للوراثة في حياة الإنسان نوعان من التأثير لهما قيمة وفاعليّة كبيرة وهاتان القيمتان هما :
1 ـ القيمة التكوينيّة للوراثة .
2 ـ القيمة الإيحائيّة والتربويّة للوراثة .
وسوف نستعرض هذين النوعين من التأثير وما لهما من دَور فاعل ومُؤثِّر في حياة الإنسان .
فنتحدّث أوّلاً عن القيمة التكوينيّة للوراثة ونقصد بها التأثير الطبيعي والتكويني الّذي تتركه الوراثة في حيـاة الإنسـان في مقابل التأثير التربوي والإيحائي للوراثة ونتحدّث ثانياً عن الإيحاءات التربويّة التي تتركها الوراثة في حياة الإنسان وما لهذه الإيحاءات التربويّة من أثر فعّال في حياة الإنسان .
1 ـ القِيمة التكوينيَّة للوراثة :
في ضوء دراسة النظريّة الإسلاميّة من التاريخ والارتباط السَبَبي بين مراحل التاريخ المختلفة نقول : إنّ الحضارة الواحدة امتداد واحد على مراحل زمنيّة مختلفة وكلّ مرحلة من هذه المراحل ترتبط بالمراحل السابقة تحكيها وتَرِثها .
ولا يمكن من الناحية العلميّة تفكيك المراحل المختلفة للحضارة الواحدة واعتبار كلّ شطر منها وحدة قائمة بالذات .
إنّ اليوم الحاضر مرآة للأمس الماضي وجزء لا يتجزّأ منه ولا نستطيع أن نفهم اليوم إن لم نربطه بالأمس ولا نستطيع أن نفْهم الشطر المعاصِر من أيّة حضارة إذا لم نبحث عن جذورها ومكوّناتها في المراحل السابقة من التاريخ .
دراسة في الشريحة الحضاريّة :
إنّ كلّ شريحة حضاريّة تُعتبَر حصيلة جهود طويلة لأجيال من أبناء هذه الحضارة في مراحل مختلفة من التاريخ ووراثة لميراث الأجيال السابقة في العادات والتقاليد والأعراف والثقافة والتصورّات والحبّ والبغض ... وعندما نقتطعُ نحن هذه الشريحة المعاصرة أو هذا الجيل المعاصر من الحضارة عن جذوره وأُصوله لا نكاد نستطيع أن نفهمه حقّ الفَهم .
ومن السذاجة أن نتصوّر أنّ هذه الشريحة أو تلك من الشرائح الحضاريّة قد تكوَّنت بصورة عفويّة وبمَعزل عن التاريخ الّذي ترتبط به .
يقول الدكتور محمّد زكي العشاوي في بحث له في مجلّة (عالم الفِكر) :
( ونحن مع إيماننا المُطلَق بحركة التطوّر التي لا تعرف النكوص أو الرجوع إلى الخلف فإنّنا نؤمن في الوقت ذاته بأنّ كلّ ما يدَّخره الإنسان ويختزنه من ماضي الحياة البشريّة ليس حياة ميِّتة بل لا يمكن أن تموت ؛ لأنّها جزء لا يتجزّأ من الحياة الكبرى الّتي لا تفنى والتي لا تهرم ولا تدركها الشيخوخة) .
البُعْد الأُفقي والبُعْد العمودي لكلِّ حضارة :
إنّ من الخطأ أن نفهم المجتمع والحضارة الإنسانيّة في البُعد السطحي فقط وأن يغيب عنّا البُعد العمودي الّذي يُعتبَر المصدر والأساس لأيّة حضارة .
فليست الحضارة ـ بالتأكيد ـ هي مجموعة التفاعلات الاجتماعيّة الّتي تحدث على مقطع زمني خاصّ وعلى السطح المرئي من الحضارة فقط وإنّما هناك من وراء هذا السطح المرئي من الحضارة الأعماق غير المرئيّة للحضارة .
وفي ضوء هذا الارتباط السَبَبي بين الماضي والحاضر في المقاطع الزمنيّة المُتعدِّدة والتفاعل بين عناصر الحضارة الواحدة في المقطع الزمني الواحد نستطيع أن نفْهم الحضارة .
التبادل والتفاعل بين عناصر الحضارة الواحدة :
ففي المقطع الزمني الواحد نجد أنّ عناصر المجتمع الواحد تتفاعل مع بعض في تأثيرٍ وحركة مُتبادَلة .
فالمدرسة تُؤثِّر في العائلة تأثيراً قويّاً كما أنّ العائلة تُؤثِّر في المدرسة ولا نستطيع أن نفهم عناصر الحضارة الواحدة إذا لم نفهم هذا التأثير المُتبادَل والمتقابل بين عناصر الحضارة الواحدة وفي مقطع زمني واحد .
الأعماق الحضاريَّة :
وبمقياس أقوى وأبلغ يكون تأثير الماضي في الحاضر في سلسلة مترابطة من الحلقات من الأسباب والعِلل .
فمبعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مثلاً في القرن السادس الميلادي له تأثير بليغ وفوق
حدود التصوّر في كلّ مراحل حضارتنا خلال القرون الأربعة عشر التي مرّت على هذه الأُمّة .
ولا يمكن عزل هذا الحادث الكَوني الكبير عن كلّ مراحل تاريخنا وحضارتنا وليس من الممكن أن تكون أيّة شريحة من شرائح هذه الحضارة معزولة عن هذا السَبب أو نفهم أيّة شريحة من حضارتنا بمَعزل عنه .
والكلام نفسه يصدق في معركة بدر (يوم الفرقان) ويوم الأحزاب وفتح مكّة ووقعة الطّف وهكذا...
إنّ لكلّ واحد من هذه الأحداث وغيرها دوراً تأسيسيَّاً في بناء هذه الحضارة وليس في الإمكان أن تتكوّن هذه الحضارة بكلّ خصائصها القائمة فعلاً بمعزل عن العوامل التاريخيّة التي ساهمت في بناء وتكوين تاريخنا ومجتمعنا .
وكلّما يزداد هذا العُمق كلّما تزداد قيمته الحضاريّة في بناء المجتمع . فالمجتمع الذي تمتدُّ جذوره آلاف السنين يتمتّع بقوّة وصلابة أكثر من المجتمع والحضارة التي تكوّنت في عدّة مئات من السنين فقط .
ذلك أنّ العمق التاريخي البعيد يُعتبَر تراكماً كبيراً من الأسباب والعلل من وراء المقطع الحضاري الذي نُعاصره .
فقد يكون من السهل أن يتجاوز الإنسان الظروف السياسيّة التي تكوّنت في عصره من الحبِّ والبغض والولاء والبراءة والأخلاق والسلوك والتصوّرات ولكن من الصعب جدّاً ـ ولا أقول من المستحيل ـ أن يتجاوز الإنسان الحبّ والبغض الذي تكوّن خلال ألف سَنة من الزمان .
