الشيعة على عدد سائر فِرَق المسلمين، والعلّة في ذلك: هي إقامة هذه المآتم التي جَعلت كلّ فرد من أفرادها داعية إلى مذهبه، اليوم لا توجد نقطة من نقاط العالَم يكون فيها شخصان من الشيعة إلاّ ويقيمان فيها المأتم، ويبذلان المال والطعام، رأيتُ في ميناء ( مارسال) في الفندق، شخصاً واحداً عربيّاً شيعيّاً من أهل البحرين، يُقيم المأتم منفرداً، جالساً على الكرسي، بيده الكتاب يقرأ ويبكي، وكان قد أعدّ مائدة من الطعام فرّقها على الفقراء.
هذه الطائفة تصرف في هذا السبيل الأموال على قسمين: فبعضهم يبذلون في كلّ سنة من أموالهم خاصّة في هذا السبيل بقدر استطاعتهم ما يقدّر بالملايين من الفرنكات، والبعض الآخر من أوقاف خُصِّصت لإقامة هذه المآتم، وهذا المبلغ طائل جداً).
ثُمّ يواصل الكاتب الفرنسي كلامه ويقول: (فلهذا تركَ جمع غفير من عرفاء هذه الفرقة أسباب معاشهم واشتغلوا بهذا العمل، فهم يتحمّلون المشاق؛ ليتمكّنوا من ذكر فضائل كبراء دينهم، والمصائب التي أصابت أهل هذا البيت، بأحسن وجه وأقوى تقرير على رؤوس المنابر وفي المجالس العامّة، وبسبب هذه المشاق التي اختارتها هذه الجماعة في هذا الفن، يفوق خطباء هذه الفرقة على جميع الطوائف الإسلاميّة).
ويستطرد الكاتب فيقول: (إنّ العدد الكثير الذي يُرى اليوم في بلاد الهند من الشيعة هو من تأثير إقامة هذه المآتم، فرقة الشيعة حتى في زمن السلاطين الصفويّة لم تسع في ترقّي مذهبها بقوّة السيف بل ترقّت هذا الترقّي المحيّر للعقول بقوّة الكلام الذي هو أشدّ تأثيراً من السيف، ترقّت اليوم هذه الفرقة في أداء مراسيمها المذهبيّة بدرجة جَعلت ثُلثي المسلمين يتّبعونها في حركاتها، جمٌ غفير من الهنود والفرس وسائر المذاهب أيضاً شاركوهم في أعمالهم).
ويواصل الكاتب قوله بهذه العبارة: (ومن جملة الأمور السياسيّة التي ألبَسها روؤساء فرقة الشيعة لباس المذهب منذ عدّة قرون، وصارت مؤثّرة جدّاً لجلب قلوبهم وقلوب غيرهم، هي أصول التمثيل باسم المأتم والتعزية في مأتم الحسين).
ويقول الكاتب بعد ذلك: (فرقة الشيعة حَصلت من هذه النكبة على فائدة تامّة، فألبَست ذلك لباس المذهب، وعلى كلّ حال فالتأثير الذي يلزم أن يحصل على قلوب العامّة والخاصّة في إقامة العزاء والمأتم قد حصل: فمن جهة يذكرون في مجالس قراءة التعزية المتواصِلة وعلى المنابر المصائب التي وردت على روؤساء دينهم، والمظالم التي نزلت على الحسين مع تلك الأحاديث المشوّقة إلى البكاء على مصائب آل الرسول، فبيان تلك المصائب للأنظار أيضاً له تأثير عظيم، ويجعل العام والخاص من هذه الفرقة راسخ العقيدة فوق التصوّر.
وهذه النكات الدقيقة أصبحت سبباً في أنّه لم يُسمع بأحد من هذه الفرقة ـ من ابتداء ترقّي مذهب الشيعة ـ أنّه تركَ دين الإسلام، أو دخلَ في فرقة إسلاميّة أخرى، هذه الفرقة تقيم المآتم بأقسام مختلفة، فتارةً في مجالس مخصوصة ومقامات معيّنة، وحيث إنّه في أمثال هذه المجالس المخصوصة والمقامات المعيّنة يكون اشتراك الفِرَق الأخرى معهم أقل، أوجَدوا المآتم بوضع خاص، فعملوا في الأزقّة والأسواق، وداروا به بين جميع الفِرَق.