فإنّ مرور هذه الحُقبة التاريخيّة الطويلة على هذه الحضارة يُكسِبها الكثير من الصلابة والثبات ممّا يجعل من الصعب جدّاً أن يتجاوزها الإنسان وهذا هو (الميراث الحضاري) الّذي نتحدّث نحن عنه في الدراسة .
عراقة الميراث الحضاري :
كلّما يطول الزمن فالظاهرة الحضاريّة تزداد تأصّلاً وعراقة وعُمقاً في وجود الأُمّة وتتمتّع بقوّة وأصالة وقُدرة أكثر على مواجهة التحدّيات ؛ ولذلك فإنّ التاريخ تراكم من العمل والجهد والتَبنِّي .
وكلّما يكون التاريخ أطول يكون الجهد والعمل المبذول في تَبنِّي أيّة ظاهرة اجتماعيّة أكثر ونتيجة لذلك ؛ تكون الظاهرة الاجتماعيّة أقوى وأثبت وأكثر أصالة وعُقماً ومَتانة وأقوى على مواجهة التحدّيات .
فـ (الصلاة) مثلاً ظاهرة حضاريّة عميقة الجذور في التاريخ وميراث حضاري عريق في الأجيال تنتقل من جيل إلى جيل وكلّما يمرّ علينا زمن أطول تزداد أصالة وثباتاً وعمقاً في حياة الإنسان .
فالعراقة الّتي نجدها نحن في حياتنا اليوميّة للصّلاة ليست حصيلة جهد وعمل فردي وفي مقطع زمنيٍّ خاصّ وإنّما هي حصيلة جهود وأعمال كبيرة وكثيرة عبر التاريخ في تَبنِّي الصلاة وإقامتها والدعوة إليها وتأكيدها وترسيخهـا وهذه الجهود جميعاً تتمثّل اليوم في (الصلاة) التي نقيمها نحن في بيوتنا ومساجدنا .
و (الحجّ) ظاهرة حضاريّة وميراث حضاري ورثناه نحن من أبي الأنبياء إبراهيم خليل الرحمان (عليه السـلام) .
ولهذه الظاهرة الحضاريّة عراقة وعُمق خاصّ وأصالة في حياتنا وجاذبيّه خاصّة في نفوسنا فإذا حان وقت الحـجّ توجّه مئات الآلاف من المسلمين من كلّ فجٍّ عميق رجالاً وعلى كلّ ضامر إلى البيت العتيق ؛ لأداء فريضة الحجّ .
يقول تعالى لعبده وخليله إبراهيم (عليه السلام) : {وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَمِيقٍ} [الحَجّ : 27] .
التَبنّي الجَمعي والعُمق الحضاري لفريضتَي الصلاة والحَجّ :
وما دُمنا نتحدّث عن (الصلاة) و (الحجّ) كمثالين للظواهر والمواريث الحضاريّة فلا بأس أن نقف وقفة قصيرة عند هاتين الظاهرتين الربّانيّتين في حياة الإنسان فنقول :
إنّ القيمة والفاعليَّة والجاذبيَّة الّتي تملكها هاتان الفريضتان في حياتنا تعود إلى أمرين اثنين :
الجُهد الجمعي الكبير المبذول في إقامة هاتين الفريضتين في المقطع الزماني الواحد في اجتماعات كبيرة وحاشِـدة .
ولا شكّ أنّ هذا الجهد والاهتمام الجمْعي بهاتين الفريضتين من قِبل الملايين من المسلمين ينعكس في الصلاة والحجّ بشكل واضح ويُكسِب هاتين الفريضتين هذه الجاذبيّة والتعاطف والقيمة والفاعليّة في نفوس جماهير المؤمنين .
وإلى جَنْب هذا البُعد هناك بُعد آخر للصلاة والحجّ وهو البُعد التاريخي الذي تحدّثنا عنه .
فإنّ الإقامة الطويلة للصلاة والحجّ والمُمارَسة التاريخيّة الطويلة لهاتين الفريضتين عبر القرون تمنح هاتين الفريضتين قيمة كبيرة وفاعليّة وجاذبيّة خاصّة وهذا هو الّذي نقصده من كلمة (الميراث) .
ولهذا السَبب ؛ يؤكِّد الإسلام تأكيداً كبيراً على الاهتمام بالإطار الاجتماعي : (البُعد الأوّل) وبالإطار التاريخي : (البُعد الثاني) للفرائض .
الإطارُ الاجتماعي للشَعائِر الإسلاميَّة :
ففي الإطار الاجتماعي وهو الإطار الأوّل يتفاعل الفرد ـ تفاعُلاً قويّاً ـ مع الجوّ الاجتماعي الذي تُقام فيه الفريضة فإنّ الصلاة جماعة وجُمعة لها تأثير مُتقابل في نفوس المصلِّين والفرد الذي يُقيم الصلاة في وسط حاشد من جماعة المسلمين يكتسب من حضور الآخرين اندفاعاً وقوّة وإقبالاً على فريضة الصلاة وتفاعلاً معها في الوقت الّذي يُكسِب الآخرين بحضوره نفس الاندفاع والقوّة والتفاعل والإقبال .
وهذا التعاطي والتبادل المُتقابَل من قِبل المصلِّين يُكسب الصلاة في نفوس الجميع أصالة وثباتاً وقوّة وجاذبيّة .
ولعلّ الاهتمام بالجُمعة والجماعة في الإسلام من هذا المُنطلَق .
ورغم أنّ الإنفراد والخَلوة في ذكر الله تفيد الإنسان في الإقبال على الذِكر كثيراً رغم ذلك تُفضِّل الشريعة إقامة الصلاة جماعة على الصلاة فُرادى وتُؤكِّدها حتّى روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : (لا صلاة لمَن لا يُصلِّي في المَسجدِ مع المسلمين إلاّ مِن عِلَّة) .
وروي عن الصادق (عليه السلام) : (أنّ أُناساً كانوا على عهدِ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أبطأوا عن الصلاة في المسجدِ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : لَيُوشك قوم يُدعَون للصلاة في المسجد أن نأمر بحَطَب ليُوضع على أبوابهم فتُوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم)
والجماعة ـ بحُكم هذا التأثير المتبادَل الذي يتركه كلّ واحد من الجماعة في الآخَرين ـ ليست كميّة عدديّة فقط تساوي مجموعة الأفراد وإنّما يتحوّل هذا الكَم إلى كيف خاصّ تُعبِّر عنه الروايات بـ (يد الله) فالجماعة ليست فقط مجموعة الأفراد وإنّما تساوي (مجموعة الأفراد + يد الله) .
يدُ الله على جماعةِ المسلمين :
وقد روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : يدُ الله على الجَماعة والشيطانُ مع مَن خالَـفَ الجماعـة .
ويدُ الله هنا هي القوّة والبركة والرحمة فعندما يجتمع جَمْع من المؤمنين تنزل عليهم رحمة الله وبركاته ويمنحهم الله القوّة والرحمة .
وهذا هو ما ذكرناه من أنّ المُمارَسة الاجتماعيّة للفرائض الإسلاميّة تمنح الفرائض الإسلاميّة كثيراً من الجاذبيّة والقـوّة والصلابة والأصالة وتشدّ الناس إلى هذه الفرائض شدّاً نفسيّاً وعاطفيّاً قويّاً . وهذا هو بعض السرِّ في قوّة وجاذبيّة فريضة الحجّ التي تجتذب الناس من كلّ فجٍّ عميق إلى هذا الوادي غير ذي الزرع حول بيت الله الحرام .
وبنفس الملاك يصحّ أن نقول : إنّ هذه التجمّعات القائمة على ذكر الله تعالى وتقوى الله تمنح الإنسان تقوى وعصمة وتعصِم عن الشطَطِ والزَيغ والضّلال وتُعتبَر الحصن الذي يُحصِّن المؤمنَ من عدوان الهوى والشيطان .
فقد روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : يدُ اللهِ على الجَماعة فإذا اشتَذّ الشَاذّ منهم اختَطَفَه الشيطـانُ كما يَختَطِفُ الذِئْبُ الشاةَ الشاذَّة من الغَنَم .
وهذا هو الإطار الأوّل (الاجتماعي) (الأُفقي) للصلاة والحَجّ .
الإطار التاريخي للشَعائر الإسلاميَّة :
والبُعد الآخر للشعائر والفرائض الإسلاميّة هو : البُعد التاريخي (العمودي) .
ولهذا البُعد تأثير كبير في تعميق مشاعر العبوديَّة والإقبال على ذكر الله تعالى في حياة الناس ؛ ولهذا الأمر يهتمّ القرآن كثيراً بالبُعد التاريخي للصلاة والإيمان والدِّين .
يقول تعالى : {شَرَعَ لَكُم مِنَ الدّينِ مَا وَصّى بِهِ نُوحاً وَالّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدّينَ وَلا تَتَفَرّقُوا فِيه } [الشورى : 13] .
{قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النّبِيّونَ مِن رَبّهِمْ} [البقرة : 136] .
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} الأنبياء : 72 ـ 73 .
وانطلاقاً من هذا التصوّر للتاريخ والميراث نقول : إنّ حَجَّ إبراهيم (عليه السلام) له تأثير في حجِّنا وصلاة موسى وعيسى (عليهما السلام) لها تأثير في صلاتنا ودعوة نوح (عليه السلام) لها تأثير مباشر وغير مباشر على دعوتنا إلى الله تعالى .
وأنّ جهاد الحسين (عليه السلام) في كربلاء ووقعة الطّف له تأثير مباشر على مسيرتنا ودعوتنا
ومواجهتنا اليوم لطواغيت عصرنا وأنّ أجزاء هذه المسيرة الواحدة ـ من آدم ونوح (عليهما السلام) إلى اليوم الحاضر ـ أجزاء مُترابِطة مُتماسكة السابق منه يدعم اللاحق واللاحق منه يرِث السابق .
وعلى هذه المسيرة تنتقل القِيم والتُراث والولاء والبراءة والحُبّ والبغض والتصوّرات والأخلاق من جيل إلى جيل .
وحدة المَسيرة ووحدة المُعاناة ووحدة الثواب :
ومن أروع ما في هذا التصوّر الإسلامي للميراث أنّ الأجيال اللاحقة لا ترِث فقط المواريث الحضاريّة من الأجيال السابقة وإنّما تُشاركها أيضاً في ثواب معاناتها وعنائها الطويل في صراعها مع الكفر والنفاق ؛ لإقامة هذه الفرائض الإسلاميّة وتثبيتها .
فقد تحمّل سَلَفُنا الصالح على هذا الطريق الكثير من العناء والمعاناة في الصراع مع الطاغوت ؛ لإقامة هذه الفرائض وتثبيتها وتعبيد الإنسان لله .
ونحن (الوارثون) لا تنتقل إلينا فقط هذه القِيم والمواريث ـ (العبوديَّة والإيمان والصلاة) ـ من سَلَفِنا وإنّما ينتقل إلينا أيضاً ثواب معاناتهم وصبرهم وعنائهم دون أن يكون لنا فِعل وتحمُّل في هذه المعاناة والعناء .
والجسر العجيب الذي ينتقل عليه هذا الثواب والأجر ـ من دون معاناة وعناء ويُشرِك أُناساً في ثواب أُناس آخرين سبقوهم ـ هو الولاء والحُبّ .
وعجيب أمر الولاء والحُبّ ! فهو يُوحِّد أطراف هذه المسيرة المتباعدة ويجعلها قطعة واحدة ويُشرِك اللاحق في ثواب السابق ويجعل السابق مورداً ومُعيناً للاّحق . وهذا هو البُعد الثالث (المستقبليّ) لمسيرة الدعوة إلى الله .
روى الحكم بن عيينة قال : لمّا قتلَ أمير المؤمنين (عليه السلام) الخوارجَ يوم النهروان قام إليه رجُل فقال : يا أمير المؤمنين [ طوبى لنا إذ شهدنا معك هذا الموقف وقتلنا معك هـؤلاء الخـوارج ] فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : والّذي فلقَ الحبّة وبرأ النسمة لقد شهدنا في هذا الموقف أُناس لم يخلق اللهُ آباءَهم ولا أجدادهم بَعدُ فقال الرجل : وكيف يشهدنا قوم لم يُخلَقوا ؟ قال : بلى قوم يكونون في آخِر الزمان يشركوننا فيما نحن فيه ويسلِّمون لنا فأُولئك شُركائنا فيما كنّا فيه حقّاً حقّاً .
وروى محمّد بن سلَمة رفَعَه قال : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : إنّما يجمعُ الناسَ الرضا والسُخط فمَن رضي أمراً فقد دخلَ فيه ومَن سخطه فقد خرجَ منه .
وعن سُليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لو أنّ أهل السماوات والأرض لم يُحبِّوا أن يكونوا شهداء مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لكانوا من أهل النار .
وروى أبو جعفر محمّد بن أبي القاسم الطبري في كتابه (بِشارة المصطفى) عن عطيّة العوفي قال : خرجتُ مع جابر بن عبد الله الأنصاري زائرين قبر الحسين (عليه السلام) فلمّا ورَدْنا كربلاء دَنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل ثُمّ ائتزرَ بإزار وارتدى بآخر ثُمّ فتح صُرَّة فيها سُعْد فنشرها على بدنه ثُمّ لم يخط خطوة إلاّ ذكر الله تعالى حتّى دَنا من القبر قال : ألمسنيه فألمستُه فخرَّ على القبر مَغشيّاً عليه فرَششتُ عليه شيئاً من الماء فلمّا أفاق قال :يا حسين ثلاثاً . ثُمّ قال : حبيبٌ لا يُجيب حبيبه ثُمّ قال : وأنّى لك بالجواب وقد شَخُبَت أوداجُك على أثباجِك وفُرِّق بين بدنك ورأسك فأشهدُ أنّك ابن خاتم النبِّيين وابن سيِّد المؤمنين وابن حليف التقوى وسَليل الهُدى وخامس أصحاب الكساء وابن سيِّد النقباء وابن فاطمة سيِّدة النساء .