وبهذا السبب تتأثر قلوب جميع الفِرَق منهم ومن غيرهم بذلك الأمر الذي يجب أن يحصل من البكاء، ولم يزل هذا العمل شيئاً فشيئاً يورِث توجّه العام والخاص إليه، حتى أنّ بعض الفِرَق الإسلاميّة الأخرى وبعض الهنود قلّدوا الشيعة فيه، واشترَكوا معهم في ذلك، وهذا العمل في الهند أكثر رواجاً منه في جميع الممالك الإسلاميّة، كما أنّ سائر فِرق الإسلام هناك أكثر اشتراكاً مع الشيعة في هذا العمل من سائر البلاد.
ويُظن أنّ هذا العمل بين الشيعة قد جاء من ناحية سياسة السلاطين الصفويّة، الذين كانوا أول سلسلة استولَت على السلطة بقوّة المذهب، وروؤساء الشيعة الروحانيون أيّدوا هذا العمل، وأجازوه شيئاً فشيئاً.
ومن جملة الأمور التي صارت سبباً في ترقّي هذه الفرقة وشهرتها في كلّ مكان، هو إزادة أنفسهم بالرأي الحسن، بمعنى أنّ هذه الطائفة بواسطة مجلس المآتم واللطم والدوران وحمل الأعلام في مأتم الحسين جَلبت إليها قلوب باقي الفِرَق، بالجاه والاعتبار، والقوّة والشكوكة).
ويختم الكاتب كلامه بقوله:
(لهذا نرى أنّه في كلّ مكان ولو كانت جماعة من الشيعة قليلة، يظهر عددها في الأنظار بقدر ما هي عليه مرّتين، وشوكتها وقدرتها بقدر ما هي عليها عشرات المرّات، وأكثر أسباب معروفيّة هؤلاء القوم وترقّيهم هي هذه النكبة.
ومصنّفو أوربا ـ الذين كتبوا تفصيل مقاتلة الحسين وأصحابه وقتلهم، مع أنّه ليس لهم عقيدة بهم قط ـ أذعَنوا بظلم قاتليهم وتعدّيهم، وعدم رحمتهم، ويذكرون أسماء قاتليهم بالاشمئزاز، وهذه الأمور طبيعيّة لا يقف أمامها شيء، وهذه النكبة من المؤيّدات الطبيعيّة لفرقة الشيعة).
7 ـ جاء في الصفحة (200) من كتاب (المجالس السَنيّة) المارّ ذكره، نقلاً عن رسال الحكيم والفيلسوف الألماني في رسالته عن النهضة الحسينيّة وتأثيرها على العالَم الإسلامي، قول هذا الفيلسوف عن تأثير إقامة المآتم الحسينيّة على حياة المسلمين وتقدّمهم، قوله:
(وليس لواحدة من الروابط الروحانيّة ـ التي بين المسلمين اليوم ـ تأثير في نفوسهم كتأثير إقامة مآتم الحسين، فإذا دامَ انتشار وتعميم هذه المآتم بين المسلمين مدّة قَرنين آخرين لابدّ أن تظهر فيهم حياة سياسيّة جديدة، وإن الاستقلال الباقي للمسلمين اليوم نصف أسبابها هو اتّباع هذه النكبة، وسنرى اليوم الذي يتقوّى فيه سلاطين المسلمين تحت ظل هذه الرابطة، وبهذه الوسيلة سيتّحد المسلمون في جميع أنحاء العالَم تحت لواء واحد؛ لأنّه لا يُرى في جميع طبقات الفِرَق الإسلاميّة مَن ينكر ذكر مصائب الحسين وينفر منها بسبب ديني، بل للجميع رغبة طبيعيّة بشكلٍ خاص في أداء هذه المراسيم المذهبيّة، ولا يُرى في المسلمين المختلفين في العقائد سوى هذه النكبة الاتحاديّة.
الحسين أشبهَ الروحانيين بحضرة المسيح، ولكنّ مصائبه كانت أشدّ وأصعب، كما أنّ أتباع الحسين كانوا أكثر تقدّماً من أتباع المسيح في القرون الأولى، فلو أنّ المسيحيين سلكوا طريقة أتباع الحسين، أو أنّ أتباع الحسين لم تمنعهم من ترقّياتهم عَقبات من نفس المسلمين، لَسادت إحدى الديانتين ـ في قرون عديدة ـ جميع المعمورة، كما أنّ من حين زوال العَقَبات عن طريق أتباع الحسين أصبحوا كالسيل المنحدر يحيطون بجميع المِلل وسائر الطبقات).
8 ـ جاء في الصفحة (381) من (موسوعة العَتبات المقدّسة) قسم كربلاء، ما نصّه: (في سنة 1943 م) كتبَ المستر ستيون لويد ـ خبير الآثار القديمة في بغداد لعدّة سنوات ـ كتابه الموجَز عن تاريخ العراق باسم (الرافدان)، وقد حلّل ـ في عدّة من صفحاته ـ تحليلاً بارعاً موقف الإمام علي من معاوية، وخرجَ منه إلى مقتل الحسين في كربلاء، وهو يقول:
(إنّ الفظاعة التي اقتُرِفت في المعركة، والفزع الذي أصابَ المسلمين بقتله، يكوِّنان أُسس المسرحيّة الأليمة التي تثير الطوائف الشيعيّة في العالَم الإسلامي كلّه، إلى حد الحنق الديني في عشرة عاشوراء من كلّ سنة).
وبعد أن يستطرد الكاتب في سرد حادث استشهاد الإمام الحسين وآله وصحبه يقول:
(وتُعد قبورهم ـ أي قبور الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ـ في الفرات الأوسط، وخراسان، نماذج بديعة للفن الإسلامي الرفيع، كما يُعد كلّ واحد منها حُجَجاً للزوّار الشيعة).
والخلاصة: فإنّه أينما وجِدت الأُسر الشيعيّة ـ على اختلاف قومياتها، ومِللها، ولغاتها ـ وجِدت معها مراسيم العزاء الحسيني، ومآتمه، وشعائره، ومواكبه، ومجالسه، ونياحاته بصورِها المختلفة، وأنواعها المتعدّدة، وبمظاهرها الموسّعة أو تشكيلاتها المحدودة، وبصورة خفيّة أو عَلنيّة، حسب ظروف تلك الأُسر الاجتماعيّة.
وتُقام هذه المناحات على الحسين (عليه السلام) من قِبَل الشيعة على الغالب في العشرة الأولى من المحرّم، وبالأخص يوم العاشر منه في كلّ سنة.
وحين يهلّ هلال شهر محرّم يستعدّ المسلمون الشيعة في مختلف أنحاء المعمورة للتعبير عن شعورهم إزاء هذه الذكرى الدامية، حيث يحتفلون بهذه المناسبة الأليمة، متذكرين مصارع آل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مجزرة الطف، في حزن عميق، وشجن عظيم، ومستعرِضين مواقف الحسين ومَن استشهدَ معه بما يناسبها من الإشادة والتكريم.
أُكرِر في هذا المقام وأقول: إنّ مَن يتصوّر أنّ هذه الشعائر والمظاهر في العزاء الحسيني إنّما هي من محدَثات العصور الأخيرة، فإنّه على خطأ؛ لأنّ هذا التعبير عن شعور التأثير والتألّم تجاه مصرع الحسين (عليه السلام) ـ كما مرّ في الفصول السابقة ـ إنّما يرتقي في تاريخه إلى القرن الأول الهجري، غير أنّه كان في أول أمره محدوداً جدّاً وصغير الحجم، يقام بمحضر أخص الناس بالحسين والأئمّة الأطهار، للتخفيف عن عُظم المصاب.