وما لك لا تكون هكذا وقد غَذَّتكَ كفّ سيِّد المرسلين ورُبِّيت في حِجرِ المُتّقين ورضعتَ من ثديِ الإيمان وفُطِمتَ بالإسلام .
فطبتَ حيّاً وطبتَ ميِّتاً غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيِّبة لفراقِك ولا شاكَّة في الخِيرة لك فعليك سلام الله ورضوانه .
وأشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريّا .
ثمّ جال ببصره حول القبر وقال : السلام عليكم ـ الشهداء من أصحاب الحسين وأهل بيته ـ أيّتها الأرواح التي حلَّت بفناء الحسين وأناخَتْ برَحلِه وأشهد أنّكم أقمتُم الصلاة وآتيتُم الزّكاة وأمرتُم بالمعروف ونهيتُم عن المُنكَر وجاهدتُم المُلحِدين وعبَدتُم الله حتّى أتاكم اليقين .
والذي بعث محمّداً بالحقِّ نبيّاً لقد شاركناكم فيما دخلتُم فيه .
قال عطيّة : فقلت له يا جابر : كيف ولم نهبط وادِياً ولم نعلُ جَبَلاً ولم نضرِب بسيف والقوم قد فُرِّقَ بين رؤوسهم وأبدانهم وأُوتمتْ أولادهم وأُرملَتْ أزواجهم ؟!
فقال : يا عطيّة سمعتُ حبيبي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : (مَن أحبَّ قوماً حُشِرَ معَهم ومَن أحبّ عمل قوم أُشرِكَ في عملِهم) .
والذي بعثَ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) بالحقّ إنّ نيَّتي ونيَّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه (عليهم السلام) ) .
المواريث الحضارية والمواريث المدنية :
إنّ ما يُقال عن الظواهر الحضاريَّة كـ (الصلاة) و (الحجّ) و (التقوى) و (الإيمان) و (العفاف) يُقال عن الظواهر المادّيّة للحضارة كـ (المسجد) و ( المنبر) و (المدرسة) وغير ذلك من الظواهر والأدوات المادّيَّة للحضارة أو ما يُطلَق عليها أحيانـاً بـ (المَدنيّـة) في مقابِل (الحضارة).
فانّ لهذه الظواهر المادِّيَّة ـ أيضاً ـ أبعاداً اجتماعيّة وتاريخيّة كما للظواهر الحضاريّة وكُلّما تتَّسع أبعادُها الاجتماعيّة وتتعمَّق أبعادها التاريخيّة تزداد أصالة وعُمقاً ورسوخاً في ضمير الأُمّة .
فـ (المساجد) مثلاً تمتلك عُمقاً قيميّاً تاريخيّاً في حياة هذه الأُمّة وهذا العمق التاريخي يمنح (المسجد) قيمة خاصّة في حياتنا الاجتماعيّة ومركزاً حسّاساً يجعل من الصعب تجاوزه أو تحدِّيه من قِبَل أعداء الإسلام .
وهذه القيمة والأصالة والرسوخ في ضمير الأُمّة هي الّتي حفظت المساجد في تاريخ العدوان على الأُمّة وتراثها من اعتداء المُعتَدين .
وهكذا (الحجاب) للمرأة المسلمة يمتلك بفضل هذا العُمق التاريخي قيمة كبيرة واحتراماً في ضمير الأُمّة كما يُضفي احتراماً خاصّاً على شخصيّة المرأة .
وسوف نرى أنّ العُمق التاريخي لهذه الظواهر المادِّيَّة تجعل منها قِلاعاً تحمي وتُحصِّن الكثير من القِيم الحضاريّة في الأُمّة وتحميها من الاعتداء .
فالحجاب يحمي العفاف عند المرأة المسلمة ...
والمسجد والمنبر يحميان الصلاة ...
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحميان الفرائض والحدود الإلهيّة ...
والحركة والثورة يحميان النظام الإسلامي وسيادته ...
وللمُحافظة على هذه القِيَم الحضاريّة ينبغي أن نحافظ على الأدوات المادِّيّة لهذه الظواهر وأحياناً نحرص على إبقائها على شكلها وهندَستِها الخاصّة .
فنحافظ على العِمارة التقليديَّة للمساجد وعلى التصميم التقليدي للمنابر وعلى الصورة التقليديّة المعروفة للمصاحف في طباعة المصاحف .
وبهذا الترتيب نحرص على المحافظة حتّى على الوسائل المادِّيّة للحضارة الإسلاميّة ـ قدر الإمكان ـ على صورتها التاريخيّة التي تتمتّع باحترام وتقدير خاصّ في ضمير الأُمّة .
وهذا بعض سِرّ قوّة المواريث الحضاريّة في حياتنا .
وفشل أعداء الإسلام في إزالة هذه المواريث من الحياة فليس الجُهد الذي يبذله أعداء الإسلامي في القضاء على الفرائض الإسلاميّة كالصلاة والحَجّ باليَسير وليس الجُهد الّذي بذلوه للقضاء على الشَعائِر والشعارات والأعراف الإسلاميّة كالحجاب ومجالس عزاء الحسين والتحيّة والسلام بالشيء الهَيِّن .
فقد استخدم أعداءُ الإسلام كلّ الوسائل المُمكنة من إغراء وإرهاب وترغيب في اجتثاث هذه الأُمّة من جـذورها وتمييع أصالتها ومَسخ شخصيَّتها الحقيقية واستيراد الأفكار والتصوّرات والظواهر الحضاريّة الشرقيّة والغربيّة من هنا وهناك .
ولكنّ هذه الأعمال كانت تبوء غالباً بالفَشل ولا يَجني منها أصحابها إلاّ القليل .
لقد بذلَ (رضا خان بهلوي) في إيران و (مصطفى كمال أتاتورك) في تركيا جُهداً ليس بالقليل في مكافَحة المواريث الإسلاميَّة كالصلاة والحجّ وحتّى أنّ رضا بهلوي منع الحجَّ بحُجَّةٍ أو بأُخرى لعدّة سنوات وحارب الحجاب وألزم النساء المؤمنات بالسفور وحارب شعائر العزاء الحسيني الذي يُمارِسه المسلمون الشيعة في كلّ أقطار العالم الإسلامي .
لكنّ بهلوي أخفق في تحقيق أكثر طموحاته واستعادت الأُمّة رُشدها ووعيها وارتباطها الرسالي التاريخي بالإسـلام وسُرعان ما طُهِّرت ساحة البلاد من مُخلَّفات بهلوي ونظامه .
ومن أسباب ذلك عراقة هذه الظواهر الحضاريّة في تاريخ الأُمّة .
مواقِع الثورة والمناعة في حياة الأُمّة :
إنّ هذه النقاط (المواريث الحضاريّة) تُعتبَر نقاط القوّة ومراكز المناعة في حياة الأُمّة وتشبه تماماً الجذور العميقة التي تحفظ الشجرة الباسقة من السقوط .
إنّ هذه الجذور هي الّتي تمدّ الشجرة بالغذاء والماء وتحفظ الشجرة من السقوط كذلك المواريث الحضاريّة تُعتبَر الجذور والامتدادات العميقة الّتي تحفظ الأُمّة وتمنحها المناعة وتحصّنها ضدّ الغزو الأجنبي .
وفي تأريخنا السياسي المعاصر كلّما تحرّك أعداء الإسلام لغزو المنطقة الإسلاميّة فكريّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً اصطدموا بواحد من هذه المراكز ـ (مراكز القوّة والمناعة في حياة الأُمّة) ـ وتراجعوا أمامه .
فقد احتلّ العدوّ القلاع والحصون والقواعد العسكريّة الضخمة ولكنّه عندما اصطدم بالمسجدِ اضطرّ للتراجع والانسحاب . وقد احتلّ العدوّ الإذاعة والتلفزيون والصحافة وأخضعها جميعاً لحركة التغريب ولكنّه عندما اصطدم بصَخرةِ المِنبَر والحوزات والمدارس الدينيَّة والمساجد والأذان والصلاة ومجالس العزاء الحسيني اضطرّ للتراجع والانسحاب .
والسرّ كلّ السرّ في هذه القوّة هو الامتداد التاريخي العميق لهذه المواريث الحضاريّة والمدنيّة في ضمير الأُمّة ممّا يجعل من الصعب جدّاً مُداهَمة هذه المراكز من قِبل الأعداء واحتلالها والقضاء عليها .
المحافظة على المواريث الحضارية :
ومن هذا المنظور يجب علينا نحن الدّعاة إلى الله تعالى المحافظة على هذه المواريث الحضاريّة في حياة الأُمّة وحمايتها وتَبنِّيها ؛ لتحصين شخصيّة الأُمّة وتَثْبِيتها والمحافظة على أصالتها وعراقتها .
وبعكس ذلك ؛ فإنّ تعريض المواريث الحضاريّة العريقة للإهداء والضياع يُعرِّض شخصيّة الأُمّة للمَسخِ والضّياع .
ففي سورة مريم بعدما يستعرض القرآن الكريم شطراً من قصّة إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وإسماعيل وإدريس (عليهم السلام) يقول تعالى لنبيّه (صلّى الله عليه وآله) :
{ أُولئِكَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِنَ النّبِيّينَ مِن ذُرّيّةِ آدَمَ وَمِمّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمنِ خَرّوا سُجّداً وَبُكِيّاً * فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصّلاَةَ وَاتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} مريم : |[58 ـ 59].
هؤلاء الخَلف الذين يذمُّهم القرآن الكريم هُم الذين أضاعوا الصلاة ـ ميراث الآباء والسَلَف ـ واتّبعوا الشهوات . ويُنذرهم القرآن الكريم بأنّهم سوف يلقون غَيّاً .
إنّ من الناس مَن يحفظ الأمانة في مواريث السَلَف ويستلمها ويُحافظ عليها من الضياع والدسّ والانحراف ثُمّ يسلِّمها إلى الخَلف الّذين يلُونَهم من الجيل الجديد وهؤلاء هم الخَلفُ الصالح للسَلَف الصالح وحمَلَة الأمانة الذين يصلون الرحِم ولا يقطعونه .
ومن الناس مَن لا يحفظون الأمانة والعهد وتضيع على أيديهم مواريث السلف . هؤلاء هم الذين تَعنِيهم الآية الكريمة : {... فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصّلاَةَ ...} .
إنّ من الناس مَن يكون جسراً بين جِيلَين : جِيل سابق عليه وجيل يلحقه ينقل مواريث الصالحين من الآباء والأسلاف إلى الجيل الذي يلي جيله وهؤلاء هم الأُمناء .
ومن الناس مَن يُشكِّل فجوَة وقطيعة وحاجزاً بين جيلين الجيل السابق والجيل اللاحق فيفصل هذا الجيل عن ذلك الجيل ويقطع الخَلفَ عن السَلَفِ وهذه القطيعة هي أبرز صور الخيانة والعقوق وقطيعة الرّحم .
السُنّة والبُدْعَة :
وقد ورد التعبير في النصوص الإسلاميّة عن حالَتي الارتباط بالسّلف والقطيعة اللَّتَين تَحدَّثنا عنهما بالعمل بـ (السُنّة) و (البُدعَة) .
فالعمل بـ (السُنّة) هو : الارتباط السلوكي بالسَلف الصالح وحالة الاقتداء والتبعيّة الواعية .
في مقابل (البدعة) وهي : حالة القطيعة عن السلف وقطع الجسور والانحراف عن مسيرة السلف الصالح إلى الأنماط الجاهليّة المُستحدَثة والقديمة .
إنّ الاهتمام الكبير في النصوص الإسلاميّة بمسألة السُنّة قد ينشأ من هذه النظرة ويُعبِّر عن اهتمام الإسلام بربطِ الأجيال المُتعاقِبة بميراث الأنبياء والمُرسلين من السَلف الصالح وشَدّهم بالأنبياء والأولياء والصالحين من سَلفنا .
والقرآن الكريم يدعو المسلمين إلى التأسّي بالأنبياء والصالحين بشكل عامّ وبأبي الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) وبخاتم الأنبياء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بشكل خاصّ :
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ} [الممتحنة : 6].
{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة : 4].
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً}[ الأحزاب : 21].
وقد روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) :
( عَمَلٌ قليل في سُنّة خَير من عَمَلٍ كثير في بُدعَة) .
وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : لا يُقبَل قول إلاّ بعَمَل ولا يُقبَل قول وعَمل ونيّة إلاّ بإصابة السُنّة .
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : سمعتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : عليكم بالسُنّة فعَمَل قليل في سُنّة خَيْر من عمل كثير في بُدْعة .
وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : مَن تَمسّك بسُنّتي في اختلاف أُمّتي كان له أجر مئة شهيد .
وعن عليّ بن مَهزيار عن منصور بن أبي يحيى قال : سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : صعدَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) المنبرَ فتغيّرَت وَجْنتاه والتمع لَونُه ثُمّ أقبل بوجهه فقال : يا معشرَ المسلمين إنّما بعثْتُ أنا والسّاعة كهاتين ثُمّ ضمّ السبّاحتين .
ثُمّ قال : يا معشر المسلمين إنّ أفضل الهُدى هدى محمّد (صلّى الله عليه وآله) وخير الحديث كتاب الله وشرّ الأُمور مُحدَثاتها . ألا وكلّ بُدعَة ضلالة ألا وكلّ ضلالة في النار) .
وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (في القلب نور لا يضيء إلاّ من اتّباع الحقّ وقَصْدِ السبيل وهو نور من المرسلين الأنبياء يُودَع في قلوب المؤمنين) .
وعن ابن حميد رَفعَه قال : جاء رجل إلى أمير المؤمنين فقال : أخبرني عن ( السُنّة) و (البُدعَة) وعن (الجماعة) وعن (الفُرقة) .
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (( السُنّة) ما سَنّ رسول الله و (البُدعَة) ما أُحدِث من بعده و (الجماعة) أهل الحقّ وإن كانوا قليلاً و (الفُرقة) أهل الباطل وإن كانوا كثيراً) .
وعن موسى الكاظم (عليه السلام) : ثلاثُ مُوبِقات : نكث الصَفقة وترك السُنّة وفِراق الجماعة .
وفي النصّين الأخيرين تتبيَّن أبعاد التلاحم العضوي الوثيق في بناء الأُمّة في الارتباط بمنابع التشريع (السُنّة) والارتباط بالقيادة (البَيعة) والارتباط العضوي بالأُمّة (الجماعة) .
وروي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (رحمَ اللهُ خُلفائي فقيل : يا رسول الله ومَن خلفاؤك ؟ قال : الّذين يُحيون سُنّتي ويُعلّمونها عباد الله) .
والارتباط بين الخلافة والسُنّة يُلفت النظر في هذا الحديث فالخلافة تتحقّق باتّباع سُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
وأيضاً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : أمّا بعد فإنّ خير الأُمور كتاب الله وخير الهُدى هدى محمّد (صلّى الله عليه وآله) وشرّ الأُمور مُحدَثاتها وكلّ بُدعَة ضلالة .
وعنه (صلّى الله عليه وآله) : مَن أحيى سُنّة من سُنّتي فعمل بها الناس كان له مثل أجر مَن عمل بها لا ينقص من أُجورِهم شيئاً ومَن ابتدعَ بُدعَة فعُمل بها كان عليه أوزار مَن عمل بها لا ينقص من أوزار مَن عمل بها شيئاً .
وكأنّ الذي يبتدع في الدِين ويقطع الأجيال اللاحقة عن اتّباع السُنّة يتحمّل وزر كلّ الذين ينقطعون عن المسيرة والخطّ دون أن ينقص من أوزارهم شيء .
بين التقليد والثوابت :
يُلاحظ كثيراً : أنّ بعض علماء الاجتماع يضعون علامة الاستفهام أمام حالة النزوع إلى السُنّة ورفض البدَع في الأديان وبشكل خاصّ في الإسلام ويُفسِّرون هذه الحالة بالنزوع إلى القديم والميل إلى التقليد ورفض التجديد والتحرّك .
ومن هذه الزاوية يُدرِجون المجتمعات الدينيّة في قائمة المجتمعات المحافِظة التي ترفض التحرّك والتجديد والتطوّر في قِبال النوع الآخر من المجتمعات وهي المجتمعات الّتي تَتَّسِم بالحركيّة وترفض الجمود على القديم والركود والتقليـد .
يقول الباحثان الاجتماعيّان (W. F. Ogburn) و (M. F. Nimkoff) : (المجتمعات الجامِدة ـ بعكس المجتمعات الحركيَّة ـ لا تستجيب للتحوّلات الاقتصاديّة وترفض التجديد وتخضع الحياة في هذه المجتمعات لنظام ثابت تقريباً والسُنَن والأعراف تتحكّم في حياة الناس بصورة قاهرة . والإنتاج الاقتصادي يجري بصورة تقليديَّة .
ولا تتبدّل التصوّرات والأفكار الدِينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة .
والموقع العائلي والطَبقي والاجتماعي لأيّ شخص يُحدِّد دَوره الاجتماعي وموقعه في المجتمع وحتّى زواجه وموتـه ويتحكّم العرفُ والتقليد على الأخلاق ويندر الخروج على القواعد والأعراف والأساليب الحاكمة في المجتمع وإذا حدث شيء من ذلك يواجه ردود فعل قويّة مُعاكسة .
والطاعنون في السنِّ يُشكِّلون مصادر السُنَن والأعراف التقليديّة ويتحكّمون في حركة المجتمع .
إنّ البيئة الاجتماعيّة لا تُمارس أيّ دور تحريكي على الأفراد ولا تدفعهم إلى الإبداع والتجديد ويجري كلّ شيء تقريباً بشكل تقليدي وثابت . حتّى الزيّ واللباس والأكل يتحدَّد شكله بصورة مُسبَقة ولا أمل يساور أحداً في أن تتطوّر مثل هذه المجتمعات وتتحرّك للأمام وتجري في جوّ قائم ثابت غير مُتطوِّر .
هؤلاء الناس يعيشون للطموحات وللأفراح والمسرّات الصغيرة في مسير حياتهم اليوميّة وسُعداء من ناحية أُخرى بالحياة الأبديّة السعيدة التي ينتظرونها بعد الموت .
مثل هذا التصوّر عن المجتمعات الخاضعة للسُنَن أمر شائع في الكتب الاجتماعيّة وعلماء الاجتماع ـ في الغالب ـ ينظرون إلى المجتمعات المرتبطة بالسُنن والمواريث الحضاريّة بهذه النظرة السلبيّة والقاتِمة .
وبطبيعة الحال فإنّ هذا التصوّر يشمل المسيرة الإلهيّة على وجه الأرض في التاريخ فإنّ هذه المسيرة مُرتبطة بسُنن ثابتة تتوارثها جيلاً بعد جيل وتحكمها ضوابِط وحدود وأعراف وقِيم وأخلاق ثابتة وغير مُتغيِّرة وتحرص أجيال هذه المسيرة أن لا تنحرف عن الخطِّ والطريق وأن لا تُستبدَل المواريث الحضاريّة التي ورِثوها من السلف بالأعراف والقِيم والتصوّرات الجاهليّة التي استحدثها الناس ويعتبرون أيّ انحراف عن طريق السَلف من البدعة المُحرَّمة وكلّ اتّباع لمسيرة السّلف الصالح من السُنّة الواجبة والمندوبة .
وهذا التصوّر في حساب هذه الفئة من علماء الاجتماع يُدخِل المجتمع ضمن التصنيف المذكور في عداد المجتمعات الجامدة وغير الحركيّة .
ولابدّ أن نُشير هنا إلى المفارقة العلميّة الّتي يقع فيها كثيراً من الباحثين من هذا النمط . يختلط لديهم حساب الثوابت القائمة في حياة الإنسان بحساب القديم وتقليد القديم والجمود على القديم وهذا الخلط هو سَبب المفارقة الّتي يقع فيها هؤلاء .
إنّ في حياة الإنسان ثوابت لن تتغيَّر ولا تخضع لحسابات الزمن وهذه الثوابت هي الأبعاد الرئيسيّة للإنسان والقِيم الحقيقيّة لشخصيّة الإنسان وتجاوز هذه الثوابت يُؤدِّي إلى مَسخ شخصيّة الإنسان وتشويهه .
وللمحافظة على شخصيّة الإنسان بأبعاده الحقيقيّة لابدّ من المحافظة على هذه الثوابت وقد تكون هذه الثوابت في المحتوى فقط وقد تكون في المحتوى والشكل معاً .
فالحاجة الجنسيّة من الحاجات الثابتة في حياة الإنسان وطريقة تصريف هذه الحاجة أيضاً من العناصر الثابتة في حياة الإنسان فلا يمكن أن يتجاوز الإنسان الحاجة الجنسيّة من حيث المحتوى والمضمون كما لا يمكن أن يتجاوز الزواج وبناء العائلة من حيث الشكل .
ويصحّ أيضاً في حاجة الإنسان إلى المعاشرة الاجتماعيّة من حيث المضمون أحياناً فقط دون الشكل ومن حيث المضمون والشكل أحياناً ويصحّ أيضاً في الجانب الاقتصادي من حياة الإنسان.
وهذه المجوعة من الثوابت تُشكّل مجموعة كبيرة وواسعة من الحاجات الأساسيّة في شخصيّة الإنسان لا يجوز للإنسان أن يتجاوزها أو يستبدلها بشكل من الأشكال وأيّ محاولة لتخطّي هذه الحاجات تجرّ الإنسان إلى أن يتجاوز نفسه .
وهذه الأبعاد الأساسيّة الثابتة لشخصيّة الإنسان هي الّتي ترسمها الأديان الإلهيّة بالإجمال والتفصيل ويدعو إليها ويعمل بها الأنبياء والمرسلون وعباد الله الصالحون (عليهم السلام) وهي ما أسميناه بالتُراث والمواريث والسُنَن في مقابل البُدَع التي تُعبِّر عن تجاوز الإنسان للسُنن الإلهيّة الثابتة في حياة الإنسان .
وإزاء هذه الحالة (حالة الالتزام بالثوابت الإلهيّة في حياة الإنسان) هناك حالة أُخرى وهي حالة التبعيّة والجمود على القديم والتهيّب من تجاوز كلّ شيء قديم والتعصّب للآباء .
والقرآن الكريم يذمّ هذه الطائفة من الناس : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا}[الأعراف : 28] .
{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس : 78].
{ قَالُوا إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمّةٍ وَإِنّا عَلَى آثَارِهِم مُهْتَدُونَ} [الزخرف : 22].
{وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِن نَذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمّةٍ وَإِنّا عَلَى آثَارِهِم مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمّا وَجَدْتّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُم قَالُوا إِنّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف : 23 ـ 24].
وهذه هي حالة الجمود والتبعيّة والتقليد غير الواعي وهي تختلف اختلافاً كبيراً عن حالة اتّباع السُنَن الإلهيّة التي يأمر بها الإسلام والتي تُشكِّل العُمق الحقيقي للإنسان وأصالته والثوابت الإلهيّة في حياته .
الثوابت والفطرة والصِبغَة :
وهذه الثوابت في شخصيّة الإنسان هي التي يُعبِّر عنها القرآن الكريم بـ (الفطرة) كما يبدو :
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ} [الروم : 30] .
ويظهر من الآية الكريمة أنّ الفطرة هي : مجموعة الخصائص التي أودَعها الله تعالى في الإنسان والتي خلَق الله الإنسان عليها .
وهذه الخصائص تُشكِّل الجانب الثابت من شخصيّة الإنسان وتُعقِّب الآية الكريمة على ذلك بقوله تعالى : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) أي : لا يمكن التلاعب والتغيير والتبديل في خلْق الله بشكلٍ من الأشكال .
وإنّما (الدِين) استجابة تشريعيّة لهذه الحاجات والأبعاد التكوينيّة الثابتة في شخصيّة الإنسان والإنسان عندما يستجيب لسُنَن الله التشريعيّة ومنهجه الذي سلَكَه الأنبياء والمرسلون يستجيب لهذا الجانب الثابت من شخصيّته .
وقد ورد التعبير عن هذه الثوابت في شخصيّة الإنسان في القرآن بـ (صِبغَة الله) : (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً) .
وهو تعبير بديع عن الجانب الثابت في الإنسان .
فإنّ الله تعالى قد خلق الإنسان بلَونه وصِبغته الخاصّة التي ميّزه بها وهذه الصبغة واللون الذي يتميّز به الإنسان صِبغة من صِبغِ الله صبغَ بها شخصيّة الإنسان والدِين هو الآخر الجانب التشريعي من هذه الصِبغة الذي يتناسق مع الصِبغة الإلهيّة في جانبه التكويني وهما معاً صِبغة الله أحدهما الوجه التكويني والأُخرى الوجه التشريعي لها ؛ ولذلك فهما متناسِقان مُنسجمان .
أمّا الأصباغ والألوان الجاهليّة الّتي يصبغون بها حياة الإنسان في الأخلاق والأعراف والقوانين والتصوّرات والـرؤى فهي لَمّا كانت صِبغة غير صِبغة الله ؛ تأتي غير مُتناسقة لهذه الصِبغة الإلهيّة التي صبغَ الله تعالى شخصيّة الإنسان بها في التكوين .
روي عن رسول الله قال : يا عباد الله أنتم كالمَرضى وربّ العالمين كالطبيب فصلاح المرضى فيما يعلَمه الطبيب وتدبيره به لا فيما يشتهيه المريض ويَقترحه ألا فَسلِّموا لله أمره تكونوا من الفائزين .
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) للمُفضّل بن عُمَر : ولكنّه خلقَ الخلقَ فعلمَ ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحلَّه لهم وأباحه تفضُّلاً منه عليهم لمَصلحتِهـم وعَلِم ما يضرّهم فنهاهم عنه وحرَّمه عليهم .
2 ـ القيمة الإيحائيّة والتربويّة للوراثة :
تُعطي التربية الإسلاميّة أهمِّيّة خاصّة للوراثة في بناء شخصيّة الإنسان المسلم ؛ ذلك أنّ تعميق الإحساس بالوراثة للأنبياء والشهداء والصدِّيقين والارتباط بهذه المسيرة المباركة يمنح الإنسان حالة الاستعلاء على الحياة الدنيا وزُخارفها والترفّع عن الهوى والأنا والشهوات .
فإنّ الإنسان إذا عمّقَ في نفسه الإحساس بالارتباط الأُسري لا يسمح لنفسه التفريط في ما أعطاه الله من المواهب والنِعَم .
كرامة الأُسرة وموقعها الاجتماعي :
وهذا هو سرّ تأثير الوضع العائلي للإنسان في سلوكه ومعيشته فإذا شَعَر الإنسان بأنّه يرتبط بأكرمِ أُسرة في حضارةِ الإنسان وهي أُسرة الأنبياء (عليهم السلام) وأنّه خَلَف هذه الأُسرة وحلقة الارتباط بين أجيال هذه الأُسرة فليس من شكٍّ أنّ هذا الإحساس يبعث في نفسه قدرة كبيرة على الترفّع على المُنكَرات والمُرْديات ويمنحه القدرة على مكافحة الشهوات والأهواء ويضعه في موضع الاستعلاء على اللذّات والشهوات التي حرَّمها الله عليه .
إنّ الشعور بالبنوَّةِ والوراثة لأُسرة التوحيد والارتباط بها يمنح الإنسان إحساساً قويّاً بقيمته التاريخيّة والحضاريّة فلا يُفرِّط في قِيَمِه وموقعه .
وهذا هو سرّ اهتمام الإسلام بالأساليب التي تشدّ الإنسان بهذا المحور الحضاري الربَّاني .
فالقرآن الكريم يعتبر إبراهيم (عليه السلام) أباً للمؤمنين : {مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}.
ولاشكّ أنّ هذه البنوّة ليست هي البنوّة النسبيَّة وإنّما هي بنوّة العمل ووراثة العقيدة والرسالة .
وعن هذه النبوّة والانتماء يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لسلمان الفارسيّ : (سلمانُ منّا أهل البيت) .
وينفي القرآن الكريم أن يكون ابن نوح (عليه السلام) من أهلِه : {إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} .
والأهليّة هنا تساوي العمل والعمل وحده هو الّذي يرفع الإنسان ويضع الإنسان ويربطه بإبراهيم خليل الرحمان (عليه السلام) وأُسرته من الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) ويقطعه عنهم ويجعله في امتداد هذه المسيرة المباركة ويَبتره عنها .
إذن فهناك تَداعي مباشر بين الوراثة والعمل فالعمل يُحقّق الوراثة الصالحة والإحساس بالوراثة يعدّ الإنسان للعمل الصالح .
ومن هنا تأتي قيمة زيارة الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) بعد وفاتهم وخطابهم بالنصوص الواردة في الزيارات .
فإنّ السعي لزيارة الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) يُعمِّق في نفس الإنسان الإحساس بالارتباط بهم باستمرار ويغذّي هذا الشعور بصورة مُستمرّة كما أنّ إحياء مناسباتهم يُؤدِّي دوراً فعّالاً في تحقيق هذه الصلة الروحيّة بين الإنسان المؤمن وهذه المسيرة الحضاريّة الربّانيّة المباركة .
وبشكلٍ خاصّ تؤكِّد النصوص على زيارة الحسين (عليه السلام) سيّما زيارة عاشوراء وفي كلّ يوم ؛ للموقع الحسّاس الّذي يحتلّه سيِّد الشهداء الحسين (عليه السلام) في هذه المعركة المصيريّة بين مُعسكَر الرحمان ومُعسكَر الشيطان ولأجل تعميق الصِلة بالموقف الحسيني الشامخ والصلب في كربلاء .
والذين يُحرِّفون ويُكافحون هذه الشعائر الإسلاميّة يفهمونها ويتعاملون معها بسطحيَّة ظاهرة وباسم الشريعة .
إنّ الارتباط بالأنبياء والمرسلين والأئمّة والصالحين (عليهم السلام) بالوسائل والطُرق المشروعة من المسائل الّتي يتّخذها الإسلام أداة للتربية وشدّ الإنسان المسلم بالمسيرة الإسلاميّة الكبرى في التاريخ ؛ ولذلك يُذكِّر القرآن بقصص الأنبياء والصالحين وبصورة مُكثَّفة وبتكرار وتأكيد بليغ .
ولاشكّ أنّ توفير هذا المناخ الحضاري للإنسان المسلم والارتباط بهذا الجوّ منذ آدم (عليه السلام) إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أهمِّ أهداف القرآن الكريم في التذكير بقصص الأنبياء والصالحين .
والإحساس بالوراثة يُعمِّق شعور الإنسان بالمسؤوليّة بصورة مؤثِّرة وقويّة ؛ ذلك أنّ الإنسان عندما يشعر أنّه جزء لا يتجزّأ من مسيرةٍ طويلة ذات جذور بعيدة في التاريخ يستشعر بمسؤوليّة المُحافَظَة على خطِّ الآباء والأسلاف ومكاسبهم وإنجازاتهم وتثمينها ودعمها ويشعر أنّ عليه مسؤوليّة نقل هذه الأمانة الّتي استلمها من الجيل السابق إلى الأجيال التي تأتي من بعد وأنّه حَلَقَة من حلقات هذه السلسلة الطويلة يربط الماضي بالحاضر والحاضر بالمستقبل والجسر الّذي يمتدّ بين الأجيال يصل فيما بينها .
إنّ هذه المحاسبة في المواريث تُعمّق شعور الإنسان بالمسؤوليّة وتبعث في نفسه الغيرة على مواريث السَلف والوفاء لهم والحرص على الأجيال المُقبِلة وتُشعِره أنّه جزء لا يتجزّأ من سلسلة طويلة مُمتدَّة وليس من حقِّه أن يُفرِّط في هذا الميراث الكبير الذي ورثه من أسلافه وآبائه الصالحين .
وهذه الحالة تختلف كثيراً عمّا لو كان الإنسان يشعر أنّه لوحده مشروع مُستقلّ غير مرتبط بمَن قبله ومَن بعده وهو كيان قائم بنفسه ولا يرتبط بمسؤوليّة تجاه الآباء ولا بمسؤولية تجاه الأبناء .
وشتّان ما بين هذين الشعورين وما ينشأ عنهما من مواقف .
إنّ النمط الأوّل هو النمط المسؤول من الناس والنمط الثاني هو النمط اللامسؤول من الناس . والإحساس من النوع الأوّل هو الإحساس الّذي يبني في نفس الإنسان الشعور العميق بالمسؤوليّة والإحساس من النوع الثاني يرفع الإحساس بالمسؤوليّة عن كاهل الإنسان .
والإحساس من النوع الأوّل يبني في نفس الإنسان شعوراً بأنّه جزء من كلّ مُترابِط ومُتضامن على البُعدين الزماني والمكاني . والإحساس من النوع الثاني يخلق في نفس الإنسان شعوراً بأنّه شيء مُنفصِل عن التاريخ وعن المستقبل ولا يحمل أيّ مسؤوليّة عن الماضي والمستقبل وإنّما يعيش لنفسه وفي حدود إطار ذاته وشخصيّته .
وهكذا نجد أنّ الإحساس بالارتباط بالسَلف يحمي الإنسان عن سلطان الهوى والشهوات ويمنحه المناعة ويُحصِّنه ضدّ الشيطان ووساوسه ووسائله ومَكْره ويُعطي الإنسان قدرة على الصمود والثبات أمام الضغوط الّتي يمارسها الطاغوت على المؤمنين لحرفهم عن مسيرة السَلف .
ونذكر هنا بعض الشواهد التاريخيّة على هذه النقطة :
موقف الحسين (عليه السلام) من البيعة ليزيد :
لمّا مات معاوية أرسل يزيد إلى الوليد بن عتبة عامله على المدينة ليأخذ البيعة من الحسين (عليه السلام) وعبد الله بن عمر وعبد الرّحمان بن